إياس الساموك
باحث في القانون الدستوري
الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 12:29
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
يُقرر النظام البرلماني وجود علاقة متبادلة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، غايتها تحقيق التوازن المفترض بينهما. ويقوم هذا التوازن على أساس تدخل السلطة التنفيذية في بعض شؤون السلطة التشريعية، في مقابل تدخل السلطة التشريعية في بعض أعمال السلطة التنفيذية من ناحية أخرى(1).
ويُعدّ فقهاء القانون الدستوري الرقابة البرلمانية النشاط الأهم في عمل الدولة، بل إن بعضهم يرى أن المجلس النيابي هو في جوهره هيئة للرقابة على أداء الحكومة، قبل أي وظيفة أخرى. ويذهب هؤلاء إلى أن الاختصاص الرقابي يفوق في أهميته سنّ القوانين، استناداً إلى أن صور الرقابة التي تقررها الدساتير تمثل في حقيقتها ضمانة أساسية لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم(2).
ويُفهم مما تقدم أمران:
الأول، إن المجلس النيابي هو في جوهره هيئة مهمتها الأساسية مراقبة أداء الحكومة، قبل أن تضاف إليه الاختصاصات الأخرى المتعارف عليها اليوم، وذلك على اعتبار أن الأداء الحكومي له مساس مباشر بحقوق الأفراد وحرياتهم.
والثاني، أن الاختصاص الرقابي يتمتع بأهمية تفوق سنّ القوانين، وهو ما تجلّى بوضوح في دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ)، إذ خصّص فقرة واحدة في المادة (61) للاختصاص التشريعي، في حين أفرد للاختصاص الرقابي عدداً من الفقرات المفصّلة.
ولكي يتمكّن المجلس النيابي من ممارسة الرقابة بفاعلية، فإنه لا بدّ من تحديد الوسائل التي تمكّنه من القيام بهذه المهمة على نحو سليم. وتتكفّل الدساتير بتوضيح هذه الوسائل، التي توضع تحت تصرف المجلس وتعدّ بمثابة أدواته الرسمية للرقابة(3).
وبذلك، فإن الرقابة على الأداء الحكومي ليست ممارسة عبثية يبتدعها المجلس النيابي من تلقاء نفسه أو يمارسها وفقاً لرغباته وبالطريقة التي يشاء، بل إن غالبية الدساتير قد اتفقت على تحديد صور وأدوات معينة لممارستها، يمكن إجمالها على النحو الآتي:
أولاً: السؤال النيابي
يُراد به، حق كل عضو من أعضاء مجلس النواب في أن يوجه أسئلة للاستيضاح عن مسألة معيّنة والاستفسار بشأنها، فهو يُفيدُ طلب ايضاحات عن موضوع معين من رئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء(4).
ثانياً: طرح مضوع عام للمناقشة
هي مطالبة عدد من أعضاء مجلس النواب بإثارة موضوع عام مما يتعلق بالسياسة الداخلية أو الخارجية للمناقشة في المجلس، مناقشة مفتوحة يشترك فيها من يشاء، فنطاق هذا الحق إذن أوسع من نطاق حق السؤال الذي يعد علاقة شخصية بين المسؤول والسائل، لكنه يشترك معه في أنه أمر استفساري(5).
ثالثاً: الاستجواب
الذي يعد من أخطر وسائل رقابة مجلس النواب على أعمال الحكومة، وهو يعني مساءلة رئيس مجلس الوزراء أو أحد الوزراء عن عمل أو تصرف في شأن من شؤون وزارته أو شأن من الشؤون العامة للحكومة وقد يؤدي إلى التصويت على سحب الثقة عن الوزير أو الحكومة بالمجمل مما يؤدي إلى إسقاطها(6).
رابعاً: المسؤولية السياسية
هي ذلك الحق الذي يخول مجلس النواب المنتخب سحب الثقة عن هيئة الوزارة كلها كوحدة أو من أحد الوزراء، متى كان التصرف الصادر من الوزير أو من الحكومة مستوجباً للمساءلة، وترتب على هذا التصرف البرلماني وجوب استقالة الوزارة أو الوزير، وذلك نتيجة سحب الثقة منهما(7).
وقد بين دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ) هذه الصور بموجب المادة (61)، وأجاز اللجوء إليها دون التقيد بترتيب معين.
ومع ذلك، فقد عرف بعض الدساتير وسائل إضافية للرقابة، ومن الأمثلة على ذلك دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2014 (النافذ)، الذي نصّ على وسائل أخرى للرقابة، وهي:
أولاً: لجان تقصي الحقائق
وتسمّى هذه الوسيلة أيضاً التحقيق البرلماني، وبمقتضاه يقوم المجلس النيابي بتشكيل لجنة من أعضائه للتحقيق في أي خلل يطرأ على أحد أجهزة الدولة. ويأتي قيام المجلس بالتحقيق نتيجة عدم قناعته بما قدمته الحكومة من معلومات، فيتولى بذلك مهمة التحقيق بنفسه لضمان الوصول إلى الحقائق(8).
ثانياً: طلب الاحاطة
ويقترب طلب الإحاطة من حق السؤال، إلا أنه يختلف عنه في جوهره، إذ أن السؤال يقتصر على طلب توضيح أو معلومات حول مسألة معينة، بينما يهدف طلب الإحاطة إلى لفت نظر رئيس الحكومة أو أحد الوزراء إلى مسألة عاجلة، يرى المجلس أنها تستدعي منح الاهتمام والعناية الفورية نظراً لأهميتها الملحة(9).
ثالثاً: البيانات العاجلة
وبمقتضى هذه الوسيلة، يحق لعضو مجلس النواب توجيه بيان عاجل إلى رئيس الحكومة أو أحد الوزراء بشأن موضوع غير مدرج في جدول الأعمال، إذا كان هذا الموضوع ذا أهمية عاجلة تستدعي الانتباه الفوري(10).
ومن الملاحظ أن وسائل الرقابة البرلمانية لا يتم النص عليها في بعض الأحيان ضمن الوثيقة الدستورية، بل تلجأ بعض الدول إلى إضافة وسائل أخرى في النصوص التنظيمية لعمل المجلس النيابي دون أن تصل إلى مستوى الدستور.
وقد سار العراق على هذا النهج، حيث أناط قانون مجلس النواب وتشكيلاته رقم (13) لسنة 2018 (النافذ) بالمجلس، بموجب المادة (17)، مجموعة واسعة من الاختصاصات التي لا علاقة لها بما ورد في الدستور، تتمثل بـ:
• التحقيق مع مسؤولي السلطة التنفيذية والهيئات المستقلة في الشؤون التي تدخل ضمن اختصاصهم.
• طلب المعلومات والوثائق من أي جهة رسمية بشأن أي موضوع يتعلق بالمصلحة العامة أو حقوق المواطنين، أو تنفيذ القوانين، أو تطبيقات مؤسسات السلطة التنفيذية والهيئات المستقلة.
• طلب حضور أي شخص للإدلاء بشهادة أو توضيح موقف أو بيان معلومات بشأن أي موضوع معروض أمام المجلس.
• القيام بزيارات تفقدية إلى الوزارات ودوائر الدولة للاطلاع على حسن سير وتطبيق أحكام الدستور والقوانين والأنظمة والتعليمات والقرارات النافذة.
وقد أشارت المادة (32) من النظام الداخلي لمجلس النواب رقم (1) لسنة 2022 (النافذ) إلى هذه الاختصاصات أيضاً.
ويمكن القول إن الوسائل الرقابية المنصوص عليها في الدستور تكتسب سمواً على تلك المنصوص عليها في النصوص دون الدستورية، وهو ما دفع بعض الفقه، الذي نؤيد موقفه، إلى اعتبار أي إضافة لوسائل رقابية جديدة خارج إطار الوثيقة الدستورية غير دستورية، إذ إن الدستور يحتفظ لنفسه بحق تحديد هذه الوسائل، وأي إضافة لها تُعدّ بمثابة تعديل دستوري يلزم اتباع الإجراءات الخاصة به(11).
ولكن السؤال الأبرز المطروح هنا: ما هي حدود المجلس النيابي في ممارسة اختصاصه في الرقابة على الأداء الحكومي؟
ويجيب أحد شُرّاح القانون الدستوري على ذلك بالقول إن الرقابة البرلمانية لا تترك أثراً أكثر من إثارة المسؤولية السياسية للوزير أو الحكومة، لذا لا يختص المجلس النيابي بأكثر من ذلك، وبخلافه فإن ذلك يعني الاصطدام مع مبدأ الفصل بين السلطات. فلا يجوز أن يصدر أوامر إلى الحكومة أياً كان مضمونها أو هدفها، كما لا يمكن إلغاء قرار أصدرته الإدارة أو تعديله أو إيقاف تنفيذه مهما كانت درجة جسامة مخالفته للمشروعية، لكن يمكن له أن يخفف من تلك الآثار من خلال تشريع قانون بهذا الشأن أو ما يسمى بالنفوذ الأدبي للمجلس النيابي على الإدارة، حتى لا يتعارض الوزير مع المساءلة(12).
وصفوة القول، إن المجلس النيابي لا يملك سلطة مطلقة في ممارسة الرقابة على أعمال الحكومة، ولا يجوز له أن يحل محلها أو يصدر قرارات نيابة عنها، كما لا يمكنه إلغاء ما صدر عنها أو تعديله أو تصحيحه، حتى إذا كان القرار مشوباً بعدم المشروعية، إذ إن الفصل في مدى مشروعية قرارات الحكومة يظل من اختصاص القضاء حصراً. كما أن المجلس لا يملك سلطة إلزام الحكومة باتخاذ قرار معيّن أو إصدار توصيات ذات أثر ملزم لها.
وعليه، يتعين على المجلس الالتزام بحدود صلاحياته الرقابية ضمن الوسائل التي نصّ عليها الدستور على سبيل الحصر، دون التوسع فيها أو إضافة وسائل جديدة، إذ تشكّل هذه الوسائل الإطار الدستوري الملزم لممارسة الرقابة البرلمانية. وأي وسيلة لم يرد ذكرها في الوثيقة الدستورية لا ترتب أثراً ملزماً، وأي توسع خارج هذا الإطار يثير شبهة عدم الدستورية.
كما ينبغي على المجلس، عند لجوئه إلى الوسائل الرقابية الدستورية، الالتزام بالشروط الشكلية والموضوعية المقررة، وتجنّب توظيف الرقابة لأهداف انتقامية أو دوافع شخصية، حفاظًا على الطابع المؤسسي والموضوعي للرقابة البرلمانية وضمان فعاليتها.
**********************************************
الهوامش
1- د. نعمان أحمد الخطيب، الوسيط في النظام السياسي والقانون الدستوري، الطبعة السابعة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الاردن، 2011، ص380.
2- د. جاد جابر نصار، الاستجواب، الطبعة الأولى، دار النهضة العربية، مصر، 1999، ص5.
3- د. محمد كامل ليلة، النظم السياسية، دار النهضة العربية، لبنان، 1969، ص923.
4- د. محمد رفعت عبد الوهاب، القانون الدستوري، دار الجامعة الجديدة، مصر، 2007، ص431.
5- د. سليمان محمد الطماوي، السلطات الثلاث، دار الفكر العربي، مصر، 1967، ص361.
6- د. حمدي علي عمر، النظام الدستوري المصري، منشاة المعارف بالإسكندرية، مصر، 2016، ص100.
7- د. حسن مصطفى البحري، النظم السياسية المقارنة، منشورات جامعة الشام الخاصة، سوريا، 2022، ص270.
8- د. رمزي طه الشاعر، النظرية لعامة للقانون الدستوري، دار النهضة العربية، مصر، 2020، ص663.
9- د. محمد رفعت عبد الوهاب، مصدر سابق، ص431.
10- د. رمزي طه الشاعر، مصدر سابق، ص656.
11- د. فتحي فكري، وجيز القانون البرلماني، من دون دار نشر، مصر، 2006، ص471 و511.
12- د. حنان محمد القيسي، مجلس الوزراء، مكتبة السيسبان، العراق، 2014، ص181.
#إياس_الساموك (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟