عزيز الديش
باحث في العلوم الاجتماعية جامعة غرناطة - اسبانيا-
(Aziz Ddich)
الحوار المتمدن-العدد: 8500 - 2025 / 10 / 19 - 02:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
: من الواقعة إلى المعنى
الجدل الذي أثارته تصريحات الصحفي بوبكر الجامعي في حواره مع شباب “جيل زد” ليس مجرد حدث عابر في فضاء التواصل، بل هو مرآة لاحتكاك رمزي بين أنماط مختلفة من تمثل الهوية والسياسة في المغرب. فالرد الغاضب الذي جاء من بعض الشباب الأمازيغي لم يكن فقط موقفًا من رأي، بل كشف عن تحول في أنماط الوعي السياسي والهوياتي لدى فئة من الجيل الجديد الذي يشتغل أكثر عبر المنصات الرقمية، حيث تختلط المرجعيات الفكرية بالديناميات العاطفية.
إن ما بدا ظاهريا صراعا حول “الأمازيغية” هو في العمق نزاع حول من يمتلك حق تعريفها: هل هي قضية ثقافية أم مشروع سياسي؟ هل هي موضوع هوية أم موضوع عقد اجتماعي؟ هنا، يتحول النقاش من سؤال “من نحن؟” إلى سؤال “كيف نعيش معا؟”، وهو في حد ذاته جوهر التفكير السوسيولوجي والسياسي الحديث.
. الأمازيغية في فضاء الهيمنة الرمزية
يستحضر الجامعي، وإن بطريقة غير مباشرة، ما يسميه بيير بورديو بـ“الاحتكار الرمزي”، أي قدرة الدولة على إعادة صياغة القضايا الاجتماعية داخل حقلها الخاص بما يخدم مصالحها في إعادة إنتاج الشرعية.
فالسلطة لا تمارس بالقهر فقط، بل كذلك من خلال التحكم في المعاني والرموز. بهذا المعنى، تصبح الأمازيغية — حين تدرج في الخطاب الرسمي — جزءا من استراتيجية الدولة في “تسويق التعددية” دون تمكينها فعليا.
الجامعي أشار بوضوح إلى أن المؤسسة الملكية تعتمد سياسة “الركوب على المكتسبات”، فتستثمر النجاحات الجزئية للحركات الاجتماعية (النسائية، الصحفية، الأمازيغية...) لتقديم نفسها باعتبارها “المصدر المتنور للحقوق”. وهذا بالضبط ما يسميه أنطونيو غرامشي “الهيمنة الثقافية”:
حين تنجح السلطة في جعل قيمها وتصوراتها للعالم مقبولة كأنها محايدة وطبيعية، فإنها تربح المعركة دون أن تطلق رصاصة.
. الهوية كحقل صراع اجتماعي
الأمازيغية ليست جوهرا ثقافيا ثابتا، بل حقل صراع اجتماعي تتقاطع فيه مصالح ورهانات متعددة.
من هذا المنظور، فإن تمثلات الفاعلين حول الأمازيغية تنتج ضمن شروط اجتماعية محددة:
بين النخب المثقفة، والدولة، والمجتمع المدني، والشباب الرقمي الذي أعاد صياغة الرموز في فضاءات جديدة.
حين يقول الجامعي إن النقاش حول الأمازيغية بقي “محصورا في الهوية”، فهو ينتقد ما يسميه تحويل الصراع الاجتماعي إلى نقاش فولكلوري.
فالهوية، في غياب العدالة السياسية، تتحول إلى علامة فارغة تستعمل لتجميل اللامساواة لا لتقويضها.
من منظور علم الاجتماع السياسي، لا يمكن فصل المسألة الأمازيغية عن سؤال توزيع السلطة والموارد الرمزية. فالهوية لا تكتسب معناها إلا حين تتجسد في مؤسسات عادلة تضمن المشاركة الفعلية، لا حين تُحوّل إلى شعار لغوي في واجهة المباني الرسمية.
. من الهوية إلى العقد: إمكانات التأسيس الجديد
في استعمال الجامعي لكلمة “عقد”، يمكن أن نقرأ أثرا واضحا لفكر يورغن هابرماس حول العقل التواصلي والفضاء العمومي. فالقضايا المجتمعية الكبرى — ومن ضمنها الأمازيغية — لا يمكن أن تحسم بقرار فوقي أو بمرسوم، بل ينبغي أن تدار في إطار نقاش عمومي حر يسمح بتداول الأفكار وتلاقحها وصولا إلى توافق اجتماعي.
العقد، بهذا المعنى، ليس نصا قانونيا فحسب، بل عملية تواصلية مستمرة، تعيد إنتاج المعنى من خلال الحوار بين الفاعلين المختلفين.
من هذا المنظور، ما يقترحه الجامعي ليس تهميشا للأمازيغية، بل تحريرها من الاستحواذ المؤسساتي وإعادتها إلى مجالها الطبيعي: مجال التفاوض الاجتماعي الحر حين تصبح الأمازيغية موضوع عقد مجتمعي، فإنها تتحول من رمز هوية إلى أفق ديمقراطي.
. الدولة كآلة لاستيعاب الحركات
تظهر تجارب العقود الأخيرة أن الدولة المغربية استطاعت، بذكاء سياسي، أن تستوعب الحركات الاجتماعية والثقافية ضمن بنيتها الرمزية دون أن تسمح لها بتغيير قواعد اللعبة. إنها تمارس ما يمكن تسميته “الإصلاح المراقب”، أي الاعتراف الجزئي بالمطالب لتفادي تحولها إلى قوة ضغط.
في هذا السياق، يمكن قراءة إدماج الأمازيغية في الدستور سنة 2011 كمثال على المكافأة الرمزية التي تمنح للحركات مقابل تحييدها السياسي.
فهي حاضرة في النصوص، غائبة في الممارسات؛ موجودة في الشعارات، مقيدة في المؤسسات.
هذا ما يسميه علم الاجتماع بـ“المأسسة المفرغة من المعنى”: شكل بلا محتوى، حضور بلا فاعلية.
. جيل المنصات وحدود الوعي الديمقراطي
من منظور سوسيولوجي، يمكن اعتبار ردّ الفعل الذي عبّر عنه عدد محدود من الشباب الذين قالوا إنهم ينتمون إلى الحركة الأمازيغية وأعلنوا انسحابهم من “جيل زد” إثر تصريحات الجامعي، تجليًا لما يمكن وصفه بـ“ثقافة الإلغاء الرقمي” (cancel culture). وهي ظاهرة تقوم، أحيانًا، على استبدال النقاش النقدي بالفعل الانسحابي أو الاتهامي.
ورغم أن هذا النمط من التفاعل يعبّر عن حساسية جديدة تجاه الرموز والهوية، فإنه يكشف أيضًا عن حدود في الممارسة الديمقراطية التداولية التي تفترض الإنصات المتبادل وتفكيك الخطاب بالحجة لا بالعاطفة.
إن الفضاء الرقمي، على اتساعه، يعيد تشكيل أنماط الفعل والنقاش لدى فئات واسعة من الشباب، لكنه قد يُنتج في الآن نفسه جزرًا هوياتية صغيرة تتفاعل مع ذاتها أكثر مما تتحاور مع الآخر.
وإذا كانت الحركة الأمازيغية في بداياتها قد شكّلت فضاءً رحبًا للنقاش التعددي، فإن التحدي المطروح اليوم هو حماية هذه الروح النقدية من الانغلاق أو الاحتكار تحت ضغط فكرة “الهوية النقية”.
. في أفق إعادة تعريف المشروع الأمازيغي
الحركة الأمازيغية أمام مفترق تاريخي:
هل تستمر في مسارها كقضية رمزية مرتبطة بالاعتراف اللغوي والثقافي، أم تتجه نحو صياغة مشروع مجتمعي شامل يربط بين التحرر الثقافي والعدالة الاجتماعية والسياسية؟
من منظور علم الاجتماع السياسي، قوة أي حركة لا تقاس بعدد شعاراتها، بل بقدرتها على إنتاج معنى اجتماعي مشترك. وإعادة تعريف الأمازيغية اليوم تعني استعادتها من يد السلطة، ومن يد النزعات الهوياتية المغلقة معا، لتعود إلى حقل المجتمع بوصفها قضية مواطنة وعدالة.
. خاتمة: الأمازيغية كمرآة لتحول الدولة والمجتمع
ما أثاره بوبكر الجامعي لم يكن استفزازا بقدر ما كان اختبارا لقدرة المجتمع على التفكير في ذاته.
فالأمازيغية، في عمقها، ليست مجرد لغة أو تراث، بل مؤشر على مستوى نضج الفضاء العمومي المغربي.
بقدر ما تتاح حرية النقاش حولها، تتقدم الديمقراطية؛ وبقدر ما يحتكر الحديث عنها، يتعمق الاستبداد الرمزي.
إن خلاص الأمازيغية — كما يشير الجامعي — لن يأتي من “منحى فوقي” بل من تعاقد اجتماعي حر، يعيد توزيع السلطة والمعنى معا.
فهي ليست ترفا ثقافيا بل أفقا لإعادة بناء الدولة على أساس التعدد والمساواة. ولعل السؤال الجوهري الذي يظل مفتوحا أمام الباحثين والفاعلين معا هو: هل نحن بصدد أمازيغية “مُعترف بها” رسميا أم أمازيغية “معاشة” مجتمعيًا؟
الأولى تزين الخطاب، والثانية تبني الوطن.
#عزيز_الديش (هاشتاغ)
Aziz_Ddich#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟