الإنتماء الديني يحجم الإنتماء للوطن

محمد حسين يونس

الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 09:25
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

يقول بعض العلماء أن الإنسان العاقل لم يكن من أصل واحد بل من عدة أصول ظهرت في أماكن مختلفة من إفريقيا قبل حوالي 300,000 عام.. في ذلك الوقت كان الناس يعيشون في قطعان تتحرك بحثا عن الماء و الطعام ..تميزت بمرور الوقت بإستخدام الأله ( قطعة عظم أو حجر أو خشب ) ..و ايقاد النار .. و تطوير الاشارات و لغة التخاطب ... لقد كان فقد أى منهم لقطيعة معناة ان يصبح فريسة للكائنات العادية المحيطة ..و منها ابناء القطعان الأخرى ..و هنا اصبح الإنتماء مسالة حياة أو موت .
التطور التالي جاء بتحول هذه القطعان إلي قبائل .. لها نظم .. و قواعد ..و قوانين و تقاليد شفاهية .. و صاحب التكوين القبلي تطورفكرة سيطرة زعيم ..و ظهور الطواطم الحامي للناس ..و الإلتجاء للسحر .. و إستئناس الحيوانات و رعيها بدلا من صيدها و أكلها ..
ثم قدسية الإنتماء للقبيلة .. لقد كانت أقصي درجات العقاب .. هو عزل المذنب.. قرار إذا جرى إتخاذة معناه نفي للشخص المعاقب و تهديد سلامته .
الإنتماء القبلي عاش لالاف السنين .. القوة المحركة للبشر .. حتي تعلموا فنون البستنة و بناء المساكن ..و الإعتماد في طعامهم علي المحاصيل الزراعية و الدواجن و البيض ..و حيوانات إدرار اللبن ومصادر اللحوم و الجلود .. فتكونت القرى .. فالمجتمعات التي تضم أكثر من قرية .. يتصارع أهلها علي تنظيم إستخدام المياة .. و حماية المحاصيل و الدواجن ..و حيوانات القرية المستأنسة .
الحروب طورت أمرين .. إستخدام الأسلحة .. و اللجوء للطواطم الحامية للجماعة و التي يحملونها أثناء القتال
حوالي عام 3150 ق.م تكونت أول دولة موحدة في التاريخ، بعد إنتصار نارمر (مينا)، علي سكان الدلتا ..و اصبح لها عاصمة ..و جيش ..و ملك .. و نظم لإستخدام الماء .. و جمع الضرائب من أجل تسيير الدولة .. و الشيء الأكثر أهمية .. أن اصبح لهم دين ..و كائنات مقدسة ( نتر أو نتريت أو مجمع أرباب ) .
الغالبية العظمي من المصريين كانوا و لازالو بعد خمسة الاف سنة يؤمنون .. أن لهذا الكون رب .. صممه ..و أنشأه و سيره منذ قديم الأزل ..و أنه يحافظ عليه متواجدا .. مصانا في حالة حركة دائمة بواسطة كائنات مقدسة ( نترات ) .. لكل منها وظيفة ..ودور .. و أن الرب واجد نفسة من العدم أوجد أيضا مليارات الوحدات الكونية معلقة في السماء و وضع بذور الحياة علي الأرض .. و خلق مالا يحصي عدده من الكائنات التي يسيرها لهدف معلوم لديه سبحانه .
من بين هذه المخلوقات جاء الإنسان بتنوع الوانه و اصوله ..و قدراته .. هذا الإنسان مسير لأمر ما لا يعرفه إلا سبحانه .. يفوق عقولنا محدودة الذكاء و المعرفة و الرب مستقل عن ما خلق فهو لا يطلب منها إلا الطاعة و السلوك الحسن الذى لا يضر بالكوكب و ماعلية من كائنات .
الرب الأعظم.. له طرقة و وسائله .. في إدارة الوجود الجامد أو الحي .. البعض يقول أن العلوم التي نكتشفها يوم بعد الأخر هي في حقيقتها أسرارإلاهية تستخدمها (النترات )لإدارة الكون بامر ربها و أننا مهما تعلمنا فلن نستطيع أن ندرك جزء ضئيل من اساليب إستمرارية حركة الوجود الرب هو الذى يمنح الحياة والرزق ..و الصحة ..و النجاح .. و يختبر إرادة البشر بالأمراض و الكوارث .. و المصائب .. و الحروب منذ ابد الأبدين إلي يوم الدين ...
والرب عبر التاريخ حمل العديد من الاسماء أوزيريس أو رع أو أمون أو أتون أو إيل أو الوهيم و الروح القدس و الله ... تختلف في الوصف والأدوار و الوظائف و تتفق في كونها قادرة علي إدارة الوجود و الحياة ..و السيطرة علي البشر الذين وهبوا العقل و المعرفة .. كي يعبدوا خالقهم.. يقدمون له الولاء و الخضوع .. و ينفذ الصالحون منهم ما امر به . من وصايا .. ليحصلوا في النهاية علي حياة ابدية في الفردوس الأعلي .. حيث لا تعب و لا شقاء ..و لا مرض و لا إحتياج .. و كل متطلبات الحياة متوفرة .. بسخاء .
المصريون عبر الاف السنين .. لم يتغيروا .. في إيمانهم ..و إنتماؤهم للرب الأعلي و دينه .. و أوامره و نهاياه . .. في نفس الوقت يتضاءل .. الإنتماء للقطيع و القبيلة والقرية و الإقليم و الوطن و الإنسانية .. بل في بعض الأحيان مع الواصلين .. يختفي الإنتماء للنفس ..و تذوب الفردية في محبة الرب .
لذلك تولدت صفات للمصرى و (أصحاب الحضارات الزراعية عموما ) جرى توريثها جيل بعد أخر .. وهي النزوع للسلم .. عدم الثورة .. الإتكال علي مدبر الأقدار و الاقوات و محاولة العمل علي كسب رضاه
إعتبار أن الحاكم قد جاء بناء علي إرادة عليا .. لذلك عليهم سواء كان من الأبناء أو الغرباء .. أن يقدموا له ما بايديهم عن رضا ..و يسعون لتنفيذ مخططاته و أوامره التي يعرفها و يوصلها لهم كهنة و هبهم القدير .. المعرفة .. و الأخلاق الحميدة .. و نقل إرادته سبحانه .
المصرى لم يكن من المعتدين ..ولم يحارب إلا في حالتين تأمين مصادر مياة النيل ..و ردع البدو الذين يحاولون غزو حدوده من الشرق و الغرب و الجنوب .و سرقة محاصيلة و حيوانات الإطعام .
المصرى بعد ثورته الإجتماعية في نهاية عصر بيبي الثاني أخر ملوك الأسرة السادسة.. لم يثور.. ومنذ زمن أحمس و طرد الهكسوس في بداية الاسرة الثامنة عشر ..لم يقاوم المحتل و يخوض حرب تحرير .. و لم يستمتع الأحفاد بثمار تضحيات الأجداد إلا لفترات محدودة من الاسرة الثامنة عشر حتي الأسرة العشرين.. لقد كان للبعض هبات ....و لكن لم يكن لديهم ثورة مستمرة.. تعيد العدالة و الشفافية .. بين افراد المجتمع.
بكلمات أخرى .. تنقسم الحروب كما حدد لينين ( الإمبيالية أخر مراحل الراسمالية ) إلي نوعين أحدهما عدوانية إستعمارية. باغية ..و الأخرى تحريرية . عادلة .. الفارق كبير بين الجندى المنضم للجيوش العدوانية ..و ذلك الذى يقاوم المحتل ..و يسعي إلي الحرية
الجندى القادم مع جيوش الغزاة الذى يشارك في إستعمار البلاد .. و تجويع ناسها و قتلهم ..و تدمير منازلهم ومنشئاتهم..شخص غير متزن مرتزق يسعي خلف الغنائم و المكاسب ..في نفس الوقت جبان .. يهرب إذا واجه مقاومة جادة .. و يحاول قدر جهده أن يعود سالما بمكاسبة
الجندى المقاوم يتوقع الموت في أى لحظة و مع ذلك يحمل سلاحه ..و يهاجم قوات العدو .. بشجاعه .. مذهله .. دون تصور أن كفاحه سيكلل بالنصر .
الفارق بين العنصرين هو الإنتماء .. فالذى يدافع عن أرضه و اسرته و أملاكه لا بديل لديه إلا القتال .. ((الحرية أو الموت )) .. كما قال كزانزاكيس عندما قاوم اليونانيون الغزاة الأتراك .. أو حارب الأنصارالأوربيون جيوش هتلر و موسيليني .. ومع مقاومة رجال ماوتسي تونج للغزاة اليابانيون ..و و ثوار أمريكا ضد قوات الإحتلال الإنجليزى .
التاريخ يحكي بمحبة .. عن هؤلاء الذين قاوموا جنكيز خان و هولاكو .. وقبائل الجيرمان و الهون .. والفرنسيين في فيتنام و الأمريكان في افغانستان ..و السوفيت في المجر .
الصراع المنظم ضد المحتل .. تقوم به عناصر متضرره يقودها حزب له مباديء تؤدى إلي العدالة .. تجعل الإستقلال طريقا للحرية .. مفضلا عن الخضوع و الإستسلام .
لم نشهد هذا النضال في مصر إلا لفترات متباعدة ..البكلاوية ضد الرومان ..و البشمورية ضد المأمون .. والمطالبين بالجلاء في زمن الإحتلال البريطاني .. عدا ذلك كانت هناك هبات أو إنقلابات عسكرية لم تتطور أى منها لتخوض معارك طويلة المدى تنتهي بقهر الغاصب أو المستعمر و تكوين دولة الشفافية و العدالة و التنمية
السبب هو عدم تمكن مفهوم الولاء للوطن أو الإرتباط بسلامته .. المصرى لالفين سنة .. يعيش منتهكا مستعبدا في سخره لشق القنوات و تعبيد الطرق و بناء قصور الحكام ..و مهما ضحي ..و مهما قدم من جهد فالأمر لا يتغير.. المكاسب للمسيطرين و السجن و القتل و إستنزاف القوة للاقنان المسخرين من أجل رفاهيته الطغاة .
لقد إنزاح الرعب من فقد الإنتماء للقطيع ، فالقبيلة ، فالأسرة ، فالإقليم ،فالوطن .. أمام الإنتماء الديني
في تصورى أن المشكلة الأساسية التي أصبحت تواجه الناس اليوم هي الخلط بين الإنتماء الديني و الإنتماء لبلدهم ..و القدرةعلي الإصطفاف عند الحاجة في مواجهة الغزاة ..و التضحية من أجل سلامة و إستقلال وطنهم .
فالأغنياء من سكان الكومباوندات و الساحل الشمالي اللي بيعلموا ولادهم في الخارج .. عندما تبدأ العاركة لن تجدهم ..سيتحولون لأشباح ..سيهجرون قصورهم و سياراتهم و حراسهم .. و يلجأون للاوطان التي يحملون باسبورتاتها و يهربون لها ما نهبوه من اقوات الملايين .
أما الغلابة من المناطق الشعبية وسكان الريف .. فلا طريق أمامهم إلا السير في الصفوف الميرى المفروض عليهم ..حتي لا يسجن أو يضار ..ولكن في نفس الوقت لا يهدف لمواجهة عدو كي يدمره بقدر ما يبحث عن أسرع طريقة .. للرجوع لأرضة و بهايمه وعمله و ناسه .
شباب المدن (البرجوازية ) قد يغنون و يهتفون ..و يتحمسون (( ومدد مدد شدى حيلك يابلد )) و لكنها مجرد أغاني وشعارات تختفي عندما يقارنون حالهم التعس من بطالة .. و فقرر .. بما أعطت مصر للمحترفين من الأبناء
و هكذا لا تنتظر أن يصمد سكان المدن و القرى و الكفورأمام الغزوات الأجنبية بل سيتسألون كما فعل الأجداد لماذا أفقد حياتي أو اصاب و يسال دمي علي أرض المعركة ... بينما من سيحصل علي الأوسمة و الأموال .. و الراحة .. هم من لم تتلوث أحذيتهم بتراب الميدان.
التشرزم الذى حدث لابناء هذا الوطن .. بما في ذلك التميز الذى يتمتع به البعض .. بدون سبب .. و العوز و الفقر الذى يعاني منه المجدين .. لن يجعل الإصطفاف الوطني بديهية .. كما شاهدناه في الحروب السابقة عندما كان يبني المصرى مدارس و مستشفيات ..و مصانع .. و منازل شعبية لنفسه ..و لم يكن هناك من يحاصره لبناء القصور و المنتجعات
إن الحكام . منذ 2011 ..يرون أنفسهم الأعقل و الافضل.. و الأجدر بقيادة ناس هذا المكان .. فهمشوا الناس..و رشوا ضعفاء النفوس أمام صناديق الإقتراع .. و غيروا قيمة العملة ..و سحقوا الطبقة الوسطي و افقروها ..
حسنا فليدافعوا عن مكاسبهم .. و يحموها .. و يضحوا في سبيلها .. ورونا شطارتكم ... حنسقف لما تكسبوا .. و حنهتف لكم ..و نخليكم طول العمر أسيادنا.. بس إكسبوا
هذا ليس إستناجا .. أو رؤية ..او محاولة للفهم .. إنه واقع رايته .. عندما أرسلوا لنا في سيناء عام 67 .. ضباطا او عساكر إحتياط بملابسهم المدنية .. فلم أسمع منهم إلا الشكاوى و محاولة الفكاك ..من الورطة اللي وقعوا فيها .
الشعوب لا تحارب ..و تضحي ..و تصارع .. و تعمل و تنجز ..إلا عندما تشعر بالإنتماء .. و الإنتماء لا يأتي إلا مع الأمن في مجتمع يسمح لمواطنيه بالنموو الكسب و العدالة .. ولا يتعرضون فيه للسرقة أو القتل أو السجن أو الإختفاء.
في السلم .. يستطيع من يحمل البندقية ..فرض الهدوء ..و السكون .. و لكن في الحرب .. لن يمتلك شجاعة القتال إلا المؤمن بعدالة قضيته .. و يقينه أن النصر لن يسرقه منه الأخرون .

#محمد_حسين_يونس (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل