جهاد حمدان
أكاديمي وباحث وناشط سياسي
(Jihad Hamdan)
الحوار المتمدن-العدد: 8453 - 2025 / 9 / 2 - 16:31
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
طوفان الأقصى لم يكن مجرّد عملية عسكرية، بل كان زلزالًا سياسيًا وعسكريًا ومعنويًا قلب الموازين وأعاد تشكيل الوعي العالمي. فمنذ لحظاته الأولى، فجّر الطوفان أسطورة الردع الصهيونية ونسف مقولة "صراع الحدود"، والتفاوض على تبادل قطعة أرض هنا بأخرى هناك، ليعيد الأمور إلى حقيقتها الصارخة: صراع وجود مع كيان استيطاني إحلالي ولا صله له بصراعات الحدود كما هو الحال بين الهند وباكستان على إقليم كشمير أو بين كندا والدنمارد على جزيرة هانز. فإقامة الكيان الصهيوني فلسطين، واقتلاع شعبها، لم يكن مجرّد قرارٍ سياسيّ أو دينيّ، بل كان مشروعًا استعماريا استراتيجيًّا جرى صياغته مع الحركة الصهيونية، لخدمة مصالح الرأسماليّة الغربية والإمبرياليّة العالمية في قلب الشرق الأوسط. ومن هنا، فإنّ فلسطين ليست فقط أرضًا محتلة، بل رمز لصراع الشعوب المقهورة ضدّ أنظمة القمع والتبعيّة. ومع انطلاق الطوفان، انهارت أوهام التسويات وصفقات التطبيع، وعاد المعنى الأصلي للقضية الفلسطينية بوصفها جوهر الصراع في المنطقة والعالم، وليست مجرد نزاع يمكن احتواؤه بمساومات سياسية.
ألقى الطوفان حجراً في مياه الصمت العربي والعالمي، فارتدت الأمواج في كل مكان. ففي مشهدٍ إنسانيٍّ مهيبٍ يليقُ بروحِ الحرية، خرجت جموع المتظاهرين في شوارع أوروبا وأمريكا ونيوزيلندا وغيرها من قاراتِ العالم بمدنه وحواضِره وميادينه وجامعاته المختلفة، رافعةً رايات فلسطين، هاتفـةً بأعلى صوتها: "فلسطين حُرّة من النهر إلى البحر"، معلنَة انحيازها الكامل إلى جوهرِ الصراع لا إلى أوهامِ الحلولِ المزيَّفة. لقد أدركت هذه الحشود أنّ ما يجري ليس نزاعًا على حدودٍ أو مفاوضاتٍ على دولتين، بل معركة وجودٍ وكرامةٍ وحقٍّ أصيل، فهتافاتها الهادرة لم تترك مجالًا للبس، ولم تُردِّد ولو مرةٍ واحدة شعار "حلّ الدولتين"، بل عبّرت بوعيٍ وإصرارٍ عن أنّ الحريةَ كلٌّ لا يتجزأ، وأنّ فلسطين ستبقى كاملةً كما كانت، من بحرها حتى نهرها، وأنّ جوهر هذا الشعار لا يعني إلا حقيقة واحدة: لا مكان لهذا الكيان الاستيطاني في أرض فلسطين. وتحولت المقاطعة الاقتصادية إلى أداة ضغط حقيقية أربكت حكومات وشركات كبرى. لقد أعاد الطوفان للقضية طابعها الأممي، قضية تحرر وطني على مستوى المنطقة وقضية الشعوب الحرة على مستوى العالم. لم تعد قضية الفلسطينيين وحدهم كما أريد لها أنْ تكون منذ قمة الرباط عام 1974، مرورا بأوسلو وما سبقها وتبعها من اتفاقيات الذل والعار. مرة واحدة أصبحت غزة قلب العالم النابض، وصارت صورة أطفالها وبيوتها المدمرة تطارد الضمير الإنساني في كل مكان. من يساهم في دعمها يؤكد إنسانيته، ومن يتخلى عنها يسقط أخلاقيًا قبل أن يسقط سياسيًا.
وفي إطار أممية القضية الفلسطينية وامتدادها العابر للحدود، انطلق أمس من ميناء برشلونة أسطول الصمود العالمي المكوَّن من 50 سفينة من مختلف الدول والقارات، في أكبر وأوسع محاولة بحرية لكسر حصار غزة حتى اليوم. حمل الأسطول على متنه مئات الناشطين وممثّلين عن حركات شعبية ومنظمات إنسانية ونقابات عمالية واتحادات طلابية، إلى جانب شخصيات أكاديمية وبرلمانية بارزة من أوروبا وأميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا. ومن بين الوجوه المشاركة برزت غريتا ثونبرغ، الناشطة البيئية السويدية وعضو اللجنة التوجيهية للأسطول، وآدا كولاو، رئيسة بلدية برشلونة السابقة التي أكدت أنّ "القضية الفلسطينية هي قضية الإنسانية"، إضافةً إلى الممثلتين العالميتين سوزان ساراندون وفانيسا ريدغريف من هوليوود، اللتين أضفتا بوجودهما بعدًا ثقافيًا وإعلاميًا واسع التأثير، إلى جانب عضوة البرلمان البرتغالي ماريانا مورتاغوا، وعدد كبير من الفنانين والمفكرين والحقوقيين الذين جاؤوا من 44 دولة ليجسّدوا وحدة الضمير الإنساني في مواجهة آلة القتل والحصار.
ويكتسب هذا الأسطول رمزية استثنائية تفوق ما سبقه من محاولات؛ إذ لم يعد فعلًا إنسانيًا متفرّدًا أو مبادرة محلية محدودة، بل تحوّل إلى حراك أممي واسع، يعلن انتقال القضية الفلسطينية من الإطار الإقليمي إلى الفضاء العالمي المفتوح، حيث تصطف الشعوب الحرة في مشهد واحد يفرض على العالم أجمع أن يسمع صوت غزة. وإذا كانت الأساطيل السابقة قد مثّلت محاولات متفرقة لإيصال المساعدات أو لفت الأنظار إلى المأساة، فإن أسطول الصمود العالمي يعلن اليوم مرحلة جديدة من الفعل المنظَّم والتضامن الفاعل، حيث تتلاقى إرادات الشعوب في لوحة واحدة تقول للعالم بوضوح: غزة ليست وحدها. لقد أعاد هذا الأسطول القضية الفلسطينية إلى قلب الضمير الكوني، بوصفها قضية حرية وكرامة إنسانية قبل أنْ تكون قضية جغرافيا أو شعب محاصر، مؤكّدًا أنّ مناصرة فلسطين باتت اليوم اختبارًا حقيقيًا لإنسانية العالم.
قدسية القضية الفلسطينية استحقت أنْ يستشهد في سبيلها رئيس وزراء عربي وثلة من أعضاء حكومته. حدث هذا فعلًا في اليمن، حيث امتزج الدم الرسمي بالدم الشعبي في مشهد غير مسبوق منذ عقود، كأنّ اليمن أراد أنْ يذكّر الأمة بأنّ فلسطين ليست جغرافيا بعيدة ولا عبئًا سياسيًا، بل قضية وجود حيّة في ضمير الأحرار. أمّا في دول الجوار وغيرها، فآخر الشهداء بأوامر قتال رسمية كانت في معركة الكرامة عام 1968، ثم في حرب أكتوبر 1973، قبل أنْ يختفي القرار السياسي الذي يضع الدم العربي في خدمة فلسطين. لكنّ سيل الشهداء بأوامر الضمير الوطني لم ينقطع. فمن غزة إلى الضفة إلى لبنان والعراق واليمن، ما زال الأحرار يصعدون فرادى وجماعات، يقاتلون بما تيسّر من السلاح وبما تفيض به الروح من كرامة وإيمان.
هذا كله جرى في ظل خذلان رسمي عربي وإسلامي يندى له الجبين. فقد مارس الرجعيون العرب الخديعة كما فعلوا دائمًا، أدانوا مرةً بأخف العبارات، ونصف مرة بأشدّها، لكنهم لم يفكوا الحصار، لم يفتحوا المعبر، لم يُدخلوا كيس طحين ولا صهريج وقود إلى غزة إلا بموافقة العدو، ويدفعون له مقابل "تلطّفه" بالموافقة. دفعوا مقابل ذلك شاحنات من الفواكه والخضار وما عجز عن حمله الحمار، ومعدات وأجهزة، بل وتناقلت الوكالات أنباء عن تسهيل بعض الدول العربية وصول شحنات أسلحة إلى العدو نفسه ليقتل بها أبناء شعبنا! بعد أنْ رفض عمال الموانئ الأوربيون تحميل السفن الناقلة.
والأخطر أنّ بعض الحكام العرب صاروا يعبّرون عن حنقهم لاستمرار صمود المقاومة الباسلة، فانضموا إلى السردية الصهيونية وطالبوا علنًا بنزع سلاحها. وللأسف، لحقت بهم سلطة رام الله ووقفت في الصف ذاته، فكانت النتيجة أن كافأتهم أمريكا جميعا بمسح مزيد من زفرها وزفر ربيبتها بهم وبلحاهم ووجوههم.
وفي الوقت ذاته، وفي ظل تلكؤ بعض الحلفاء الإقليميين، كانت المعركة أكثر تعقيدًا. واكتفت الصين، القطب المنافس لأمريكا عالميا، بمواقف قوية داخل الأمم المتحدة لكنها بلا أثر ميداني حقيقي، مع أنّ هيمنة الصهاينة على عزة، إنْ حدثت، ستلحق أشد الأذى بمشروع الطريق والحزام الذي أنفقوا أموالا طائلة لإنجاحه. أما الروس، ففرضوا قيودًا صارمة على استخدام أسلحتهم المتقدمة في سوريا أيام حكم الأسد، مما حرم محور المقاومة من بعض أوراق القوة التي كان يمكن أنْ تغيّر معادلات الحرب. كل ذلك أعطى التحالف الأمريكي – الصهيوني – التركي – الرجعي العربي فرصة لتحقيق اختراقات مهمة، فوجهوا ضربة قاسية لحزب الله وأسقطوا سوريا في شباكهم، ونصّبوا عليها حاكما يأتمر بإملاءاتهم. لكنّ جذوة المقاومة لم تنطفئ.
تمادى الغزاة المنتشون بما ظنّوه انتصارًا، فهاجموا الجمهورية الإسلامية الإيرانية نفسها. القرار من ترامب والتنفيذ من المقاول نتنياهو. لكنّ الرياح لم تخدم سفنهم. فقد تلقت دولة الكيان ضربات موجعة غير مسبوقة طالت بنيتها العسكرية والاقتصادية والعلمية، فأربكت حسابات حلفائها وأثارت الفوضى داخلها، وأجبرتها على طلب وقف إطلاق النار لتجنّب انهيار أوسع.
في خضم هذا المشهد، استعادت المقاومة زمام المبادرة. وأعلن الشيخ نعيم قاسم بوضوح أنّ تسليم السلاح يعادل تسليم الروح، ولن يحدث أبدًا. وأعاد الكرة إلى ملعب الحكومة اللبنانية ورئيس الجمهورية: لتنسحب دولة الكيان أولًا، ثم نتداول بناء استراتيجية وطنية لحماية الوطن من موقع القوة لا من موقع التنازل. كان هذا الموقف نقطة فاصلة في تثبيت معنى المقاومة بوصفها هوية وجودية لا ورقة سياسية عابرة.
واليوم، بعد سنتين من الدم المسفوح والخذلان المفضوح، تقف إسرائيل أمام مأزق تاريخي غير مسبوق. أمريكا وحلفاؤها لم ينجحوا في كسر إرادة غزة، ولم يفلحوا في حسم المعركة عسكريًا رغم جبروت القوة. وفي المقابل، فجّر الطوفان وعيًا عالميًا هائلًا، وأعاد تشكيل الرأي العام الدولي، فصارت القضية الفلسطينية قضية العالم، وأصبح التضامن معها تعبيرًا عن إنسانية حقيقية تتجاوز الحدود والهويات الضيقة.
لكن الصمود وحده لا يكفي، والمطلوب اليوم أوضح من أي وقت مضى: توحيد جبهة المقاومة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق والمنطقة ضمن إطار استراتيجي موحّد، وبناء تحالفات إقليمية صلبة تكسر العزلة وتؤمّن الإسناد العسكري والسياسي والاقتصادي. المطلوب أيضًا تفعيل الطاقات الشعبية عالميًا، من حملات المقاطعة الاقتصادية إلى الضغط القانوني والسياسي على الحكومات المتواطئة مع الاحتلال، حتى يتحوّل تضامن الشعوب إلى قوة ضغط حقيقية. والمطلوب أخيرًا تحرير الوعي العربي من ثقافة الاستسلام والخضوع، وصياغة خطاب أممي جامع يعيد فلسطين إلى موقعها الطبيعي: قضية كل الأحرار في هذا العالم.
لقد بدأ طوفان الأقصى فصلًا جديدًا في التاريخ، فصلًا لنْ يُغلق إلا بالتحرير، فالتاريخ لا يكتبه من يملك فائض القوة فقط، بل من يملك إرادة الصمود وشرف المقاومة. ومن يراهن على هزيمة غزة وفلسطين يراهن على هزيمة الشمس.
#جهاد_حمدان_Jihad_Hamdan (هاشتاغ)
Jihad_Hamdan#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟