صفاء الصافي
باحث وكاتب في التاريخ الإسلامي
الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 09:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الزمان: القرن الثالث الهجري المكان: الجامع الأموي بدمشق كان الإمام النسائي داخل المسجد يناقش في اراء الفقهاء ، جاءت اليه جماعة من المهووسين بتعظيم معاوية بن أبي سفيان. فدار بينهم حديث اتسم بالتعصب والغضب والحقد من طرف الشاميين، بينما كانت ردود النسائي هادئة علمية قائمة على التحقيق التاريخي.
فطلبوا منه أن يذكر فضائل لمعاوية، فابتسم متعجباً وقال: وهل لمعاوية فضائل؟! ثم أضاف: تذكرت قول النبي فيه: "اللهم لا تشبع بطنه". فما إن أنهى كلامه حتى اشتعل غضبهم، واحتدم النقاش حتى آل إلى العنف. فقالوا له متحدّين: "اذكر لنا فضائل يزيد". عندها تبسم النسائي مجدداً وقال كلمته التي أصابت كبد الحقيقة "أيعجب معاوية أن يفضّل ابنه؟ ما أراه إلا ناصبياً"، فانقضوا عليه بالضرب وأخرجوه من المسجد، وحُمل بعدها مريضاً إلى مكة، حتى أسلم الروح متأثراً بجراحه، وهكذا أصبح النسائي واحداً من العلماء الذين عُذبوا وأوذوا لأنهم صدعوا بالحق، ولم يجاملوا سلطاناً ولا عواماً، وهذه الحادثة ذكرها ابن الأثير في البداية والنهاية (11/142)، والذهبي في سير أعلام النبلاء (14/133).
وقد أشار ابن خلدون إلى حال ذلك العصر فقال: "كان الوازع الديني قد ضعف، فاحتيج إلى الوازع السلطاني والعصبي"، أي أن الناس صاروا يحتاجون إلى قوة السلطة أكثر من رادع الدين ولم يدرك النسائي أن ما سيأتي بعده سيكون أشد، إذ امتلأت كتب التراث لاحقاً بفضائل لمعاوية وآل بيته، حتى جاوز بعضهم ففضّلهم على النبي وأهل بيته، أن ما وقع للنسائي لم يكن إلا شاهداً على أن كثيراً من التراث الإسلامي صيغ تحت سطوة السيف أو بمال السلطة، فمن خالف أهواءها عرّض نفسه للموت، وبعد موت الحقيقة، تصبح الدماء المراقة مبرَّرة بزعم الحفاظ على الرعية.
ومن صور ذلك ما روي أن عائشة قالت لمعاوية حين لقيته: "أين كان حلمك حين قتلت حجرًا؟" فأجابها: "حين غاب عني مثلك قومي." فجاء رده صاعقًا اعترافاً بالفعل. وفي رواية أخرى قال: "إني وجدت قتل رجل في صلاح الناس."، وهي الشمّاعة التي كان السلاطين يعلقون عليها جرائمهم.
القرن الثالث الهجري المكان: بغداد، في شوارعها كان الحلاج يسير يحدث الناس بفكره الفلسفي الصوفي، داعيًا إلى تأملات أثارت العامة والخواص، لم يرق ذلك للسلطة العباسية، فحاكمته بتهمة الزندقة والإلحاد بسبب عباراته الغامضة مثل قوله: "أنا الحق". لكن تهمته الحقيقية كانت أعمق؛ إذ كان يدعو إلى إصلاح سياسي واجتماعي، ويخالط الناس والبسطاء، مما أقلق الدولة العباسية على سلطانها.
وحين أرادت السلطة أن تجعله عبرة لغيره، أبدعت في قسوته: صُلب على خشبة، وجُلد بالسياط ـ قيل ألف جلدة ـ ثم قُطعت يداه ورجلاه، وضُربت عنقه بالسيف. وبعدها أحرقت جثته ونُثر رمادها في دجلة. لقد أرادوا بقتله أن يخمدوا كل صوت معارض، وأن يبقى دمه شاهدًا على بطش السلطان حين يخاصم الفكر والحق.
إذن، فالتاريخ الذي وصلنا عبر القرون لم يكن نقيّاً خالصاً، بل تشكّل في أجواء السيوف والدماء والمال وشراء الذمم. هو في جوهره نتاج فكر سياسي صاغته السلطة، ثم أُضيفت إليه "توابل" كثيرة ليتناسب مع أذواق الطبقة الحاكمة في العصور الإسلامية الأولى، فيُرفع من شأن من أرادت السلطة رفعه، ويُسقط من مكانة من أرادت طمس أثره. وهكذا أصبح التراث مزيجًا بين الحقائق والهوى، وبين النصوص والسلطان.
اذ يقول ابن الاثير (ت 630 هـ) " التاريخ فيه الغث والسمين، والحق والباطل، ومن نظر فيه بعين الهوى عمِي عن الحق"، واضاف على ذلك المسعودي (ت 346 هـ) في مروج الذهب اذ قال "إنما يُنظر إلى أخبار الملوك بعين السياسة لا بعين الديانة"، واما جمال الدين الأفغاني فيقول: "التاريخ إذا كتبه الغالب صار وسيلة لتثبيت حكمه وتجميل صورته، ولو على حساب الحقائق"
للأسف الشديد، ما زال معظم المسلمين يتعاملون مع التاريخ وكأنه نص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيرون ما فيه من روايات على أنه حقائق مطلقة لا يشوبها أي نقص أو تحريف. ومن تجرّأ على نقد هذه الروايات أو محاولة قراءتها قراءة نقدية، اتُّهم في دينه، ووُصف بالكفر أو الزندقة، أو أُلصقت به أبشع الألقاب.
وهذه الظاهرة ترجعنا الى ماحل في النسائي، فقد أشار ابن خلدون أن كثيراً من الأخبار "نُقلت على غير وجهها، وتُعُمد فيها إلى التزيد والاختلاق، والحامل على ذلك التشيع للآراء والمذاهب"، ويقول المفكر محمد عبده: "ليس العجب أن يكذب الناس على أهوائهم، إنما العجب أن يقدّس الخلف أكاذيب السلف."
للأسف الشديد، ما زال معظم المسلمين يتعاملون مع التاريخ وكأنه نص مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فينظرون إلى ما فيه من روايات على أنها حقائق مطلقة لا يشوبها نقص ولا تحريف. ومن يجرؤ على نقد هذه الروايات أو قراءتها قراءة نقدية، سرعان ما يُتهم في دينه، ويُوصم بالكفر أو الزندقة، وتُطلق عليه أبشع النعوت.
وهذه الظاهرة تذكرنا بما حلّ بالإمام النسائي، حين عوقب لأنه خالف أهواء العوام والسلطة. وقد أشار ابن خلدون إلى أصل هذه المشكلة حين قال: "كثير من الأخبار نُقلت على غير وجهها، وتُعُمد فيها إلى التزيد والاختلاق، والحامل على ذلك التشيع للآراء والمذاهب."
وهكذا ندرك أن التاريخ الذي وصل إلينا لم يكن دائماً مرآة صافية للحقائق، بل كثيرًا ما كان انعكاسًا لمصالح السلاطين وأهواء العوام. فقد كُتبت صفحاته تحت سطوة السيف، ورُسمت ملامحه بمداد المال، وزُيّنت بألوان المذاهب والولاءات. ومن ثمَّ فإن الواجب على القارئ المعاصر أن يُميّز بين الوحي المعصوم الذي لا يعتريه خطأ، وبين التاريخ البشري الذي دخله الوضع والتحريف والتزييف.
إن قراءة التراث بعين النقد لا تُنقص من الدين، بل تحفظه من أن يُلبس بثوب السياسة أو يُستغل لتبرير الباطل. وكما قال محمد عبده: "ليس العجب أن يكذب الناس على أهوائهم، إنما العجب أن يقدّس الخلف أكاذيب السلف."
فما أحوجنا اليوم إلى شجاعة أمثال النسائي والحلاج وغيرهما، ممن صدعوا بالحق ولم يخضعوا لسطوة السلطان ولا لإملاءات الجماهير، ليبقى التاريخ في موضعه الصحيح: تجربة بشرية قابلة للنقد، لا عقيدة مقدسة معصومة.
.
#صفاء_الصافي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟