|
غيوم في سماء تونس .
فريد العليبي
الحوار المتمدن-العدد: 8502 - 2025 / 10 / 21 - 23:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تعيش تونس هذه الأيام على وقع مخاطر مُحدقة ، الأولى داخلية والثانية خارجية وهما اللتان تتآلفان في معظم الأحيان فهذه تغذي تلك ، مما جعل سماءها مُلبدة بالغيوم بما يُنذر بعواصف مُحتملة . داخليا عمدت مجموعات قالت انها تتبع الرئيس قيس سعيد الى التظاهر أمام المقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل ، رافعة شعارات مكتوبة ومسموعة تنادي بتجميد الاتحاد معتبرة إياه سبب خراب البلاد، ثم في مرة ثانية نقلت المواجهة الى الجهات لتبدأ بثاني أكبر مدينة ، وهي صفاقس ، التي تُوصف بعاصمة الجنوب التونسي ، ولكنها هذه المرة ظلت بعيدة عن مقر الاتحاد الجهوي . وقد تبين أن تلك المجموعات تعاني من ضعف الالتفاف الشعبي حولها ، اذ لم تنجح في تجميع سوي عدد قليل من الأشخاص ، معظمهم لا علاقة له باتحاد الشغل والعمل النقابي . و كان لافتا أن الرئيس قيس سعيد قد علق على نشاطها الأول بالقول انها لم تكن تنوي اقتحام مقر الاتحاد في العاصمة ، مما فُهم منه دعمه لها، بينما سكت عن الثاني . ويًرجح أن ذلك سببه ادراكه عزلتها من جهة ، ورغبته في نزع فتيل مواجهة غير مأمونة العواقب مع أكبر منظمة نقابية في تونس واقدمها في افريقيا والوطن العربي من جهة ثانية ، وهي التي وُلدت من رحم الحركة الوطنية المضادة للاستعمار الفرنسي، ولا يزال يُنظر اليها رغم الهزات باعتبارها خيمة تونسية جامعة . و ما جرى على هذا الصعيد زرع الانقسام والاضطراب في صفوف جبهة 25 جويلية ، خاصة بين قصر قرطاج حيث الرئيس قيس سعيد وساحة محمد على الحامي حيث الأمين العام للاتحاد نورالدين الطبوبي ، علما أن الحديث عن هذه الجبهة هو من قبيل الافتراض، فقد أغلق الرئيس دوما أبوابه أمام كل عمل يجمعه بقوى سياسية ونقابية وثقافية قريبة منه ، وهو الذي يُلام على أنه لا يُصغي الى أحد غير نفسه ، فهو لا يرغب في الاستماع بقدر رغبته في أن يُسمع ، غير أن ذلك الافتراض له ما يبرره ،فقد دعم الاتحاد مُبكرا الإجراءات التي أقدم عليها قيس سعيد غداة هبة 25 جويلية وأفضت الى تغيير هام في مجرى السياسة التونسية، بما أدى الى وضع نهاية لما سُمى العشرية السوداء في تونس، التي حكم خلالها اليمينان الإسلامي والليبرالي بعد رحيل الرئيس الأسبق زين العابدين بن على ، حيث سادت الاغتيالات والإرهاب وفقدان السيادة الوطنية و فوضى الديمقراطية الليبرالية ، فضلا عن تعمق الشروخ الاجتماعية وتفشي الاقتراض الخارجي وانهيار العملة المحلية الخ... فالاتحاد كان ضحية لتلك السياسة حيث أحرقت مقراته ووُضعت النفايات أمام أبوابها ، بما فيها مقره المركزي وجرح بعض أعضائه مما يُفسر انتصاره لتلك الإجراءات. خارجيا سرعان ما تلقفت الدوائر المعنية بالوضع التونسي ما حصل فجاءت تصريحات السيناتور الأمريكي جو ويلسون التي ذكر فيها الرئيس التونسي بمصير بشار الأسد، مُحذرا إياه من أنه لن يجد خلاصه علي يد حلفائه، مثل روسيا وايران ، عندما يُواجه غضب شعبه . وقد أشار الى مظاهرة الاتحاد العام التونسي للشغل باعتبارها دليلا على رفض شعبي متنام لحكمه، مما يعني استثمار الحدث التونسي الذي ازداد حدة بعد ذلك مع الخطوة الموالية ممثلة في اعلان النائب نفسه (جمهوري) في 5 سبتمبر 2025 أنه قدم بالتعاون مع النائب الديمقراطي جيسون كراو، مشروع قانون إلى مجلس النواب الأمريكي تحت عنوان "استعادة الديمقراطية في تونس" ، من ضمن ما نص عليه وضع قائمة خلال ستة أشهر تضم مسؤولين تونسيين لمعاقبتهم على اقترافهم انتهاكات لحقوق الانسان وعرقلة الديمقراطية الخ .. فضلا عن وقف أو تعليق مساعدات أمريكية للدولة التونسية بما يؤكد تدهور العلاقات التونسية الأمريكية خلال حكم قيس سعيد الذي وصل حد استدعاء الرئيس التونسي السفير الأمريكي في مارس 2023 للفت نظره الى التدخل الأمريكي غير المقبول في شؤون بلاده ، مؤكدا عُلوية السيادة الوطنية ورفض الاملاءات الخارجية مهما كان مصدرها . وكانت أمريكا قد عبرت منذ البداية عن قلقها من إجراءات قيس سعيد باعتبارها تنصلا من الديمقراطية و انحرافا عنها ، وعندما أعلن بلينكن وزير الخارجية الأمريكي السابق عن قلقه العميق من تلاشي " الديمقراطية " في تونس كان بيان الخارجية التونسية الذي استنكر التدخل في الشؤون الداخلية . وقد تواصل الجفاء التونسي الأمريكي مع إدارة ترامب ويبدو أن الأسباب العميقة تتجاوز الخطاب المعلن عن الديمقراطية وحقوق الانسان لتمس خاصة موقف قيس سعيد من التطبيع مع " إسرائيل " وجذرية موقفه من تحرير فلسطين، فضلا عن الاقتراب من دول مثل روسيا والصين وايران ، ورفعه شعارات وطنية مثل التعويل على الذات في علاقة بصندوق النقد الدولي والمساعدات الخارجية والسيادة الوطنية ورفض تركيز قواعد عسكرية أجنبية واعتماده الديمقراطية المباشرة بديلا عن الديمقراطية الليبرالية الخ .. . وهي الشعارات التي منحته مقبولية شعبية . غني عن البيان ان العاملين الخارجي والداخلي مترابطين في تفسير الغيوم التونسية ففي تونس اليوم لا تزال التناقضات الداخلية التي فجرت انتفاضة 17 ديسمبر 2010 دون حل في جوهرها ، وخاصة ما تعلق منها بالاقتصاد والاجتماع . ومثلما كانت سببا في اشعال حريق ذلك الزمن القريب ، يمكنها اشعال حريق جديد وهذا الجانب الداخلي هو الذي يجد فيه العامل الخارجي قوة تأثيره والأبواب والنوافذ المشرعة أمامه . واذا كان الرئيس الحالي قد تقدم خطوات في حل المعضلة السياسية فإنه لم ينجح في وضع أسس جديدة للتدبير السياسي وظل في عزلة عن جميع السياسيين في تونس تقريبا فضلا عن النقابيين والمثقفين كما ألمحنا اليه، بل ان تلك العزلة شملت وزراءه وولاته أيضا ، حتى أنه ظل يُعين ويعزل هذا الوزير أو ذاك دون خطة واضحة، وفي خطوة من خطواته المفاجئة عزل تقريبا كل ولاته دون تفسير يُذكر. وهذا معناه أنه عندما تقرر قوة خارجية نافذة إعادة رسم اللوحة التونسية فإن مهمتها لن تكون عسيرة اذا ما استمر الوضع على ما هو عليه ، وهو الوضع ذاته الذي ما فتئ الرئيس التونسي يكرر وصفه باعتباره استمرارا للوضع السابق فالمنظومة القديمة لم ترحل بعد والمافيا تبسط سيطرتها على القطاعات الاستراتيجية وحزب الإدارة يحرس القديم ويخنق الجديد . لقد كان جليا منذ البدء أنه لا يمكن اصلاح الدولة بالدولة ذاتها ، وأن قيس سعيد عوضا عن وضع أسس دولة جديدة متطابقة مع انتفاضة 17 ديسمبر وهبة 25 جويلية ظل يردد ما ردده الرؤساء الذين سبقوه من بورقيبة الى الباجي قائد السبسي عن خلود الدولة التونسية واستمراريتها ، وهي التي ستعيش أبد الدهر، في غربة تامة عن فكرة تغير الدول وزوالها وانحلالها بزوال الظروف التي انتجتها ، وهو ما كان ابن خلدون قد شرحه بما فيه الكفاية منذ قرون طويلة. بالعودة الى " ديمقراطية " قيس سعيد نلاحظ أن نسبة المشاركة في انتخاباتها كانت ضعيفة ، سواء تعلقت بالبرلمان أو بمجلس الجهات والاقاليم ، وهذه واقعة موضوعية ، مثلما كانت الحملات الانتخابية باهتة أو منعدمة حتى ، وكان بمكن أن تكون افضل بكثير لو توفرت جملة من الشروط ومنها : أولا: تنظيم قوى 17 ديسمبر 25 جويلية سياسيا والدفع بها في اتجاه انجاز المهام الوطنية المؤجلة، بما من شأنه خلق ديناميكية مستمرة ومتصاعدة . ثانيا : تحقيق مكاسب ملموسة أوسع في خضم المعركة الاقتصادية الاجتماعية . ثالثا: بناء اعلام وطني معبر عن تونس الجديدة . رابعا : ارساء الثقافة الوطنية الجديدة . فهذه الشروط من شأنها احداث قطيعة فعلية بين تونس القديمة وتونس الجديدة ، أي تحقيق فرز حقيقي يسمح باعتماد تونس الجديدة على نفسها في بناء ذاتها ،لا ارتكازها (غير المبرر حتى الآن ) على تونس القديمة في تحقيق ذلك وهى التي تخترقها من شتى الجهات وتكاد تخنقها جهارا حينا ومواربة أحيانا أخرى . واليوم ، ربما حان الاعتراف أن 25 جويلية لم تنجح في أن تكون حركة ديمقراطية شعبية واسعة فظلت تدور حول نفسها دون آفاق تذكر فكان التكرار والاجترار على مدى سنوات ، وهو ما أثار استغراب العدو والصديق، مما يدعو الى التساؤل هل كانت فرصة تونسية ضائعة؟ والجواب حتى الآن لا، ولكنها تقترب من ذلك المصير، مما يُحيل على سؤال ثان : هل بالإمكان انقاذها بتبديد تلك الغيوم والسير بتونس نحو معانقة فجرها ؟ 11 سبتمبر 2025
#فريد_العليبي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسطول الصمود : فلسطين حقيقة العالم .
-
ورقات ايرانية
-
فلسطين : الحرب و دموع العذاب ودموع الفرح .
-
لقاء صحفي حول الأوضاع في تونس وسوريا .
-
قراءة في العقل الصهيوني.( 1)
-
النهضة والثورة.
-
المقاومة الفلسطينية بين الماضي والمستقبل . في الذكرى الأولى
...
-
الاجتياح البري .
-
لبنان ونصرالله وما سيبقى .
-
أستاذ فلسفة مترشح لرئاسة أمريكا.
-
اليوم انتخابات رئاسية في الجزائر ... وغدا في تونس .
-
ورقات أردنية .
-
مخاطبة المنازل.
-
التنوير الديني والماركسية عند محمود محد طه ( الحلقة الرابعة
...
-
التنوير الديني والماركسية عند محمود محد طه . ( الحلقة الثالث
...
-
التنوير الديني والماركسية عند محمود محمد طه .( الحلقة الثاني
...
-
التنوير الديني والماركسية عند محمود محمد طه .( الحلقة الأولى
...
-
تونس : حيرة أوربية أمريكية .
-
هجوم وهجوم مضاد .
-
معركة تونسية .
المزيد.....
-
كويتية تصنع من كل قفزة على الحبل تغييرًا حقيقيًا في حياتها
-
شاهد كيف يسخر مستخدمو تيكتوك من أمن متحف اللوفر بعد عملية ال
...
-
مصر.. هتافات باستقبال السيسي في بلجيكا تثير تفاعلا
-
نائب ترامب يقلل من شأن المخاوف المتعلقة بهشاشة وقف إطلاق الن
...
-
غزة.. ماذا نعلم عن الرهينة الأكبر سنا بعد تسليم رفاتها لإسرا
...
-
متصفح إنترنت جديد يعمل بالذكاء الاصطناعي من أوبن أيه آي
-
مباشر: تعثر تسليم رفات كامل الرهائن ووصول المساعدات مع تبادل
...
-
80 عاما من العلاقات السورية الروسية
-
كيف ستكون رحلة بوتين إلى بودابست؟
-
تفاعلات أزمة أوكرانيا.. كيف تستعد ليتوانيا للحرب مع جارتها ر
...
المزيد.....
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
المزيد.....
|