فوزي مهنا
الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 10:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
“أمة لديها قابلية للاستعمار” مقولة أطلقها في منتصف القرن الماضي، المفكر الجزائري مالك بن نبي، مستنداً بذلك على أن استعداد الشعوب نفسياً للخضوع للاستعمار، إنما يُعتبر عاملاً قوياً لاستدامته وبقائه جاثماً على صدورها، لو قُدِّر لبن نبي الحياة أكثر، لشَهِد حقيقة ما ذهب إليه، وإلا كيف استطاع العثمانيون أن يجثمون على صدر هذه الأمة، طيلة أربعة قرون متواصلة؟ كيف لحدود سايكس بيكو أن تصمد أكثر من قرن من الزمان؟ ثم كيف لفلسطين أن تُغتصب وعلى طريقها أخذت تُداس الشعوب وتُستباح الأوطان؟.
الوقت لا يمكن تقديره بثمن، مئة عام وأوصياء العروبة يحفرون قبر سايكس وشريكه، ويعلِّقونهما شمّاعة تستر عار تخلف مجتمعاتهم، وبدلاً من إزالة تلك الحدود أخذوا يقيمون عليها مزيداً من الجدران والحصون، لا بل يشيِّدون لشعوبهم الجيوش والقلاع والسجون.
من جهتهم الإسلاميون العرب لم يتعلموا من دروس التاريخ، بل انغمسوا حتى آذانهم في التراث، مما أدى لحالة من الجمود والتعصب، باتت المشكلة العقلية لديهم، هي جوهر المسألة، بتعبير مالك بن نبي، وهو ما أنتج عدد من التنظيمات الإرهابية المتطرفة، كالقاعدة ثم داعش، فجبهة النصرة، التي تَتَحكّم مع بقية الفصائل الجهادية، في ربوع الشام اليوم.
إنها شَرعة السماء، فعندما لا تُغيِّر ما بنفسك فإن التاريخ لن يتغيّر، ما أشبه اليوم بالبارحة، تقاتلوا في الأندلس، فكان رحيل آخر بدوي عنها، واليوم عادوا ليتقاتلون لتصبح المنطقة جاهزة للتقسيم، ولتَستَعِّد شعوبها لاستقبال الاستعمار من جديد.
فهل تصدُق رؤية مفكري الغرب حيال شعوب هذا الشرق الحزين؟ فكارل ماركس مثلاً، يقول عنهم: أنهم لا يستطيعون أن يمثلوا أنفسهم، إنهم يجب أن يُمثَلوا، بينما يرى أحد أعمدة الفلسفة في القرن 19 "هيغل" بأن قدر الشرق أن يتبع الغرب، في حين يصفهم "كرومر" المندوب البريطانى السامي في مصر، أنهم سذجاَ غافلين محرومين من الحيوية والقدرة على المبادرة، مجبولين على الإطراء الباذخ والدسيسه والدهاء والقسوة على الحيوانات، وهم عريقون في الكذب وهم كسالي سيئوا الظن، وهم في كل شيء على طرف نقيض من العرق الأنجلو سكسونى، في وضوحه ومباشرته ونبله.
ثم ماذا يمكن أن يُقال عن أمة إقرأ التي لا تقرأ؟ غير أن شعوبها باتت مسلوبة الإرادة تتحكّم فيها التقاليد والنصوص الجامدة، والتي بدلاً من أن تقوم بالتصدي للحاضر والتطلع للمستقبل، أخذت تتطلع للماضي وتتشبث فيه، وهو ما يعتبره علماء الاجتماع من عوامل التخلف الأساسية، على اعتبار أنها محركاً للمجتمع ونمط قانونه.
وعليه فإن هذا التمسك بالماضي، إنما يعتبر حاجزاً دفاعياً للمقهورين، أمام حركة التطور التي يرفضون أن يكونوا جزءاً منها، نظراً لما توفره العودة للماضي من سد حاجاتهم في الطمأنينة والاستقرار، ذلك لأن الإنسان المقهور بالعادة يتنكّر لحاضره، الذي يكون مرآة تعكس مرارة حياته، ومأساته التي يعيشها، وبالتالي فإن هذا المقهور لا يجد بداً للدفاع عن نفسه، إلا بالهروب إلى الماضي، باعتباره حصن من لا حاضر ولا مستقبل له، على حد قول الدكتور مصطفى حجازي.
يقول أحد الثوار المكسيكيين “أن الشعوب في المراحل الأولى من تطورها السياسي، يبهرها في الزعامة المواصفات البدنية والصوت الجهوري، أكثر مما تُعنى بالمواصفات الذهنية والأخلاقية ومستوى الذكاء، فكيف إذا كانت الزعامة، هي التي تحدثت عنها المرويات الإسلامية في أرض الشام!؟.
تماماً هذا هو حال الشعب السوري اليوم، لقد انهار لديه الجهاز المناعي، بتعبير الدكتور خالص جلبي، وأصبح مُصاباً “بمتلازمة ستوكهولم” وهو مرض تصبح معه الضحية متعاطفة مع جلادها ومعذبها، لدرجة أنها تستبسل للدفاع عنه والتضحية من أجله، وما ذلك إلى أن الجهل بحقيقته ـ وثنية ـ لا يغرس أفكاراً، وإنما يُنصِّب أصناماً، وعندما تَغرُب الفكرة تكثر عندها عبادة الأصنام.
لذلك لو قُدِّر لبن نبي الحياة اليوم، وشاهد الأكثرية السنية، في سورية وهي تتشبّث بأسنانها، بمن وأدوا أحلام السوريين وأضاعوا أوطانها، لأدرك بأن لدى هذا الشعب، القابلية الأكثر للاستعباد، بعدما ضَرَبَت في جذوره الأصولية والطائفية والتخندق وأمراض الاستبداد.
وهذا يعود إلى أن مشاكلنا المستعصية مع قضايا النهضة ازدادت، بل فرّخَت وباتت أكثر تعقيداً، وأن جوهر المسألة التي نعيشها كسوريين اليوم، إنما لا زال في مشكلتنا العقلية، التي أصبحنا في ضوءها، لا نسير ونحن رؤوسنا في الأرض وأرجلنا في الهواء فقط، وإنما غرقنا جميعاً وأغرقنا معنا الحضارة السورية، تحت التراب، بل لو قدر لماركس وهيكل، الحياة أكثر، لشاهدا أننا كسوريين لم نستطع حكم أنفسنا بأنفسنا، لذلك ها نحن اليوم نأخذ أوامرنا من الغرب ومن الشرق، تنفيذاً لما اتُفِّق عليه من تخريب وتقسيم.
شعبٌ مأزوم ورث عن الاستعمار والاستبداد روح الهزيمة والاستسلام، فشكلّت بمجملها هزيمة حضارية، نشهد اليوم نتائجها، وما ذلك سوى أن طول سنوات الخضوع والقهر والذل وسياسة الإفقار، من شأنه أن يقتل لدى الشعب القدرة على التفكير والعطاء، فضلاً عن ممارسة حقه الطبيعي في التمييز والاختيار.
يقول توكيفيل: “من العسير علينا التصور كيف أناساً، تخلوا تماما عن عادة حكم أنفسهم بأنفسهم، يمكنهم أن ينجحوا في حسن اختيار الذين سيتولون حكمهم، فليس ثمة شخص واحد يستطيع أن يعتقد، أن حكومة متحررة رشيدة يمكن أن تنبثق من شعب مغلوب على أمره”.
يبقى السؤال متى ستتذوّق هذه الشعوب طعم الحرية؟ جاء في كتاب العبودية المختارة للافوازيه 1562 “أن أثينا أرسلت رسولين إلى فارس، فاستقبلهم الوالي وأطعمهم وأكرمهم، ثم قال لهم: لماذا لا تتحولون إلى عبيد سيدي الشاهنشاه؟ نظر الرجلان إليه بتعجُّب، وقالا: إنك لم تذق طعم الحرية بعد، ولو ذُقتها لقاتلت دفاعاً عنها بأظافرك وأسنانك، وكل شرحٍ لشيءٍ لم تذقه، لا يُقرّبك من المسألة إلا بعداً عنها”.
ختاماً قيل: “أخرِجوا الاستعمار من نفوسِكم يَخرجْ من أرضِكم”، ونقول إذا لم يَخرج الاستبداد بشقيه، الديني والسياسي، من نفوس هذا الشعب فلن يَخرج من حياته، ولن يعرف طريق الحضارة أبداً.
#فوزي_مهنا (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟