مرتضى العبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8462 - 2025 / 9 / 11 - 14:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في سائر بلدان العالم أو في أغلبها، يمثل شهر سبتمبر شهر الاستعداد للعودة بكل ما يحمله هذا المصطلح من معان، وهو ما يفترض أن البلاد كانت في حالة ما وتستعدّ الى الانتقال الى حالة مغايرة. فيكون الحديث عن العودة السياسية (وهي أمّ العودات) والعودة المدرسية والعودة القضائية والعودة الاجتماعية والعودة النقابية بل وحتى العودة الثقافية والرياضية. وتشرئبّ الأعناق نحو هذه الجهة أو تلك للتساؤل عمّا ستحمله هذه المناسبة من جديد.
والحديث عن العودة يعني ضمنيا أن ما سبقها كان يعني نوعا من "توقف للتاريخ" لفسح المجال الى نوع من "الهدنة" على جميع الأصعدة المذكورة يستعيد فيها المواطن أنفاسه ويتمتع – بقدر ما تسمح به إمكانياته المادية – بقدر من الراحة قبل العودة الى طاحونة الشيء المعتاد بالتزاماتها وإكراهاتها، وهو يتطلّع لما قد تحمله "العودة" من جديد. لذلك يشهد شهر سبتمبر عادة تنظيم لقاءات "مصيرية" تكشف فيها مكوّنات المجتمع عن برامجها للسنة القادمة، فتلتئم الهيئات القيادية من هيئات إدارية ومجالس وطنية ومجالس مركزية الخ... لكن تبقى الأنظار متجهة أساسا الى السلطة التنفيذية ممثلة في أعلى هرمها بحثا عن بعض ما يسرّ من أخبار أو إجراءات قد تحسّن الظروف المعيشية لبعض الفئات ولم لا لعموم الشعب.
صيف 2025 لم يشهد أي نوع من الهدنة
لكن الملاحظ أن صيف 2025 لم يشهد كسابقيه أيّ نوع ممّا يُتعارف على تسميته بالهدنة، إذ أن الحراك الاجتماعي الذي سجل تصاعدا مطّردا خلال السداسي الأول من العام الجاري ببلوغه 2387 تحركا لم يهدأ خلال الموسم الصيفي. فما أن أطلّ شهر جويلية برأسه حتى اندلعت انتفاضة الأطباء الشبان ضدّ سياسات التهميش والتنكيل كاشفين المستور لا عن واقعهم المزري فحسب بل وكذلك عن ظروف العمل اللاإنسانية وعن النقائص الخطيرة في المؤسسات الاستشفائية التي لا تليق بقطاع هو أحد ركائز “الدولة الاجتماعية” المزعومة.
ومع تتابع الأيام، اتضح أن حراك الأطباء الشبان ليس حركة معزولة، بل كان بمثابة إشارة الانطلاق لحركات انطلقت تباعا لكي لا تتوقف خلال كامل الموسم والتي يعسر ذكرها جميعا. فكان حراك أصحاب الشهادات المعطلين الذين طالت بطالتهم والذين يعيشون مرّ المعاناة منذ إلغاء المرسوم 38، وقد نظموا تحرّكات في عديد الجهات (تونس، سيدي بوزيد، القيروان، سليانة...)، مذكرين أن التشغيل حق دستوري، واستحقاق لا يسقط بالتقادم. وقد دأبوا في قفصة مثلا على تنظيم وقفات منتظمة أمام مقرّ الولاية بصفة أسبوعية.
وكان اعتصام الدكاترة الموعودين بالعمل منذ زيارة الرئيس إليهم سنة 2021، والذين يئسوا من تفعيل تلك الوعود المعسولة، فالتجأوا الى الاعتصام مجددا في مقرّ وزارة التعليم العالي وأمام المسرح البلدي، الى أن زارهم الرئيس، مجددا لهم الوعد بتشغيلهم في أعلى مراتب الوظيفة العمومية التي هم أهل لها رغم غياب التجربة لديهم، بل يكفيهم أنهم "وطنيون" في جوهرهم وقادرون على تعويض المندسّين في تلك المواقع والذين يعرقلون تنفيذ مخططات "العبور" ضمن إطار "حرب التحرير الشاملة" الذي يخوضها الشعب التونسي دون أن يكون له علم بذلك.
والجديد هذه السنة الحراكات المتعددة والمتفرّقة لآلاف العمال والعاملات ضحايا “إلغاء” العمل بالعقود محدّدة المدة والذين سارع أعرافهم الى طردهم قبل صدور المرسوم المنظم للتشغيل الهش وبعده والذين لم يكفّوا عن تنظيم الاحتجاجات منذ فصلهم، والذين تفنّن أرباب العمل في الهزء بهم: "امشيو لقيس سعيّد يخدّمكم".
وبين هذا التحرك وذاك، حمل فصل الصيف أخبار تحرّكات لم تهدأ للمواطنين الذين عانوا ويلات العطش خلال صيف قائض حطمت فيه درجات الحرارة الأرقام القياسية.
عن البطحاء وأحوازها
غير بعيد عن شارع بورقيبة الذي تحوّل منذ 2011 الى محرار يُقاس به المزاج الشعبي العام، استعادت بطحاء محمد علي نبضها وحركيتها التي جاءت بها سلسلة الإضرابات التي تم تنفيذها أو التلويح بها قبل تأجيلها لعديد القطاعات الحيوية وعلى رأسها قطاع النقل البري الذي نفّذ عمّاله إضرابا لثلاثة أيام متتالية في بداية شهر أوت والذي جعل قطاعات أخرى تلوّح بالإضراب كقطاعات الكهرباء والغاز والنقل الحديدي، مما أجبر إدارات هذه المؤسسات على الجلوس الى طاولة المفاوضات أدّت الى تأجيل بعضها. كما نفذت عديد القطاعات الأخرى تجمعات احتجاجية أمام الوزارات المعنية للمطالبة بتفعيل الاتفاقات الممضاة في أوقات سابقة وفتح باب التفاوض من جديد مع الهياكل النقابية في ما تراكم من مشاكل أدّت الى تعكير مناخ العمل في القطاعين العام والخاص.
وتحسّبا لتطوّر هذه الحركة الاحتجاجية، ونحن على أبواب العودة، شُنّت على المنظمة النقابية حملة مسعورة كانت عبارة على إشارة الى المرور لما هو أفدح، إذ أقدم بعض أنصار "المسار" من عناصر الحشود الشعبوية على محاولة اقتحام المقرّ المركزي للاتحاد في عملية جسّ للنبض تُقرَّر على إثرها الخطوات اللاحقة. إلا أن هذه العملية، كأخواتها السابقات (1978، 1985، 2012)، باءت بالفشل وعادت بالوبال على منفذيها وأسيادهم، إذ أنها ساهمت في رأب الصدوع بين النقابيين، على اختلاف مواقفهم ممّا يحدث في البطحاء وأحوازها، فهبّوا للدفاع عن القلعة التي أريد لها أن تسقط. وتكرّرت المحاولة بجهة صفاقس، ولاقت نفس المآل. وهو ما جعل العديد من النقابيين يطالبون بعدم السكوت على هذه المناوشات العدوانية الى أن تمّ تنظيم تجمع عمالي حاشد في الحادي والعشرين من أوت في البطحاء ذاتها وتنقل الى شارع بورقيبة لإبراز مدى تمسّك القواعد النقابية بـ "خيمتهم" وعزمهم عن الدفاع عليها كمكسب وجب حمايته.
استعداد السلطة للعودة: التبشير بالثورة الدائمة
أما من جانب السلطة، فقد كان اجتماع مجلس الوزراء الذي ترأسه قيس سعيد يوم 29 أوت الماضي، وبالنظر الى محتواه، عبارة عن إيذان بالعودة "الحكومية"، إذ أنه تم التطرق فيه الى كيفية استعداد الدولة لمواجهة مختلف الاستحقاقات المباشرة منها ومتوسطة وبعيدة المدى، وهو ما وضّحه الرئيس في الخطاب التوجيهي الذي تلاه على مسامع المجلس الموقّر والذي قدّم فيه وصفاته لمعالجة القضايا المطروحة. فكان الحديث (حسب ما ورد في بلاغ الرئاسة) عن "الظواهر غير الطبيعية في سير عدد من المرافق العمومية" والتي لم تجد حكوماته المتعاقبة طريقة لوضع حدّ لها رغم "وعي الشعب التونسي وإدراكه لكل الحقائق ولكل التفاصيل، وهو الذي سيحبط كل من يحاول بث الشك وزرع اليأس والإحباط"، "مؤكّدا على أن خيارات الشّعب ستجد طريقها إلى التنفيذ رغم كيد الكائدين".
وتعرّض رئيس الدولة مجدّدا إلى "الدولة الاجتماعية" مشيرا الى أنها ليست مجرد شعار وأن الأمر لا يتعلّق بقطاع بل بكل القطاعات وبالوطن العزيز كله"، من ذلك "أن من طالت بطالتهم ستزول كل العراقيل أمامهم حتى ينالوا حقوقهم المشروعة"، و "وأن أصحاب الشهائد لن يقبلوا إلا بالانتصار وستفتح أمامهم قريبا الآفاق التي ينتظرون".
ثم انتقل للحديث عن مسالك التوزيع ووضع تصوّر جديد لها، وهو ما يستدعي إرساء مقاربة جديدة تضع حدّا نهائيا للمضاربة والاحتكار ولممارسات اللوبيات. وهو من المواضيع العزيز على قلبه والذي باشر مقاومته منذ بداية عهدته الأولي والذي يبدو أن لا حل له في المدى المنظور، إذ أن لا التشريعات الموضوعة حديثا ولا أساليب الزجر كانت كافية لتفكيك هذه الشبكات الشيطانية التي تؤرّق الشعب التونسي وحكومات الرئيس.
كما تمّ التطرّق إلى العودة المدرسية والجامعية المقبلة، وفي هذا الإطار أشار رئيس الدّولة إلى أن هذه العودة ليست مجرد حدث عادي بل هي استثمار في مستقبل البلاد وأجيالها القادمة. لكنه لم يتطرّق الى المصاعب التي تعانيها العائلات في هذه المناسبة بدءا من مهزلة التسجيل عن بٌعد الذي لا يُعتبر ساريا إلا إذا ما قدّم التلميذ أو وليّه ما يثبت أنه قام به مصحوبا بالرزمة "الضرورية" من الوثائق غير الضرورية، الى غلاء أسعار المواد المدرسية ومعاليم الكراء بالنسبة للطلبة غير الحاصلين على السكن الجامعي وهم الأغلبية الساحقة.
وخلص رئيس الدولة إلى التّأكيد على أن الثّورة التشريعية لوحدها غير كافية، بل يجب ان تكون مشفوعة بثورة إدارية تتوّج بثورة ثقافية لا رجوع بعدها إلى الماضي البغيض وإلى الوراء.
وهكذا، عاد السادة الوزراء، كل الى موقعه، مزودين بباقة من الشعارات، عليهم التصرّف فيها لتحويلها الى حلول عملية يواجهون بها مطالب منظوريهم الذين ينتظرون العودة علّها تفتح لهم بريقا من الأمل بعدما شربوا حتى الثمالة من معسول الكلام والوعود.
#مرتضى_العبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟