علي محمد اليوسف
كاتب وباحث في الفلسفة الغربية المعاصرة لي اكثر من 22 مؤلفا فلسفيا
(Ali M.alyousif)
الحوار المتمدن-العدد: 8460 - 2025 / 9 / 9 - 10:21
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أهم انواع التعبير اللغوي التي يمتزج فيها الادراك العقلي مع اللاشعور المتسامي نحو المثال والاتحاد والحلول في الذات الالهية ، هي لغة الخيال التصوفي ، فالمتصوف أو العرفاني ينطلق بحسب رأيي من منطلق أسهل انواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه وأستيعابه..والعواطف والوجدانات العميقة الّثرّة المتسامية العميقة الصوفية هو ما تعجز اللغة التعبير عنه.وهو ما عبّر أحد الفلاسفة عنه قوله أن ما تعجز اللغة التعبير عنه هو الاكثر أهمية وجمالا من المعبّرعنه.
من هذا المنطلق يعتبر تعطيل فاعلية اللغة التواصلية مع الآخر المتلقي المحاور قاصرة تماما في حال مرور المتصوف بتجربة الكشف الاستبطاني وحالة التسامي الذي يّشل الحواس والادراك الشعوري الواعي للعقل ، اللغة الصوفية تأتي على شكل تداعيات ومرموزات وشطحات لغوية فكرية تخييلية منجذبة نحو التعالي على/ فوق الواقع الحسي والتعالي على العقل أيضا في تغليب الوجدانات العاطفية الروحية التي تعجز اللغة إحتوائها.
لغة المتصوف غائبة تماما عن مجريات الحياة والمحيط والوجود الانساني الاجتماعي للآخر بجميع اشتمالاته المادية ، ما عدا الشحن الوجداني العاطفي اللاشعوري المرتبط بأمعان ورغبة التدرج في معارج الكشف نحو بلوغ المثال المتسامي ونشدان الوصول الى مراتب متقدمة من الخالق والذات الالهية.
لغة التصوّف ترتبط بحالة اللاشعور في تغييب الوعي والحس المادي ليلتقي بهذاءات المرضى العصابيين الى حد ما مع فارق أنه في بعض الحالات التصوفية كما هي عند ابن عربي والحلاج والنفري وابن الفارض والسهروردي وغيرهم، (لغة) تحمل مدلولات تواصلية فلسفية مع الآخر يتداخل فيها الوعي الشعوري والادراكي بتسجيلها لكنما يبقى الغموض فيها سيّد الموقف في تعقيد وصعوبة التعبير اللغوي عن التجربة الصوفية . في حين تكون مثل هذه الفعالية التواصلية بقدرات اللغة والتعبير معدومة تماما في هلوسة وهذيان الانفصامي العصابي المريض عقليا ، وهذا ينطبق أيضا على الكثير من التجارب الصوفية غير الناضجة في عجزها اللغوي التعبيري لإحتمالين هما إما أن تكون تجربة المتصوف كاذبة غير حقيقية, وإما أن لا يجد المتصوف لغة لا تعدم تجربته الانفرادية.
كلا التعبيرين اللغويين لغة التصوف وهذاءات مرضى العصاب يتقاسمان صفة لغة الخيال اللاشعوري غير المنتج (بكسر التاء) انطولوجيا - سيسيولوجيا في تغييب الوجود الواقعي العقلاني للفرد والمجتمع,وأعدام فرص التواصل بالآخر...أمام الاندفاع في خلاص الفرد صاحب التجربة الصوفية قبل كل شيء.. فالصوفية ترجع الى أصولها القارة انها تجربة دينية في علاقة مميزة تربط الخالق بالمخلوق بانفرادية فوق عقلية بالنسبة لغيره..
لغة التصوف تلغي الفاعالية الواقعية العقلانية في جانبين: تلغي فاعلية الوجدان المنتج ماعدا استثناءات تجارب صوفية ناضجة غير مبالغ بها ولا مفتعلة مجال اشتغالها التعبيري الشطحات الصوفية اللغوية على شكل ومضات حكمية وأقوال ملغزّة باطنية نجدها في مجال قول الشعر الملغّزالغامض وفي بعض النثر , وأعدام رقابة العقل على اللغة المنطوقة تصّوفيا,يتجلى ذلك في عدم قدرة المتصوف ضبط تداعيات اللغة التعبيرية المنطوقة عنده, بمنطق لغوي نسقي منّظّم يستطيع التواصل مع الآخر بعيدا عن شطحات التفكيراللغوي وتداعيات اللاشعور في صعوبة توصيل التجربة الذاتية من خلال إمكانية المتلقي فك مرموزات اللغة الاشارية الملغزّة , بما يخدم تجربة المتصوف والمتلقي معا.
أن محاولة الطلب من صاحب التجربة الصوفية نقل تجربته الى واقع لغوي تواصلي هو ضرب من الاجهاز على حقيقية صدق التجربة ذاتها في إنفرادها النوعي أنها لا تعني الاخرين من البشر..فالصوفي لا يقوم بتجربة التصوف من أجل نقلها للاخرين بل من أجل الاتحاد الفرداني له بالخالق النوراني..
الجانب الثاني من الألغاء في لغة المتصّوف يتمثل في تخريب الاخصاب التخييلي المنتج ماديا وليس التخصيب المتسامي روحيا,في عجز التعبير التصوفي , وفي اللقاء مع هذاءات العصابي الانفصامي في عجزهما المشترك أن يكون تعبيرهما اللغوي لغة تواصل يعّتد الأخذ بها ,فقط باستثناءات تجارب صوفية متقدمة يمكن أن يكون التواصل التصوفي مع المجتمع متحققا فيها أشرنا لها سابقا وهي لا تخلو من شطحات غريبة تدينها ليست في صالح تجربة التصوفي.
اذن ما الفرق بين غطرفة وهذاءات الانفصامي,وبين شطحات المتصوف اللغوية التعبيرية !؟ هذاءات العصابي وهلوسة الانفصامي المرضية تصدر عن غياب تام لتداعيات الشعور التخييلي الحلمي المنتج في الإحساس بالواقع المادي والمحيط, بخلاف ما نجده عند المبدع والفنان من تداعيات الشعور الخلاق المرتبط بوثيق الصلة مع الطبيعة والواقع الاجتماعي , فهي عند العصابي تخيّلات لا شعورية مكبوتة أنفصامية تفصح عن نفسها بصعوبة ,في تعبيرات مشّفرة ناقصة المعنى المفهومي من اللغة, تعبيرات سائبة غير منظمة ولا منضبطة سطحية وانفعالية هستيرية,غير مفهومة ولا متسّقة تعبيريا,طلاسم لغوية مغلقة على عوالم خيالية مرضية أنفصامية لا رابط لها مع الاخرين والواقع أو المحيط.
الخيال اللاشعوري عند المتصّوف يطرح لغة مفككة أيضا لا تعطي فهما ومعنى منظّما في إدعاء أن التجربة الصوفية فوق اللغة وفوق إدراك الاخرين لها ولا يمكن وصفها ولا التعبير عنها باللغة, ومن هنا تلتقي لغة المتصوف مع هلوسات العصابي ,ويفترقان كليهما عن لغة الخيال الابداعية المنتجة كما نجدها عند الفنان أو الاديب الذي يعود الى الواقع من رحلة الخيال بحصيلة فكرية أو فنية. في حين يبقى زعم الصوفي أن تجربته هي فوق الوصف وقدرة إحاطة العقل العادي بها أو أنه لا يستطيع التعبير عنها بالكلمات كونها فوق اللغة وفوق المدركات الطبيعية وخارقة لقوانين الطبيعة. هذا الادعاء لا يمكنه إستحصال البرهنة على صدقيته بوسائل عقلية خارج تجربة المتصوف الانفرادية.
يقترب هيدجر في تناوله وظيفة اللغة في التجربة الصوفية ,أنها لغة رمزية صعبة وعسيرة في التعبير عن تجاربهم ومعاناتهم التصوفية,أذ يعجز المتصوف نقل أو تمييز الوجود,عن نسيان الوجود الحقيقي, وهذا يوقع المتصّوف في حالة من تغييب الوجود عقليا وحسّيا ,ويعيش حالة من المثالية العرفانية في تجربته الذاتية الصرف.
أما افلوطين وهو فيلسوف صوفي هلنستي عاش في الاسكندرية فيقول أن الصوفي يجد صعوبة في أستخدامه اللغة أثناء المرور بالتجربة الصوفية لكنه يستطيع أستخدامها بعد التجربة عندما يتذكرّها بعد برودة عاطفة الانجذاب لديه لكنها تكون لغة فاقدة حرارة التجربة الصوفية الحقيقية.
كما يعيب براتراند رسل على المتصوفة عقم وعجز اللغة عندهم ,بأنها عاجزة أن تقول شيئا يعتد ويؤخذ به.كما أن العلم من وجهة نظره أيضا يسخر من اللغة الصوفية سخرية لاذعة.ويتراجع براتراندرسل قليلا في أهمية التصوف في كتابه الفلسفة الغربية المعاصرة قوله (لقد شعر عظماء الرجال من الفلاسفة بالحاجة الى العلم والتصوف معا, وأن وحدة المتصوف مع رجل العلم تشكل أعلى مكانة مرموقة). ولا غرابة في انتقالات رسل الفكرية والفلسفية فهي معهودة لديه, اذ كان له الريادة الفلسفية في الهجوم على الصوفية وإعتبارها مناقضة للعقل ومعطيات العلم التجريبي الذي يستبعدها تماما..
وفي المنحى ذاته يذهب جورج باتاي قوله ( أن التجربة الايروسية- الشبقية تتوازى مع التجربة الصوفية في كونهما فيضين لا تستوعبها اللغة).من هنا يمكنني التذكير بأهمية العبارة التي أوردتها سابقا حين أشرت أن المتصوف ينطلق من واقعة أن أسهل أنواع العاطفة والوجدان هو ما تستطيع اللغة التعبير عنه وأستيعابه.على إعتبار التجربة الصوفية هي غوص في مسالك الكشف الاستبطاني المتسامي المتعالي, التي تنعدم معها أن تكون اللغة ذات جدوى تواصلية مع الآخر.هنا بحسب هذا الفهم لانستغرب ربط جورج باتاي بين التجربة الصوفية والتجربة الجنسية والتقائمها في أن اللغة بكلتا التجربتين تتماهى في العجز واستعصائها تحقيق التواصل بالآخرلغويا.فالذروة الجنسية في عملية الجماع تجعل من الرعشة العصبية الايروسية تعطيل تام للعقل في إستشعاره لغة تعبير عما يحس به أثناء التجربة الحميمة.
أما الشاعر المفكر ادونيس فيعتبر لغة التصوف (الاسلامي) هي لغة استكشاف معرفي في الدين والفلسفة والوجود.وأن السرياليين أخترعوا الكتابة الاوتوماتيكية— يقصد بذلك كتابة تداعيات اللاشعورفي تغييب الوعي بتعاطي المخدرات - وألغاء العقل وأستخدموا لذلك المخدرات. ويضيف أن المتصوف ألغى رقابة العقل بالسيطرة الذاتية على الجسد...وسميّ آنذاك الكتابة (الهيا سماويا) وهي ذاتها الكتابة التي نادى بهاالسورياليون.(اندريه بريتون في الشعر, وسلفادور دالي في الرسم والتشكيل,والى حد ما في أدب اللامعقول عند صوموئيل بيكيت وكافكا وأوجين أونيسكو.).
هنا أدونيس أستخدم عبارة ألغاء العقل عوضا عن تغييب تداعيات اللاشعور الحلمي المنتج في كتابة الشعر وأنتاجية الفنون التشكيلية كما في السريالية والتجريد الفني. وهذا الخيال الانتاجي الخصب عند الفنان أو الاديب يختلف جذرياعن المخيال المعّطل غير المنتج عند المتصوف,الذي يتأرجح بين تغييب الرقابة العقلية والحسّية,وبين تداعيات اللاشعور عندما تكون اللغة أقرب الى الهلوسة والهذاءات عند العصابي أو المجنون. بأختلاف بسيط أن المتصوف يعي عجز اللغة عنده في تحقيق التواصل مع الآخر,وقدرته أحيانا على البوح بأفصاح تعبيري لغوي يتجاوز هذاءات المجنون المغلقة.بينما هي غير ذلك عند المجنون في هذاءاته بلا معنى ولا ترابط لغوي مفهوم.
اما المفكر محمد عابد الجابري يرى أن الحقيقة في التصوف الاسلامي هي عندهم ليست الحقيقة الدينية,ولا الحقيقة الفلسفية,ولا الحقيقة العلمية,بل الحقيقة عندهم هي الرؤية السحرية للعالم التي تكرسها الاسطورة.وأن العرفان(التصوف) يلغي العقل, ومن حق العقل الدفاع عن نفسه ليس بالطريقة السحرية بل بالتحليل العقلي. واضح أن المفكر الجابري يضع التجربة الصوفية خارج إدراك العقل.
اود توضيح نقطة مررنا بها سريعا, هي ما الفرق بين لغة الابداع الادبي - الفني ولغة التصوف!؟
أن فرويد تعامل مع الخيال بوصفه مصدر الألهام وخزّان الابداع,وكشف تأثير اللاشعور في السلوكيات المنحرفة والسلوكيات السّوية على السواء.وهناك نظريات في علم النفس لا يستهان الأخذ بصحتها تذهب الى ربط وأقتران العبقرية العابرة للمعتاد الطبيعي بالجنون, ولعل تجارب عديدين من مشاهير الفلسفة والادب هم ممن تنطبق عليهم هذه المواصفات ياتي في مقدمتهم دوستوفسكي وهولدرين الشاعر الفرنسي وفوكو ونيتشة والتوسير وليتريامون وغيرهم كثيرون لا يمكن حصرهم..
برأينا الفنان كالعصابي المريض أو المنفصم الشخصية كلاهما ينسحبان من الواقع المحسوس والمدرك عقلانيا الى دنيا الخيال والاغتراب غير المحدود اللامتناهي , بخلاف جوهري مهم جدا أن العصابي المريض لايستطيع العودة من رحلة الخيال الى واقع الحياة والمجتمع ثانية , وأن ما يبتدعه له الخيال من واقع وهمي يتصوره ويتعامل معه أنه الواقع الحقيقي والحياة السوّية. في حين أن الفنان المبدع أو الاديب صاحب الفعالية الابداعية يستطيع العودة ثانية من رحلة الخيال الى واقع الحياة, وبحصيلة إبداعية فنية مميزة على شكل إنتاج ادبي أو فني أو غيرهما من ضروب المعرفة...
#علي_محمد_اليوسف (هاشتاغ)
Ali_M.alyousif#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟