أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - لهوى رابح - إِلَى أيِّ مَدَى تُشَّكِلُ مَحَارِمُ الشَّرْعِيَّةُ قَيْدًا عَلَى مَبُدَأ حرِّيَة القَاضِي الجِنَائِي فِي قَبُول الأَدِلَة المَعُلُومُاتِيَّةُ المُستَمَدَّةُ مِنَ التَّفتِيش فِي بِنَاءِ هَيْكَلَةِ الإِدَانًة أوْ البَرَاءَة؟















المزيد.....


إِلَى أيِّ مَدَى تُشَّكِلُ مَحَارِمُ الشَّرْعِيَّةُ قَيْدًا عَلَى مَبُدَأ حرِّيَة القَاضِي الجِنَائِي فِي قَبُول الأَدِلَة المَعُلُومُاتِيَّةُ المُستَمَدَّةُ مِنَ التَّفتِيش فِي بِنَاءِ هَيْكَلَةِ الإِدَانًة أوْ البَرَاءَة؟


لهوى رابح

الحوار المتمدن-العدد: 8443 - 2025 / 8 / 23 - 09:22
المحور: قضايا ثقافية
    



إِلَى أيِّ مَدَى تُشَّكِلُ مَحَارِمُ الشَّرْعِيَّةُ قَيْدًا عَلَى مَبُدَأ حرِّيَة القَاضِي الجِنَائِي فِي قَبُول الأَدِلَة المَعُلُومُاتِيَّةُ المُستَمَدَّةُ مِنَ التَّفتِيش فِي بِنَاءِ هَيْكَلَةِ الإِدَانًة أوْ البَرَاءَة؟

اتّسعت في العصر الحديث دائرة استّخدام تكنولوجيا الإعلام و الإتصال نتيجة ما حقّقته للإنسانيّة من اختصار للمسافات و الجهد و الوقت و المال، حيث باتت المعلومات مرتبطة بمختلف مجالات النّشاط الإنساني و صارت عمليات تجميعها و تخزينها و معالجتها و إسترجاعها بمثابة مقياس لرقي الأمم و تحضرها، إلاّ أنّه على الجانب المقابل فقد استغلّ المجرمون هذه التّقنية بكلّ ضراوة بجعلها هدفا لغاياتهم الجرمية أو وسيلة لتحقيقها بعيدا عن أعين السلطات العامّة، على نحو بات من الصّعب في الوقت الرّاهن تصور جريمة ليس لها بعد رقمي.
و من الطّبيعي أن يكون لحالة الصراع بين المجتمع و الجريمة في بعدها التّقني إنعكاسات على طرق الإثبات، من منطلق التّوافق الواجب تحقيقه دوما بين طبيعة الدليل و طبيعة الجريمة التي يتولّد منها، ما أفضى إلى بزوغ وسيلة جديدة من وسائل الإثبات الجنائي إنضمت بجدارة إلى المفاهيم التّقليدية للدليل يطلق عليها "الأدلة المعلوماتية"، من هنا اتّجه البحث القانوني إلى الإعتراف بالحجيّة القانونيّة لملفّات الحاسوب و مستخرجاته ذات المحتوى المعلوماتي، ليس بصورتها الموضوعة ضمن حاوية مادّيّة و لكن بطبيعتها الرّقميّة المحضّة استنادا إلى مبدأ راسخ في النّظام القانوني مبناه حرّية الإثبات الجنائي.
و إذا كان القضاء المقارن قد أسهم بدوره في تكوين معالم الأدلة المعلوماتيّة بمجرّد قبولها لتكوين عقيدته في بناء حكم الإدانة أو البراءة، إلاّ أن هذا النّوع المستجد من الأدلة الجنائية قد خلّف وجها من أوجه التّعارض بين حق المجتمع في مواجهه الجريمة و حق الفرد في التّمتع بحقوقه و حرياته الشّخصية، بحسبان أنّ جلّ إجراءات استرداد الأدلة المعلوماتيّة ممثّلة في المراقبة الإلكترونيّة و التّسرب الرّقمي و تفتيش نظم المعلومات قد تقيِّد بعض الحقوق الأساسيّة للفرد، و في مقدّمتها الحقّ في الخصوصيّة المعلوماتيّة، باعتبار أنّ الحرمة التي يتمتّع بها النّظام المعلوماتي حاليا تجاوزت حرمة المساكن.
فإذا دققّنا النّظر في أخطر هذه الإجراءات الحديثة من حيث تعلّقه بالحريّات الشّخصية و من حيث ما يسفر عنه من أدلة تكشف وجه الحقيقة، لوجدنا أنّ أخطرها مساسا بالشّرعيّة و أكثرها فاعليّة و أهمّية هو إجراء التفتيش عن البيانات المخزّنة التي يحتمل أن تكون لها قيمة إثباتية، و من ثمّ كانت "الشّرعيّة الإجرائيّة للأدلة المعلوماتيّة المستمدّة من التفتيش" موضوعا لبحثنا.
تساؤلات البـحث:
واقع الأمر أنّ هذه الرؤية الجديدة التي أخرجت الأدلة المعلوماتيّة المستمدّة من التفتيش من النّظرة الإستثنائية المتواضعة لتضعها في منطق الأصالة كأدلة كاملة في إطار مبدأ حرّية الإثبات الجنائي، أفضت إلى طرح سؤال فرض نفسه على دراسات القانون الجنائي، يتناول موضوعه البحث في مدى إمكانية تجاوب الأحكام الإجرائية للتفتيش عن الأدلة المادّيّة مع البيئة الرّقميّة دون تجاوز الضّوابط التي يفرضها مبدأ الشّرعيّة الإجرائيّة ؟
إنّ النّقاط التي تثار في هذا الإطار يمكن أن تظّل محل استّفهام لدى فكر الإثبات التّقليدي، فالتفتيش عن الدليل في منطق الفقه التّقليدي يختلف حاله عن النّهج المتّبع في التفتيش عن الدليل المعلوماتي و استرداده، و لعلّ تساؤلا مثير للكافّة هو ذلك الذي يتضمّن البحث عن تفسير لعبارة "تفتيش الأنظمة المعلوماتية"، و التّجاوب مع هذا التّساؤل يحلينا إلى التّساؤل أولا عن المقصود بـ "مستهدف التفتيش المعلوماتي"؟ و مثل هذا التّساؤل ينطلق بالضّرورة من الإعتراف المسبق بكون وجود الدليل المعلوماتي مرهون بوجود حاوية مادّيّة له لا ينفصل عنها، فهل الدليل المعلوماتي بهذا المعنى يتجاوز البيانات بطابعها المعنوي إلى دعامة التّخزين الرّقميّة في صورتها المادّيّة؟
فإذا سلّمنا جدلا من حيث المبدأ بكون الحاسوب مجرّد "حاوية" للدليل المعلوماتي، فإنّ ذلك يحلينا إلى الإستفتسار عن مفهوم "محل التفتيش" في البيئة الرّقميّة، هل هو الحاوية المادّيّة التي يجري التفتيش فيها ممثّلة في النّظام المعلوماتي ككلّ؟ أم يقتصر نطاقه على بعض الملفّات التي يُرجّح إحتواؤها على الدليل؟ دون أن نهمل حقيقة مؤداها أنّ التفتيش يجري في مكان "البيانات" لا يختلف عن مكان تواجد البيانات ذاتها "أجهزة التخزين الرقمية"، فأيّهما يوجب القانون تحديده كمحل لهذا العمل الإجرائي؟
إنّ مثل هذا الإستفهام يقودنا إلى التساؤل حول كيفية تحدّيد أجهزة التّخزين الرّقميّة التي يحوزها المتهم كمستهدف للتفتيش المادي و تخصيص تلك التي تحتوي على الدليل دون غيرها؟ فإذا تجاوزنا هذه المسألة، فهل يمكن فعلا تفتيش هذا الكم الهائل من البيانات المختلطة التي تتشابك فيها الملفات البريئة مع الملفات المجرمة التي تشكل موضوعا للدليل في "موقع التفتيش المادي"؟ فإذا كان الجواب بـ لا ؟ فهل يجوز له ضبط كافّة أجهزة التّخزين الرّقميّة لتفتشيها لاحقا خارج الموقع؟ لأنّ التّعامل وفق هذا المنطق قد يكون جزاءه البطلان، كونه ينطوي على تجاهل صارخ للإذن القضائي، فما هي حدود سلطة المحقق في مرحلة التفتيش المادي؟
على أن ّالأمر لا يقف عند هذا الحدّ، فهذه العملية المشكّلة من خطوتين( التفتيش المادّي يليه التفتيش المعلوماتي) و إن كانت بمثابة حل لإشكالية إستحالة تحديد البيانات المستهدفة بالتفتيش وقت التّجميع، فإنّه يترتّب على هذا القول أنّ السؤال الصحيح حينئذ يتمحور حول كيفيّة الوصول إلى الدليل المعلوماتي وسط كم هائل من البيانات المتشابكة، في بيئة رقمية تنعدم فيها الحدود و الحواجز المادّيّة؟ لأنّه إذا كانت الأبعاد المادّيّة للأدلة التّقليديّة تفرض بشكل طبيعي قيودًا على المكان الذي يجوز تفتيشه كالمنزل أو الشّخص، فإنّه لا وجود لهذه القيود في المجال الرّقمي، ذلك أنّ حجم الملف أو خصائصه الظّاهرية لا تكشف شيئا عن محتواه، فكيف يمكن الوصول إلى الدليل المعلوماتي دون تجاوز نطاق محل التفتيش؟
و إذا كان الفقه ينادي بضرّورة إستعمال برامج حاسوبية خاصّة كأسلوب لتنفيذ التفتيش بغية التّوصل إلى فرز الدليل المعلوماتي عن غيره من البيانات دون إطلاع سلطة التحقيق على أسرار الأفراد، فإنّ هذا الطّرح غير صحيح على إطلاقه، فالقدرات التّخزينية في البيئة الرقمية و هي تستوعب هذا العدد الهائل من البيانات لم تتفاعل كليا مع القواعد الإجرائية حيث لم يتم التّوصل إلى إمكانية قيام عملية فرز ذاتية داخلية للملفّات و استرداد البيانات المجرّمة دون استعراض البيانات البريئة نتيجة استغلال المجرمين لهذه السعة التّخزينية بجعل الأدلة مخفيّة أو مضّغوطة أو مفخّخة أو تحمل عناوين مضلّلة أو مشفرّة أو مدفونة ضمن مساحة التّخزين الفارغة بطرق تجعل من المستحيل اكتشافها دون استعراض عدد كبير من الملفّات، فالوصول إلى البيانات المجرّمة وسط هذا الكم من البيانات يفرض حتما توسيع نطاق التفتيش بامتداده عبر كافة البيانات، و هو ما يتجاوز الغاية من التفتيش كأهم ضمان تقوم عليه نظرية التفتيش الجنائي في حماية الحريات الفردية ، فما هي حدود سلطة المحقق في مرحلة التفتيش المعلوماتي؟
و إمتدادا لذلك كله، يطرح البُعد الأخلاقي ممثّلا في مبدأ النـزاهة إشكالا آخر حول مدى مشروعية إستعمال الحيلة و الخديعة في الوصول إلى محل التفتيش؟ و هل يسوغ للمحقق إجبار المتهم على فكّ التّشفير الذي يفرضه على نظامه المعلوماتي دون أن يناهض ذلك حقّ المتهم في الصّمت و عدم تجريم الذّات؟ و إذا كانت الشّرعيّة الأخلاقية تفرض أن يتم تفتيش الأنثى بواسطة أنثى حفاظا على عورات المرأة التي يخدش حياءها إذا شوهدت، أفلا يفرض الوازع الأخلاقي من باب أولى أن يتم تفتيش النّظام المعلوماتي للأنثى بواسطة أنثى؟ كل ذلك يجرّنا إلى التسؤال عن محدّدات مبدأ النزاهة في التفتيش عن الأدلة المعلوماتية؟
و يقودنا التّجاوب مع هذه التساؤلات إلى ما هو أبعد من ذلك، فالمنطق الإمتدادي الذي تفرضه فعالية التفتيش عن الأدلة المعلوماتية في ظل شيوع تشابك الأنظمة المعلوماتية بفعل شبكة الإتصالات يثير إشكالا قانونيا بالغ التّعقيد، يتعلّق بحدود هذا الإمتداد متّى طال حرّيات الغير؟ و يمكن أن يصل الأمر الى منتهاه حين يثار مفهوم "المكان" محل التفتيش وفق منطق تقليدي حال إجراء "التفتيش عن بعد"، في الوقت الذي تكون فيه البينات المخزّنة موجودة في مكان مادّي آخر على إقليم دولة أجنبية على الرّغم من وجودها إفتراضيا أمام سلطة التحقيق، ما يطرح إشكالية الشّرعية الدوليّة، فماهي إذن حدود البعد الدولي للتفتيش المعلوماتي عن بعد؟
لعل كافّة هذا التساؤلات تدفعنا بدورها إلى طرح سؤال آخر يفرض نفسه بداهة على الباحث، إذا كانت القدرات التخزينية الضخمة لأجهزة التّخزين تفرض الضبط العرضي الشّامل لبيانات المتهم، و التوسّع في التفتيش بما يجاوز حدود الإذن القضائي، فإنّ المنطق يفرض حتما إحتمالية إكتشاف جريمة أو أدلة عرضية لجريمة أخرى غير تلك الجاري التفتيش بشّأنها، فهل يجوز إستعمال تلك الأدلة العرضية في متابعات جزائية جديدة؟ إن كان الجواب بـ (نعم) أصبح التفتيش شاملا في كل حالة بذريعة مواصلة التفتيش بحثا عن أدلة أخرى و هو ما يشكل إعتداء صارخا على الحريات الفردية، و إن كان الجواب بـ (لا)، ضاع حقّ الهيئة الإجتماعية في محاربة الجريمة رغم ظهور الحقيقة من خلال هذه الأدلة، فما هي حدود سطلة المحقق في مرحلة ما بعد التفتيش؟
بطبيعة الحال فمرحلة التفتيش عن الأدلة المعلوماتية ليست سوى أحد طرفي المعادلة، ففي مرحلة عرض الدليل على المحكمة لتقول كلمتها فيه، تثار تساؤلات تزيد من عمق البحث، و ما من شك أنّ أوّل سؤال يتبادر إلى ذهن المحكمة يتعلّق بأصالة هذا الدليل، ذلك أنّ الدليل المعروض عليها ليس سوى تعداد غير محدّد لأرقام ثنائية قِوامها (1-0) على نحو لا تعبر عن قيمة أصلية بمجرّد رفع محتواها من البيئة الرّقميّة عن طريق النّسخ، و هي الطبيعة التي فرضت على المشّرع اعتماد منطق "افتراض أصالة الدليل المعلوماتي" رغم أنّ الحقيقة خلاف ذلك، فهل تحقق هذه النسخة اليقين رغم سهولة العبث بها لتعبر على خلاف الحقيقة؟ و من ثم فإن السؤال سيظل باقيا حول ما هي العلاقة بين المتحصلات المتكافئة لنفس وسائل التّخزين الرّقميّة هل الدليل المنسوخ مباشرة من الذاكرة الداخلية يُفَضل عن ذلك المنسوخ للمرّة الثانية أو الثالثة ؟ فما إذن هي شروط قبول هذا النّوع من الأدلة الجنائية؟
ثم إن الأمر في الحقيقة أبعد من كلّ هذه التّصورات، فإذا تحقّقت شروط قبول الدليل، كيف يمكن للقاضي أن يقدّر قيمته الإقناعية في ظلّ ما يعانيه من أُميّة معلوماتيّة؟ هل هو فعلا مؤّهل للرّد عن دفع يطعن في أصالة هذا الدليل؟ هل هو فعلا يناقش الدليل بحد ذاته أم الخبرة الفنّية ؟ في الحقيقة هناك مؤشرا يوحي بوجود تطور على درجة من الخطورة ممثّلا في مدى استجابة القضاء لعمل الخبير، على النّحو الذي يجعل الخبير موجها له و مثل هذا الأمر يضع الخبير فعلا في مرتبة قاضي الدعوى بما يعزل دور القاضي، فهل يمكننا بعد هذا الحديث عن سلطة القضائي في الإقتناع؟ فما مدى حرية القاضي في تقدير حجية هذه الأدلة؟
إشكالية البـحث:
إنّ هذه الرؤية الحديثة للنّواحي الفلسفية التي تثيرها علاقة التفتيش بتكنولوجيا الإعلام و الإتصال في إطار استرجاع البيانات المخزّنة كقيمة إثباتية تجلي حقيقة الواقعة الإجرامية بأشخاصها، تقودنا إلى الإعتقاد الجازم بأنّ المبادئ العتيدة التي تقوم عليها نظريّة التفتيش عن الأدلة المادّيّة التي إعترف بها- منذ أمد بعيد- فقه القانون و قضائه ليست سوى عزاء تافه لضحايا هذا الإجراء في البيئة الرّقميّة، فهي في الحقيقة لا تعدو أن تكون مجرّد وهم زائف لحماية الحريّات الفردّيّة التي تعصف بها العملية الإثباتية القائمة على الأدلة المعلوماتية المستمدّة من التفتيش، و يصبح حينئذ من العبث طرح سؤال – جرى الفقه إلى اليوم على تكراره- مبناه مدى إمكانية تطويع القواعد التّقليدية للتفتيش عن الأدلة المعلوماتيّة.
إستلهاما من هذه الرؤية التي أبدينا ملامحها في متسهل هذا البحث، و التي لا تعكس ذاتية الأحكام الإجرائية للأدلة المعلوماتية المستمدة من التفتيش، بقدر ما تترّجم تلك العلاقة الجدليّة غير المستقرّة القائمة بين مبدأين أساسيين يحكمان نظريّة الإثبات الجنائي، "مبدأ حريّة الإثبات" و "مبدأ شرعيّة الإثبات"، و التي تندرج في إطار حقين متناقضين، حق المجتمع في مواجهة الظّاهرة الإجرامية في بعدها التّقني، و حق الفرد في التمتّع بحقوقه الرّقمية، و إن كنّا نسلم مبدئيا بضرّورة التّقليل من جمود مبدأ الشرعيّة و جعله أكثر مرونة في ظل المتطلّبات التي تفرضها فعالية التفتيش على هذا النّوع من الأدلة، فإن المنطق يفرض في المقابل بيان نطاق التّضييق الواجب لهذا المبدأ، تحقيقا للتوازن بين هذه الحقوق المتعارضة، و من هنا تبرز الإشكالبية واضحة تبحث عن الحل:
إِلَى أيِّ مَدَى تُشَّكِلُ مَحَارِمُ الشَّرْعِيَّةُ قَيْدًا عَلَى مَبُدَأ حرِّيَة القَاضِي الجِنَائِي فِي قَبُول الأَدِلَة المَعُلُومُاتِيَّةُ المُستَمَدَّةُ مِنَ التَّفتِيش فِي بِنَاءِ هَيْكَلَةِ الإِدَانًة أوْ البَرَاءَة؟
أهمية البـحث:
إذا كنّا قد تعرّضنا في هذه المقدّمة إلى جزء يسير من الإشكاليات الهامة التي يطرحها مضوع البحث، فإنّنا لسنا بعد ذلك في حاجة إلى تأكيد أهميّة هذا الموضوع، خاصّة و أنّ الدراسات العربية - في مجال القانون الجنائي المعلوماتي- على كثرتها لا تزال في غيبة من التّعرض إليه، أمّا بالنّسبة إلى الدراسات الأجنبية فهي على ندرتها متناثرة و مبعثرة بطريقة يصعب الرّجوع إليها، زيادة عن صعوبة لغتها لإرتباطها بمصطلحات تقنية لا عهد للقانون الجنائي بها، و من هنا كانت الحاجة ماسّة إلى تنظير هذا الشتات، في شكل نظرية متماسكة الأركان، فإن لم أوفق في ذلك فقد إلتيقيت على الأقل بأهم ما تثيره من إشكاليات عملية أجبت على بعضها، و إكتيف بلف نظر الفقه إلى تلك التي لا تزال محل استفهام، و لعلنا بعد ذلك إستطعنا أن نجعل لبحثنا أهمّية قيّمة تتجلى من خلال ثلاثة نواحي:
فمن ناحية أولى، يقع موضوع البحث في أكثر مناطق الإجراءات الجزائية دقّة و حساسيّة تثير معها إشكالية الموازنة بين "الفعالية" و "الشرعية" في الوصول إلى "الحقيقة"، إذ لا فارق بين أن تنهتك حريّات الأفراد و حرمة حياتهم الخاصّة بمعرفة أشخاص يعملون تحت ستار القانون أو بمعرفة مجرمين يرتكبون آثامهم بمنأى عن سطوة القانون، خصوصا في الوّقت الرّاهن الذي بات فيه النظام المعلوماتي أقرب إلى المسكن من حيث نطاق و كمية المعلومات الخاصّة التي يخزنها، فاستقر في ضمير الجماعة تمتعه بقدر من الخصوصية يتجاوز المفهوم الراسخ لخصوصية غرف النوم، فالتّعامل مع الخصوصية الرقمية وفق منطق الخصوصية المكانية أو الجسدية هو بمثابة افتئات على الحريات الشخصية، و مثل هذا الأمر ترتب عليه أزمة في الشرعيّة الإجرائية لعدم وجود ضمانات رقمية تراعي هذه الرؤية الجديدة للحقوق الفردية، و لا ريب أنّ التّعرض لهذه الجدليّة يفرز العديد من الإجتهادات القيِّمة.
و من ناحية ثانية، تجرنا أزمة الشرعيّة الإجرائية في التفتيش عن الأدلة المعلوماتية إلى إحياء الدور الخلاّق للقاضي الجنائي، و ليس بخاف عن أحد أنّه ليس لدينا إلا قضاء هزيل لا يتجاوز تطبيق النّصوص بكلّ حذر، و لم يجرؤ الفقه العربي على أن يتجاوز ببصره إلى أبعد مما تعرضت له هذه النّصوص التّقليدية التي تجاوزها الزمن، لذا إضطررنا إلى عقد الأهمية للقضاء المقارن الذي و إن كان منقطع الصلة بنظامنا القضائي، إلاّ أنّه ينفرد في إطار تجاوبه مع المعلوماتية بأحكام متميّزة بعد أن خاض معركة كفاح تجاوزت العقدين من الزمن لأجل تطوير القواعد القانونية لكي تتفاعل مع الرّقمية وفق نظرة فلسفية مضمونها الالتزام بالشرعية الإجرائية بمفهومها الواسع حال التفتيش عن الأدلة و إلاّ فقدت هذه الأدلة أهمية وجودها قانونا، و استقرت في المنطق الافتراضي كواقعة رقمية مجرّدة من أيّ قيمة إثباتية، و من شأن رصد بعض هذه السوابق القضائية زيادة المعرفة و فتح الجديد من الأفاق على نظام لا شك في أهميته، خاصّة و أنّ الإجراءات الجزائية المعلوماتية بشكل عام تتجه نحو تجاوز الحدود الإقليمية بمفهوما المادّي لتقترب أكثر من العولمة.
و من ناحية ثالثة، يرتبط موضوع الشّرعية الإجرائيّة للأدلة المعلوماتيّة المستمدّة من التفتيش بمواضيع وثيقة الصلة به لا تقل عنه أهمية، أهمها نظريّة الإثبات العلمي سواء في بعدها القانوني أو طابعها العلمي، أين نلمس مؤشرات خطيرة في تراجع دور القاضي حال إعمال سلطانه في تقيّيم مدى موثوقية هذه الأدلة و تقدير قيمتها الإثباتية و الإكتفاء بالإنصياع لتوجيهات الخبير التقني، و نعتقد أنّ دراسة جادّة لهذا الموضوع سوف ترصد في ثناياها معايير موضوعية بعيدة عن الطّابع العلمي يُهْتَدَى بها لإعادة إرساء "مبدأ القاضي خبير الخبراء"، و سوف يلاحظ القارئ أنّ هذه المسألة شكلت هاجسا للقضاء و الفقه على مدى عقدين من الزمن لأنّه يتوقّف عليها مصائر المتهمين، و من ثم تزاداد أهمّية البحث لتصبح ضرّورة ملحة سيما و أنّ بوادر هذا الموضوع بدأت تظهر في المحاكم العربية.
منهج البـحث:
لقد إعترفنا منذ البداية بأنّ الأحكام الإجرائيّة للأدلة المعلوماتيّة المستمدّة من التفتيش تبدو في كثير من المسائل منقطعة الصلة بأحكام التفتيش عن الأدلة المادّيّة، و مع ذلك فهي تلقي الضوء على بعض أصل هذه الضّمانات، كما أنّها لا تخلو من الفوائد الفقهية، فضلا عن قيمتها في البحث المنهجيّ ذاته خاصة و أنّ "التفتيش المادي" مقدمة ضرورية للتفتيش عن الأدلة المعلوماتية.
من هذا المنطلق حرصنا من خلال تأصيل موضوع دراستنا على معاجلة مختلف جوانبه بالتحّليل المصغر في كل جزئياته و أصوله العامّة بالمقارنة مع مختلف الأنظمة القانونية، إيمانا منّا بأن الفكر الإنساني في باب الحرّيات الفردّيّة تتلاقى أصوله و تتكامل نظريّاته، و لأنّ التّفاعل القانوني مع الأدلة المعلوماتيّة المستمدة من التفتيش يقف عند حدّ معيّن لم يتجاوزه، فقد كان التّركيز على الإجتهاد القضائي المقارن، و الّذي لا يزال في إعتقاد متسمر أنّه في موضع قصور عن إرساء نظريّة متكاملة لموضوع البحث رغم الأشواط الطويلة التي قطعها، لذا كان المفترض الطبيعي للدراسة أن تنقل من الجزئيات إلى الكليات باستخدام منهج الإستقراء.
خطة البـحث:
تأسيسا على ما تقدم، و اتساقا مع هذا الخط المنهجي الذي فرضته علينا طبيعة الدّراسة، فقد حاولنا لأجل وضع تلك الجزئيّات و تفاصيلها في نسق علمي متكامل تجمعه علاقة الإفضاء، بمعنى أنّ كل تساؤل يؤدي الى نتجية ينبثق عنها تساؤلا يطرح نفسه بداهة على الباحث، وصولا إلى القواعد الكلية التي ترسي المقدمة الأولى لهذه النظرية، فقد إرتأينا تقسيم البحث إلى فصل تمهيدي و بابين:
الفصل التمهيدي: يتناول الماهية القانونية للأدلة المعلوماتية المستمدة من التفتيش.
الباب الأول: و يعالج الأحكام الإجرائية للأدلة المعلوماتية المستمدة من التفتيش.
الباب الثاني: و يتناول حجية الأدلة المعلوماتية المستمدة من التفتيش.
على أن تكون نافلة البحث موجز نتعرض فيه لأهم النّتائج و التّوصيات



#لهوى_رابح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقدمات التفتيش الالكتروني 1 ضبط البيانات المخزنة لدى مزود ال ...
- مدلول فكرتي التفتيش و الضبط في البيئة الرقمية
- نحو ارساء ضوابط اجرائية للتقيش الجنائي الألكتروني - مقدمات ا ...
- مدخل الى قانون العقوبات
- ذاتية قانون العقوبات


المزيد.....




- إسرائيل تقول إن صاروخا أطلق من اليمن -تفتت في الجو-
- وزارة العدل الأميركية تنشر محاضر وتسجيلات مقابلة مع شريكة إب ...
- اجتماع بين وزيري خارجية أميركا وكوريا الجنوبية قبل قمة بين ا ...
- مصرع 5 بانقلاب حافلة سياحية على طريق سريع في نيويورك
- 89 قتيلا خلال 10 أيام جراء هجمات في الفاشر السودانية
- عراقجي يثير التساؤلات حول مصير اليورانيوم: -مدفون تحت الأنقا ...
- ترمب يعين أحد أبرز مساعديه في البيت الأبيض سفيرا لدى الهند
- بوتين يرى بارقة أمل في العلاقات بين روسيا وأميركا خلال ولاية ...
- إدارة ترمب تعتزم إقالة رئيس وكالة استخبارات الدفاع
- -تيك توك- في بريطانيا تحت وصاية الذكاء الاصطناعي


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - لهوى رابح - إِلَى أيِّ مَدَى تُشَّكِلُ مَحَارِمُ الشَّرْعِيَّةُ قَيْدًا عَلَى مَبُدَأ حرِّيَة القَاضِي الجِنَائِي فِي قَبُول الأَدِلَة المَعُلُومُاتِيَّةُ المُستَمَدَّةُ مِنَ التَّفتِيش فِي بِنَاءِ هَيْكَلَةِ الإِدَانًة أوْ البَرَاءَة؟