أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى جمال علي - رحلة البسطامي: من ظاهر الحج إلى أعماق العرفان














المزيد.....

رحلة البسطامي: من ظاهر الحج إلى أعماق العرفان


مصطفى جمال علي

الحوار المتمدن-العدد: 8151 - 2024 / 11 / 4 - 22:22
المحور: الادب والفن
    


أمام بيت الله، الكعبة المشرفة، يقف آلاف الناس، يبحثون عن الله وهم يمسكون بأستار الحجر المقدس. لكن الشيخ بايزيد البسطامي، أحد أعلام التصوف الإسلامي، كان يرى طريقًا آخر، أعمق من مجرد السعي وراء بناء من حجر. لقد رأى بايزيد أن الله أقرب إلينا من حبل الوريد، وأن رحلة الوصول إليه لا تبدأ من خطوات الأقدام، بل من خطوات القلب.

في قصيدته التي يتناول فيها رحلته إلى مكة، لا نجد فيها تلبية للنداء الإلهي فحسب، بل نشهد على فلسفة تتجاوز حدود المكان والزمان، فلسفة تتغلغل في أعماق النفس وتبحث عن الله في قلب كل إنسان. يقول البسطامي:

سوي مکه شيخ امت بايزيد
از براي حج و عمره مي‌دويد

“إلى مكة، شيخ الأمة بايزيد كان يسعى للحج والعمرة.”
لكن بايزيد، الذي عرف التصوف وتذوق طعم العرفان، كان يعلم أن هذه الرحلة الظاهرة ليست سوى قشرة، وأنها لا تكشف عن كنوزها الحقيقية إلا لمن يجرؤ على النفاذ إلى جوهرها. فعندما كان يدخل أي مدينة في طريقه، كان يبحث عن “الإنسان الكامل”، الذي يراه جوهرة الوجود. كما قال مرةً محيي الدين ابن عربي: “العارف هو من تجلى فيه الله، وذابت فيه الأنا.”

رحلة البحث عن الإنسان الكامل

بايزيد كان يبحث عن الإنسان الكامل؛ ذاك الذي يمثل تجليات الحكمة الإلهية في الأرض. ففي كل مدينة كان يمر بها، كان يسأل: “من هنا يمتلك أركان البصيرة؟ من يعيش بين الناس لكنه لا يتشبه بهم؟” يقول البسطامي:

او به هر شهري که رفتي از نخست
مر عزيزان را بکردي بازجست

“وفي كل مدينة يدخلها، يبدأ بالبحث عن أحبائها.”
كان بايزيد يرى أن السعي إلى الكعبة في هذا الطريق يتطلب رحلة موازية في داخل الذات، رحلة نحو “الإنسان” الذي تجسد فيه الحب والإدراك. وكما قال مولانا جلال الدين الرومي: “إن الله يسكن في القلوب لا في الجدران، فابحث عنه في قلب الإنسان”.

السفر إلى الداخل

بالتعمق أكثر، يكشف بايزيد أن المقصد الحقيقي هو “الكنز” الداخلي، وليس فقط الطقوس أو الظواهر الخارجية. يقول:

گفت حق اندر سفر هر جا روي
بايد اول طالب مردي شوي

“قال الحق: في كل سفر تذهب إليه، عليك أولاً أن تطلب “الإنسان”.”
إنها رسالة تتردد في كتابات الصوفية عبر العصور، إذ يرون أن كل خطوة في الطريق الخارجي ليست سوى مرآة لطريق داخلي. وكما قال الحلاج، العارف بالله، “سفري إليك منك، وقربي إليك فيك”، إنه سفر البحث عن الحقيقة المطلقة في ذات الإنسان.

رمزية الكنز والتبعية

يرى بايزيد أن الدنيا، بأرباحها وخسائرها، ليست سوى تفاصيل تأتي تبعًا للهدف الحقيقي، لذا يقول:

قصد گنجي کن که اين سود و زيان
در تبع آيد تو آن را فرع دان

“اجعل مقصدك كنزًا، لأن الأرباح والخسائر تأتي تبعًا، فلا تجعلها مقصدًا رئيسيًا.”
هذا يشبه قول ابن عربي حين كتب في “فصوص الحكم”: “الكامل من لا يرى الدنيا إلا عرضًا ولا يرى في الناس إلا وجه الله”. فحين يتجلى الهدف، تتلاشى كل الشوائب وتبقى الحقيقة خالصة. يبحث البسطامي عن الجوهر، ذلك الذي يحرك الكون كله. إنه يريدنا أن نعلم أن الزرع الحقيقي للمعرفة لا ينبت إلا لمن سعى خلف الجوهر لا العرض.

معنى الكعبة والمعراج

في ختام قصيدته، ينتقل البسطامي إلى رمزية الكعبة والمعراج. يقول:

قصد کعبه کن چو وقت حج بود
چونک رفتي مکه هم ديده شود

“اجعل قصدك الكعبة وقت الحج، فإذا وصلت مكة، فسيتحقق مرادك.”
لكن هذا الوصول هو فقط محطة، ليس نهاية. فالله لا يسكن في الحجر، بل في معراج القلب الصادق. كما يقول في رمزية المعراج:

قصد در معراج ديد دوست بود
درتبع عرش و ملايک هم نمود

“الغاية في المعراج كانت رؤية المحبوب، وجاء عرش الله والملائكة تبعًا.”
وهنا، يذكّرنا بايزيد بأن الجنة، الملائكة، والعرش، ليست سوى أشياء تتبع الرحلة الروحية. إن المقصد الأكبر هو الله ذاته، مثلما كان في معراج النبي، حيث وصل إلى مقام “قاب قوسين أو أدنى” من الله، وتجلت له الحقيقة المطلقة.

إرث بايزيد الخالد

من خلال هذا النص، يعيدنا بايزيد البسطامي إلى حقيقة بسيطة ولكنها عميقة: الله لا يُعبد بالطقوس وحدها، بل بالسعي وراء “الإنسان الكامل”، بالتحلي بأخلاق الله التي تتجسد في قلوب الصادقين. وكما قال مولانا الرومي، “ليس الله بعيدًا عنك، إنه داخل قلبك، ينتظرك أن تكتشفه”.

بايزيد كان يعلم أن الكعبة ليست سوى رمز، وأن الرحلة إلى الله هي رحلة إلى القلب، وأن الكنز الحقيقي هو الحب الإلهي. بهذا، نجد في رحلته دعوة للعقل والقلب للبحث عن الحقيقة وراء كل ستار، ووراء كل حجاب، حتى تتجلى المعرفة كاملةً ويصير العابد والمعشوق واحدًا.



#مصطفى_جمال_علي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- “الكائنات الفضائية، الأطباق الطائرة، والمحاكاة: هل نعيش في و ...
- -لعنة الطفل: أنياب في قلب الظلام-
- كيف تعرقل الدول الإسلامية حقوق المثليين في العصر الحديث
- زواج القاصرات في القانون العراقي: خرق لحقوق المرأة بتشجيع من ...
- -العنصرية: الحصن الأخير لحماية الهوية الغربية من تهديد الثقا ...
- اللغة: بين بناء الهوية وتفكيك الإنسانية - رحلة في أعماق التأ ...
- الانتهاكات ضد أفراد مجتمع الميم في العراق: تطورات الاضطهاد ا ...


المزيد.....




- فيلم تونسي يحرز 5 جوائز في مهرجان تورينو السينمائي بإيطاليا ...
- المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكرم النجم الأميركي شون بين
- في الذكرى العاشرة لرحيل رضوى عاشور.. -الطنطورية- تنتظر العود ...
- المغرب.. تكريم مؤسس قسم -الروسية- بالجامعة ومترجم أشعار بوشك ...
- فعاليات شعرية:شاعر الحنين ,والدوائر الصورية المتتابعة ,والقص ...
- شاعر الحنين ,والدوائر الصورية المتتابعة ,والقصيدة العنقودية( ...
- الكويت.. قرار بسحب الجنسية من الفنان داود حسين والمطربة نوال ...
- بغداد تحتضن مؤتمر الأدب الشعبي الأول الخاص بالأبوذية
- -الروبوت البري-.. فيلم يُلهم الآباء ويتحدى ديزني وبيكسار
- سحب الجنسية الكويتية من الفنان داود حسين والمطربة نوال


المزيد.....

- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مصطفى جمال علي - رحلة البسطامي: من ظاهر الحج إلى أعماق العرفان