عائد ماجد
كاتب
(Aaid Majid)
الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 10:12
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كارل ماركس لم يتناول الدين بشكل منفصل عن القضايا الأخرى التي تدور في المجتمع، فقد تناول الدين مع تلك الأفكار. ولا يمكننا إنكار رأي ماركس عن الدين، فهو غير مؤمن به كونه فيلسوفًا ماديًا، لكن ما أضاف التعقيد لرأي ماركس عن الدين هو أنه لم يتناول الدين بمعزل عن الأفكار، فيضعه مع الأفكار التي تقودها السلطة التي ينتقدها تارة، ونجده يصف الدين بأنه ضمنيًا يعد رفضًا لواقع بائس. فلا يمكننا حسم موقفه على رأي مطلق، لأنه كان ماديًا غير مؤمن، وبنفس الوقت لم يكن من دعاة الإلحاد آنذاك. وبشكل عام يمكننا تقسيم موقف ماركس عن الدين إلى قسمين:
أولاً: الدين في ذاته. نقرأ في مقالة “نقد فلسفة الحق عند هيغل 1844” لكارل ماركس:
“إن التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعب. إن إلغاء الدين، من حيث هو سعادة وهمية للشعب، هو ما يتطلبه صنع سعادته الفعلية. إن تطلب تخلي الشعب عن الوهم حول وضعه هو تطلب التخلي عن وضع بحاجة إلى وهم. فنقد الدين هو بداية نقد وادي الدموع الذي يؤلف الدين هالته العليا”. [1]
هنا يعبر ماركس عن أن التعاسة الدينية تظهر بسبب المعاناة من الواقع في المجتمع من ظلم واستبداد، فالناس يتجهون إلى الدين ليعبروا عن معاناتهم. لكنه في الوقت نفسه ليس استسلامًا بل أيضًا احتجاج غير مباشر؛ لأن الإنسان حين يشكو إلى الله، فهو يعترف ضمنًا بأن واقعه ظالم ومجحف.
الدين هنا في حياة الفرد أشبه بنفس يعزيه في عالم قاسٍ بلا قلب، لا معنى له خارج عيني الفرد داخل هذا الدين. وماركس لا يرى أن إلغاء الدين هي القفزة التي يجب تحقيقها، بقدر ما هو مؤمن بأن إلغاء هذا الواقع الطبقي سيؤدي إلى إلغاء هذا الدين بشكل تلقائي، لأنه يعد سعادة وهمية غير حقيقية تنسي الناس تعاسة الواقع. وما نحتاجه عند ماركس هو السعادة الحقيقية من خلال تغيير الواقع البائس؛ فالدين مثل الأفيون يخدر ويسكن الألم، لكنه لا يعالجه، وما يريده ماركس هو معالجة الألم.
خارج محور الدين في ذاته غالبًا ما يتم استخدام هذا النص لماركس لمحاولة التوفيق في بعض الشعوب المتدينة بين الدين والماركسية، وهذا فهم خاطئ لقول ماركس. فهو هنا لا يقبل الدين ولو بشكل ضمني، إنما يضع يده على ماهية الدين في حياة الفرد. فلا يمكننا أخذ هذا النص كموافقة على الدين داخل الفلسفة الماركسية التي تعد فلسفة مادية غير مؤمنة بأي وجود خارج عالم المادة. وفي هذا المحور لم يقم ماركس بأي شيء غير وضع يده على الدين وتحليله كماهية في حياة الفرد. لكن عندما ينظر ماركس إلى الدين كفكرة في المجتمع، فهذا ينقلنا إلى المحور الثاني.
ثانيًا: الدين كفكرة للسلطة. نقرأ في كتاب “الأيديولوجية الألمانية” لكارل ماركس وفريدريك إنجلز:
“إن أفكار الطبقة السائدة هي في كل عصر الأفكار السائدة أيضًا، يعني أن الطبقة التي هي القوة المادية السائدة في المجتمع، هي في الوقت ذاته القوة الفكرية”. [2]
في مناطق أخرى نجد ماركس يتحدث عن أنواع الوعي، آخذًا الدين معها أيضًا، كما في قوله:
“إن هذا التصور للتاريخ يتوقف على قدرتنا على توسيع عملية الإنتاج العملية، منطلقين من الإنتاج المادي للحياة بالذات، أنه يدرك شكل التعامل المرتبط بهذا النمط من الإنتاج والمكون من قبله – يعني المجتمع المدني في مراحله المتنوعة – على اعتباره أساس التاريخ برمته، الأمر الذي يستقيم في إظهار هذا المجتمع في عمله من حيث هو الدولة، وكذلك في تفسير جميع المنتجات النظرية وأشكال الوعي المختلفة من دين وفلسفة وأخلاق، والخ”. [3]
في هذا المحور يمكننا أخذ الدين بوجهه الآخر عند كارل ماركس، وهو الدين كفكرة في المجتمع بحال كان فكرة للطبقة السائدة. هنا يكون الدين أداة للطبقة السائدة بما يدعم مصالحها، كونها ستكون المسيطرة على الإنتاج الفكري بما فيه من فلسفة ودين وأخلاق، وما إلى ذلك من النتاج الفكري. وهذا ما قد يؤخذ في بعض الأطر كتناقض عند كارل ماركس بين الدين في ذاته، كما بينا فيما سبق، وبين الدين كفكرة. وكل طرف يجر الحوار بما يدعم مصالحه من الفلسفة الماركسية، فنجد المتدين يجر الحوار لنفسه في تعريف الدين عند ماركس، ونجد الملحد يجر الحوار لصالحه في ذم الدين كونه أداة بيد الطبقة الحاكمة. وكلتا الحالتين اختزال سطحي لهذه المفاهيم، وكلا الرأيين يحتمل النقد بعدة أوجه. وأستطيع تقسيم النقد إلى قسمين:
نقد المفهوم عند المتدين: بالنسبة للمتدين، فنحن نجد عنده محاولة لتوفيق الفلسفة الماركسية التي لا تؤمن بوجود خارج المادة مع الدين، وهذه معضلة فكرية، لأنك تكسر أسس الفلسفة بمحاولة التوفيق بينهما. ويتم أخذ تعريف ماركس للدين على أنه موافقة على الدين في الفلسفة الماركسية، وهذا لم يحصل، لأن ماركس ناقش ماهية الدين، وهذا لا يعني أنه مدافع عنه، لأنه ذم الدين في نفس النص واصفًا إياه بالسعادة الوهمية التي يجب التخلص منها بإقامة سعادة حقيقية من خلال تغيير الواقع. فلو كان ماركس مدافعًا فعلًا، لوجدنا ماركس الواعظ، لا ماركس الفيلسوف المادي الذي ينتقد الدين في أوجه عديدة.
نقد المفهوم عند الملحد: في هذا الوجه غالبًا نجد المتصدي هو الملحد الأيديولوجي الذي يأخذ رأي ماركس عن الدين بأنه الرفض والذم وعدم القبول التام بما يوافق متبنيات الإلحاد الأيديولوجي الذي يأخذ به هو. وفي هذه الحالة أيضًا، هذا لا يعد رأيًا دقيقًا.
لأننا وكما نعلم أن ماركس سيكون ضد الدين كسعادة وهمية، وضد الدين إذا كان جزءًا من أفكار الطبقة الحاكمة، الذي سيكون في هذه الحالة أداة استبداد بيدها. ولا توجد ضرورة تجعل الدين من أفكار الطبقة السائدة في كل عصر. لذا فإن محاولة الذم على هذا الأساس مبنية على افتراض غير مبرر، وهو أن الدين يجب أن يكون جزءًا من أفكار الطبقة الحاكمة.
وإذا أردنا تلخيص رأي ماركس بهذا الشأن، فإن ماركس كان ماديًا لا يمكن أن نراه مدافعًا عن الدين، وهذا أمر لا نقاش فيه. وماركس بنفس الوقت ليس الملحد الأيديولوجي الذي يبني نقده ورأيه على افتراض غير مبرر. فماركس هو الرافض للسعادة الوهمية، فلا يمكن جر ماركس إلى ساحة القبول أو ساحة الناقم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] نقد فلسفة الحق عند هيغل
[2] الأيديولوجية الألمانية، صـ56
[3] الأيديولوجية الألمانية، صـ49 – 50
#عائد_ماجد (هاشتاغ)
Aaid_Majid#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟