|
تركي عامر شاعر ينام ملء جفونه ويهيم ملء جنونه
رياض كامل
الحوار المتمدن-العدد: 8434 - 2025 / 8 / 14 - 02:30
المحور:
الادب والفن
مقدمة ينطلق الباحث في أي دراسة عن الشعر العربي الحديث من رصيد تمتدّ جذوره في أرض الشعر خمسة عشر قرنا. أبدع العرب خلالها شعرا جميلا وفق أصول وأسس متعارف عليها منذ عصور طويلة. وكان من الطبيعي أن تطرأ تغييرات في شكل القصيدة وفي عمود الشعر، بحيث تتلاءم مع تبدّلات الزمان والمكان وما يرافق ذلك من تجديد في الأفكار وفي الرؤى. خرجت القصيدة العربية من إطارها المألوف ورادت أرضا جديدة وحقولا معرفيّة جديدة، وما انفكّت تخرج من كل جديد لترود عالما أكثر جدّة. وفيما نجد، حتى اليوم، من الشعراء من يتمسّك بما كان، بإيمان عميق أن ليس بالإمكان أفضل مما كان فإن هناك من يصرّ على السير في طريق مغاير. أين يقف تركي عامر من كل هذا؟ وهل هو ممن يعملون على اختراق المألوف، أم أنه يراوح بين القديم والجديد ويدمج بينهما؟ تركي عامر شاعر عربي فلسطيني يكتب الشعر منذ أكثر من خمسة عقود. كتب القصيدة العموديّة، وقصيدة التفعيلة، وما تسمّى بقصيدة النثر، وله مجموعة كبيرة من القصائد التي كتبها باللغة المحكية على اختلاف أنواعها، تستحق لوحدها دراسات مسهبة. وهي، في كل أحوالها، قادرة على مراودة خيال القارئ، سواء كان قارئا عاديّا أم قارئا متخصّصا، ولربما كانت هذه ميزته الكبرى، التي جعلت شعره قريبا من العقل والعاطفة في الآن ذاته؛ إذ يمكن للقارئ العاديّ أن يتمتّع بشعره دون أن يبحث عن سر اللغة وعن تركيباتها وصورها واستعاراتها وجديدها، ويكفيه أن يضحك وأن يبتسم وأن يقهقه، وأن يشعر بغصّة، وبألم في الحلق، دون أن يبحث عن السّبب. لكن من حظ الدارس أن يعاني وهو يبحث عن مركّبات القصيدة وعناصرها وصورها، وعن جمالياتها، وعما يجعل هذا النص قريبا من المتلقّي وذاك بعيدا. لا يتردّد تركي عامر في تحريك كل مسكوت عنه بأسلوبه الخاص الذي يميل إلى السخرية والتندّر والفكاهة، يكتب ما يشاء ساعة يشاء، وكما يروق له ولذائقته الأدبية، مدركا أنّ بعض كتاباته قد تثير موجة من النقد الحادّ تارة، وموجة من الضحك الصّاخب، تارة أخرى. تراه يصرّ على المواجهة مع المتلقّين، ومع ذائقتهم السائدة، محطّما بعضَ أصنامها، فلا يتوانى عن خدش زجاج العادات والتقاليد، أو تهشيمه إذا ما اقتضى الأمر ذلك موظّفا في سبيل ذلك المفارقة بكل أساليبها وأنواعها لخلق حالات من التضاد. لا حدود ولا قيود تعيق اندفاعته سوى الحفاظ على متانة القصيدة؛ فالبحور سليمة، والموسيقى منسابة، والمعاني مكتملة، والصور دافقة. منها ما هو قريب من إدراك العامة، وهو الغالب، ومنها ما هو بعيد عن إدراك القارئ المتأنّي، لا يدركه إلا بعد لأيٍ وتمحيص دقيق. يدرك الشاعر أن أكثر المواضيع حساسية وأكثرها جدية في أيامنا هذه بحاجة إلى أن تصل إلى القراء، كل القراء، وووجد أن التندّر والتفكّه والسخرية والمفارقة هي أهم الوسائل القادرة على تحريك مشاعر المتلقّين. إن الحروب التي لا تتوقّف، والعنف المستشري في المجتمع، وبروز الكثير من مظاهر الانحطاط هي قضايا كبيرة ومؤثّرة جدا في حياة البشر، وهي المواضيع التي لا تجلب سوى الوجع والألم والحزن وهي كلها دوافع لانتشار الإحباط، وأن علاجها لا يتحقق إلا بالصدمة المباشرة عبر هذه الوسائل في قدرتها على المزج بين المتضادات. وهو يحرص كلّ الحرص على اللغة وجمالياتها، دون أن يتردّد في المراوحة بين مستويات لغويّة عدّة يجمعها في بوتقة شعرية واحدة مازجا بين القديم والحديث، وبين الفصحى والمحكية. فلا رادع يردعه عن ابتداع مفردة لا تجمعها بالعربية أية صلة لتصبح ضمن معجمه اللغوي دون غيره. ولأنه لا يرعوي ويصرّ على هتك أعراض العادات الاجتماعية والشعرية فقد اخترنا العنوان أعلاه لمقالتي هذه.
يستحق ما هو أكثر... لماذا؟ الشاعر تركي عامر ظاهرة شعرية ذات ميزات خاصة تستحق دراسات توليه حقّه ومستحقّه، وله حضور لافت على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى المنصّات الأدبيّة التي يتقصّد بعضهم أن يجعلوها بعيدة عن متناول صوته، فيعمد إلى كرسيّ في زاوية المسرح يعلوها ليصبح أعلى من كل "المكائد"، وأعلى من المنصّة ذاتها، يتعدّاها صوته الشعريّ ويتغلّب على أوتار صوته المنهكة من نيكوتين السجائر ونيكوتين الشعر والكلمة ووجع الحرف، فينهمر الضحك شلّالا يغمر القاعة ويلفّها كلّها كما تلفّ أصابع تركي وريقة ناعمة تحترق بين شفتيه، ثم سرعان ما يسيطر على المكان سكون وسكوت مطلق ويتحوّل الجمهور إلى آذان صاغية. يبدو للمتابع وكأنّ هناك عشرات المقالات التي تدرس مميّزات شعره وعلاماتها الفارقة وخصوصياتها، لكنّ الباحث يفاجأ بأنّ هذا الشاعر لم يلق من الدارسين ومن الأكاديميين ما يستحقّ من اهتمام، وهو الذي لا يتوقّف عن كتابة الشعر الجميل المدجّج بصور مبتكرة قادرة على دغدغة المشاعر وتثوير الأحاسيس. إنّ "ذنبه: الوحيد أنّه لا يتحرّش بقارئ ولا بناقد، ولا يتجمّل كي يحظى بمقالة قد ترقى وقد لا ترقى إلى مستوى ما يقول. ومن سخريات المفارقة أنه كتب قصيدة بعنوان "بيت القصيد" يتناول فيها أسباب تغاضي النقاد والدارسين والقراء عن إنتاج وإبداع إحدى الشاعرات يقول فيها: "لأنّها لا تجيدُ أبجديّة الحرير. ولوغاريثم الرّقصِ بينَ اليدين. ولأنّ الصّيد ليسَ من هواياتِها، وتدريبُ كلبِ التفّاح على ملاحقةِ الطّريدة ليس على جدولِ أعمالِها ولأنّها لا تحفظُ معادلةً طرفاها فمٌ يأكل وعينٌ تخجل [...] ولأنّها لا تضعُ ساقاً على ساقٍ قدّام أحد ولو كان ساقياً لكبيرِ الآلهة ولأنّها لا تفتحُ فضاءً يسيلُ ضوءاً بينَ نهريْنِ من نبيذ ............................." ينتقد الشاعر ظاهرة أدبية واجتماعية خطيرة، يطرحها بأسلوبه المألوف الذي يعتمد التهويل للتندر والتفكّه بقصد النقد وكشف العيوب، كما يفعل رسّام الكاريكاتير الذي يبالغ في تضخيم الصورة للإثارة والتحفيز، وقد دعمها هنا بتوظيف تقنيّة التكرار المعنوي وحرف العطف، "الواو"، للكشف عن بشاعة الظاهرة وتِبيان حجم الضرر وحجم الخلل الذي يصيب الحالة الأدبية التي تجعل شاعرة مرهفة تنسحب من محفل أدبيّ لتعود إلى بيتها وإلى ذاتها لا لسبب سوى أنها ترفض التزلّف والرياء. يتماهى الشاعر مع تلك الشاعرة ربما لأنه يرى أن حالته أشبه بحالتها. لكنّ قافلة تركي تسير، ويسير معه إبداعه شلالا ينهمر دون توقف؛ يكتب وينشر ويبعثر أشعاره فوق رؤوس قرائه، ويدير ظهره ويغلق أذنيه، ويغمض عينيه، وينام ملء جفونه، رافضا أن يسمع تأويلا لا يرقى إلى ما يقال، أو موقفا اجتماعيا يعلن أن هذه المقولة أو تلك تخدش حياء المتلقّي أو المتلقّية، أو تمسّ بذوقهما الذي اكتسباه منذ جدهما امرئ القيس مرورا بأحفاده وأحفاد أحفاده. تركي شاعر يكتب باللغة الفصيحة وبالمحكية، ويمزج بينهما وفق ما تمليه عليه الحالة، يحاور أشعار من سبقوه ويتحرّش بدرويش والقاسم وإخوتهما وببعض أشعار نزار قباني وعمر بن أبي ربيعة ليضيف من عنده ما يراه هو لا ما رأوه هم دون أن يدخل في خصام مع شاعر سابق أو لاحق، بل يضيف إلى من سبقه معنى جديدا وطرحا جديدا نابعا من احترام وتقدير. ويقوم بغزوات واسعة في حقول علميّة قديمة وحديثة. يغرف من الكتب المقدّسة ومن ألف ليلة وليلة ومن كليلة ودمنة، ومن فلاسفة الإغريق وإخوتهم الفلاسفة العرب، ما يزيد شعره غنى واتساعا وعمقا، دون أن يتنكّر لهؤلاء كلهم، لكنّه يحفر بمعوله هو ويبني معانيه من تجاربه؛ من مشهد تلفزيوني عارض، أو من سيدة عجوز تشتم بائع خضراوات، أو من تعطّل حاسوبه ذاك النهار، أو من انقطاع تيار كهربائي شلّ حياته وخربط في برنامجه كما ينعكس في قصيدة له بعنوان "رائحة بيضاء" : "دون إنذارٍ مبكّرٍ يتوقّفُ الكمبيوترُ عن العمل والتلفونُ يموت والموبايلُ ممنوعٌ من التجوّل خارجَ المرعى. قصيدةٌ على طرفِ اللسان أعودُ إلى أمس أعثرُ على بعضِ ورقة لا أجدُ القلم دونَ ماءٍ أبلعُ القصيدة" الشاعر في ورطة ويبحث عن حلّ، وهو الذي اعتاد أن يكتب قصائده في الآونة الأخيرة ويدوّنها على آلة الكمبيوتر، لكنّ خللا مفاجئا أصاب كلّ الأدوات التكنولوجيّة الحديثة فانقطع عن التواصل مع الخارج، وقد أصاب التليفون والموبايل عطل، فلجأ "إلى أمس" ووجد ورقة، لكنّه لم يجد قلما يكتب به القصيدة، فقام ببلعها كما حبة الدواء، دون ماء. يحفظها عن ظهر قلب ويستسلم للنوم ولحلم سعيد يعيد الحياة إلى الكمبيوتر، لكنّه حين يعود من الحلم يجد أنّ كل شيء ما زال على حاله، والقصيدة ما زالت قيد الأسر. يتّصل بصديق يسعف الكمبيوتر ويحلّ العطل الحاصل فيه، وما من مجيب حتى كان الحلّ بعد انتظار طال سبعة أيام: "تحطّ عصفورةٌ على حافّة الشُّبّاك أحمّلُها قصيدةً لم تسقطْ عن طرفِ اللّسان أستحلفُها بحرّيّتها أن تطير ولو عادتْ وفي جناحَيها رائحةٌ بيضاء سأعرفُ أنّكِ على قيد الحُلُم" يبني الشاعر من حدث عادي وعابر، قد يحدث مع أيّ فرد منا في كل يوم وفي كل ساعة، حكايةً قصيدةً، فيها من البناء الدراميّ ما يثير المتلقّي لمعرفة ما سيكون، وفيها الواقع والحلم مندمجين ومترابطين بخيوط متينة، وفيها الرموز والدلالات والإشارات ما يدفع المتلقّي للبحث عن دلالة العنوان "رائحة بيضاء"، دون أن يتوقّف عند كونه "عنوانا موازيا" فحسب، بل لأنه، كما يقول العرب، "بيت القصيد" الذي أخذَنا إلى ما هو أبعد من خلل وعطب أصابا التليفون والكمبيوتر والموبايل، بل هي حكاية هذه الأيام، والشاعر ضحية من ضحايا هذه الأيام، بعد أن بات عبدا للتكنولوجيا الحديثة التي سرقته وسرقتنا من عالمنا الجميل، ومن أيام الورقة والقلم الذي اختفى، وقد كان هو والورقة أمس رفيقي الشاعر الدائمين لا يمكنه الاستغناء عنهما. لم يبحث الشاعر عن حكاية من خارج بيئته ولا من خارج واقعه، بل استلّها من الحياة اليومية ثمّ صاغها وبناها بما يتلاءم مع هويته الشعريّة، بلغته هو وتعابيره هو، ومفرداته وصوره واستعاراته الإبداعية، حيث التلفونُ يموت، والموبايلُ ممنوعٌ من التجوّل خارجَ المرعى، وحيث تلفونُ البيتِ ينبحّ من الرنين. تركي عامر لا يتقصّد السماع إلى تغريد العصافير، ولا إلى خرير ماء ساقية، ولا ينتظر الثلج ليسقط فوق قمم جبال الجليل حيث يعيش، لأنها تأتيه كلها في مواعيدها فيتلقّفها كلّها في رمشة عين، تُهيجه وتثيره وتستفزّه، فيكتب ما يبدو للمتلقّي نادرة عابرة أو حكاية مسلّية، لكنها تغدو بعد التمحيص والتحليل مسألة فكريّة مثيرة. وقد يحدث أن ترتجف يده ويسقط منها فنجان قهوته السادة فتحرّك الحادثة البسيطة مشاعره وتثير مكنونات قلبه وهواجسه ليفكّر بما قد يصيب الإنسان من وهن وضعف مفاجئ، وما عليه أن يفعل حتى يداري نفسه فلا تشلّه حركة عابرة وخادعة تمنعه من تنفس قصيدة جديدة تردّ إليه الروح. يبدو لي أن الشاعر مهووس بالشعر وأنه وصل إلى درجة الإدمان على كتابته، بحيث لا يترك حدثا، مهما كان صغيرا أو كبيرا، إلا ويلفت نظره، مؤمنا أن الشعر وسيلة للتنفيس عن الذات، ووسيلة لقرع أبواب الناس للتحرك وأخذ الحيطة والحذر واتخاذ موقف مما يحدث أو مما قد يحدث. وربما كان عليه، رغم جماليات شعره وخصوصياته، أن يتروّى قليلا لأن بعضه قد يبقى بعيدا عن مرمى الإبداع المأمول من شاعر بحجم تركي عامر.
وللغزل نكهة مغايرة من اللافت للنظر كثرة قصائد الغزل التي كتبها الشاعر وقام بنشرها. حين نأتي على ذكر هذا النوع من الشعر تتبادر إلى الذاكرة أسماء عدة مثل جميل بثينة وكُثير عزّة وشعراء الغزل العذريّ، وعمر بن أبي ربيعة وشعراء الغزل الإباحي، ومقدمات شعراء الجاهلية الغزلية، ومن سار على دربهم في العصور اللاحقة، ويقفز اسم نزار قباني ومن ساروا على دربه. لقد تجذّر هؤلاء جميعا في ذاكرة تركي عامر، لكنّه حين يتحدّث عن الحبّ، فإنه ينجح في إخفاء رصيدهم عن ناظريْ المتلقّي، حتى ليبدو كمن تناسى كليّة صورَهم الشعريّة والمعاني التي أتوا بها، وكلّ ما عبّروا عنه من وجع الفراق وألمه، ولذة الوصال ومتعه، وما أحرزه عمر بن أبي ربيعة ومن بعده نزار قباني من "غزوات" و"انتصارات". تركي عامر يكتب قصائد حب وغزل على طريقته الخاصة، وقد اختار عنوانا لافتا لإحداها، "نعم للحرب". عنوان استفزازي "عدائيّ" يعتمد في أساسه على المفارقة بين المعنى المباشر وبين ما يضمره لفظ حرب في هذا السياق. تتّضح معالم هذه الحرب منذ السطور الأولى للقصيدة، بطلاها فتى وصبيّة مدجّجين بكل أدوات "الكفاح المسلح"، ويملك كلٌّ منهما قوة الإرادة والتحدي: "قالت حاذِرْ! قد أُعذِرَ من أنذرْ. فلتقرأ، دون مراودةٍ، نصّ الشفتينِ: حروفٌ من نارْ، وحروفٌ من ماءٍ. لا ألعب، فلتحذرْ! لا أقتلُ وقتًا من ذهبٍ، لا فضة في جيبي، وقضاةُ الحبِّ تنابلُ سلطانٍ، ومحامي الروحِ تقمّص شيطانًا أخرسْ. يقترب تركي من نزار قباني بحذر العارف أنّ لذاك ميدانا وله ميدانا آخر، فإن تحدّث نزار عن الشفتين وعن النار وحروفها إلا أنها هنا نار تركي وحروفه، وإن كان نزار في كثير من قصائده يخرج طواعية عن أعراف المجتمع مثلما فعل عمر بن أبي ربيعة في تهتّكه وخروجه عن أعراف القبيلة، إلا إن تركي عامر توقّف عند حدّه، ولم يفصّل من جلد النساء عباءة، ولم يبن أهراما من الحلمات، كما يدّعي نزار، ولم يقتحم دار نعم وغيرها وأهلها نيام، كما فعل عمر بن أبي ربيعة، لكنّه لم يتنازل عن نرجسيّة الشاعر وأناه ومرآته المقعرة فركب رأسه وقبل التحدّي وغامر بحياته في سبيل نيل الحبيبة. من شأن التّناص أن يغني القصيدة، خاصة إذا اتّخذ مرمى آخر وراد عالما آخر ومعنى جديدا مبتكرا. تكمن جماليّة النصّ وقوته هنا في حواريّته بين صوتين ولغتين، وفي صوره المبتكرة، وفي تحوير مقولات معروفة صاغها الشاعر بأسلوبه هو بعد أن أخرجها من سياقها المألوف، فهجرت ماضيها ودخلت في عالم جديد منسجم مع مجموع النص. يأخذ الشاعر من العامية "لا ألعب" ترجمة عن مقولة "أنا ما بلعب" وما تحمله من التحذير والترهيب، ويأخذ من الأمثال المعروفة: إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب" فتصبح "لا أقتل وقتا من ذهب، لا فضة في جيبي". والقصيدة دراميّة بطلها فتى يروي للمتلقّين ما كان له من تجربة مع فتاة شَموس لا تخشى المواجهة، تعلن منذ الحرف الأول عن تحديها القاتل، كاشفة عن مصادر قوّتها وعن استعدادها لإنزال الهزيمة به، فتنصحه بأن يبتعد عنها وأن يتحاشى المواجهة وإلا دخل بين النار والماء، بين الموت والحياة، وتؤكّد له أنّ كل تجاربه السابقة في الحب لن تجديه نفعا، وبالتالي لن يحظى بقاض عدل أو بمحام يحسن الدفاع، فالقضاة "تنابل سلطان"، وهؤلاء ميزتهم الكسل والبلادة والتعطّل عن العمل، و"محامي الروح شيطان أخرس"، يرى ولا يحرّك ساكنا للدفاع عنه. فما أنت يا هذا سوى مقاتل أعزل إلا من كلام لا يجدي نفعا في الحرب المعلنة عليك، بعد أن تحضّرتْ منافستك للمواجهة والنصر، وبعد أن تدجّجت بكل ما تحتاجه للنيل من "الخصم"، فالأجدى لك أن تنسحب وأن تتراجع: "فالأسلمُ أن تسكتْ خالصْ"، أو أن تغرقْ في طينةِ لهجتِنا، تتوغّلُ في الشريان، وإلّا، يا خصما هشًّا، أعلنت عليك الحبّ. وأُعذِر من أنذرْ." وبعد أن حشدتْ كلّ "أسلحتها" الهجومية في البرّ والبحر، وبعد أن كرّرت التحذيرات إليه، كان عليه أن يتخذ قرارا حكيما بالنكوص والتراجع، لكن القرار الذي اتخذه جاء مخالفا لكل التوقعات: من أقصى القلبِ، أخوضُ الحربَ. وفي بحري لن تعبرَ فرقةُ تفتيشٍ عن منشأةٍ. لن أسكتَ، لن أتعلّمَ لُكْنة نهرٍ تنقذني من بحرِ هوًى أحمرْ. سأخوض الحربَ. ولن أستسلمّ إلا منتحرًا "تحت التفاحة". لن أحذرْ ما قلتِ وما حذّرتِ وما أنذرتِ وما نظّرتِ. وإمعانًا في الحربِ سأعلنُها: ستطولُ الدربُ. تطولُ الدربُ... حربٌ، لا غالبَ فيها إلا الحبُّ. إلا الحبُّ..." قصيدة قصيرة تستعير من السرديّة أهم عناصرها وتقنيّاتها: الراوي الكلّيّ المعرفة الذي يحسن التنقّل بين ضمير الغائب وضمير المخاطب، وبناء حبكة تسير زمنيا من الماضي نحو الحاضر، وبناء حوار بين الشخصيتين المركزيّتين. يسرد الراوي الحكاية القصيرة بأسلوب عمدته الرئيسية المفارقة التي تتكئ على المعنى ونقيضه، وذلك منذ العنوان، "نعم للحرب" وما يحمله من تضاد بين معناه المباشر وبين دلالته الحقيقيّة، يساهم في ذلك التكرار اللفظيّ والمعنويّ لكلّ ما يحمل من تهديد ووعيد. والمفارقة حقل غنيّ وواسع وقابل للاتّساع والنمو إذا ما أحسن المبدع توظيفها، فتخرج عن إطارها التقليدي وعن مفارقاتها اللفظية والمعنوية. وهي برأينا الوسيلة الأكثر بروزا في شعر تركي عامر، التي تستحق وقفة مطوّلة تستجلي جمالياتها ومواقع قوّتها في كل ما كتب من أنواع الشعر، لكنّنا لن ندخل في هذا البحر نظرا لما لهذا الأسلوب من تفرّعات تحتاج إلى دراسات مسهبة يستحقّها شعر تركي عامر. ولقد تحدّث العرب، قديما، عن أسلوب المدح بما يشبه الذم والذم بما يشبه المدح التي يعدّها البعض اليوم، وبحق نوعا من المفارقة. إنّنا نرى أن مفارقة تركي عامر في هذه القصيدة هي من نوع الترهيب بما يشبه الترغيب. تستحقّ هذه القصيدة وغيرها من قصائد تركي عامر وقفات مطولة أمام لغتها، واستعاراتها وكناياتها، وتعابيرها وصورها المبتكرة، وأمام التحوير والتعديل، والتناصّ، والموسيقى، والتكرار اللفظي والمعنوي وتِبيان وظيفة كل هذه الأساليب والتقنيات في إغناء النص وتدعيم جمالياته، والتوقّف عند توظيف اللغة المحكية، مثل "أسكتْ خالِص" من اللهجة المصرية، وتحريف الألفاظ وتحويرها مثل جملة "أعلنت عليك الحب"، بدلا من "أعلنت عليك الحرب"، و"لا غالب إلا الحب" نقلا عن "لا غالب إلا الله"، والتناصّ مع الأغاني الشعبية مثل "حذّرتكَ، فلتحذَرْ!/ أن توجعَني/ ببناتٍ" مثلَ ملائكةٍ/ في "الموكلّا"/ ب "دواءٍ"/ يشفي القلبَ منَ "العلّة"، التي تتداخل وتتشابك مع أغنية المطرب السوري فهد بلان "يا بنات الموكلا، يا دوا كل علة"، وتوظيف مصطلحات وتعابير مستمدّة من عالم الحرب، مثل "من أقصى القلبِ، أخوضُ الحربَ. وفي/ بحري لن تعبرَ فرقةُ تفتيشٍ/ عن مُنْشأَةٍ"، وما تضفيه هذه الأساليب والتقنيّات من روح التندّر والمزاح والمداعبة على أجواء القصيدة، فضلا عن أسلوب التهديد والوعيد الذي يساهم، في خلق حالة من المفارقة بين المعنى المباشر والمعنى المضمر. مهما تحدثنا عن معاني المفارقة وعن دورها فإن للمفارقات في شعر عامر نكهة خاصة، يبدعها ويخلقها دون سابق إنذار، بل إنها تتسلّل إلى نصوصه بعفويّة دون قيود أو عثرات، لتصبح جزءا من روح النص الكلّيّ. وهي أسلوب قيل فيه الكثير ولعلّ أجمل وأدق ما قيل إنها "إحداث أبلغ الأثر بأقلّ الوسائل تبذيرا". فقد وجدنا الشاعر تركي عامر يلجأ إلى أبسط الوسائل التي قد لا تستهوي الجميع، لكنّي أرى أنّ هذه التقاطعات والتحويرات والمبالغة في التهويل هي التي تقرّب النصّ من القراء حين تفجأ القارئَ ببساطتها وعمقها في آن معا.
التندّر والقصيدة القصة إن الحديث عن المفارقة، كما قلنا يطول، وليس هذا ما نسعى إليه، لكن التندّر اللاذع قد يكون أحد أبناء المفارقة، وقد يكون ولدا عاقّا لا ينصاع لكلّ تشعّباتها، خاصة وأن تندّر تركي عامر يمتزج في كثير من الحالات بألم حارق، وهو الذي يصوّب عينيه نحو ما يدور من حوله كما يصوّب الصحفيّ المحترف الكاميرا لتلتقط صورة بألف كلمة. فتتحدّث الصورة عمّا التقطتْ من تفاصيل دون أن تنبس ببنت شفة. هكذا تصبح قصيدة "حبة لمنع الحلم" رواية كاملة التفاصيل لشعب يعيش الوجع اليومي. هذه القصيدة السينمائية لا ترافقها موسيقى تصويرية ولا مؤثّرات صوتيّة وضوئيّة تساهم في توضيح الصورة ونقل الفكرة. وهي في صمتها أكثر تأثيرا في النفس، لأن الوجع قد يصل حدّا يتعدّى الصراخ فيكون الصمت أقصى ما يصل إليه الوجع وأقسى أنواع التعبير: "ينسحبُ من الحُلُم. شايٌ على عَجَل. يخرجُ إلى كَفافِ يومِه متأبّطاً أملاً كوفيّةٌ لا تخفقُ في الريح، تلفُّ الرأس. عينانِ لا تريانِ الطريق. ما يشبهُ معطفاً، لا يقي من بردٍ ورصاص، يلفُّ رماداً. سيجارةٌ بلا فلتر. ولّاعةٌ، على آخر رمق، تراوغُها الرّيح. رغيفٌ ناشفٌ. بيضتانِ مسلوقتانِ. ذرّةُ ملحٍ. نسيَتْ رشّةَ الكمُّون. سيعاتبُها عندما يعود. يصل، كما كلَّ يومٍ، إلى الحاجز. ينتظر. ولا تمطرُ السماء. رصاصةٌ شاخصةٌ في الصَّدْر. يقرصُهُ الجوعْ. يأكلُ الرغيفَ والبيضتَيْنِ حتّى آخرِ الملح. وينتظر. يأتي المساء. يتثاءب الحاجز. يتفرّقُ المنتظرون. يعودُ إلى البيت، بلا بيضتين. وسيجارةٌ أخيرةٌ، بلا فلتر، تحولُ دونَ التنفُّس. يأخذ حبّةً لمنع الحُلُم وينام." قد تكون هذه القصيدة مقطعا من فيلم سينمائي، أو هي فيلم سينمائي متكامل العناصر يُبثّ يوميا بثّا مباشرا. هذه القصيدة لا تعتمد على الصورة فحسبُ، بل هي أوسع بكثير لأنها عبارة عن قصة مكتملة الأحداث بُنيت الحبكة فيها حبكا متينا. والقصيدة القصّة حالة متكرّرة في شعر تركي عامر، فيها السّرد الذي يعرضه راو مشرف كلّيّ المعرفة، وفيها شخصية مركزية وشخصيات ثانوية، ومكان وزمان، وفيها حدث يعكس بؤس الحالة الفلسطينية، وما يعاني منه أبناء هذا الشعب الذين يخرجون يوميا من بيوتهم للبحث عن لقمة الخبز يحملون زادهم بانتظار أن يفتح الحاجز العسكري، الذي نصبه الجنود، كي يدخلوا منه إلى الجهة الأخرى فيما "رصاصة شاخصة في الصدر" قد يطلقها جنديّ في كل لحظة. تتوفّر في هذه القصيدة القصة كل عناصر التشويق، وما يطلق عليه الباحثون "لعبة الإيهام بالواقع"، تلك الحيلة التي يلجأ إليها الروائيون وكتّاب القصّة للمزج بين الواقع والخيال كما يتجلّى في التفاصيل الصغيرة والدقيقة التي اهتمّ الراوي بالحديث عنها في كل ما يتعلق بالشخصيّة المركزيّة واستيقاظه المبكّر وتناوله الشاي على عجل ليخرج إثرها يتأبّط أملا، بعد أن ارتدى أقلّ مما يحتاجه جسمه من ملابس. يدخل الراوي في تفاصيل قد تبدو لمن ينظر إلى النص نظرة سطحية أنها فُضْلة لا حاجة لها، وقد يتساءل بعضهم مستنكرين ذكر الزاد والملح، والكمّون الذي نسيت الزوجة أن تضيفه إلى البيضتين، وما أكله من زاده وما تبقّى منه ومن سجائره البسيطة. إن ما يبدو فُضلة هو جزء مهم من المبنى العام للقصّة المؤلمة، وما يواجه هذا الإنسان من معاناة يوميّة مع المحتلّ، قد يكون السبب في نقل الوجع إلى البيت الذي قد يودي إلى نشوب خصام بين الزوج والزوجة بحجة واهية، ما كانت في أي حال من الأحوال لتؤدي إلى مواجهة بينهما في الحالة العادية. تضفي هذه التفاصيل الدقيقة جوا من الواقعية، وتكشف عن الألم والمعاناة النفسية الذي يسببه الإذلال، وتوهمُ القارئ أنه بصدد قراءة قصة حقيقية. تقوم القصيدة القصة وفق المبنى الكلاسيكي الموباساني الهرمي الذي يبدأ عادة بالتعريف بالشخصية المركزية وظروفها لتسير الأحداث بشكل تصاعدي تسلسليّ حتى تصل قمة الهرم ثم تبدأ بالانحدار نحو الحل فالنهاية. أثار الشاعرُ القارئَ واستفزّه منذ العنوان اللافت والمثير، "حبة لمنع الحلم"، المحوّر عن "حبة لمنع الحمل". والحمل بداية حياة وآية بشرى للناس تماما كما يحمل الحلم بشرى لهم، أما منع الاثنين: الحمل والحلم، ففيه انقطاع عن الحياة الجميلة ليحلّ بدلهما البؤس والإحباط. كتب أنطون تشيخوف قصة "الشقاء" التي صوّرت بؤس الفقراء في روسيا، وحالة الاغتراب التي يعيشونها التي جعلت الرجل الثاكل الذي فقد ابنه يشكي همّه لحصانه. وتحدّث كثيرون عن بؤس شعوبهم الذين يرزحون تحت عبء الاحتلال وظلم القوي للضعيف. لقد اختار تركي عامر أن يحدّثنا بأسلوب مكثّف عن شقاء الفلسطيني الذي يجازف بحياته يوميا على أمل العودة بلقمة خبز، فتكون المفارقة التي لا يتوقّعها القارئ؛ يأكل العامل زاده وهو ينتظر عند الحاجز الذي لا يُفتح ويعود خالي الوفاض، ويقرّر أن يتناول حبة لمنع الحلم، لتكتمل كل عناصر المفارقة الدرامية الحزينة.
القصيدة العمودية بين مستويين لا شاعر بإمكانه أن يحافظ على مستوى متقّدم في الإبداع، ومن الطبيعي أن يكون هناك تفاوت بين قصيدة وأخرى، وقد وجدتُ أنّ بعض القصور قد ينال من بعض القصائد، بالذات تلك التي يحافظ فيها الشاعر على عمود الشعر، حتى ليبدو لي أنه يبقى على السّطح، ودون أن يأتي بجديد، كأنّه يعمل على الوزن والقافية والموسيقى أكثر مما يعمل على خلق ما هو جديد، كما يتجلّى في القصيدة التالية: هذهِ الدّنيا مُتعةٌ ومَتاعُ كلُّ ما فيها يُشترى ويباعُ. يُشْتَمُ المُشتري إذا ما اشترانا، حينَ نَبتاع يُشتَمُ البيّاعُ. هذهِ الدّنيا يَنفُخُ الدينُ فيها نارَ حقدٍ وتكثرُ الأتباعُ. إنّ في الدينِ رحمةً لا نراها، ورحى الدّنيا فُرْقَةٌ واجتماعُ. يُجمِعُ الناسُ تحتَ طائلِ فَرْقٍ، بينَ ما أعلنُوا.. وما لا يُذاعُ. منذُ كنّا ونحنُ رهنَ صراعٍ، بينَ شرٍّ وبعضِ خيْرٍ صراعُ. هو بحرٌ والموجُ عالٍ ولكنْ، يَحرثُ الريحَ دونَ خوفٍ شراعُ. ليس في قلبِ الحربِ ذرةُ حبٍّ، طاسةٌ ضاعت وانتهى الإجماعُ. يحافظ الشاعر على أصول القصيدة العمودية من وزن وصدر وعجز وقافية مشتركة، بل ويحافظ على التّصريع في البيت الأول، كما هو متّبع في القصيدة الكلاسيكية. وهو القادر على أن يفعل ذلك بمهارة العارف المتمرّس. لكنّنا نتساءل أين الجديد في المعاني؟ إنّها قصيدة من نوع شعر الحكمة الذي اعتدنا عليه في الماضي، يوظّفها الشاعر هنا لانتقاد ظواهر اجتماعية سلبية طالما كتب فيها هو ذاته كما كتب فيها الآخرون، وبدل أن يقود المعاني ويقود القصيدة إلى عالم المعاصرة والحداثة فقد قاده الوزن إلى التقليد لا إلى التجديد. فهل يكفي أن يكتب الشاعر، أيّ شاعر عن ظاهرة مقلقة ومزعجة؟ وهل ما يحدث من حولنا من عيوب اجتماعية مبرّر كاف لكتابة قصيدة أقل من غيرها توهّجا؟ لم تشفع للشاعر استعارته المبتدعة والمستحدثة "يحرث الريحَ دونَ خوفٍ شراعُ"، ولا تحوير بعض المقولات والأمثال الشعبية مثل "طاسة وضايعة" التي من شأنها أن تغني القصيدة. لم تتمكن هذه القصيدة، برأيي، من تثوير المتلقّي كما ينبغي، إذ غلبت عليها نبرة الخطابة والوعظ المألوفة، وهو الشاعر الذي أدمن على التجديد، وجعلنا ندمن على التقاط استعاراته وصوره المستحدثة وغير المسبوقة. وهو الشاعر الذي يستطيع بكل سهولة أن يقتنص الفكرة مهما كانت صغيرة ليحوّلها إلى قصيدة ماتعة. في المقابل هناك قصائد يلتزم فيها الشاعر بعمود الشعر، لكنّه يتمكن فيها من أن يتحرّر من قيود الشعر التقليدي، ويحلق في عالم الشعر الإبداعي، مجترحا معاني جديدة تخوله لاحتلال مكانة متقدّمة في حقل الشعر العربي الواسع. ومنها قصيدة مطوّلة بعنوان "أهيم ملء جنوني" نشرها سنة 2009، يقول فيها: أنا يا دهرُ تحلُمُني البُحورُ قصائدَ ليسَ تحمِلُها البُحورُ فأُبقي سِرَّ ريحي طيَّ روحي لئلّا يُغرِقَ الأرضَ الغُرورُ أنا الملكُ المُتوَّجُ دونَ تاجٍ تثبّتُهُ التّجارةُ والفجورُ فلا خدمٌ بقصري أو جَوارٍ تُخَدّرُها المَخادعُ والخُدورُ فعرشُ الشِّعر مختلِفٌ تماماً إلى ذا العرشِ تخْتَلِفُ العصورُ كفاني شاغلاً للناسِ جرّاً شَوارِدَ شابَكُم منْها نفورُ سهِرْتُمْ واختصمْتُمْ وانتقدْتُمْ قصائدَ لم تشرّفْها القصورُ بها شَرُفتْ قُصورٌ لا قُصورٌ أدارتْها الخلاخلُ والخُصورُ دوائرُ حولَ باغيها ودارتْ على الباغينَ دائرةً تدورُ قصيدة مستوحاة من سيرة حياة الشاعر العربي المتنبي الذي طبّقت شهرته الأرض، وكان في حياته قد استفزّ العديدَ من الشعراء والأدباء فعادَوه بعد أن تمكّن من اكتساب ودّ والي حلب سيف الدولة الحمداني الذي قرّبه منه حتى قيل الكثير حول ذلك، منها أنّه أغدق عليه العطايا والذهب، وأذن له بإلقاء قصائده وهو متمدّد على فراشه في ديوان الوالي لا وقوفا، كما جرت عليه العادة. قصيدة محورها الرئيسي الفخر، وهو نوع من أهم أنواع الشعر العربي التقليدي، والفخر ميزة بارزة ولافتة في شعر المتنبي الذي قال: أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم لقد أبدع تركي عامر باستحضار روح المتنبي، كما أبدع في قصائد أخرى من استحضار أرواح شعراء آخرين من خلال شعرهم، حتى ليحسب المرء أنّ هذه القصيدة بالذات، لولا توقيع تركي أسفلها، أنها من تأليف المتنبي، لكن القارئ المتأنّي يتوقّف عند صور تركي عامر واستعاراته، وإلى التلاعب بالألفاظ التي يطلق عليها الباحثون الجناس التام وغير التام، وعند مجموع المحسّنات اللفظية والمعنوية، وعند التحوير كما في البيت الأخير أعلاه، والإشارة إلى الحكمة الشهيرة "على الباغي تدور الدوائر"، وتقاطع هذا البيت مع ما جاء في القرآن الكريم وفي قصائد لعدد كبير من الشعراء، تبين كلّها أن مصير الباغي هو نزول العقاب به. هذا التناص وغيره، والإحالات العديدة إلى شعر المتنبي وإلى آخرين من شأنها أن تغني النص الذي يستفزّ القارئ ويحثّه على متابعة القراءة وكشف جماليّات النصّ وتقنيّاته الفنّيّة. إن أجمل ما جاء في هذه الأبيات عدم اكتفاء الشاعر باستحضار روح المتنبي وهويّته المعروفة، بل لقد تقمّصتْ روحُه روحَ المتنبي مضيفا إليها مولودا جديدا هو الشاعر تركي عامر المعروف بقدرته على التلاعب بالألفاظ وبقدرته على ارتياد معان جديدة مثل: كفاني مالِئاً دُنيا بشِعري وبي ما غَرّرَتْ دنيا غَرورُ بدنيا غيرِ دُنْياكُمْ أُداني دِناناً لم تدانيها خمورُ وخَمري ليسَ أمْراً بعدَ خَمرٍ وحيداً، إنّما خمري أمورُ يخرج الشاعر من عباءة المتنبي ويرتدي عباءته الخاصة به، وهو الذي يجيد السخرية والتهكّم وانتقاد ظواهر ومظاهر اجتماعية وسياسية وما يصيب الأدب من زيف ووهن. إن اغتناء القصيدة بالإشارات والإحالات تبثّ في القصيدة روحا جديدة وتجعلها أكثر غنى وعمقا، وبالتالي إن استحضار سيرة حياة امرئ القيس وحكايته الشهير حين جاءه خبر مقتل والده وما قاله في هذه المناسبة التي جعلت مقولته "اليوم خمر وغدا أمر" حكمةً تنتقل من عصر إلى عصر لتحمل هنا معنى جديدا بحيث تجافي الدنانُ معناها المعجمي وتحلّق الخمور بعيدا عن خوابيها لتصبح أمرا ذا بال وصناعةً شعريّة من إنتاج الشاعر تركي عامر تعكس ثقافته الواسعة في دهاليز عوالم شعراء الماضي والحاضر.
خلاصة تركي عامر شاعر غزير الإنتاج، وهو سريع التفاعل مع الأحداث سواء كانت سياسية أو اجتماعية، وبالتالي بإمكان كل قارئ أن يجد في إبداعه ما هو قريب من ذاته ومن ذائقته. يتمتّع شعره بقدرة عالية على استفزاز الحواس وتفعيلها، ونحن من الذين يؤمنون أن تذوّق الشعر قد يتسبّب في خلق شعور من الفرح، كما قد يخلق شعورا من الألم والأسى بحيث يكون لهما انعكاس في المعدة وفي الحلق واللسان. ولشعره نكهة خاصة به حتى إذا ما تواجهنا مع قصيدة منشورة في مكان ما عرفنا أن هذه لغته وهذه صوره وهذا أسلوبه، لا يقلّد فيه أحدا. وهو يواكب كل المستجدّات والأحداث يتابعها بعناية ويطرحها على قرائه للمشاركة. لا يتقيّد بشكل معين للقصيدة؛ تراه يتنقّل بين الموزون وغير الموزون، وبين الفصيحة والمحكيّة، لكنه في كل ذلك يسعى نحو الحداثة حتى حين يكتب القصيدة العمودية فإنه يضمّنها مواضيع جديدة مستمدّة من الحياة الراهنة، ويثبّتها باستعارات وصور وتقنيّات بعيدة عن عالم القصيدة الكلاسيكية، لدرجة تجعل المتلقّي ينسى أنه في حضرة قصيدة ذات مبنى تقليدي، نظرا لتراكم المفردات والتعابير والصور المستمدّة من حياة اليوم. يلجأ الشاعر إلى العديد من الوسائل والتقنيّات الحديثة، يعرض ما يراه بلغة قريبة من القراء دون أن يتنازل عن أصولها ومبادئها وجمالياتها، فنجح بالوصول إليهم دون استئذان، لأنه يقدّم لهم وجبة فكرية مثيرة ومحفّزة بعد أن يطعّمها بصوره واستعاراته. وهو مولع بالأسلوب القصصي الذي يقرّب الفكرة من المتلقّي ويجعلها في متناول يديه، فلا ترهق القارئ العادي كما ترهق القارئ النموذجي أو السوبر كما يسمّيه البعض، ذاك القارئ الذي يبحث عن جماليات التلقّي في النص الأدبي. تركي مولع بالتهكّم والسخرية وله في ذلك أسلوب مغاير عن غيره، عمدته الرئيسية خلق حالة من التضاد بين المعنى المباشر والمعنى المضمر، واللجوء إلى التهويل والمبالغة الشكلية والتكرار اللفظي والمعنوي، تساهم هذه كلها في خلق ما يشبه الرسم الكاريكاتيري، ما يجعل المتلقي يغرق في الضحك حدّ القهقهة، وإن كان في بعض الأحيان "شر البلية ما يضحك". ولكل شاعر هفواته، وهو ليس بمنأى عنها، وقد يأتي يوم يعترف بها أو يقوم بمحوها من دواوينه التي ما زالت تنتظر الإقلاع من مطار تركي بن عامر، وقد يقرّ بهناته وهفواته، كما أقرّ غيره بهفواتهم هم، فمحوها من دواوينهم أو تنكّروا لها واعتبروها ابنا عاقا لا تليق بها البنوّة ولا التبنّي. تركي عامر أحد أعلام الشعر المعاصر لا في شعرنا الفلسطيني فحسب، بل في شعرنا العربي المعاصر، وما كان ذلك ليتحقّق إلا بعد أن نجح في خلق هويّة شعرية خاصة به. والهويّة ليست مرهونة بالحفاظ على الوزن والقافية والصدر والعجز، ولا باعتماد لغة سليمة وحسب، بل هي في الريادة وفي ابتداع أسلوب حديث ومسار حديث تميّزه عن غيره. ولتوضيح ذلك نحن بحاجة إلى دراسة خاصة ومستفيضة تتناول لغته وصوره وتهكمه ومفارقاته، وتتقصّى التقنيّات التي يوظّفها.
#رياض_كامل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار مع الشاعر الفلسطيني المرحوم جريس دبيات
-
قراءة في سردية رواية -لتكن مشيئتك-
-
الذائقة الأدبية بين الثابت والمتحول- قراءة في ديوان -أجراس ع
...
-
الرواية الفلسطينية- النكبة وصدمة جيلي الطفولة والشيخوخة
-
-تذكرتان إلى صفورية- النكبة، التشتت والهوية
-
حوار أدبي وفكري مع الروائي حيدر حيدر
-
اللغة، المكان والزمان في الرواية العربية الفلسطينية
-
شعرية القصة القصيرة جدا في -عزف على نشاز-
-
الرواية الفلسطينية- مرحلة النضوج
-
قراءة تأويلية: الواقع، التأريخ والتخييل في رواية -بدلة إنجلي
...
-
-عودة جفرا- صوت التمرد رغم المعاناة
-
الكتابة بين الفعل ورد الفعل- -أنف ليلى مراد- أنموذجا
-
-الجنة المقفلة-، إنعاش الذاكرة وتثويرها
-
خطاب جريس دبيات الشعري
-
الطيور تعود إلى أعشاشها والكتابة المغايرة
-
تجليات الذات بين الحماسة والاتزان
-
لينة الشيخ حشمة بين النقد والبحث
-
-نشيد الرجل الطيب- ما بين الواقع والأيديولوجيا
-
أن تكون عربيا في -دولة اليهود-- قراءة في رواية -نوار العلت-
-
-مقصات وسكاكين في الذاكرة- بين التلقي والتأويل
المزيد.....
-
موعد نزال حمزة شيماييف ضد دو بليسيس في فنون القتال المختلطة
...
-
من السجن إلى رفض جائزة الدولة… سيرة الأديب المتمرّد صنع الله
...
-
مثقفون مغاربة يطلقون صرخة تضامن ضد تجويع غزة وتهجير أهاليها
...
-
مركز جينوفيت يحتفل بتخريج دورة اللغة العبرية – المصطلحات الط
...
-
-وقائع سنوات الجمر- الذي وثّق كفاح الجزائريين من أجل الحرية
...
-
مصر.. وفاة الأديب صنع الله إبراهيم عن عمر يناهز 88 عاما
-
سرديّة كريمة فنان
-
-وداعًا مؤرخ اللحظة الإنسانية-.. وفاة الأديب المصري صنع الله
...
-
الحنين والهوية.. لماذا يعود الفيلم السعودي إلى الماضي؟
-
-المتمرد- يطوي آخر صفحاته.. رحيل الكاتب صنع الله إبراهيم
المزيد.....
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|