أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسمهان عبد القدوس القره غولي - موسيقى ما وراء الكلمات – رحلة في أعماق -صوت الصمت-














المزيد.....

موسيقى ما وراء الكلمات – رحلة في أعماق -صوت الصمت-


أسمهان عبد القدوس القره غولي

الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 02:27
المحور: الادب والفن
    


يبدو الصمت في ظاهره غياباً للصوت، فراغاً في فضاء الكلام، وانقطاعاً في إيقاع الحياة، لكنه في جوهره أكثر امتلاءاً من الضجيج نفسه. إنّ "صوت الصمت" ليس مفارقة لغوية بقدر ما هو حقيقة جمالية وفكرية، وتجربة تسمح للإنسان أن يلمس ما وراء اللغة وما بعد المعنى، وأن يكتشف المساحات المخفية التي تعجز الكلمات عن احتوائها. لذلك ظل الصمت على مر العصور موضوعاً للتأمل في الفلسفة والفن والأدب، وفضاءً ملتبساً يعبّر عمّا لا يقال أكثر مما يعبّر عمّا يقال.
في الأدب، كثيراً ما حضر الصمت بوصفه شريكاً خفياً للغة. فقد ابتكر إرنست همنغواي ما سماه النقاد "نظرية الجبل الجليدي"، حيث الجزء الأكبر من الدلالة يبقى غاطساً تحت سطح النص في شكل صمت دلالي، بينما لا يظهر للقارئ سوى القشرة الرفيعة من الكلام. ما بين السطور عند همنغواي أهم من السطور نفسها، لأنّه يترك مجالاً للتأويل، ويمنح القارئ فرصة للإنصات لما لم يُكتب. وفي الشعر العربي الحديث، استثمر محمود درويش هذه الفكرة حين قال: "الصمت هو صراخنا الآخر"، ليكشف عن قدرة الصمت على أن يكون لغة مكثفة للوجع والاحتجاج معاً. في نصوص أدونيس أو نزار قباني، نجد أن الصمت أحياناً يحل محل القصيدة ذاتها، يصبح هو الحضور الأكثر كثافة، والفراغ الذي يترك للقارئ أن يملأه بما يشاء من المعاني.
لكن الصمت ليس مجرد لعبة جمالية أو تقنية بلاغية، بل هو في جوهره تجربة وجودية. عند التأمل في لحظة صمت حقيقية، ندرك أن ما يبدو ساكناً في الظاهر يخفي داخله عالماً نابضاً. إنه يشبه الماء تحت الجليد: ساكنٌ للعين، لكنه في الباطن دافق بالحياة. في الفجر مثلاً، حين يخفت ضجيج العالم، نصغي إلى الصمت فنكتشف أن له موسيقى خاصة لا تشبه أي لحن بشري. نسمع أنفاس الأشياء: ارتعاشة ورقة في الريح، ضوء الشمس وهو يتسلل عبر النافذة، نبض الجدران الصامتة. هذا كله ليس فراغاً، بل امتلاءاً خفياً يخلق توازناً داخلياً. هنا يتحول الصمت إلى إيقاع أعمق من الكلام، إلى لغة لا تحتاج إلى معجم، وإلى موسيقى لا تحتاج إلى عازف.
الفن بدوره لم يغفل عن هذه الحقيقة. ففي الموسيقى على وجه الخصوص، يشكّل الصمت جزءاً من التكوين اللحني، لأنه يتيح للأنغام أن تكتسب وزنها ووقعها. الملحن الأمريكي جون كيج دفع هذه الفكرة إلى أقصاها في عمله الشهير"4:33"، حيث جلس العازف أمام البيانو دون أن يعزف أي نغمة طوال أربع دقائق وثلاث وثلاثين ثانية، ليجعل من الصمت ذاته عملاً فنياً. ما يسمعه الجمهور في تلك اللحظة ليس صمتاً مطلقاً، بل الأصوات العارضة في القاعة: سعلة، حركة كرسي، وقع خطوات، همس عابر. كل ذلك يتحول إلى جزء من العمل الفني، ويكشف أن الصمت ليس غياباً للصوت بل إعادة تعريف له. في المسرح والسينما، يحضر الصمت بوصفه وسيلة درامية تحمل من الدلالة ما تعجز عنه الجملة الطويلة. يكفي أن نرى كيف استخدم إنغمار برغمان الصمت في أفلامه لتصوير هشاشة الروح، أو كيف لجأ يوسف شاهين في بعض مشاهده إلى صمت طويل يسبق الانفجار الدرامي، ليمنح اللحظة قوة تعبيرية مضاعفة.
من جهة أخرى، ارتبط الصمت بالفكر الفلسفي كإعلان عن حدود اللغة. لودفيغ فيتغنشتاين ختم كتابه التراكتاتوس بعبارته الشهيرة: "عمّا لا يمكن الكلام عنه، يجب أن نصمت". هنا الصمت ليس انسحاباً من المعرفة بل إدراك أن بعض الحقائق لا يمكن فهمها عبر اللغة، وأن المعنى أوسع من الكلمات. هيدغر بدوره رأى في الصمت شكلاً من أشكال الوجود الأصيل، حيث يتكشف الكائن لذاته بعيداً عن ضوضاء اللغة اليومية. وإذا انتقلنا إلى الشرق، وجدنا أن الصمت في التراث الصوفي الإسلامي يمثل مرتبة من مراتب السلوك الروحي، إذ هو وسيلة لتزكية النفس والتقرب من الحقائق الكونية عبر الإصغاء العميق لما وراء الظاهر. في البوذية أيضاً، يُنظر إلى الصمت بوصفه مدخلاً للتأمل العميق وللوصول إلى التوازن الداخلي، كأنه جسر بين الوعي واللاوعي، بين الإنسان والكون.
على المستوى الإنساني الفردي، يأخذ الصمت أشكالاً متعددة لا تقل بلاغة عن الكلام. هناك صمت الحب الذي يكتفي بنظرة عميقة لا تحتاج إلى تفسير، وصمت الحزن الذي يثقل الهواء بمرارة لا تحتمل، وصمت الغضب الذي يسبق الانفجار، وصمت الرضا الذي يكتفي بالسكينة. في لحظات الفقد مثلاً، تصبح الدموع أبلغ من أي لغة، ويتحول الصمت إلى اللغة الرسمية للألم، حيث تلتقي الأرواح في مساحة مشتركة من الحزن بلا حاجة إلى الكلمات. هذه الأبعاد تجعل من الصمت لغة عالمية يتشاركها البشر جميعاً، مهما اختلفت ألسنتهم وثقافاتهم.
إنّ "صوت الصمت" في النهاية هو ذلك الهمس الخفي الذي لا يُسمع بالأذن بل يُحس بالقلب. إنه اللغة التي لا تُكتب في القواميس، والموسيقى التي لا تحتاج إلى آلات، والقصيدة التي تسكن فراغ الروح. في زمن يفيض بالضجيج الرقمي والتدفق اللامحدود من الكلمات والصور، تبدو الحاجة إلى استعادة جمالية الصمت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. فالصمت ملاذٌ آمن لإعادة ترتيب فوضى العقل، واستعادة صفاء المشاعر، والإنصات العميق للجوهر الحقيقي للوجود. إن الإصغاء إلى "صوت الصمت" ليس انسحاباً من العالم، بل انفتاحاً عليه من زاوية أعمق، حيث تتكشف الحقيقة خلف الضجيج، ويسكن المعنى ما وراء الكلام.



#أسمهان_عبد_القدوس_القره_غولي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- خطاب المرأة : بين التحديات الاجتماعية وسرديات التمكين
- العهد غير المعلن: صراع الذات والرغبات والضمير
- -حين تشرق الروح- رواية الوجدان والاغتراب للكاتبة سمر السامرا ...


المزيد.....




- الموسيقى الكونغولية.. من نبض الأرض إلى التراث الإنساني
- مصر.. وفاة الفنان بهاء الخطيب خلال مباراة والعثور على -تيك ت ...
- فيلم -درويش-.. سينما مصرية تغازل الماضي بصريا وتتعثّر دراميا ...
- شهدت سينما السيارات شعبية كبيرة خلال جائحة كورونا ولكن هل يز ...
- ثقافة الحوار واختلاف وجهات النظر
- جمعية البستان سلوان تنفذ مسابقة س/ج الثقافية الشبابية
- مهرجان الجونة 2025 يكشف عن قائمة أفلامه العالمية في برنامجه ...
- بيت المدى يحتفي بمئوية نزار سليم .. الرسام والقاص وأبرز روا ...
- الرواية الملوَّثة التي تسيطر على الغرب
- تركيا تعتمد برنامجا شاملا لتعليم اللغة التركية للطلاب الأجان ...


المزيد.....

- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أسمهان عبد القدوس القره غولي - موسيقى ما وراء الكلمات – رحلة في أعماق -صوت الصمت-