عصام الخفاجي
الحوار المتمدن-العدد: 8503 - 2025 / 10 / 22 - 11:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ارسلت قبل دقائق تقريري إلى مطبوعة أكاديمية بوصفي محكّما لأبحاث مرشحة للنشر إمارس "سلطتي" من خلالها.
يقول وعي تم تلقينه لي: أنهيت، أيها الشيخ يوما مثمرا فاخلد إلى النوم وقد اقترب الفجر.
أفزّ من السرير وأنا أربط بين ما قرات من رطانة وبين بحث في حولية أكاديمية قراـته قبل سنوات.
سمحت هيأة تحرير الحولية بالإبقاء على عنوان خارج عن الرصانة المتعارف عليها أكاديميا.
تعبير "الهذر" [أو القمامة] الذي أستخدمه هنا هو في الواقع ترجمة مهذّبة لمفردة "بُل شت" العامية الأمريكية. فعنوان الورقة العلمية هو "حول تقبّل ورصد الخرائية الموهمة بالعمق" (البُل شت هو روث الثور).
لم يكن هؤلاء الباحثون أول من خرج عن الوقار، ولربّما كان هذا سببا في الإبقاء على العنوان. فقبل ما يقارب العقد ألّف الفيلسوف هاري فرانكفورت كتابا عن الموضوع عنوانه "عن الخرائية".
والواقع أنني اقتبست تمييز مفهوم "الكذب" عن مفهوم "الخرائية" من فرانكفورت الذي كتب "يستحيل أن يكذب إنسان من دون أن يعرف الحقيقة. لكن إنتاج الخرائية لا يتطلب معرفة".
فضلا عن ذلك، ثمة ظاهرة تمرّد متصاعدة في الأوساط الأكاديمية نفسها على تغليف الخرائية بمصطلحات جوفاء وبأدوات يمكن أن تخفي الخواء وأهمّها استخدام الإقتصاديين لنماذج رياضية أنيقة لا قدرة لكثير منها على التفسير ولا على التنبّؤ. (وأعترف أنني حين كنت اقتصاديا صمّمت نماذج رياضية لكنّها لم تكن أنيقة واستطاعت تفسير بعض الظواهر والتنبّؤ بمآلها).
وموضوع البحث يدور حول نقطتين رئيستين: من يتجاوب مع الخرائية ولماذا؟ وهل هناك معيار موضوعي نستطيع من خلاله الحكم على قول ما بأنه "بُل شت": تأكيدات مؤثّرة تستخدم مفردات توحي بالعمق لتُعرض كحقائق لكنها تأكيدات جوفاء؟
اختار الباحثون مفردات دارجة في الموضة الفكرية منتقين كتابا رائجا حول العلاج الذاتي للشخصية عنوانه "الوعي الكوني" ترد فيه عبارات وعناوين فرعية مثل: "ميكانيك التجلّي: النوايا، الإنفصال، المركزة التي تسمح للإمكانات المتلاصقة بالتكشّف" و "بوصفنا كائنات من الضوء، فنحن في المكان واللامكان، مقيّدون بالزمن ولانهائيين في الزمن القائم وفي الإمكانات". وأدخلوها في برنامج كومبيوتر يستطيع تكوين جمل مفيدة لغويا من حيث التمييز بين الفعل والإسم.. إلخ لكنه غير قادر بالطبع على التعرف على تقييم منطقية الجملة التي يركّبها. أي أنه يختار الأسماء والأفعال وحروف الجر وغيرها بشكل عشوائي ليشكل جملا مفيدة لغويا قد يكون لها معنى وقد لا يكون وهي الحالة الغالبة.
تزداد إمكانات الكومبيوتر على الهذر (الخرائية) كلما ازداد عدد الأفعال أو الأسماء في الجملة لأن التوافيق الإحصائية الممكنة بينها تتزايد. لكن البرنامج الكومبيوتري يظل محافظا على "السلامة" اللغوية للجملة، بحيث تصبح الجمل مثلا "تجلّي النوايات، ميكانيك المركزة، تكشف الإنفصال الذي يسمح للنوايا بالتلاصق" أو "نحن لا نهائيون في المكان واللازمان، الإمكانات مقيّدة في اللامكان".
تطوّع ثمانمئة طالب جامعي للخضوع لتجربة قراءة النصوص المعاد تركيبها من خلال خلط الكومبيوتر وتقييم مدى عمقها على سلّم يبدأ من "عميق للغاية" إلى "عديم القيمة". وكانت النتيجة إن النسبة الأكبر من هذه الخرائيات تم تقييمها ك "عميق نوعا ما".
لا أظن أن أحدا منّا لم يقرأ نصّا أو يشاهد متحدّثا على شاشة التلفزيون يقول جملا من نوع "إن المكنون اللاشعوري الذي يواجه فضاءا سرمديا يعجز عن الإحاطة بهذه القضية". ننتهي من قراءة أو سماع نصّ كهذا ساخرين من هذر متعالم. ولكن لنقل بصراحة أننا نشعر بالحنق أيضا لأن صاحب هذا النص استطاع إقناع جمهرة تزيد أو تنقص من المتلقّين بأنه أكثر عمقا منّا.
الهذر المتعالم أو الهذر المتظاهر بالعمق ينتمي إلى فصيلة يتشارك بها مع الهراء أو الإبتذال لكنه يختلف عنهما. وهو يختلف بالتأكيد عن الكذب.
الهراء هو حكم تقريري يتم طرحه كحقيقة ثابتة مع أنه لا يستند إلى أساس مثل "الأرض منبسطة" أو "أن العاطفة تنبع من القلب".
والإبتذال، وما أكثره في الكتابات العربية، هو أن تقول ما يحسّ به وما يعرفه جمع المتلقّين ولا يخالفونك الرأي لكنك تنجح في تسويق القول ككشف أو بما يوحي بأنك جئت بجديد.
هل بوسعنا تحديد ما يندرج تحت تصنيف "الخرائية" المتعالمة في النص الكتابي والمشاهَد؟
ننتهي من القراءة أو من مشاهدة فلم أو برنامج تلفزيوني فنقرّر أنه كان خرائيا. وأظن أن واحدنا يمر على كمّ من الخرائية يتجاوز آلاف المرات كمّ ما ينطو على معنى. لكنه تقييم يظل ذاتيّا.
لا ينتمي الهذر المتعالم أو الهراء أو الإبتذال إلى عالم الكذب، فالكذب ينطوي على معرفة الحقيقة والإهتمام بها وإلاّ ما تعمّد طمسها أو قلبها.
الخرائية لاتعرف الحقيقة أو لا تهتم بها قدر ما تهتم بترك تأثير إيجابي على المتلقي.
الخرائية تستخدم إسلوبا للوصول إلى ترك هذا التأثير.
الخرائية تعتمد على الحسّ العفوي للمتلقي لكي توصل إليه ما يريده، فالقلب يدقّ عند التعبير عن العاطفة والأرض التي يقف المرء عليها منبسطة لا كروية. والإبتذال يخاطب جمهورا ربّما يكون أكثر ثقافة فيمنحه إجابات ويعفيه من همّ التشكّك وطرح التساؤلات. الإبتذال هو نقد يتساوق مع النقد الغرائزي للجمهور لكنه يزيح عن هذا الجمهور الشعور بمسؤوليته عمّا يتم نقده. ثمة طرف ثالث غير الجمهور أو صاحب النص يتحمّل المسؤولية.
ولكن من يعطينا الحق في تسمية ما لا نفهم "هذرا متعالما" أو هذرا وهميّ العمق؟ لمّ لانلقي اللوم على عجزنا عن استيعاب أفكار تتجاوز قدرتنا على الفهم؟
بعد أن قرأت البحث جرّبت أن أختار عبارات متداولة وأعيد تركيبها في صياغات تحافظ على التناسق اللغوي وتوحي بالعمق:
- "الإنتباه والنوايا هي مكوّن لآليات التجلّي" [منّي/ آليات الإنتباه تكوّن النوايا] [التجلّي يعبّر عن آليات النوايا]
- اللامرئي يتجاوز حدود الزمن [منّي] الزمن يتجاوز حدود اللامرئي
- لا تتموضع تكويناتنا. القضية من الناحية الأبستمولوجية تكمن في لا موضعة تكويناتنا الإجتماعية
هناك عقم أبستمولوجي في تكوين بيئتنا الفكرية والسياسية
أعود إلى الدراسة الأكاديمية:
توصّل الباحثون إلى أن مؤشرات الإقتناع بعمق النصوص تتناسب طرديا مع قياسات معايير تتعلق بالقدرة المعرفية لمن شاركوا في التجربة العلمية.
- من يؤمنون بالقوى فوق الطبيعية أكثر ميلا لتقبّل الخرائيات.
- لا حظنا أن التشكّك بعمق جمل البل شت (الجمل الخرائية) يزداد بين من تم تشخيصهم كعقول أكثر قدرة تحليلية وتعاملا منطقيا
- - وحين عُرضت على الطلبة جمل ذات دلالة مصاغة بعبارات مفهومة مثل "لايقطع النهر الصخور بفعل قوته بل بفعل دأبه" إلى جانب عبارات من نوع "التحفيز المتتالي للإمكانات غير المقيّدة يفعّل القدرة البشرية" رأى عشرون بالمئة أن العبارة الأخيرة أكثر عمقا. وهم نفسهم من كانوا على مؤشرنا في البحث النفسي الأقل قدرة على التفكير التأمّلي والأكثر اعتمادا على الحدس والإلهام.
كيف اختتم هذا النص الطويل والممل؟
إن الصمود الذي ورثناه عن أجدادنا يمكّننا من بناء الإقتدار الذي نزهو به. إن اقتدار أجدادنا على الصمود يدفعنا إلى الزهو بما نحن عليه. إن زهونا ينبع من اقتدار أجدادنا. صمد أجدادنا فأورثونا هذا الإقتدار الذي نزهو به. يزهى أجدادنا باقتدارنا وصمودنا....
هل هذا هذر أم جمل خرائية؟
أليس هذا ما ينطق به لا المعمّمون فقط، بل كثير من مناضلينا المدنيين أيضا؟
#عصام_الخفاجي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟