فريد العليبي
الحوار المتمدن-العدد: 8481 - 2025 / 9 / 30 - 15:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
.
أصبحت فلسطين منذ كشفت حرب غزة عن ذاتها باعتبارها حرب إبادة قضية البشرية كافة و" حقيقة عالمنا " ، وتم مبكرا ادراك أن المواجهة بين الجلاد الصهيوني والضحية العربية الفلسطينية غير متكافئة ، فكان الدعم الأممي لفلسطين حاضرا في الجامعات والمعامل والشوارع والساحات العامة ، وحتى بين بعض الحكومات الأوربية التي ظلت لوقت طويل حارسة للصهيونية وكيانها ، وأضحى التناقض بين من هم مع فلسطين ومن هم ضدها ، وبدا الحق والحقيقة والعدل في خندق ، والباطل والزيف والظلم والجريمة في خندق آخر.
و اليوم يزخر عالمنا بحشود شعبية تهتف لفلسطين ، فقد عمت المظاهرات يلدانا شتى ، وكانت الشعارات مُعبرة ، مثل : نحن جميعنا أطفال غزة ، فلسطين حرة ، من النهر الى البحر فلسطين ستكون حرة ، أوقفوا حرب الإبادة . و في الأثناء كانت محاولات كسر الحصار ، برا وبحرا ، ثم كان أسطول الصمود العالمي ، بمبادرة من أسطول الحرية و الحركة العالمية نحو غزة و المبادرة الشرق آسيوية "صمود نوسانتارا" ، فضلا عن الأسطول المغاربي ، والهدف : كسر الحصار و فتح ممر بحري يمكن من ايصال المساعدات الإنسانية.
والمنخرطون فيه سياسيون وحقوقيون وأطباء ونقابيون وفنانون وطلاب وبرلمانيون الخ ..والمُرجح أن يكون العدد كبيرا ، اذ يقدر بالمئات ، وسيكون الحدث أشبه بمظاهرة بحرية. وهنا اختلافه عن المبادرات السابقة المكونة من سفينة واحدة ، مثلما هو حال " مادلين " ( 2025 )، التي كانت نهايتها " سعيدة " أو بضعة سفن مثل أسطول الحرية ( 2010 ) الذي انطلق من تركيا وكانت نهايته " مأساوية " مع استشهاد عشرة من أعضائه .
وهذا ما سيُسبب ازعاجا كبيرا للكيان الذي سيكون أمام خيارات أحلاها مر، مثل اغراق الأسطول في تونس أو اغراقه في المياه الدولية أو السيطرة على سفنه واقتيادها كالعادة الى الموانئ الفلسطينية واعتقال من فيها .وكل هذه الخيارات مُكلفة ، وأشدها خطرا تلك المؤدية الى سقوط ضحايا ، لن يكونوا من العرب فقط هذه المرة ، فهؤلاء هم دون مرتبة البشر بالنسبة إليه وانما من الأوربيين خاصة .
عمليا يمكن القول إن الأسطول قد انطلق نحو شواطئ القطاع من اسبانيا ليتوقف في تونس لأيام قبل مواصلة سيره ووجد بدايته في برشلونة يوم الأحد 31 أغسطس / أوت 2025 ، المشهد الاسباني كان عظيما في إنسانيته ، وفي قلبه آلاف الأشخاص الذين غص بهم ميناء المدينة . قبل ذلك كان التمهيد بالموسيقى والمحاضرات الفكرية والتجمعات الشعبية ، ما ذكر بقيم اسبانيا ورمزيتها التاريخية في مواجهة الفاشية والتمرد على الظلم وغطرسة الظالمين ، بفريدريكو قارسيا لوركا و عرس دمه و جرنيكا ييكاسو والفيلسوف الإنكليزي الشاب كريستوفر كودويل الذي رقد هناك الى الأبد مُتوسدا رشاشه ، بعد أن كتب عن الحب والشعر و الوهم والواقع وغطى انسحاب رفاقه في معركة نهر خاراما فـ" لم يكتب فقط عن الثورة وانما استشهد من أجلها " ، بالفرنسي أندريه مالرو صاحب رواية الأمل ، وهو في طائــــــــرة من طائرات الجمهورية الاسبانية المقاتلة .
ربما تذكرت اسبانيا الفليق الأممي الذي هب فيه حوالي خمسة وثلاثون ألفا من المتطوعين القادمين من خمسين بلدا لمناصرة جمهوريتها في كفاحها ضد الفاشيين، استشهد منهم ثمانية آلاف فقررت رد الجميل الى " الإنسانية " وحقيقتها الفلسطينية.
من خلال هؤلاء الاسبان الرائعين الذين تجمعوا لتحية المُبحرين كانت روح ذلك الفليق تحلق بين زرقة وزرقة، زرقة البحر وزرقة السماء . لقد قرعت بالأمس الأجراس لاسبانيا وهي تقرع اليوم لغزة وفلسطين بأكملها .كان آلاف من الناس في وداع حماسي أبكى بعض المعلقين التلفزيونيين ، فقد كانت من بين الوصايا أن بلغوا التحايا لا الى الأحياء فقط وانما الى الشهداء أيضا ، ما ذكر بتلك المرأة الفلسطينية التي بكت أبناءها وقد حولهم القصف الى أشلاء لأنهم استشهدوا قبل تناول الغداء .
تكرر المشهد ذاته في تونس بعد أيام قليلة ، حشود غفيرة هبت لاستقبال تلك السفن و استعداد لوداعها في الآن ذاته ، نساء ورجال ، صغار وكبار ، عرب وأجانب ، رايات من بلدان كثيرة ، أهازيج وشعارات ، دموع بين حزن وفرح ، الميناء السياحي الذي كان مرساة ليُخوت الأثرياء حطت الرحال فيه سفن الفقراء ، تبرع ببعضها أصحابها بينما مكنت تبرعات مالية من شراء أخرى ، كانت عيون السفن مُشرئبة الى هناك ، حيث يستشهد الأطفال والشيوخ والكهول والنساء والرجال، لا برصاص الغزاة وحده وانما بالجوع أيضا ، وتتهاوى فيه الأبراج السكنية كما لو كانت قصور ورق أوقد فيها طفل صغير عود ثقاب .
اتحدت تونس بأكملها لرسم لوحة من أجمل لوحات تاريخها المعاصر في علاقتها بـ" قضية البشرية " ، كأنما عقد تشكلت حباته من كفاح الأجداد والآباء والأبناء نصرة لفلسطين ، منذ عرف مقاوموها القدامى الطريق الى هناك حفاة خلال " النكبة " وازدحام الفلاحين الفقراء للتطوع للقتال خلال " النكسة " ومشاركة الطلاب في الدفاع عن بيروت خلال " الاجتياح " .
تذكر التونسيات والتونسيون جرائم الكيان على أرضهم والثأر المكبوت في صدورهم، من الغارة الصهيونية على حمام الشط حيث اختلطت الدماء الفلسطينية والتونسية حتى اغتيالات القادة الفلسطينيين ومنهم خليل الوزير (أبو جهاد) الذي قضى غير بعيد عن ذلك الميناء حيث تجمعوا ، وعربدة صحفي صهيوني في شارع ثورتهم المغدورة قبل سنوات قليلة عندما كان ماكين وأولبرات وجيفري فلتمن وغيرهم ينسجون خيوط السياسة التونسية .
كان الشعب حاضرا في ميناء سيدي بوسعيد ، مُدركا أن تحولا كبيرا قد حدث في تونس مع انتفاضة 17 ديسمبر وهبة 25 جويلية ، حتى أنه يحتشد في سفح الربوة التي أقام عليها مهندس فرنسي قصر بورقيبة الرئاسي، وربما كان قيس سعيد الذي يسكنه الآن يسمع هتافه وأهازيجه .
في الأثناء ضربت مقذوفات سفينتين، احداهما اسبانية والأخرى إنكليزية ، ولا يُعرف حتى الآن من قام بالـ" قصف " لتهشيم اللوحة التونسية ، ربما هو " مأجور داخلي " أكثر منه " معتد خارجي " فالغيوم التونسية تسمح بطيران الغربان فوقها وفيها وتحتها.
هنا أيضا لوح أبو القاسم الشابي للوركا والآخرين بيديه تحية ، فالشعب الذي يريد الحياة يستجيب له القدر ، ولا عدل الا اذا تعادلت القوى ، والبشرية المقاومة اذا ما اتحدت تتهاوى أمامها حصون الأعداء .
وجراء أحوال جوية غير مناسبة واستعدادات لوجستية ناقصة تأخر ابحار ذلك الاسطول من ميناء سيدي بوسعيد ليتوجه بعضه الى بنزرت حيث المياه العميقة ، كانت تلك رحلة أخرى الى مدينة الشهداء ، ففي تاريخ الكفاح الوطني التونسي ضد الغزاة الفرنسيين قدمت بنزرت خلال أيام آلاف الشهداء على عتبة الحرية ، هي ترى الآن غزة الشهيدة بعيون التاريخ وروح المقاومين كأنما لتقول لها : كما رحل الغزاة الفرنسيون سيرحل غزاة بني صهيون .
تبدو اليوم " حقيقة العالم " وهي تسكن فلسطين ، هي القيمة والمعني ، التي تنتصر في الأخير .ويحدث أن تكون ماثلة للعيان ولكنها تقابل بالإنكار ، والأخطر من إنكارها وجحدها تعويضها بالأساطير، تلك التي تنفجر ولو بعد حين .
كان الأجداد يذهبون الى فلسطين مقاتلين وكان المناصرون الأمميون يذهبون الى اسبانيا مقاتلين أيضا ، بمن فيهم كبار الفلاسفة و الأدباء والفنانين ، واليوم فإن أقل ما يمكن فعله عشقا لـ " حقيقة العالم " هو فتح الدروب اليها بأساطيل المُبحرين السلميين.
#فريد_العليبي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟