|
محاورة النص الروائي- قراءة في رواية -الساعات الأخيرة للشيطان-
رياض كامل
الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 14:36
المحور:
الادب والفن
محاورة النص الروائي - قراءة في رواية "الساعات الأخيرة للشيطان"
مقدمة يُصدر الأديب الأردني سمير القضاة روايته "الساعات الأخيرة للشيطان" (2025)، بعد أن أصدر روايتين سابقتين، ومجموعة من الدواوين الشعرية. وهي رواية اجتماعية تأخذ على عاتقها الدخول في صلب القضايا التي كانت، ولا تزال، تشغل المجتمعات في كل الأقطار العربية. وهي مجتمعات تقوم على أصول وأسس لصيقة بالعادات والتقاليد والمعتقدات الموروثة منذ قرون. يبدو أن هذه القضايا تؤرّق فكر بعض المبدعين العرب الذين يحلمون بالتغيير أملا باللحاق بركب التطورات الذي يسير بشكل متسارع نحو الأمام فيما يتخلّف العرب عن اللحاق به. تعالج الرواية مواضيع حسّاسة تعرضها على حقيقتها عاريةً، وتطرحها على المتلقّي بصورة مباشرة تصل حدّ الصدمة، حتى ليُخيّل للقارئ وكأنّ الروائيّ قد تعمّد أن يجمع كل عيوب المجتمع وآفاته في رواية واحدة لعلّها تُحدث تصدّعا في مبنى العادات والتقاليد والقوانين والأعراف والمفاهيم المجتمعيّة السائدة. تقف في صلب أحداث الرواية عائلتان عربيتان أردنيتان، لكل منهما ظروفها وبيئتها، وبالتالي مشاكلها وهمومها. وهما، وإن كانتا تختلفان في بعض الأمور الصغيرة، فإنهما تشتركان في القضايا الكبرى التي يعاني منها أبناء المجتمع الأردنيّ في شتى أماكن تواجده. وحتى تكتمل الدائرة الاجتماعية فقد اتّسع حيّز الأحداث ليشمل فضاء الأردن بكل مواقعه من قرية وبادية ومدينة، وامتدّ ليشمل مدنا عربيّة وأجنبيّة، وشخصيّات ذكوريّة وأنثويّة تنتمي إلى بيئات عدة وطبقات مختلفة. تستفيد هذه المقالة من "سوسيولوجيا النص الروائي" ومن نظريات "جماليات التلقي". يتيح لنا ذلك بحث الرواية من الداخل والخارج واكتشاف المبنى الكلي للرواية والتوقف عند التقنيّات التي يوظّفها الروائي في عملية السرد مثل تعدّد الأصوات والرؤى، وتعدّد اللغات، وتحليل الشخصيات والبيئة التي تتحرك من خلالها، دون أن يقتصر التحليل على المضمون. ولن يتأتّى ذلك إلا من خلال إدراك العلاقة القوية بين المؤلّف والنص والقارئ، فالمؤلف هو مبدع النصّ والمتلقّي يتلقّفه ويقوم بتأويله بعد إدراك مركّباته إدراكا عميقا. إن الرواية ليست مجرد حكاية تروى بل إنها مرآة ترصد العلاقات بين أفراد المجتمع اقتصاديا وسياسيا وفكريا وتعكس الصراعات الإيديولوجية فيما بينهم، ولكنها ليست محاكاة للواقع بقدر ما هي عملية تخييلية تُعرض بأساليب فنية جاذبة لتحقق غايتها. تستمدّ الأعمال الأدبية فكرتّها من الحقل الاجتماعي أما بناؤها وصياغتها فهي من إنتاج المبدع. لقد توقّف كثيرون عند كلمة أدب ومفهوم هذه الكلمة منذ اليونانيين، ويكاد يكون هناك إجماع حول تعريفه، إذ يذهب كثيرون إلى أنّه الكتابة التي تُحدث لذّة لدى القارئ وتثير اهتمامه وترسخ في ذاكرته. ما هي القضايا التي تعرض لها هذه الرواية؟ كيف قام الروائيّ ببناء أحداثها؟ وما هي التقنيّات والوسائل التي وظّفها في السرد الروائي؟ وهل حقّقت مبتغاها في إثارة اهتمام المتلقّي؟
تمهيد يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع لوسيان جولدمان أنّ لكل كاتب وجهة نظر في الحياة، وله، كما للفيلسوف، رغبة في مخاطبة الآخرين على أمل التأثير، وأنّ وسيلته إلى ذلك هي اللغة، ويضيف أنّ المحيط الاجتماعي الذي تنمو فيه هذه الرؤية، والطبقة الاجتماعية التي تعبّر عنها ليسا بالضرورة المجال الذي قضى فيه الكاتب قسطا من حياته، لكنّ هناك احتمالا كبيرا أن يكون قد تأثّر بالمحيط الذي ينوي معالجته، وقد يولّد هذا التأثّر حالة من التمرّد على هذا المحيط أو على طبقة بعينها. نعي تماما ما يقوله لوسيان جولدمان ونعي أيضا أنّ الكاتب، حين يكون منخرطا في قضايا شعبه، لا مجرد مشاهد ومراقب حياديّ، يسعى بكل ما أوتي من رغبة إلى معالجة قضايا تؤرّقه أو تؤرّق بيئته ومحيطه. تمزج رواية "الساعات الأخيرة للشيطان" بين قضايا عدة كبرى تشغل بال المجتمع الأردنيّ حتى ليبدو وكأنّ الروائي سمير القضاة يرمي إلى توجيه ضربة قويّة وشاملة نحو جهات عدة في آن معا، إيمانا منه أن كلّ مشكلة وكل آفة تفضي إلى أخرى كالأواني المستطرقة، وأنّ ما يتفشّى في المجتمع من عيوب ونواقص ومظاهر فساد لا تقتصر على فئة دون غيرها، بل إنها مترابطة فيما بينها بشكل عضوي؛ فالاعتداءات الجنسية غير منفصلة عن آفة تعاطي المخدرات، ولا عن تهريب الممنوعات، كما أنّ الانحلال الاجتماعي والأخلاقي نابع من مفهوم خاطئ للأنوثة ولدور المرأة ومكانتها، ولمفهوم الذكورة والرجولة؛ هناك تشويه لهذه المفاهيم الأساسية، وللقيم الدينية والأخلاقية، فقد نُسبت إلى بعضهم ألقاب أكبر منهم أو ليسوا جديرين بها، فذاك يكنّى العلّامة مع أنه لم يخترع حبة دواء. (الرواية، ص22) وذاك رجل إصلاح يفتقر إلى أقلّ أسس العدل والنزاهة، وذاك محاضر جامعيّ لا روادع تمنعه من التحرش بطالباته، وذاك رجل سياسة يستغلّ موقعه لتهريب الممنوعات ونشر الفساد. إن أحد أهم أدوار الرواية، بشكل عام، هو تصوير الواقع الاجتماعي ولفت النظر إلى ما يحدث في المجتمع من قصور وعيوب، وقد يعمل الروائي على توظيف التاريخ بهدف الإشارة إلى الحاضر. لقد آثر سمير القضاة أن يدخل في عمق الواقع الراهن دون مواربة، ووجد أنّ الجنس والسياسة والدين هي قضايا تحتاج إلى مواجهة صريحة، وأن الكبت، من ناحية، والتستر على الخطأ، من ناحية ثانية، يوديان إلى الضياع الشامل للمجتمع كله.
مواجهة الأعراف والتقاليد والتابوهات هناك أسباب عدة تدفع الكاتب وتحثّه على الكتابة، من أهمها الرغبة في التأثير، ولطالما صرخ الأدباء ورفعوا صوتهم لمواجهة المحظورات وتحدّي التابوهات وكسر شوكتها، وازداد الأمر حدّة ووضوحا مع ازدياد وعي المرأة لحقوقها الشرعية في المساواة، فتمخّض عن ذلك روايات نسويّة وأخرى تحمل ملامح نسوية يكتبها رجال. يسير الروائي سمير القضاة في إثر من سبقوه وفي قلبه غصّة، وفي صدره تتحرّك عواصف أراد لها أن تهبّ وأن تثير إعصارا في المجتمع مؤمنا أن السكوت ليس بقادر على تحريك الساكن. لقد أدرك هول ما تمرّ به الأنثى العربية من ظلم وضيم منذ قرون، وأدرك أن الخلل كامن في بعض العادات والتقاليد والأعراف، وأنه لا يمكن معالجة قضية المرأة بمعزل عن الخلل الكلي الذي أصاب بنية المجتمع العربي. لم تنحصر هذه الرواية في معالجة قضية المرأة بل تعدّتها، كما ذكرنا، إلى طرح قضايا الفساد في مجالات عدة، وإن كنّا نرى أن الضحيّة الأولى التي تبرزها الأحداث كانت المرأة قبل غيرها من الضحايا، ونرى أن الضحايا من الرجال كان نتيجة للغبن الذي لحق بالمرأة ومكانتها وصورتها الاجتماعية. ليس هذا الموضوع بجديد، فقد طرقه من قبل نجيب محفوظ في كثير من رواياته، وكذلك فعل يوسف إدريس في "الحرام" وحنا مينة في العديد من رواياته وبالذات في "بقايا صور"، وعالجه محمد شكري في "الخبز الحافي" وإبراهيم نصرالله في العديد من إنجازاته الروائية نذكر منها رواية "شرفة العار" وغيرهم كثيرون. تناول كل منهم مواضيع اجتماعية مختلفة وبنوا رواياتهم وفق مبنى معين ووظّفوا في سبيل ذلك وسائل وتقنيّات عدة ساهمت في اختراق القراء وتجنيدهم. يبقى السؤال هل من جديد في رواية "الساعات الأخيرة للشيطان"؟ وهل حاول سمير القضاة أن يتواجه مع بعض هذه المسلّمات وأن يعمل على تحطيم بعضها؟ يعمل سمير القضاة في هذه الرواية الاجتماعية على تعرية المجتمع، وكشف عوراته وعيوبه، مؤكّدا على أن القوانين الاجتماعية وتزييف المبادئ الدينية تقيّد حريّة التعبير وحرية التفكير. واللافت حقا في هذه الرواية هو توظيف عدد كبير من الشخصيات من الذكور والإناث على اختلاف أعمارهم، ومن مختلف انتماءاتهم وبيئاتهم، من مدنيين وقرويين، وكان للبادية وأهلها حظ لا بأس به من هذه الرواية، وكأنّ الروائي يتعمّد أن يجمع كلّ مركبات المجتمع الأردني في رواية واحدة. تعرِض الرواية صورا قاسية وصعبة لهذا المجتمع المتمسّك، في ظاهره، بالقيم والمبادئ، فيما يتفشّى الفساد في شرائح واسعه من أبنائه؛ فابن العقيد يتعاطى المخدّرات ويشرب الكحول ويلاحق النساء وينتهك أعراضهن دونما رادع، والطبيب يخون مهنته كما يخون زوجته ويتناول المخدرات الممنوعة، والسيدة الغنية تخون زوجها وتنتظر سفره لتأتي برجل آخر بديلا له، وقريب العائلة لا يتورّع عن التلصّص على مفاتن زوجة قريبه دون أن تفوته مواعيد الصلاة. يحدث كل ذلك تحت عين بعض المسؤولين الذين يساهمون في نشر الفساد وجني المكاسب الماديّة. يبدو أن القضاة قد وضع كل القضايا الكبرى في سلة واحدة، وهي تنحصر في التابوهات الثلاثة، أو القضايا المسكوت عنها: الدين والجنس والسياسة، ولعلّنا لا نبالغ حين نقول إنها اليوم أكثر المواضيع تناولا وتداولا، دون أن يعني ذلك أن باب الانفتاح قد شُرّع على مصراعيه، بل لأنّ هذه الموضوعات لا تزال ضمن الممنوعات والمحظورات، لا لأنّ قوانين الدولة قد تمنع تداولها واتخاذ موقف منها وحسب، بل لأن قوانين المجتمع غير المنصوص عليها في أيّ مستند رسميّ هي أكثر حدّة وصرامة من القوانين المدنية التي تسنّها الدولة. واللافت فعلا أنّ البحث فيها مُجاز للبعض بحجّة أخلاقية ومحرّم على البعض الآخر بالحجّة الأخلاقية ذاتها. هذا ما تسعى رواية "الساعات الأخيرة للشيطان" إلى محاورته، وهذا ما تحاول إبرازه وتوجيه الأنظار إليه، فقد عاقب الابن، عوض، والدته وفق قوانين المجتمع، دون أن يأتي بدليل قاطع يدينها، فيما كان يقيم أكثر من علاقة متزامنة مع نساء عازبات ومتزوجات لإيمانه بمقدرته على ترويضهن وإخضاعهن لسلطته الذكورية. تدخل الرواية في صلب قدس أقداس العِرض الذي تشدّد عليه التقاليد والأعراف العربية، سواء كان المجتمع مدنيّا أم قرويّا. والعِرض أكثر حساسية لدى العربيّ من مصطلح "المسكوت عنه"، وقد توارث عيوبَه ونواقصه جيلا بعد جيل منذ ما قبل الإسلام، وكان دائما مصدر إذلال للقبيلة وكسرا لهيبتها إذا ما هُتك أو خدش. وللمجتمع العربي مجموعة عادات وتقاليد ومفاهيم متأصّلة فيه تلعب دورا مهما جدا في بناء منظومة من العلاقات بين أفراده وأبنائه الذين ما انفكوا يلجؤون إلى علاج قضايا كبرى وفق تلك التقاليد والأعراف المتوارثة منذ قرون، دون أن يعملوا، بعد كل ما جرى من تطورات علميّة، على تغيير مفاهيم اجتماعية وثقافية راسخة يتوارثونها جيلا بعد جيل. ما انفكّ هذا المجتمع محاصرا بأعراف وطرق تفكير تقليديّة تدعو إلى التستّر على الخطأ والسكوت عن المواجهة خشية "الفضيحة" وما يتبعها من عواقب. تلجأ السيدة أم عوض إلى التكتّم على اعتداء أخي زوجها عليها، ولا تجرؤ على البوح بما جرى لها وإلا فإن أقل ما قد يفعله زوجها في مثل هذه الحالة هو تفريغ رصاصات مسدسه البلجيكي في رأس أخيه. (انظر الرواية، ص52) إن الخوض في المحرّمات وفي المسكوت عنه أمر في غاية الأهمية نظرا لحساسيّته، وإني لأعتقد أن قضية العِرض في مفهومه التقليديّ والحديث بات يدرك مخاطرَها كثيرون، لأنها تُطرح في الكثير من المحافل الاجتماعية تحت باب السِّتر والسَّتر وإخفاء العار إلى أن "يقع الفاس في الراس"، كما يقول المثل الشعبي ويكون الوقت قد فات، في حين أن القضية الأكثر إلحاحا هي معالجة الدوافع والأسباب التي تقود المجتمع إلى هذا المصير. والرواية، أيّة رواية، مثلها مثل أي عمل فنيّ لا تعالج القضايا الملحّة وفق قوانين علم الاجتماع بل تطرحها بشكل فني لتزعزع القارئ وتخضّه من الداخل. تكسر هذه الرواية، برأيي، الازدواجية في التعامل مع الرجولة والأنوثة، ومع مكانة الرجل ومكانة المرأة؛ إنها ترى أنّ هناك حاجة إلى إعادة النظر في مفاهيم الشرف والعيب والعِرض، بعد أن كانت تقع مسؤولية الحفاظ عليها على المرأة أكثر مما هي على الرجل. لقد قلبت هذه الرواية بعض الموازين، إذ كان الرجل المسبب الأول في جلب العار على العائلة كلّها، وكانت نتائج أخطائه شنيعة سبّبت للوالدين إحراجا أمام الناس جميعا، و"وطى عقال والده"، وهو مصطلح ملازم لعيوب المرأة بشكل عام، إذ هي الوحيدة التي تكسر هيبة أبيها وأخيها وعائلتها وعشيرتها، لكن الرجل هنا هو الذي "وطى عقال والده" وهو الذي جلب العار لأخته المتزوجة التي عاقبها زوجها بجريرة أخيها، دون أن ترتكب أيّ ذنب فطلّقها وعادت إلى بيت أهلها مهيضة الجناح بعد أن خسرت زوجها وأبناءها. وكان من عواقب أعماله، أيضا، أن تناولت وسائل إعلام أردنية عيوب هذا الرجل وما جلبه من عار لم يحتمله الأب فمات، ولم يحضر جنازته أكثر من عشرين رجلا ليس ابنه من بينهم. (انظر الرواية، ص9) يكشف الروائي سمير القضاة في هذه الرواية عن الاعتداءات التي تتعرض لها الأنثى العربية من القريب والبعيد، على حد سواء، بدءا من النظر إليها كمخلوق ناقص، وصولا إلى التعامل معها كجسد مغرٍ تقع كامل المسؤولية على صاحبته أكثر مما يتحمّلها الرجل المعتدي. لم تتوقف الرواية عند انتهاك الجسد والاعتداء عليه بل تعدّته إلى تأثير ذلك على الأبناء الصغار وما يتعرّضون له من أوجاع نفسيّة تترك ندوبا وجروحا مستديمة في أعماق النفس تهزّ ثقتهم بذاتهم وبمن حولهم منذ سن مبكرة حتى آخر يوم في حياتهم. تمتد أحداث الرواية لتطال شرائح مجتمعية متعددة، وتطرق قضايا الفساد كلها دون مواربة؛ ف"كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وكل فرد في المجتمع يتحمّل مسؤوليّة الحفاظ على الذات وعلى الآخر، أما السكوت عن العيوب والنواقص والتهرّب من مواجهة الواقع فسوف تكون نتائجه كارثية ويعود أثره السلبيّ على الجميع دون استثناء.
افتتاحية الرواية ودورها اختار الروائي سمير القضاة أن يبدأ عملية السرد في الصفحة الأولى من الرواية من زاوية رؤية داخلية موظّفا ضمير المتكلِّم. تتيح هذه التقنيّة للراوي أن يسيطر على الداخل والخارج في آن معا، وأن يتنقّل بينهما بسلاسة، كما أنها تيسّر عملية الانتقال من ضمير المتكلّم إلى ضمير المخاطَب أو ضمير الغائب، فقد قام الراوي عبر الحوار الداخلي والمناجاة بإجراء حوار مع ذاته، بل ومع والديه اللذين استحضرهما في خياله حتى بدا وكأنّهما يمثُلان أمامه يخاطبهما عاتبا وغاضبا. يحدث هذا الانتقال من ضمير المتكلم إلى ضمير المخاطَب بصورة سلسة جدا: "... غدا سيصل والداي إلى هنا قادمين من عمان، ماذا تريدان مني بالضبط؟! ألا تعلمان بأنّ ما تحسّان به لا يعنيني في شيء؟ لست نادما، بل إنني لا أتذكّر أنني ندمت على شيء". (الرواية، ص6، وهي الصفحة الثانية من الرواية). يعمل كل روائي على تقريب وجهة نظره من المتلقّي، ويوظّف في سبيل ذلك تقنيّات فنيّة لتيسير اللقاء بالمتلقي وإقناعه بوجهة نظره، فيوكل عمليّة السرد إلى راوٍ تخييليّ حياديّ كي يقوم بهذا الدور، وقد يقوم بتوظيف أكثر من ضمير وأكثر من وجهة نظر كي تتحقّق حيلة الإيهام بالواقع التي يلجأ إليها الروائيون. يرى المتلقّي أنّ الراوي، الشخصية المركزية، يواجه أزمة نفسية مرهقة جعلته يفكّر بالانتحار، ما يثير التساؤلات عن السرّ الكامن خلف هذا التفكير الخطير، ما يعني أن باب التواصل بين القارئ/ المتلقي وبين الراوي قد انفتح على مصراعيه، خاصة وأن الراوي يسرد ما يمرّ به بواسطة ضمير المتكلم بصفته مشاركا في الأحداث يقصّ على المتلقي سيرة حياته، فيتلاشى الحاجز بينهما ويتابع المتلقي "الإصغاء" إلى شكوى هذه الشخص لمعرفة همومه ودوافع أزمته. تبدأ الأحداث من الزمن الحاضر، ما يعني أن هناك أمورا مهمة وصعبة قد حدثت في الماضي جعلت المتكلّم يفكّر بإنهاء حياته. يصدم الروائيُّ القارئَ بهذه الحقيقة المقلقة دون مقدمات أو تفاصيل، فمن شأن الرواية التقليدية أن تقدم تمهيدا مطوّلا لتعريف القارئ بالشخصية المركزية أو وصفا للبيئة التي تنطلق منها، لكن الروائي، سمير القضاة، آثر الانزياح عن أسلوب الرواية التقليدية وفضّل التكثيف وفتح الفجوات لتحفيز القارئ على متابعة القراءة وكشف ما خفي عنه. ينتهي الفصل الأول الذي يحمل عنوان "إسطنبول" كاشفا عن وقوع حدث جلل جلب العار على العائلة كلّها وقد تنشغل وسائل الإعلام الأردنية بما ارتكب الابن البكر، عوض، من موبقات جعلت الوالد "يوطي عقاله" وجلبت ويلات شتّى إلى حياة العائلة وأدت إلى طلاق الأخت من زوجها الذي لم يحتمل الفضيحة الكبرى حسب رأيه، فتعود الابنة إلى بيت والدها تاركة ابنا في الصف العاشر وابنة في الصف التاسع ورفيقا أحبته بكل جوارحها. لا بد من طرح سؤال مهم حول افتتاحية هذه الرواية وحول افتتاحيات روايات أخرى تتعلق بزمن كتابتها؛ هل كانت هذه الجملة هي أول ما ابتدأ بها الروائي كتابة روايته، أم أنه كتبها في مرحلة زمنية متأخرة؟ لا أعتقد أن هناك قاعدة معينة يلتزم بها الروائيون، لكني أعتقد أن الروائي قد يقوم بإجراء تعديلات في الجملة الافتتاحية وما يتلوها حتى تكون أكثر جاذبية وحتى تتلاءم أكثر مع الحدث المركزيّ. إن افتتاحية هذه الروحية توضح أنّ عوض هو مركز الأحداث، أولا، وأنّ علاقته بأهله تقع في صلبه. وبما أن علاقة عوض بأهله وبناسه وبيئته هي الأهم فقد انتهت أحداث الرواية من الموقع ذاته والزمان ذاته والموقف ذاته. وأن ما جاء من أحداث بين بداية الرواية ونهايتها هي عرض مفصّل يجيب عن هذا الموقف الذي افتتح به الروائي حكايته. يعي الروائيّ المتمرّس أهمية اختيار افتتاحية روايته، فيجهد كي يكتب فقرة قادرة على إثارة المتلقي وحثّه على متابعة القراءة. وللحقيقة فقد أصبح هناك وعي ظاهر لدى الروائيين لأهمية هذه الفقرة التي قد تستغرق وقتا طويلا للبحث عنها وإقرارها. ويقيني أن الروائي سمير القضاة قد أدرك ذلك فاختار أن يبدأ السرد بجملة لافتة تثير فضول المتلقي يفتتح بها الرواية: "لماذا لا أكون شجاعا لأول مرة في حياتي، وألقي بنفسي في أعماقك أيها البوسفور؟"، (الرواية، ص5) يتبعها مباشر بفقرة مثيرة ومحفّزة تكمل ما جاء في الجملة الافتتاحية ليصدم بها المتلقي: "خصوصا وأنني لا أتقن السباحة، إنها أفضل طريقة لتنتهي هذه الضجة الكبرى التي خلّفتها ورائي في الأردن، ألا يكفيني ما عشته من حياة صاخبة؟ هل ظل شيء آخر أريده من هذه الحياة؟ وهل في جعبتها دهشة جديدة لتقنعني بالبقاء أكثر". (الرواية، ص5) من شأن هذه الافتتاحية أن تثير لدى المتلقّي مجموعة من التساؤلات، من ناحية، وتكشف عن رجل مأزوم يتّهم نفسه بالجبن، معتبرا أنّ إلقاء ذاته في البوسفور ووضع حدّ لحياته هو نوع من الشجاعة، بل سيجلب له ولأهله الراحة، ما يدلّ على أنّ الفكرة قد كانت تراوده ولا تزال تلاحقه وأنها الحلّ الأمثل الذي يخلّصه من العذاب النفسي الذي يتواجه معه. من شأن هذه الجملة الافتتاحية أن تثير تساؤلا يلحّ على القارئ عن السبب أو الأسباب التي أوصلت هذا الشخص إلى التفكير بوضع حد لحياته. لا يتوقّف المتلقّي عند هذا التساؤل، خاصة وأنّ الفقرة التي تلي جملة الافتتاح تثير هي الأخرى تساؤلات لا تقلّ أهمّيّة عن التساؤل الأول حين يعلم أنّ هذا الشخص أردنيّ الجنسية: إذاً لماذا جاء إلى إسطنبول؟ وما الضجة الكبرى التي أثارها حوله هناك في الأردن؟ وما هي الحياة الصاخبة التي أوصلته إلى ما هو عليه اليوم؟ ومن اللافت فعلا أن الفصل الأول من الرواية الذي يمتدّ على بضع صفحات قليلة هو في الواقع جزء لا ينفصل عن افتتاحية الرواية يتبع الروائي فيه الأسلوب ذاته الذي يتّبعه في اعتماده على عنصر التشويق وفتح باب التساؤلات لدى المتلقّي، إذ ما أن يكشف الراوي عن سر معيّن حتى ينبثق سرّ آخر ويتلوه آخر بشكل تدريجي يبيّن أنّ هناك خللا في العلاقة بين الابن عوض وبين والده من ناحية ووالدته من ناحية أخرى، ما يعني فتح كوّات صغيرة في وجه القارئ يلج من خلالها ليكتشف التفاصيل الكامنة خلف هذه الفجوات.
الشخصية المركزية: الظالم والمظلوم والمعذِّب والمُعذَّب كما أن للإنسان في الحياة العاديّة مواصفات معيّنة تميّزه دون غيره فإنّ هناك مواصفات خاصة بالشخصية الروائيّة، منها ما يتعلّق بالجانب الشكلي، ومنها ما له علاقة بالجانب الاجتماعيّ والنفسيّ والفكريّ. أولت الرواية التقليدية عناية كبيرة بالشكل الخارجي للشخصية، ثم، مع تطور العلوم الإنسانية على اختلافها، أخذت تعنى أكثر بالجانب النفسيّ والاجتماعيّ والفكريّ وبخلق شخصيات مركّبة وإشكالية. لا تركّز رواية "الساعات الأخيرة للشيطان" على الشكل الخارجي بقدر تركيزها على المحيط الاجتماعي، وعلى المؤثّرات النفسية والفكرية في بناء الشخصيات، وبالذات في بناء شخصية عوض، الشخصية المركزية. فهو طويل القامة، عريض المنكبين ويتحلّى بمظهر خارجيّ ساعده في اجتذاب النساء واصطياد العديد منهنّ، ولكنّ ذلك ليس أكثر أهمية وتأثيرا _ في بلورة رؤيته للحياة وللناس من حوله _ من التجارب التي مرّ بها وجعلته يتصرّف بصورة شيطانية وسلبية، بل إنّ الشكل الخارجي قد وُظّف لخدمة النوايا السيّئة. ننطلق في تحليل الشخصية المركزيّة بإيمان مطلق أنّها ترتبط بما حولها وبما واجهتها من تجارب، فالإنسان لا يولد في فراغ، بل يولد في بيئة اجتماعية تؤثّر فيه ويؤثّر فيها، وهو غير مفصول عن شخصيات أخرى لها تجاربها وميولها وإيديولوجيتها. لقد لاحظنا أن سمير القضاة قد عمل بشكل لافت على خلق عدة شخصيات وأنه قد عنون بعض الفصول باسم إحدى الشخصيات، مثل رقية ومحمد بيك، ما يضفي على الرواية نوعا من الواقعية، خاصة وأن هناك عناوين أيضا تنسب إلى مواقع معينة مثل إسطنبول وميونخ. يمكننا أن نقول إنّ الروائي قد وضع الأسس الرئيسيّة لشخصية عوض منذ الصفحات الأولى للرواية، ومنذ سنّ مبكرة، فقد أشار الراوي المشرف الكليّ، في أكثر من موقع، إلى أن الطفل دأب على مراقبة تصرّفات والدته والنظر إلى كل حركة تبدر منها بارتياب، دون أن يعطي تبريرا لمثل هذه التصرفات، حتى بدا الطفل أكبر من جيله، مما فتح باب الريبة والشك لدى المتلقي ما يحفزه على إثارة التساؤلات حول دوافع هذه النظرات وهذه الشكوك التي ترافق طفلا في مثل هذه السن المتقدمة. قد يجد القارئ مبرّرا نفسيا يتعلّق بجيل المراهقة، وبالتعليمات المباشرة وغير المباشرة التي يتلقّاها كل صغير من مجتمعه الذي يغرس في الصغار قبل الكبار مفهوم العِرض والشرف وعلاقة ذلك بالمرأة على وجه الخصوص وتحميلها مسؤولية الحفاظ على صورتها وصورة عائلتها الصغيرة والكبيرة بحيث نبدو ناصعة البياض، فقد كرّر الجدّ جملة وجدت تجاوبا وصدى في قلب عوض وفي وجدانه وهي أنّ كلّ النساء خائنات. تقضي الأعراف والتقاليد، وفق قوانينها الصارمة، بأن يتّبع المرء طريق التستّر على ما يرى، وبالذات إذا كان ذلك يخدش الحياء، أو يمسّ بالعِرض والشرف، مما يقود إلى الكبت. لقد آثر عوض، الشخصية المركزية، أن يحتفظ بألمه في داخله على مدار سنين طويلة منذ سن الطفولة وحتى آخر يوم في حياته، ولم يبح بوجعه لأي حبيب أو قريب، إلى أن أصبح، وفق ما يقول "الظالم والمظلوم، المعذِّب والمعذَّب" في آن معا. (انظر الرواية، ص250) لقد رافقه مشهد أمّه وهي تستر جسدها طوال حياته، وظلّ ينخر في عظامه يعذّبه ويخلخل توازنه فيصاب بنوبات من الهلع والصراخ. خدعه عمّه حميد فأرسله، وهو الطفل البريء، ليشتري له بعض الحاجيات التي لن يجدها في أيّ دكان، فيتيح له تأخّره في البحث عنها الاستفرادَ بأمه انتقاما من أخيه الأكثر مكانة اجتماعية في البيت وخارجه، ولما عاد الطفل "رآها تضم أخويه إلى حضنها، وتعيد ترتيب حجاب رأسها لتغطّي شعرها، ثم أسرعت بيدها اليمنى المرتجفة لتغطّي نحرها عندما رأت ابنها. تناول عوض زِرّين من قميصها كانا واقعيْن على الأرض، وأعطاهما لها من دون أن ينطق بكلمة واحدة". (الرواية، ص38) لم تبح الأم بوجعها النفسي لأحد ولم تصارح زوجها باعتداء أخيه عليها، وهي المعضلة الأصعب، إذ قد تكون النتيجة، وفق العادات والتقاليد، غسل العار: قتلها وقتل الأخ. بقيت الأم، في عين الابن، متّهمة حتى آخر يوم في حياته، وبقي هو الشاهد الوحيد الذي لم ير حقيقة ما وقع بالتفصيل على أرض الواقع، وباءت كل محاولات أمه إقناعه ببراءتها بالفشل: "هي تعرف جيدًا بأنها آخر من يستطيع التأثير عليه، مهما كان الأمر بسيطًا، ولكنها تجرّب دائمًا لعلّها تستعطف فيه أي شيء ضئيل بقي في قلبه من عاطفة يحملها الولد تجاه أمه، لقد مضى أكثر من عشرة أعوام، وكلما مرّت الأيام زاد نفوره منها، قالت له أكثر من مرة: أقسم بربّ الكعبة أنّه لم يحصل شيء يغضب وجه الله، أنا امرأة لا تقطع صلاةً ولا صيامًا". (الرواية، ص53) لم تسعفها كلّ محاولاتها المتكرّرة في نيل شهادة البراءة من ابنها، شوّهت هذه الحادثة علاقته بأمه وبكل أنثى أخرى؛ فكل النساء خائنات، هكذا آمن عوض وهكذا قال جدّه عوض، وبات عوض الثاني عوضا وخلفا لعوض الأول، وما بدّل معتقداته رغم دراسته الجامعية. لقد تحوّل بعد الحادثة إلى حاقد على كل نساء الأرض، لا يرى من المرأة سوى جسدها الذي خلق لإغواء الرجال، فكل من ينظر إلى أمّه أو يحييها بتحية من الرجال فلأنّها سهلة المنال. تحولت حياة الطفل عوض إلى جحيم يعيش تفاصيل عذابه في مناماته وفي يقظته وطالما ناجى نفسه: "يا لها من كوابيس متوالية من الذل والمهانة تعتلي صدري كقاتل بحجم الدب، جاثوم ترك الناس كلّهم وتفرّغ للدخول إلى الثلث الأخير من نومي، يتهجّد ويفرغ من عبادته الليلية ثم يأتي ليزورني، [...] يُحضرُ معه في كل مرة زائرًا مختلفًا، فمرة جارنا الطبيب في معسكر الزرقاء، ومرة السائق العسكري الشركسي الذي كان يوصلنا للمدرسة، ومرة بائع النوفيتيه الستاتي في شارع السعادة بالزرقاء، وآخرون كُثُر لا تطيق نفسي تسميتهم، كلهم ضبطتهم في كوابيسي متلبّسين مع رقيّة (أمه) في أماكن وأوضاع مختلفة، في غرفة نومها وتحت مطلع الدرج وفي غرفة قياس الملابس بالنوفيتيه وفي سيّارة أحدهم في منطقة نائية، ويبقى أبغضهم جميعًا حميد". (الرواية، ص54) وكانت تنتابه نوبات من الغضب والصراخ والهلع كلما تذكّر ما جرى لأمه مع عمّه حميد، إذ في إحدى مغامراته الغرامية قطع زر ثوب الفتاة التي كان يعاشرها، دون قصد منه، فأخذ يصرخ كالمجنون "أنا ابن سيدة فاضلة، أنا ابن سيّدة فاضلة". (ص59) لكن ذلك لم يمنعه من متابعة مغامراته الساقطة وهو الذي يكرّر مقولته "أنا لا أرى من المرأة إلا جسدها" (الرواية، ص 70) فكان يتنقل بين النساء كما تنتقل النحلة من زهرة إلى أخرى، تمتصّ الرحيق وتنتقل إلى أخرى، يعاشر سيلينا ابنة عائلة متحرّرة ترافقه في سهراته بدافع الحب، لكنّ ذلك لا يمنعه من اصطياد شيرين المتحجّبة، والاتصال برزان التي أحبّته في يوم من الأيام. (الرواية، ص69-70) تحوّل عوض في شبابه إلى صياد نساء مستغلّا جمال عينيه وحسن قوامه: "لم تكن الجامعة ولا الدراسة ولا العمل شيئًا مهما في حياتي، وإنما الوصول إلى دواخل النساء، لكي أفهم ما لم أستطع فهمه منذ صغري، لعلي أرتاح، وهو ما لم أحصل عليه، يبدو ألّا راحة لمثلي أبدًا". (الرواية، ص70). يمتدّ إيذاء عوض ليطال أمه وأباه وزوجة عمه حميد التي يعتدي عليها وهي فاقدة للوعي ويصوّرها في وضعيات مشينة انتقاما من عمه، ويتحوّل إلى تاجر للممنوعات ويتورّط في أعمال أكبر من قدرته ومن قدرة أهله فيطال الأذى أناسا أبرياء من داخل العائلة وخارجها حتى سقط في فخ العصابات، فهرب وتشرد واستسلم لليأس القاتل. يخرج المتلقي من الرواية بمشاعر تميل إلى الشفقة على عوض رغم إساءته لكثيرين، فيما يحمل الكثيرَ من مشاعر الغضب على العم حميد وعلى آخرين، كان لهم دور في جعل عوض ضحية لأعمالهم السيّئة. هل يرمي سمير القضاة إلى خلق شخصية إشكالية مثيلة لتلك التي تحدث عنها جورج لوكاتش؟ لن ندخل في عمق فلسفة لوكاتش وغيره، لكن مما لا شك فيه أن شخصية عوض هي شخصية إشكالية وفق مفاهيم المجتمع الأردني، حتى يبدو وكأن الروائي ينوي أن يصرّح بأعلى الصوت: إنّ مجتمعا يتشبّث بالماضي ويتنكّر للحاضر والمستقبل سوف يكثر فيه أمثال عوض الذي يكفر بكل القيم المجتمعيّة نتيجة شعوره بالاغتراب عن بيئته وبانعدام الأمن والأمان في المكان الذي يعيش فيه فيتحوّل من ضحيّة إلى جلّاد، ومن مظلوم إلى ظالم.
البوليفونية هناك في كل رواية راوٍ ومرويّ ومرويّ له. قد يخلق الروائي راويا ينوب عنه في سرد الأحداث أو يلجأ إلى أكثر من راو وأكثر من وسيلة للتواصل مع المتلقّي. ميّز الباحثون، وفق ذلك، بين الرواية المونولوجية والرواية الديالوجية التي تعتمد أسلوب تعدّد الأصوات أو البوليفونية كما يسميها المنظر الروسي ميخائيل باختين؛ هي رواية عمدتها الرئيسية تعدّد الأصوات واللغات ووجهات النظر، حيث ينفسح المجال للشخصيات كي تتحاور مدليةً برأيها وإيديولوجيتها التي تتناقض مع رؤية شخصيات أخرى في الرواية، بكلمات أخرى هي رواية حوارية (ديالوجية) لا رواية أحادية الصوت (مونولوجية) تخضع لسلطة الراوي المشرف الكلي. والبوليفونية مصطلح مستعار من عالم الموسيقى حول حوار الأدوات الموسيقية داخل المعزوفة الواحدة، حيث تساهم كل منها، من زاويتها، بنضوج المعزوفة واكتمالها، وهكذا تنجح تقنيّةُ تعدّد الأصوات أو تعدّد وجهات النظر في نضوج النص الروائي وصورة الشخصيات ورسمها وبنائها. يكثر الروائي، سمير القضاة، في مواقع عدة من الرواية، من توظيف عدة ضمائر تتناوب فيما بينها عملية السرد بسلاسة، ما يتيح للمتلقّي أن يتزوّد بمعلومات عدة بأقلّ الكلمات. يحدث ذلك الانتقال دون أن يفقد القارئ البوصلة، بل إنه يظلّ ممسكا بتسلسل الأحداث وعرضها دونما بلبلة. يساهم ذلك التناوب في تعدّد وجهات النظر، عبر تحييد الروائي والراوي الرئيسي، وتسليم دفّة السرد لأكثر من ضمير ما يحقّق لها ميزة البوليفونية، كما يتجلى في النص التالي: "وجهكَ ينضح بالتوتر والحزن، كنتُ أظن أنّكَ ستكون في غاية الفرح لأنني سأزور بلدك للمرة الأولى وستقدمني إلى أهلك، خصوصًا أنني حامل، هذا سيجعلهم يحبونني أكثر، أليس كذلك يا خرا؟! قلتُ لك إياكِ أن تلفظي اسمي هكذا أمام أهلي، شرحتُ لك ألف مرة معنى هذه الكلمة باللغة العربية. حاضر يا حبيبي، سأدرب لساني على لفظ اسمك، خيرادين، خارادين، خااااا. اصمتي، يكفي يا امرأة، ما هذه البلوى التي أوقعني بها أبي، سامحك الله على هذا الاسم المعقّد. أشاحت كلوديا بوجهها باتجاه المسافرين الذين يملؤون مطار فرانتس يوزيف شتراوس ضجيجًا، شعرت بغصة حزن في حلقها، أحقًّا أن هذا الرجل الجالس بجانبي هو ذاته الدكتور العربي الأنيق الذي لاحقني لشهور عديدة بالغزل والدعوات والورود والهدايا لكي يصل إلى قلبي". (الرواية، ص73) النص أعلاه مأخوذ من افتتاحية أحد فصول الرواية، حيث يدور حوار بين زوج أردني يحمل اسم خير الدين وزوجته كلوديا الألمانية، سرعان ما يأخذ الروائيُّ السردَ من ضمير المخاطَب نحو ضمير المتكلّم وحوار الذات، ومن بعدها مباشرة إلى الراوي الرئيسيّ وضمير الغائب، ثم يعود مباشرة إلى الحوار الداخليّ عبر ضمير المتكلم. يساهم هذا المزج في الكشف عن سريرة الشخصيات من ناحية وعن إشكالية اجتماعية قد تُحدث أزمة بين الزوجين نتيجة اختلاف في وجهتي النظر بينهما حين يصلان إلى الأردن. لا تقتصر تقنيّة تعدّد الأصوات على توظيف عدة ضمائر لسرد الأحداث وحسب، بل إن ذلك يقتضي التحرّر من سلطة الروائي، ما يتيح للرواة والشخصيات أن تتحدّث بلسانها هي لتعبّر عن ذاتها بما يتناسب مع رؤيتها، فيما يلزم الروائيّ موقف الحياد لإتاحة المجال للاطلاع على أكثر من رأي وأكثر من رؤية كما هي الحياة على أرض الواقع. إن الرواية ليست انعكاسا لعالم الروائي، كما يعتقد البعض، بل هي انعكاس لعالم الشخصيات، كما ترد في الرواية وكما تنعكس من خلال أعمالها وتصرفاتها وتصريحاتها وحواراتها، وهذا يؤكّد على الرؤية الجماعية للعالم وللمجتمع لأن الفردانيّة تعبّر عن وجهة نظر خاصة، وليست انعكاسا للحقيقة. إن الحقيقة الوحيدة التي تثبت على مدار التاريخ أن هناك صراعات بين طبقات أو بين أفراد تنتمي كل منها إلى طبقة معينة أو فئة معينة. لم نر في النص أعلاه أيّ تدخل مباشر للروائي، وقد سيطر هذا الأسلوب على معظم السرد في الرواية، وبالتالي فإن المتلقّي يستقبل مثل هذه الحوارات من مصادرها المباشرة وله أن يتخذ ما يناسبه من مواقف. في رواية "الساعات الأخيرة للشيطان" شخصيات متعددة من رجال ونساء، يتقابل معها المتلقّي في أماكن مختلفة؛ هناك شخصيات نسائية محافظة وأخريات على العكس من هؤلاء يمارسن حياتهن كما لو كنّ يعشن في مجتمع غربيّ، وبالتالي هناك بيئات متعدّدة قد تقبلها بعض النساء وترفضها غيرهن. هذا المزيج غير المتناغم قادر على استفزاز المتلقي الذي قد يستهجن ويستغرب من جرأة بعضهن ووقاحة بعضهن وخنوع أخريات، ما يضفي على الرواية صفة الحوارية وتعدّد الرؤى. ليست الرواية تصويرا للواقع ولا نسخة فوتوغرافية عنه، بل هي عمل فني بحت، وقد عرضت رواية سمير القضاة مجموعة من الشخصيات الذكورية والنسائية التي تنتمي إلى أجيال مختلفة، وإلى بيئات مختلفة قروية ومدنية، متعلمة وغير متعلمة، ولكل شخصية حكايتها ومشاكلها وهمومها وأفراحها واهتماماتها. نكاد نجزم أن الاختلافات فيما بينها أكبر بكثير من التشابه، فكلّ منها تمثّل، من خلال مجموع ما تقوم به، نموذجا معينا من البشر، وأن النظر إلى أي منها لا يحيلنا إلى واقع محدّد بعينه، بل إلى فئة متخيَّلة لها شبيه على أرض الواقع. وكي يضفي الروائي على الرواية صبغة الواقعية فقد ذكر عدة أحداث تاريخية معاصرة مثل حرب العراق، وحرب لبنان، والحرب في غزة، ليوهم المتلقي أنّ ما يحدث هو حقيقة مقتبسة من الواقع، دون أن ينفي ذلك أن هذه الأحداث قد استغلّها الروائي ليكشف من خلالها ما تجلبها هذه الأحداث من ويلات تنعكس على شرائح واسعة من المجتمع قد تلجأ إلى تجارة المخدرات وتهريبها عبر الحدود المنتهكة. يمكننا القول، بكل ثقة، إن رواية "الساعات الأخيرة للشيطان" هي رواية ديالوجية، لا مونولوجية، اعتمدت على تعدّد الرؤى ووجهات النظر، وخلقت حالة حوارية بين شخصيات تحمل رؤى متعارضة، بحيث لا نجد راويا كليّ المعرفة يحرّك الأحداث كلها ويفرض رؤية واحدة، كما هو الحال في الرواية التقليدية المونولوجية. وقد تجلى تعدّد الأصوات في تعدّد اللغات، وهو بحد ذاته موضوع يحتاج إلى إسهاب وتفصيل لا تتّسع له هذه المقالة، إذ يستطيع القارئ المتأني أن يميّز بين مستويات لغوية متعدّدة وبين لهجات متعدّدة تعكس لغة الجدّات والأمّهات وما فيها من عطف وحنان، ولغة الرجل المتديّن الذي يسند أقواله بآيات من القرآن الكريم ومن الأحاديث النبوية الشريفة، ولغة السكّير والعربيد الذي تخالط لغتَه تعابيرُ ومفرداتٌ نابية، وهناك لغة الرجل العسكريّ صاحب النبرة الآمرة والمواعظ الصارمة، وهناك بون شاسع بين لغة المتدينين ولغة العلمانيين. يهدف ذلك إلى الكشف عن التناقضات القائمة داخل المجتمع الأردني مما يشي بأن ذلك قد ينفجر في أي لحظة، وكأن هناك عوالم منفصلة لا مصالح مشتركة بينها فيما أنّ المصلحة العليا تقضي بوقف الخلافات لا الاختلافات. يخرج المتلقي من رواية "الساعات الأخيرة للشيطان" وقد تزوّد بكم من الرؤى حول صورة المرأة وصورة الرجل في المجتمع الأردني المعاصر، بحيث يمكن للمتلقي أن يتبنّى أحد المواقف دون غيره فيما قد يميل آخرون إلى موقف مغاير.
خلاصة يخوض الأديب سمير القضاة تجربة جديدة بعد أن ثبّت قدميه في عالم الشعر، وبعد أن نشر من قبل روايتين اثنتين. وهو يُثبت، من جديد، أنّه قادر على خلق رواية حداثيّة تتواجه مع الواقع الاجتماعي فتعرّيه من الداخل، وتكشف بعض قضايا المسكوت عنه حتى لا تظل طيّ الكتمان، حين قرّر أن يدخل في خفايا "الأعراض" المستورة كي ننظر في مرآتنا بعينين مفتوحتين وفكر يقظ دون مواربة. والحداثة ليست مجرد مصطلح بل هي قفز فوق المألوف تحتاج إلى جرأة وإلى مهارة في السرد تتعدى المواضيع التقليدية وتنزاح عما هو متّبع من خلال توظيف تقنيّات تجعل النص مغايرا ومفاجئا ومدهشا. يحسن القضاة في خلق الثغرات داخل النص كي يصبح المتلقي جزءا من عملية التأليف والحوار، وينتقل بين الضمائر بسلاسة مما يتيح للرواية أن تتعدى المونودرامية نحو الديالوجية وتعدّد الرؤى، كاشفا عن شخصيات درامية مركّبة تثير المتلقي وتستفزه وتدعوه إلى المحاورة كي يخرج من طوق العادات والتقاليد المنهكة. والحداثة في عرف القضاة لا تعني التنكر للماضي ولا إدارة الظهر للحاضر بل هي في المواجهة الصادقة دون مواربة. تعرض الرواية مجموعة من الشخصيات على اختلاف انتماءاتها الفكرية والطبقية والجندرية، يتواجه معها القارئ وهي تتحرّك وتحاور وتناقش وتتعارك وتتصارع، وتتكشف له على حقيقتها وهو يتابع تحركاتها عبر ما تقوم به من أفعال، ومن خلال توظيف تقنيّات تيار الوعي التي تكشف عن سريرة الشخصية وهي تناجي ذاتها أو تحاور ذاتها؛ يحدث كل ذلك دون تدخّل مباشر من الروائي ودون تعليقات تصدر عنه بشكل مباشر، محافظا على حيادية تامة، ما يعطي للمتلقي حيزا أكبر ليتحاور معها ومع مواقفها واتخاذ موقف منها.
#رياض_كامل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تركي عامر شاعر ينام ملء جفونه ويهيم ملء جنونه
-
حوار مع الشاعر الفلسطيني المرحوم جريس دبيات
-
قراءة في سردية رواية -لتكن مشيئتك-
-
الذائقة الأدبية بين الثابت والمتحول- قراءة في ديوان -أجراس ع
...
-
الرواية الفلسطينية- النكبة وصدمة جيلي الطفولة والشيخوخة
-
-تذكرتان إلى صفورية- النكبة، التشتت والهوية
-
حوار أدبي وفكري مع الروائي حيدر حيدر
-
اللغة، المكان والزمان في الرواية العربية الفلسطينية
-
شعرية القصة القصيرة جدا في -عزف على نشاز-
-
الرواية الفلسطينية- مرحلة النضوج
-
قراءة تأويلية: الواقع، التأريخ والتخييل في رواية -بدلة إنجلي
...
-
-عودة جفرا- صوت التمرد رغم المعاناة
-
الكتابة بين الفعل ورد الفعل- -أنف ليلى مراد- أنموذجا
-
-الجنة المقفلة-، إنعاش الذاكرة وتثويرها
-
خطاب جريس دبيات الشعري
-
الطيور تعود إلى أعشاشها والكتابة المغايرة
-
تجليات الذات بين الحماسة والاتزان
-
لينة الشيخ حشمة بين النقد والبحث
-
-نشيد الرجل الطيب- ما بين الواقع والأيديولوجيا
-
أن تكون عربيا في -دولة اليهود-- قراءة في رواية -نوار العلت-
المزيد.....
-
برعاية وزارة الثقافة .. بلدية البيرة تنظم معرض -حروف تجوب ال
...
-
قصائد تحتفي بأمجد ناصر وتعاين جرح غزة
-
-أجمل إيطالية في تونس-... وفاة أيقونة السينما كلوديا كاردينا
...
-
-علي بابا- تطلق أكبر نماذجها اللغوية للذكاء الاصطناعي
-
-صدى الأبدية-.. رواية تجمع بين الواقع والخيال للتحذير من هيم
...
-
الأخلاق في عصر التفاهة.. حين تصبح القيم محض شعارات
-
الطيّب صالح: سحر السرد وجرح الغياب
-
مو... الفكرة والفعل كما يرويها أحمد خالد
-
الشعر المنثور... إسفينٌ في جسد الشعر!
-
كيف تحولت أفلام الرعب الأميركية من صرخات مفزعة إلى نقد اجتما
...
المزيد.....
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|