أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - مصطفى جمال علي - حين فهمت لندن ما لم تفهمه بغداد بعد!















المزيد.....

حين فهمت لندن ما لم تفهمه بغداد بعد!


مصطفى جمال علي

الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 00:08
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


من بين كلّ المدن التي اختبرت التاريخ والحداثة وجهًا لوجه، تبقى بغداد المدينة التي وُلدت من رمادها أكثر من مرّة، وتشبّثت بحلمها رغم العواصف. فهذه العاصمة، التي كانت يومًا مركز الدولة المركزية الصلبة، تعيد اليوم النظر في معناها ودورها، تمامًا كما تفعل إسطنبول والقاهرة وعشق آباد وتبليسي والدوحة وعمّان وطهران؛ مدنٌ تقف جميعها على خطوط الزلزال بين الهوية والانفتاح، بين الجغرافيا والسياسة، وبين الذاكرة والمستقبل.

منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة مطلع القرن العشرين، تشكّل العراق على نموذج المركزية الريعية، حيث احتكرت بغداد السلطة والثروة والقرار، بينما ظلّت المحافظات الأخرى تنتظر دورها في طابور التنمية. كانت العاصمة تُضخّم حضورها كما لو كانت تختصر الوطن كله.
لكن تلك المركزية، التي بدت يومًا عنوانًا للحداثة، سرعان ما كشفت هشاشتها حين بدأت الأطراف تطالب بالعدالة لا بالشفقة. وهنا بدأ السؤال العراقي الكبير: كيف يمكن أن تتوحّد البلاد من دون أن تتشابه مدنها؟ وكيف تُبنى الدولة حين يصبح المركز عبئًا على الأطراف بدل أن يكون رافعة لها؟

هذا السؤال لم يكن عراقيًا فقط؛ فقد عاشته القاهرة حين تكدّست فيها طبقات الريف المهملة، وعايشته إسطنبول حين تدفّق إليها أبناء الأناضول بحثًا عن فرص جديدة، وواجهته تبليسي حين حاولت التوفيق بين تراثها القوقازي وميراثها السوفييتي.
حتى عشق آباد، المدينة البيضاء في قلب الصحراء التركمانية، واجهت معضلة المركزية الحديثة التي تبني الأبراج وتنسى القرى، تمامًا كما فعلت الدوحة وهي تحاول المواءمة بين التمدّن السريع والحفاظ على النسيج المحلي.

في العراق، لم تكن بغداد مركزًا إداريًا فحسب، بل احتكارًا للحق الوطني. فكل طريق نحو التعليم أو الوظيفة أو الثقافة كان يمرّ عبر العاصمة، وكأنها البوابة الوحيدة للشرعية الاجتماعية.
وحين بدأ أبناء الجنوب والريف العراقي بالتوجّه نحوها في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ظهرت موجة من الخطاب النخبوي الذي وصف ذلك الحراك بـ “غزو الريف للعاصمة”، كما لو أن الفقراء ارتكبوا فعل اقتحامٍ ضدّ نقاء المدينة.
لكن الحقيقة، كما تكشفها التجربة التاريخية، أن هؤلاء لم يكونوا غزاة، بل مواطنين يبحثون عن وطنٍ داخل وطنهم. إنها ليست غزوة، بل هجرة مواطنة نحو المركز الذي احتكر الدولة واحتكر الاعتراف.

ومن المفارقات أن هذا الحراك، الذي عُدّ آنذاك تهديدًا لهوية بغداد، كان في الواقع البذرة التي أنعشت ثقافتها الحديثة، تمامًا كما حدث في إسطنبول حين رفدها القادمون من الأناضول بموسيقاهم ولهجاتهم وأطعمتهم وأحلامهم، فصارت المدينة أكثر حياةً وتنوّعًا.
لقد جلب أبناء الجنوب إلى بغداد الشعر والموسيقى والفكر، ومن رحم هذا الامتزاج الثقافي وُلدت حركة التجديد الأدبي الكبرى، التي حملت أسماء مثل بدر شاكر السيّاب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي.
هؤلاء لم يكونوا أبناء الطبقة المترفة في العاصمة، بل أبناء الأطراف الذين أعادوا صياغة روحها. وهكذا، بدلاً من أن تُستنزف بغداد بهجرة الريف إليها، تجدّدت من الداخل، وتحوّلت إلى مرآة للتنوّع الوطني، مثلما تحوّلت إسطنبول من عاصمة السلطنة إلى مدينةٍ عالمية تحتضن وجوهًا متعددة من تركيا الجديدة.

وفي موازاة ذلك، برزت تجربة إقليم كردستان العراق كنموذجٍ محليّ لمعالجة اختلال العلاقة بين المركز والأطراف.
فالفيدرالية الكردستانية لم تكن مجرد تسوية سياسية بعد عقود من الصراع، بل تحوّلت إلى مختبر وطني لفكرة اللامركزية التي طالما هربت منها بغداد.
استطاعت محافظات الإقليم – أربيل والسليمانية ودهوك – أن تبني مؤسساتها التعليمية والإدارية والاقتصادية بوتيرة أكثر استقرارًا، وأن تقدّم تجربة في الحكم المحلي تستند إلى المشاركة والمساءلة.
ورغم ما يحيط بها من تحديات، فقد برهنت على أن الفيدرالية ليست تهديدًا لوحدة الوطن، بل سبيلٌ لإنقاذه من اختناق المركز.

إنها التجربة التي تشبه في جوهرها ما خاضته الولايات المتحدة الأمريكية قبل قرنين حين أسست اتحادها على مبدأ الولايات المستقلة المتعاونة، وما طبّقته الإمارات العربية المتحدة حين جعلت من الاتحاد رافعة للتنمية المتوازنة بين أبوظبي ودبي والشارقة وسواها.
بهذا المعنى، تمثّل كردستان درسًا عراقيًا فريدًا في إمكانية تحويل التنوّع إلى نظام، بدل تحويله إلى خصومة.

ولعلّ الفيدرالية، في معناها الأعمق، ليست فقط بنيةً سياسية لإدارة الاختلاف، بل فلسفة إنسانية لبناء التعايش.
إنها تعبيرٌ عن نضج المدينة الحديثة التي لم تعد ترى في المركز سلطة، بل تنسيقًا؛ ولم تعد ترى في الهامش تهديدًا، بل إثراءً.
وحين نعيد تعريف العلاقة بين الواحد والمتعدّد، بين الجزء والكل، فإننا نقترب من روح العصر الذي تؤمن بأن القوّة لا تُبنى بالسيطرة، بل بالتكامل.

إن المدن التي تفهم هذا الدرس تتحرّر من خوفها القديم وتتحوّل من جغرافيا محكومة بالمركز إلى شبكة حيوية من المراكز الصغيرة المتعاونة.
وهنا يظهر الوجه الحقيقي للفيدرالية: ليست قانونًا أو خريطة، بل رؤية حضارية للعالم.
فالعواصم الكبرى — من واشنطن إلى برلين ومن أوتاوا إلى لندن — أدركت أن مستقبلها لا يقوم على مركزٍ واحدٍ يحتكر الضوء، بل على مدنٍ وأقاليمَ تشارك في صنع القرار وتنسج معًا هويةً مرنة تتسع للعالم كلّه.
ولعلّ لندن — بتركيبتها الكوسموبوليتية — تمثل هذا الوعي العالمي بأبهى صوره: مدينة لا تُدار من الأعلى بل من تفاعل أحيائها وثقافاتها, حيث يمكن للباكستاني والنيجيري والاسكتلندي والعراقي أن يكونوا معًا “لندنيين” بالقدر نفسه من الانتماء.

هكذا تخرج الفيدرالية من معناها الإداري إلى معناها الإنساني وتتحوّل اللامركزية إلى لغة جديدة للمدن في زمن العولمة.
فالهوية لم تعد جدارًا نحتمي خلفه, بل جسرًا نعبر به نحو العالم.
وحين تفهم المدن هذه الحقيقة تتخلّى عن فكرة السيادة كهيمنة وتستبدلها بفكرة المشاركة كتحرّر.
وهنا فقط يصبح العالم مدينةً واحدةً تتعدّد فيها اللهجات وتتوحد فيها الإنسانية.



#مصطفى_جمال_علي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الـ جنة كرهان وجودي: بين فلسفة العبث، الإلحاد، والإنسانية
- التطرف الديني: عندما تصبح الأساطير تهديداً للحريات
- “لحم الخنزير المحرّم: طقوس غامضة وأساطير وصراعات سرية تُعيد ...
- رحلة البسطامي: من ظاهر الحج إلى أعماق العرفان
- “الكائنات الفضائية، الأطباق الطائرة، والمحاكاة: هل نعيش في و ...
- -لعنة الطفل: أنياب في قلب الظلام-
- كيف تعرقل الدول الإسلامية حقوق المثليين في العصر الحديث
- زواج القاصرات في القانون العراقي: خرق لحقوق المرأة بتشجيع من ...
- -العنصرية: الحصن الأخير لحماية الهوية الغربية من تهديد الثقا ...
- اللغة: بين بناء الهوية وتفكيك الإنسانية - رحلة في أعماق التأ ...
- الانتهاكات ضد أفراد مجتمع الميم في العراق: تطورات الاضطهاد ا ...


المزيد.....




- السعودية.. فيديو تأثر صالح الفوزان خلال فتاوى وأحاديث له تثي ...
- الأردن.. جملة قالها شخص لولي العهد لحظة مروره بجانبه تثير تف ...
- ماذا تعرف عن مشروع سموتريتش لدفن ما تبقى من فلسطين؟
- وفاة ملكة تايلاند الأم سيريكيت عن عمر 93 عاما
- -سم في الشوكولاتة والمربى-.. رئيس الإكوادور يكشف لـCNN عن تع ...
- مادورو يتهم الولايات المتحدة بـ-فبركة حرب- بعد تحريك أكبر حا ...
- مبعوث بوتين: أميركا وروسيا وأوكرانيا تقترب من حل دبلوماسي
- توتر الكاريبي.. واشنطن تنشر حاملة طائرات قرب فنزويلا
- تقرير.. البيت الأبيض يضغط لإلغاء عقوبات سوريا -الأشد قسوة-
- بريطانيا.. سجن شبان بتهمة إحراق معدات مخصصة لأوكرانيا


المزيد.....

- نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي ... / زهير الخويلدي
- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - مصطفى جمال علي - حين فهمت لندن ما لم تفهمه بغداد بعد!