إياس الساموك
باحث في القانون الدستوري
الحوار المتمدن-العدد: 8444 - 2025 / 8 / 24 - 10:45
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
تستند الرقابة على دستورية القوانين إلى ثلاثة أسس رئيسية: وجود دستور للدولة وإن يتمتع هذا الدستور بالسمو، وقيام جهة مستقلة بممارسة الرقابة(1).
وتجدر الإشارة إلى أن الرقابة على دستورية القوانين لا ترتبط بالضرورة بوجود قضاء دستوري متخصص؛ إذ يمكن أن تمارس هذه الرقابة حتى في غياب محكمة أو جهة قضائية مختصة حصراً بالقضاء الدستوري(2).
لكن مع اتجاه الدساتير الحديثة إلى إسناد مهمة الرقابة على دستورية القوانين إلى جهة محددة، غالباً ما تكون جهة قضائية، يقتضي الأمر بحث مدى توافر وصف "القضاء الدستوري" الذي استقر عليه الفقه لهذه الجهات، ومن بينها المحكمة الاتحادية العليا في العراق، والتساؤل عمّا إذا كانت تمثل بالفعل القضاء الدستوري في النظام القانوني العراقي.
في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن اصطلاح القضاء الدستوري يثير جدلاً فقهياً بين اتجاهين رئيسين؛ الأول يركّز على الجهة التي تتولى الرقابة على دستورية القوانين، في حين ينصرف الثاني إلى الوظيفة ذاتها بصرف النظر عن طبيعة الجهة التي تمارسها، فضلاً عن اتجاه ثالث يركز على الاستقلالية، وذلك على النحو الآتي:
المعيار العضوي (الشكلي):
ويُعرَّف القضاء الدستوري وفقاً لهذا المعيار بأنه المحكمة أو المحاكم التي تختص، ضمن التنظيم القضائي للدولة، دون غيرها، بمهمة الرقابة على دستورية التشريعات(3).
وهذا التعريف يعكس أمرين أولهما أن وصف القضاء الدستوري ينطبق على المحاكم دون غيرها، فما لا يعتبر محكمة لا يعد قضاءً دستورياً حتى لو انعقد له الاختصاص في الرقابة على دستورية القوانين(4).
وعلى وفق ما تقدم، فإن المجلس الدستوري الفرنسي لا يعد قضاءً دستورياً، رغم أن هناك اتجاه يراه هيئة قضائية لأنه يتميز بعنصرين الأول العنصر المادي وهو أن القضاء يطبق القانون، والثاني العنصر الشكلي المتمثل بأن العمل القضائي يتمتع بحجية الشيء المقضي به طبقاً للدستور الفرنسي(5).
والأمر الثاني هو أن المحكمة يجب أن يكون لها الاختصاص الحصري والأصلي في بسط الرقابة الدستورية، وبمعنى آخر، إنها تمارس اختصاص الرقابة فقط دون أي اختصاص آخر(6).
وعلى وفق هذا المعيار، فإن المحكمة الاتحادية العليا، وإن كانت قد استوفت الشرط الأول المتمثّل في كونها هيئة قضائية تتولى - دون غيرها- الرقابة على دستورية القوانين، إلا أنها لا تُعَدّ وفق المفهوم الدقيق قضاءً دستورياً بالمعنى المتقدَّم، وذلك لأن المادتين (93) و(52) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ) قد أناطتا بها اختصاصات أخرى إلى جانب الرقابة على الدستورية.
كما أن المشرّع العادي منح المحكمة اختصاصات إضافية بموجب قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 (المعدل)، وقانون أحكام الترشيح لمنصب رئيس الجمهورية رقم (8) لسنة 2012 (النافذ)، وقانون الأحزاب السياسية رقم (36) لسنة 2015 (النافذ).
وبذلك لا يتحقق الشرط الثاني اللازم لاعتبار المحكمة الاتحادية العليا قضاءً دستورياً خالصاً وفقاً للمعيار العضوي، والمتمثل في أن يقتصر اختصاصها حصراً على الرقابة الدستورية.
ونحن لا نتفق مع اعتماد هذا المعيار بالكامل، إذ إنه يضيق نطاق القضاء الدستوري بشكل كبير، مما يجعله نادراً الوجود على الصعيد العالمي.
المعيار الموضوعي:
ويُعرَّف القضاء الدستوري وفقاً لهذا المعيار بأنه الفصل في المسائل ذات الطبيعة الدستورية، والمتمثلة أساساً في التحقق من مطابقة التشريعات لأحكام الدستور. ولا يقتصر هذا الوصف على الأحكام الصادرة عن محكمة دستورية متخصصة، بل يمتد ليشمل ما يصدر عن أي محكمة أخرى ـ عادية كانت أم إدارية أو غيرها ـ متى كان موضوع الفصل متعلقاً بمسألة دستورية(7).
ويترتب على ذلك أمران؛ أولهما أن اصطلاح القضاء الدستوري ينصرف إلى طبيعة الاختصاص لا إلى الجهة التي تتولاه، أي أنه يقتصر على ممارسة الرقابة الدستورية ذاتها، بغضّ النظر عن طبيعة الجهة التي تباشر هذا الاختصاص، سواء أكانت محكمة قضائية أم هيئة غير قضائية بالأساس(8).
أي أن القضاء الدستوري هو، قبل كل شيء، سلطة دستورية عندما تُناط الرقابة بمحكمة عليا ضمن البناء القضائي للدولة، وقد يكون هيئة دستورية مستقلة عندما تُمارس الرقابة من قبل مجلس دستوري لا يرتبط بالهرم القضائي، أنشأته الإرادة الشعبية على غرار بقية السلطات، وحددت صلاحياته على نحو حصري. ويهدف ذلك إلى ضمان احترام قواعد توزيع السلطات، والحيلولة دون انتهاك أي منها للصلاحيات المقررة للأخرى بموجب الدستور(9).
بحسب هذا الاتجاه، لا يَضُرّ أن تُسند إلى الجهة التي تمارس الرقابة الدستورية اختصاصات أخرى تتعلق بالفصل في منازعات غير دستورية؛ فمادامت تضطلع بمهمة الرقابة على الدستورية، فإنها تُعد ممثِّلةً للقضاء الدستوري(10).
وعلى هذا الأساس فإن القضاء الدستوري هو كل الجهات والهيئات التي تتولى الرقابة الدستورية سواء مارست هذا الاختصاص بنحو منفرد، أم إلى جانب اختصاصات أخرى(11).
والأمر الثاني هو أن الفصل في المنازعات الدستورية الموجب لاكتساب وصف القضاء الدستوري يتسم بالشمول والاتساع، بحيث لا يقتصر على مجرد إصدار الحكم في موضوع النزاع، بل يمتد ليشمل شروط وطرق اتصال المنازعة الدستورية بالجهة المختصة، والإجراءات المصاحبة لمرحلة الفصل فيها، وكذلك الإجراءات اللاحقة على ذلك الفصل، أي ما يتعلق بانقضاء المنازعة سواء كان انقضاءً تاماً بصدور حكم أو قرار حاسم، أم كان مبتسراً بغير حكم أو قرار. وإلى جانب ذلك، فإن ما تتضمنه الأحكام أو القرارات التفسيرية من مبادئ يُعَدّ مصدراً أصيلاً للمشروعية الدستورية(12).
وبذلك، يسري وصف القضاء الدستوري على المحكمة الاتحادية العليا في العراق، وكذلك على المجلس الدستوري الفرنسي، ليس من حيث تركيبهما العضوي، بل استناداً إلى اختصاصهما في الرقابة الدستورية.
إلا أن هذا المعيار يسبغ وصف القضاء الدستوري على أي محكمة في النظام القانوني تمارس الرقابة الدستورية، وهو ما نعدّه مخالفاً للمنطق السليم.
ويتضح مما تقدم أن المعنى الموضوعي لاصطلاح القضاء الدستوري أوسع نطاقاً من معناه العضوي أو الشكلي، إذ يفترض الأخير وجود محاكم دستورية متخصصة، بينما يقوم المعنى الموضوعي على أساس الفصل القضائي في المسائل الدستورية بغض النظر عن الجهة التي يصدر عنها هذا القضاء(13).
معيار الاستقلال:
بين الاتجاهين السابقين، يرى اتجاه ثالث أن المعيار المعتمد في تحديد القضاء الدستوري يتوقف على مدى استقلاليته، سواء أكان محكمة أم مجلساً أم أي هيئة أخرى، إذ يُعد هذا الاستقلال مبدأً أساسياً. وتكمن أهميته في أن القضاء الدستوري ينبغي أن يكون مستقلاً عن جميع السلطات، ضماناً لعدم خضوعه لتوجيهاتها وصوناً لحياد قراراته(14).
إلا أننا نجد أن هذا المعيار بسيط للغاية ولا يستوعب بالكامل مفهوم القضاء الدستوري، كما أنه لا يميزه عن غيره من الهيئات القضائية، سواء أكان قضاءً عادياً أو إدارياً أو أي مسمى آخر عرفته الأنظمة القانونية.
رأينا في الموضوع:
نعتقد أن تسمية القضاء الدستوري تتحقق من خلال اعتماد المعيار المختلط، بحيث تنطبق على الجهة التي يصفها الدستور بأنها هيئة قضائية، حتى لو كان تشكيلها مختلطاً بين القضاة وغيرهم، والتي يُناط بها دون غيرها اختصاص الرقابة على دستورية القوانين، حتى وإن أضيفت إليها اختصاصات أخرى.
ويستند هذا المعيار إلى أن الدساتير الحديثة اتجهت إلى منح الجهة المكلفة بالرقابة على دستورية القوانين اختصاصات إضافية ذات أهمية تمس مكونات النظام السياسي، على أن تكون هذه الجهة مستقلة عن السلطات الأخرى.
وبهذا ينطبق وصف القضاء الدستوري على المحكمة الاتحادية العليا في العراق، إذ نص الدستور على أنها هيئة قضائية مستقلة بموجب المادة (92)، وأناط بها دون غيرها اختصاص الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة وفقاً للمادة (93/ أولاً). وبناءً على ذلك، إذا أثير نزاع أمام أي محكمة أخرى يتعلق بالمسائل الدستورية، تُوجَّه الدعوى إلى المحكمة الاتحادية العليا لإقامتها أمامها(15)، وقد عدّ الدستور قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتّة وملزمة للسلطات كافة بموجب المادة (94).
كما أن وجود اختصاصات أخرى للمحكمة الاتحادية العليا، سواء في الدستور أو القوانين، والتي لا تتعلق بالفصل في مدى مخالفة التشريعات للدستور، لا يسلبها وصف القضاء الدستوري، طالما توافرت فيها الخصائص التي ذُكرت آنفاً.
باحث دكتوراه في القانون العام
***********************
الهوامش
1- د. دعاء الصاوي، القضاء الدستوري، دار النهضة العربية، مصر، ص9.
2- د. يحيى الجمل، القضاء الدستوري في مصر، دار النهضة العربية، مصر، 2000، ص11.
3- عادل عمر شريف، قضاء الدستورية، أطروحة دكتوراه مقدمة إلى جامعة عين شمس، كلية الحقوق، مصر، 1988، ص11.
4- د. محمد باهي أبو يونس، أصول القضاء الدستوري، دار الجامعة الجديدة، مصر، 2014، ص6.
5- د. محمد عبد اللطيف، إجراءات القضاء الدستوري، دار النهضة العربية، مصر، 1989، ص6.
6- د. كمال جعلاب، القضاء الدستوري، محاضرات مقدمة لطلبة الماجستير تخصص الدولة والمؤسسات، جامعة زيان عاشور بالجلفة، كلية الحقوق والعلوم السياسية، قسم الحقوق، الجزائر، 2019، ص4.
7- عادل عمر شريف، مصدر سابق، ص11.
8- د. محمد باهي أبو يونس، مصدر سابق، ص9.
9- د. أمين عاطف صليبا، دور القضاء الدستوري في إرساء دولة القانون، المؤسسة الحديثة للكتاب، 2002، ص114.
10- د. محمد باهي أبو يونس، مصدر سابق، ص9.
11- د. كمال جعلاب، مصدر سابق، ص5.
12- د. محمد باهي أبو يونس، مصدر سابق، ص9.
13-عادل عمر شريف، مصدر سابق، ص11.
14- د. كمال جعلاب، مصدر سابق، ص5.
15- مدحت المحمود، شرح قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 وتطبيقاته العملية، الطبعة الرابعة، دار الرافدين للنشر والتوزيع، لبنان، 2019، ص82.
#إياس_الساموك (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟