فراس ناجي
باحث و ناشط مدني
(Firas Naji)
الحوار المتمدن-العدد: 8459 - 2025 / 9 / 8 - 12:02
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الحكم رغم عدم اعترافه بالعملية الديمقراطية ونزعته الاستبدادية وإدانته بـ 34 تهمة جنائية، ليست مجرد حدث انتخابي عابر؛ بل مؤشر على أزمة أعمق تضرب قلب المشروع الغربي برمته. اذا كان ما نراه اليوم ليس مجرد انحدار لقوة عظمى، بل بداية لمرحلة حضارية جديدة، فكيف يمكن ان نقيّم تجربة الحداثة وننقدها في ضوء هذه الأزمة؟
من منظور تاريخي، ما يجري اليوم يعكس دورة متكررة مرّت بها الحضارة الغربية؛ صعود إمبراطورية بفعل التفوق الاقتصادي والعلمي والعسكري، فدخولها مرحلة التوسع والترف، ثم الديون والصراعات الداخلية، قبل أن تتجاوزها قوى جديدة. هكذا تراجعت هولندا التي كانت قوة بحرية وتجارية عالمية عظمى بمستعمرات ونظام مالي عالمي وشركة الهند الشرقية الهولندية العابرة للحدود في القرنين السابع عشر والثامن عشر. لكن ازدياد الديون وأفول قوتها العسكري وتزايد الصراعات الداخلية على الثروة، أدى الى انحدارها وصعود الإمبراطورية البريطانية كمركز جديد للقوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية. كذلك انحدرت بريطانيا التي كانت في أوج عظمتها في القرن التاسع عشر تنتج أكثر من 20% من الدخل العالمي وسيطرت على أكثر من 20% من مساحة اليابسة في العالم. لكنها أفلست ولجأت الى الديون في نهاية الحرب العالمية الثانية لتغطية النفقات الباهظة لعقود من الصراعات الداخلية والحروب العالمية الطاحنة، وخسر الجنيه الإسترليني امتيازه كعملة احتياطية عالمية عبر ربطه بالدولار الأمريكي ضمن نظام بريتون وودز لمنع انهياره المالي. في النهاية سلّمت بريطانيا قيادة العالم الى الإمبراطورية الامريكية، فيما ظلت تسدد ديونها على المدى الطويل لغاية 2006 موعد اخر دفعة من قرضها الأمريكي في 1946.
واليوم أيضا تنحدر أمريكا بعد عصر ازدهارها الذهبي من التطور العلمي والرفاه الاقتصادي والقوة العسكرية، بالإضافة الى السيطرة المالية على الاقتصاد العالمي من خلال الدولار كعملة احتياط عالمية. فقد بدأت في مسار الانحدار الاقتصادي الفعلي منذ الازمة المالية العالمية في 2008، وهي اليوم في حالة عجز مالي مزمن وديون متراكمة تصل الى 37 ترليون دولار (120% من الناتج المحلي الإجمالي) تزداد كل عام بحوالي 2 ترليون دولار، نصف هذا العجز المالي هو لتسديد فوائد هذه الديون نفسها. كذلك تراجعت عن لعب دور “الشرطي العالمي” بعد حروب استنزافها في العراق وأفغانستان، كما انسحبت من الاتفاقيات العالمية المتعلقة بالمناخ والصحة وحقوق الإنسان ومن منظمتي اليونسكو والصحة الدولية؛ بالإضافة الى تعليق برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID التي كانت بمثابة الذراع الأساسية لقوة أمريكا الناعمة في العالم.
لكن ما يثير القلق أكثر هو نكوص القيم الحداثية ذاتها: الديمقراطية، المساواة، والحرية. لقد رأى المفكر الفرنسي ألكسيس دي توكفيل في أمريكا في القرن التاسع عشر الأنموذج الاستثنائي للاستقرار السياسي والاجتماعي، بحيث كان اقصى طموحه هو ان يلحق الأوربيون بما وصلت اليه أمريكا. لقد نشأت المساواة الاجتماعية وسيادة الشعب في أمريكا حسب دي توكفيل من خلال تكامل الجانب القانوني عبر مبدأ الانتخاب العام المكفول في الدستور، مع جانب العُرف السياسي والاجتماعي مثل تساوي المراتب ونبذ الارستقراطية، احترام اللامركزية، ابتعاد الدين عن السياسة، حماية الحريات، واستقلال القضاء.
لكن هذه الممارسات والقيم التي رسخّت الديمقراطية الامريكية في القرن التاسع عشر، تتآكل اليوم. فالفجوة الكبيرة بين طبقة الأغنياء وعموم الشعب (حوالي 263 ضعف بالنسبة لمتوسط الثروة) واحتكار الشركات العملاقة (مثل أمازون وأوبر وميتا) للأسواق والتعامل التجاري، رسّخت الارستقراطية الجديدة. فيما كرّس تحول المسيحيون الانجيليون الى قوة سياسية ساهمت في وصول ترامب الى السلطة مرتين، تدّخل الدين في السياسية. أما صعود ترامب الى السلطة بعد رفضه الاحتكام الى نتائج الانتخابات وهجوم مناصريه على الكونجرس في 2021، وتخوينهم للطرف الاخر، فهو تجلّي للاغتراب السياسي وتصاعد مستوى عدم ثقة الأمريكيين بمؤسسات منظومة الحكم. لقد فرض ترامب حالة الطوارئ في البلاد واستخدم ذلك لتجاوز سلطة الكونجرس في تشريع قوانين جدلية، والتدخل في شؤون الولايات الخاصة، وتوسيع سلطته لتشمل الوكالات المستقلة. كما عمل على تسييس القضاء والتعدي على الحقوق والحريات المكفولة دستوريا بصورة سافرة وممنهجة بما يشمل التضييق على الجامعات والاعلام والافراد. ان هذا الارتداد في منظومة الحكم ضد مفاهيم الحداثة من ديمقراطية وحريات يشمل أيضا أوروبا التي أخذت تنمو وتتوسع فيها الحركات اليمينية المتطرفة مثل حزب البديل الألماني والتجمع الوطني في فرنسا وحزب الحرية الهولندي.
في المقابل، تتقدم الصين بثقة لتنافس أمريكا اقتصادياً وتكنولوجياً، وفي مستويات التعليم والابتكار؛ بل حتى عسكرياً بحيث اعترف وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث بقدرة صواريخ الصين الفرط صوتية على إغراق جميع حاملات الطائرات الأميركية في غضون 20 دقيقة. فالصين اليوم هي القوة التصنيعية العظمى في العالم حيث تنتج ما يقرب من ثلث الإنتاج الصناعي العالمي وحققت أسرع معدلات نمو في التاريخ انتشلت فيها حوالي 800 مليون شخص من الفقر المدقع. لكن الأهم هو ان الصين تُقدّم انموذجاً حضارياُ بديلاً للغرب، فهي تتبنى منظومة قيمية لا تنتمي إلى "التنوير" الغربي وشروطه في القطيعة المعرفية مع الماضي وتبني قيمه الحداثية، بل الى تقاليدها الفكرية المستمرة منذ ما يزيد على 3000 سنة مثل الكونفوشية، المركزية السياسية، وأولوية الجماعة على الفرد. وفي نفس الوقت، تتوسع مجموعة بريكس التي تضم أهم دول الجنوب العالمي لتتجاوز مجموعة الG7 الغربية سواء في اجمالي الناتج المحلي GDP لدولها، او عدد نفوسها، او في معدلات نموّ اقتصاداتها السنوية. كما انها تحتكر معظم مصادر الطاقة وتسيطر على معظم احتياطيات المعادن الأرضية النادرة في العالم اللازمة لتحريك التكنولوجيا الناشئة مثل السيارات الكهربائية، والطاقة الشمسية، والإلكترونيات.
اذن، ما يحدث اليوم في العالم هو تقهقر للإمبراطورية الامريكية بالتزامن مع تراجع في قيم الحداثة في الغرب، مقابل صعود للصين كقوة عظمى ونشوء قيم عالمية يمكن ان تمثل بديلا لقيم الحداثة الغربية المهيمنة على العالم. ان هذه الظاهرة الكبيرة، العميقة والمعقدة تطرح أسئلة جوهرية مثل؛ ما تداعيات ذلك عالميا وإقليميا؟ كيف جرت الأمور لتنتهي الى هذا الوضع؟ ولماذا حدثت؟ وكيف يمكن لدول المنطقة ان تتعامل مع هذا التحوّل في الأنموذج الحداثي لنظام الحكم من جهة وفي النظام الدولي برمته من جهة أخرى؟
لكن لابد أولا من طرح أسئلة صعبة وتشكيل مفاهيم أساسية ناقدة لبعض الأفكار التي يعتبرها الكثير منا اليوم مُسلّم بها. فهناك فشل لا لبس فيه للنظام الاقتصادي الحداثي الذي أسهمَ في الوصول الى هذا الطريق المسدود لديمومة نظام الحكم في الغرب الذي بهر العالم في قوّته وتقدمه. واذا كانت النظرية الماركسية من أهم من نقد الرأسمالية الحداثية وأشار الى تناقضاتها البنيوية، فما نحتاجه اليوم هو استحضارها لكن بطريقة ناقدة لها أيضا، خاصة في ضوء فشل أنموذجي رأسمالية الدولة (التجربة السوفيتية) ورأسمالية السوق الحرة (التجربة الأمريكية النيوليبرالية)، مقابل نجاح أنموذج اقتصاد السوق الاشتراكي (التجربة الصينية).
كذلك لابد من نقد النظام الديمقراطي الحداثي وانموذج الدولة-الأمة الغربي الذي اعتمدته معظم دول العالم ويشكل الهيكل الأساسي للنظام الدولي، مقابل أنموذج الدولة-الحضارة الذي تقّدمه دول مثل الصين وروسيا لتعريف نفسها كمركز حضاري وجيوسياسي يستوعب التنوع البشري من خلال الاستمرارية التاريخية للحضارة المشتركة وكبديل للأنموذج الغربي. ان هكذا نقد يمكن ان يخلق بدائل عملية للتكامل المشرقي العربي-الإسلامي ولعلاقة مستدامة بين شعوب ومجتمعات المنطقة وأنظمتها السياسية قد توفر الحلول للمعضلات الجيوسياسية والاجتماعية-السياسية التي نعاني منها الان خاصة في وجه العدوان التوسعي الصهيوني وفشل منظومة سايكس-بيكو الإقليمية.
وفي مقابل التطور العلمي وتحسّن المستوى الحياتي لعموم البشر نتيجة التحول نحو الحداثة، تم ارتكاب جرائم ومثالب بحق الانسانية بإسم الحداثة ربما لم يشهد لها التاريخ مثيلا؛ فقد أُبيدت شعوب بأكملها، وتأصلت العنصرية والفوقية في المعرفة، وتجذّر الجشع والانانية في ثقافات الشعوب، واُبتذلت المبادئ والقيم؛ ناهيك عن الفشل في معالجة تحديات الذكاء الاصطناعي والتغير المناخي. كل ذلك يشير الى القصور البنيوي في الأساس الأخلاقي لمفهوم الحداثة الغربية، ويستدعي نقد أساسها الفكري: فلسفة "التنوير" الاوربية، نحو تشكيل بدائل أخلاقية عالمية أخرى.
في النهاية، ما نمر به اليوم من انحسار في الهيمنة الامريكية على العالم وتصدع في النظام الدولي العالمي ونكوص في الحضارة الغربية، ليس مرحلة تغيير تنحدر فيها قوة عظمى وتصعد فيها أخرى تحل مكانها، بل هي مرحلة انتقالية لعملية "تحوّل" تشمل نهاية عصر الحداثة الغربية وعملية صيرورة لعصر عالمي جديد تُشكّل ملامحه قوى حضارية شرقية كانت مهمشة طوال أكثر من ثلاثة قرون.
ان عملية الصيرورة هذه لها تداعيات هائلة على المنطقة، فالانسحاب الأمريكي منها هو مسألة وقت ليس الّا، فهل تملأ الصين أو روسيا أو أوروبا هذا الفراغ الجيوسياسي الناتج وتُبقي على أدوات إقليمية لها، أم تنجح دول المنطقة في تشكيل بنية أمنية خاصة بها تردع الأعداء والطامعين؟ كذلك لابد من العمل على بناء منظومة سياسية واجتماعية واقتصادية إقليمية تعزز التعاون والتكامل بين دول المنطقة بدل الانقسام والتنافس الحالي وتعالج التحديات القادمة مثل تراجع أهمية النفط، أزمة المياه والتغير المناخي، والاحتكار التكنولوجي في الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي. ان هذا التحوّل الحضاري العالمي وإعادة تشكيل مراكز القوة في العالم، يشكّل تحدياً وفرصة في نفس الوقت: إما أن تكون دول المنطقة مجرد ساحة صراع بين القوى الكبرى، أو تتعاون فيما بينها لتتحوّل إلى فاعل رئيسي في صياغة المستقبل، مستلهمةً تاريخها الحضاري المشترك ودورها التاريخي العالمي. من هذا المنطلق، للعراق دوره الخاص، المهم والممتد تاريخيا كجسر جغرافي/ثقافي بين أهم الفاعلين في حضارة المشرق العربي-الإسلامي، الذي لابد من استلهامه والعمل على احياءه لتحويل هذه الفرصة التاريخية الى واقع نهضوي جديد.
#فراس_ناجي (هاشتاغ)
Firas_Naji#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟