|
ذاتية قانون العقوبات
لهوى رابح
الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 15:24
المحور:
قضايا ثقافية
دكتور لهوى رابح استاذ جامعي محام سطيف خصائص قانون العقوبات ووظائفه أولا- خصائص قانون العقوبات: يتميّز قانون العقوبات بمجموعة من الخصائص، من بين أهمها طبيعته الّتي تجلعه ينتمي إلى القانون العام، وأنّ نصوصه كلّها آمرة في مضمونها فهي تُلزم المخاطب بها عن طريق التكليف بالالتزام بأوامره ونواهيه، ولعلّ الصفة الجزائية الّتي تتميز بها القاعدة الجنائية تضفي عليها نوعا من الذّاتية فيما تُقرّره من جزاءات تخالف تلك الّتي تقررها باقي فروع القانون( )، وهو ما سنحاول تفصيله على النّحو التّالي: 1) قانون العقوبات فرع من فروع القانون العام: لا تقتصر نصوص قانون العقوبات على حماية حقوق الدولة والهيئات العامة وإنّما يتقرّر أغلبها لحماية حقوق الأفراد( )، و من هنا ثار التساؤل عن هوية هذا القانون و انتمائه؟ هل ينتمي إلى القانون الخاص باعتبار أغلب نصوصه قد تقرّرت لحماية مصالح الأفراد وحقوقهم؟ أم أنّه ينتمي إلى كلّ من القانون الخاص والقانون العام باعتبار أنّ بعض نصوصه تحمي حقوق الأفراد فيعتبر فرعا من فروع القانون الخاص، والبعض الآخر يحمي حقوق الدولة فيعتبر فرعا من فروع القانون العام؟ ( ). لقد أثارت هذه المشكلة خلافا بين فقهاء القانون الجنائي ويتبلور الخلاف في ثلاثة اتجاهات رئيسية بين من يعتبره فرعا من فروع القانون الخاص، وبين من يرى خلاف ذلك فجعل طبيعته كفرع من فروع القانون العام، وبين من يوفق بين الرأيين فيرى بطبيعته المزدوجة. الاتجاه الأول: قانون العقوبات فرع من فروع القانون الخاص. يرى جانب من الفقه إدخال قانون العقوبات ضمن إطار القانون الخاص، وذلك على أساس أنّ أغلب قواعده تهدف إلى حماية حقوق الأفراد في أشخاصهم وأموالهم. فضلا على أنّ هناك دورا للأشخاص في تحريك الدعوى الجنائية عن الجرائم كدور المدعي المدني ودور المجني عليه في حالة الرضا كسبب من أسباب الإباحة ( )، وتعليق تحريك الدعوى الجنائية النّاشئة عن بعض الجرائم على شكوى المجني عليه وأيضا دور صفح الضحية على مآل الدعوى الّتي تنهي إلى الانقضاء كما هو الحال في جريمة الزنا ( )، والقذف والسب والسرقة بين الأصول والفروع والأزواج والعنف اللفظي والنفسي ضد الزوج ( ). الاتجاه الثاني: قانون العقوبات فرع من فروع القانون العام يذهب الرأي السائد والراجح إلى أنّ قانون العقوبات يعتبر فرعا من فروع القانون العام على الرّغم من أنّه يحمي مصالح الأفراد فضلا عن مصلحة الدولة، ولا يثور أيّ شك في ذلك بالنسبة للقواعد الّتي تحمي حق للدولة كحقها في أمنها الداخلي والخارجي، وحقها في نزاهة الوظيفة العامة، وحقها في الحفاظ على المال العام، فهذه القواعد تنتمي إلى القانون العام العام بلا جدال. أمّا القواعد الّتي تحمي حقوقا للأفراد فالواقع أنّها تنتمي إلى القانون العام، ذلك أنّ المشرع إنّما يستهدف من خلال حماية حقوق الأفراد حماية مصلحة المجتمع المتمثلة في أن يأمن أفراده على حقوقهم فيستطيع كلّ منهم أن يؤدي دوره فيه على أحسن نحو، فالمشرع حين يجرم السرقة أو القتل أو الضرب لا يرمي أساسا إلى حماية مصلحة المعتدى عليه، وإنّما يستهدف حماية حقّ الملكية أو حق الحياة أو الحق قي سلامة الجسم، حيث تعتبر هذه الحماية وسيلة المجتمع إلى إقرار الأمن والسلام والنظام في ربوعه ( ). وعلى ذلك، فإنّ قواعد القانون الجنائي سواء منها ما تقرّر لحماية مصالح الدولة أو حماية مصالح الأفراد، إنّما تستهدف في النّهاية تحقيق مصالح المجتمع، و تضع الجاني في مواجهة الدولة وليس في مواجهة المجني عليه، و حتّى في الأحوال الّتي تشكل فيها الواقعة الجرميّة انتهاك لحق الفرد فهي كذلك تضع الجاني في مواجهة المجتمع، ذلك أنّ الشارع الجنائي لا يحمي حقا لفرد إلاّ إذا قدّر أهميته بالنّسبة للمجتمع، إذ بغير ذلك لا يكون جديرا بالحماية المغلظة الّتي يسديها الجزاء الجنائي، و يعني ذلك أنّ الحماية الجنائية للحق دليل على أنّه –في تقدير الشارع- حق للمجتمع إلى جانب كونه حقا للفرد ( ). كما أنّ الدعوى الّتي تنشأ بارتكاب الجريمة هي أساسا دعوى عامة يملكها المجتمع وتباشرها النيابة العامة بإسمه، ولا يملك الضحية أن يستعملها أو يتنازل عليها، كما أنّ العقوبة تُوقع بإسم المجتمع وتنفذ في حق المحكوم عليه ولو عفا عنه الضحية ( )، ولو كان قانون العقوبات يحمي حقوقا خاصة لأنبنى عليه أن يكون لصحاب الحق أن يتصرف فيه وأن يتنازل عن حماية القانون له وهو غير جائز، ولذلك فإنّ قواعد القانون الجنائي تنتمي كلّها إلى القانون العام. وإذا كان المشرّع يعلق على شكوى المجني عليه تحريك الدعوى العمومية الناشئة عن بعض الجرائم، وإذا كان بعض الفقه يذهب إلى اعتبار رضا المجني عليه سببا للإباحة في بعض الجرائم كالإتلاف وقتل الحيوانات فليس في ذلك ما ينفي عن قواعد القانون الجنائي المتعلقة بهذه الجرائم أنّها جزء من القانون العام ( ). وهكذا فإنّ الاعتراض الأوّل الّذي مؤداه بأنّ رضا المجني عليه يبيح أفعالا تعد جرائم، فهذا يعني أنّ قانون العقوبات يحمي بهذه الجرائم حقوقا خاصة، فإنّه يُرد على هذا بأنّ رضا المجني عليه لا يبيح الفعل إلاّ إذا كان للمجني عليه مطلق التصرف في الحق المقصود بالحماية وهو أمر نادر، ثم إنّ وقوع الفعل برضا صاحب الحق لا ينم مطلقا عن اعتداء، فإذا أتلف شخص مالا برضاء صاحب المال فلا يقال أنّه اعتدى على حقّ الملكية ( ). أمّا بخصوص الإعتراض الثاني الّذي مفاده بأنّ القانون لا يجيز رفع الدعوى العمومية في بعض الجرائم إلاّ بناء على شكوى من المجني عليه كما هو الحال الجريمة في الزنا والسرقة بين الأصول والفروع، فإذا قدمت الشكوى فإنّ لمقدمها الحق في التنازل عنها فتنقضي الدعوى العمومية، فهذا دليل على أنّ قانون العقوبات يحمي بهذه الجرائم حقوقا خاصة، و الرد على هذا الاعتراض مؤداه بأنّ هذه الجرائم قلة ضئيلة في قانون العقوبات لا تُؤثر على عموم القاعدة وقد رُوعيت فيها اعتبارات خاصة، ولا ترتبط حالات الشكوى بالجرائم الّتي يبيحها رضا المجني عليه، فالزّنا مثلا جريمة تمس الأسرة وهي نواة المجتمع فلم يٌقصد بتجريمها مصلحة مباشرة للزّوج المجني عليه، وحقوق الزوجيّة ليست من الحقوق الّتي يجوز التّصرف فيها فالاعتداء عليها لا يصححه سبق رضا الزوج المجني عليه بالزنا، أما وأنّ الشارع يعلق السير في الدعوى على شكواه، فلأنّه يرى أنّ مصلحة الأسرة قد تتحقق بعدم إثارة الفضيحة وهو أمر يقدره الزّوج المجني عليه، والأمر كذلك في السرقة بين الأصول( )، ومن ثمّ نخلص إلى أنّ الأحكام الإجرائية الخاصّة لا تنفي القيمة الاجتماعية لهذه الحقوق. ونعتقد جزما أنّ قانون العقوبات استنادا إلى الحجج السابق بيانها الّتي تؤازرها أيضا الرّدود عن الاعتراضات الموجهة لهذا الرأي أنّه فرع من فروع القانون العام. الاتجاه الثالث: الطبيعة المختلطة لقانون العقوبات يذهب جانب من الفقه بأنّ القانون العقابي – بمعناه الواسع-الّذي يتضمن الإجراءات الجزائية والقوانين التكميلية لا يدخل ضمن إطار القانون العام ولا ضمن إطار فروع القانون الخاص، وأنّه يعتبر مزيجا من النّوعين معا، تأسيسا على أنّ له صلات عديدة بكلّ فروع القانون العام والخاص معا، فهو في الوقت الّذي ينظم فيه العلاقة بين الدولة والأفراد ينظم أيضا العلاقة بين الأفراد فيما بينهم، هذا فضلا عن صلته بالقانون الدولي العام وهو قانون خارجي ( ). وتوسط البعض فقال أنّ أحكام قانون العقوبات ذات طبيعة مختلطة تهدف إلى تأمين مصلحة المجتمع وحقوق الأفراد على السواء فلا يتسنى إدخاله في القانون العام أو الخاص ( ). الا ان الراي الراجع في الفقه يذهب الى اعتبار قانون العقوبات فرعا من فروع القانون العام، لانه فضلا عن طبيعته لا يحمي من المصالح الا ما كان عاما منها، فهو عندما يجرم السرقة فان الحماية لا تنصرف الى ملكية شخص معين بل تنصرف الى الحق في التمليك مجردا، كما أنه في القتل و الحرج لا يحمي الا الحق في الحياة و في سلامة الجسم، و ليس حماية القتيل او المضروب، و هكذا في غيرها من الجرائم التي تبدو في ظاهرها مقررة لحماية المصالح الخاصة، حيث لا يكون التجريم الا تحقيقا لللمصلحة العامة، و تاتي المصلحة الخاصة في المرتبة الثانية ( ). 2) قانون العقوبات له الصفة التقييمية والأمرة في الوقت ذاته: إذا كان قانون العقوبات ينظم الأفعال والوقائع المنهي عنها ويقرّر عقوبة لمرتكبها، فإنّه يتضمن بالضرورة أوامر للمخاطبين بأحكامه بعدم إتيان تلك الأفعال وإلاّ تعرضوا للعقوبات المنصوص عليها، ومعنى كلّ ذلك أنّ كلّ قاعدة تجريمية بتحديدها للواقعة المُجرمة تنطوي على أمر بعدم إرتكابها، و قانون العقوبات لا ينص على تلك الأوامر صراحة وإنّما تستفاد من نصوصه، فهو لا يأمر صراحة بعدم السرقة والقتل وإنّما يجرّم السرقة والقتل و من خلال هذا التّجريم تستفاد الصفة الآمرة للقاعدة التجريمة ( ). فقانون العقوبات قانون آمر تتعلق مُجمل قواعده بالنّظام العام إذ ينظم علاقة طرفيها الدولة من ناحية والفرد المتهم أو الجاني من ناحية أخرى، و هكذا لا يُتصور الاتفاق على مخالفة القاعدة الجنائية الموضوعية أو الإجرائية، فالجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات تمثل عدوانا على قيمة جوهرية من قيّم المجتمع أو مصلحة أساسية من مصالح أفراده( ). كما أنّ الدولة تحتكر سلطة توقيع العقاب بوسائل الإكراه بواسطة دعوى عمومية يتقلص فيها إن لم ينعدم دور الضحية في العفو أو تعطيل حق العقاب، وما الحالات الّتي يجيز فيها المشرع التصالح بين الجاني و المجني عليه أو تعليق رفع الدعوى العمومية على شكوى المجني عليه أو طلب أو استئذان أحد الجهات إلاّ محض استثناءات ( )، و من ثمّ نخلص إلى أنّ قانون العقوبات تتميّز أحكامه بكونها من النّظام العام لتعلقها بالمصالح الجوهرية لأمن الدولة والجماعة فلا يجوز الاتفاق على ما يخالف تلك الأحكام تحت أيّ وصف كان، و من طرف أيّ كان، إلاّ وفقا لما هو منصوص عليه في القانون( ). و اضافة لما سبق، فإنّ الصفة الآمرة تتواجد إلى جانبها صفة أخرى تتمثل في تقييم الأفعال الضارة بالمصالح محل الحماية الجزائية، فالمشرع الجزائي قبل تكليفه للأفراد بالأوامر المختلفة بعدم تحقيق سلوك معيّن، و ترتيب أثر قانوني على مخالفة ذلك الأمر، إنّما يقوم سلفا بتقييم الأفعال الجديرة بالتّجريم لإضرارها أو لتهديدها بالضرر للمصالح محلّ الحماية الجزائية ولذلك فإنّ مخالفة الأمر التشريعي من قبل المكلفين بمراعاته إنّما تفترض سلفا أنّ السلوك المتحقق منهم هو سلوك غير مشروع لتعارضه والمصالح الّتي حماها المشرع في نصوصه التجريمية، أمّا الظروف الشخصية لمرتكب الواقعة المجرّمة وما إذا كان أهلا لتنفيذ الأوامر التشريعية من عدمه فهي تُقدر عند بحث مسؤوليته عن ارتكاب الواقعة غير المشروعة، أي عند التّحقق من توافر الركن المعنوي للجريمة( ). فقواعد قانون العقوبات تقوم أيضا بتقويم وتقدير سلوك الفرد، بمعنى أنّها تعكس موقفا بأنّ هذا السلوك مخالف أو مطابق لأهداف هذا القانون و المجتمع( ). 3) قانون العقوبات له الصفة الجزائية: العقوبة جزاء يقرّره القانون و يوقعه القاضي على من تثبت مسؤوليته عن ارتكاب جريمة، حيث أنّ جوهر العقوبة هو الايلام المقصود ويتمثل في ضرر يصيب حقا قانونيا للمحكوم عليه، سواء في بدنه أو في ذمته المالية، أو اعتباره( ). و معنى ذلك أنّ ردة الفعل القانوني على مخالفة التكليف يتمثل في جزاء يأخذ شكل الايلام المقصود و المتمثل في العقوبة، و العقوبة تنطوي دائما على انتقاص من حقوق الشخص الخاضع لها، فخلال الفترة السابقة على مخالفة القاعدة التجريمية يباشر النص على العقوبة أثرا تهديديا على نفسية المخاطبين بأحكام هذه القاعدة بحيث تشكل باعثا مانعا من إتيان السلوك المحظور جزائيا، أما بعد ارتكاب الجريمة وثبوت المسؤولية الجزائية عنها فإنّها تهدف إلى إصلاح الجاني و تأهيليه إجتماعيا حتّى لا يعود إلى الجريمة مستقبلا، وإذا كانت الجزاءات غير الجزائية إنّما تهدف إلى إحداث التوزان بين المصالح، و بالتّالي تشكل ضربا من التعويض، فإنّ العقوبة كجزاء جنائي ترمي إلى تأكيد وظيفة الدولة في الحفاظ على المصالح الجوهرية للمجتمع وهي فضلا عن ذلك تتضمن إرضاءا للشعور الإجتماعي بالعدالة وبالتّالي تنطوي في جوهريها على قيمة أخلاقية ( ). وهذه الخصيصة تشترك فيها العقوبة مع تدابير الأمن، فلا مرية أنّ التدبير الوقائي انتقاص من حقوق المحكوم عليه يهبط بمنزلته في تقدير المجتمع والقانون، عن تلك التي يحتلها المواطن العادي، و يرجع الى كونه قد أثبت بالجريمة الّتي اقترفها أنّه على خلاف هذا المواطن ( ). ثانيا- وظائف قانون العقوبات: 1) الوظيفة الجزائية: يتميّز قانون العقوبات عن غيره من فروع القانون بوظيفته الجزائية من خلال فرض عقوبات معيّنة تتولاها الدولة جزاء لمن يرتكب الجرائم اّلتي ينص عليها. ويتميز قانون العقوبات عن غيره من فروع القانون الّتي تنص على جزاءات معينة، مثل القانون المدني، فإنّه وبالنسبة الى قواعد المسؤولية المدنية يرتب جزاءات مدنية معيّنة بسبب الفعل الضار إذا ما انعقدت المسؤولية التقصيرية أو بسبب الإخلال بشروط العقد، إذا ما انعقدت المسؤولية العقدية، أمّا قانون العقوبات فلا يتدخل بالتجريم والعقاب إلاّ اذا اقتضت ذلك الضرورة الإجتماعية و بقدر يتناسب مع الهدف من الجزاء الجنائي أي العقوبة( )، و هي الوظيفة الّتي لا يتردّد القضاء في تأكيدها( ). 2) الوظيفة الحمائية للنظام العام الجنائي: يستهدف قانون العقوبات حماية المصالح المعتبرة سواء كانت مصالح اجتماعية أو فردية، و يرى المشرع الجنائي أنّها جديرة أن يسبغ عليها حمايته، و تتمثّل تلك الحماية في تجريم الأفعال الّتي تصيب بالضرر أو تعرض للخطر مصلحة من تلك المصالح و تقرير الجزاءات الرّادعة لمن يرتكب تلك الأفعال( ). وهذه الحماية وجب أن تراعي طابع التطور ومسايرة المتغيرات و يبدو ذلك واضحا في تأثير كلّ من الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر و ثورة المعلومات و التكنولوجيا في القرن العشرين، هذا فضلا عن التحديات الّتي ولدها هذا القانون من خلال إعلانات و وثائق حقوق الإنسان وظهور أشكال جديدة من الإجرام والجرائم العابرة للأوطان ولا شك في أنّ هذه التغيرات تعبر عن القيم السائدة وظرورة مواجهة الإجرام المعاصر بوسائل فعّالة تفرض على المشرع مراجعة قانون العقوبات وإدخال التعديلات اللازمة عليه لتحقيق هذا الغرض و كفالة المصالح الّتي يحميها قانون العقوبات على اختلافها والّتي نسميها في مجموعها بالنّظام العام الجنائي ( )، وهو لا يكون كذلك إلاّ إذا كان قانون العقوبات إنعكساسا لحالة المجتمع وترجمة لقيمه الأساسيّة ( ). 3) ارضاء الشعور بالعدالة: فمن الوجهة الاخلاقية، يجب توقيع جزاء مقابل للجريمة، ذلك أنّ اعتبارات العدالة الّتي حلت في الفكر الانساني محل الانتقام تقتضي هذا الأمر، فالشعور العام للناس يقتضي مقابلة الشر بالجزاء وتأييدا لذلك يقول الفيلسوف"كانط": (إنّ غاية الجزاء ووظيفته هي قبل كلّ شيء ارضاء الشعور بالعدالة المتأصل في النفوس البشرية)" ( ). لا شك أنّ قانون العقوبات لا يستهدف فقط حماية المصالح الخاصة الأفراد والمجتمع فقط، وإنّما يسعى أيضا من خلال توقيع الجزاء على مركتب الجريمة ارضاء حاسة العدالة الّتي تتأذى من خروج المجرم على قيم المجتمع وخرق بنيانه، ولا تعود العدالة سيرتها الأولى إلاّ إذا لحق بمرتكب الجريمة أذى ولو لم يقابل ذلك الّذي تسبب فيه للمجتمع وللمجني عليه وبتوقيع الجزاء الملائم على المسؤول عن الجريمة تتحقق المجازاة العادلة إذ يكون أذى العقوبة مقابلا عادلا لأذى الجريمة ولذا وجب أن تتساوى معه( ). غير أنّ الشعور بالعدالة لا يتحقق فقط بتوقيع الجزاء على من قارف الجريمة بل من الضروري كذلك محاولة ترضية الضحية بضمان تعويض مناسب جبرا للضرر الّذي مني به جرّاء هذه الجريمة، هذا التعويض تسعى إلى تحقيقه الدولة المكلفة بحماية الفرد داخل الجماعة، لأنّ الجريمة ما كانت لتقع لولا تقصير الدولة في بسط الحماية لكلّ أفراد المجتمع، فإذا عجز الفاعل عن ضمان التّعويض المستحق تحملته الدولة باعتبارها ضامنة لمن لا ضامن له( ). 4) تحقيق الردع العام و الردع الخاص: إنّ الجريمة قديمة قدم المجتمع الإنساني ذاته، وكذلك العقوبة باعتبارها رد فعل مقابل لهذه الجريمة، وقد اصطبغت العقوبة في العصور القديمة بفكرة الانتقام من مرتكب الجريمة، وكان هذا الانتقام في البداية فرديا يلجأ إليه كلّ فرد اعتدي على ماله أو مصالحه دون حاجة إلى تدخل الجماعة ثمّ أخذت العقوبة طابع الانتقام العام الّذي تتولاه السلطة السياسية ضد مرتكبي الجرائم ثمّ تحولت بعد ذلك إلى مرحلة التكفير الديني وفي مرحلة لاحقة لم تعد العقوبة مجرد رد فعل يتمثل في الانتقام وإنّما أصبحت لها وظيفة معيّنة وهدف محدّد هو منع وتحذير الأفراد من أن يقدم أحدهم على ارتكاب جريمة في المستقبل. وحيث إنّه لما كان الهدف من العقوبة الجنائية هو الزجر الخاص للمجرم جزاء لما اقترف، والردع العام للغير ليحمل من يُحتمل ارتكابهم الجريمة على الإعراض عن إتيانها. 5) التوازن بين مصلحة المجتمع و الحقوق و الحريات: يتعيّن على المشرّع اجراء موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع من جهة والحقوق والحريات من جهة أخرى ويتولى ذلك من خلال ثلاثة أساليب: الأول: تجريم أفعال المساس بالحقوق والحريات و مصلحة المجتمع، مثل المساس بالحق في الحياة الخاصة أو الحق في الحياة، أو الحق في سلامة الجسم، وتمتّد هذه الحماية الجنائية في ذات الوقت إلى الصلحة العامة وخاصة النظام العام ( ). الثاني: كفالة الحقوق والحريات من خلال التوازن في تجريم المساس بها وتجريم المساس بمصلحة المجتمع، فلا يجوز أن تكون حماية المصلحة العامة أو حماية حقوق الغير وسيلة للعصف بالحقوق والحريات مثل حرية التعبير، وحق نشر الأخبار، وحرية البحث العلمي، وحق النقد، فتجريم المساس بالحق في سلامة الجسم لا يجوز أن يمس الحق في العلاج، و تجريم المساس بالحق في الحياة لا يجوز أن يتم التضحية بالحق في حياة شخص آخر أو بالإعتبار مما يخوله القانون الحق في الدفاع الشرعي عن النفس( )، و في هذا الصدد قد يتعرض الفرد لمخاطر التجريم اذا ما تعرض للنوايا ( ). أو ظهرت نصوصه غامضة( ) أو غير دقيقة ( ) أو إمتد التجريم بأثر رجعي إلى وقائع سابقة على صدور النص التجريمي او جاءت العقوبة قاسية لو مهينة أو غير متناسبة مع جرمه( )، ولهذا فان شرعية التجريم و العقاب تتوقف على احترام المشرع الجنائي لمعيار الضرورة و التناسب عند سن القواعد الجنائية ابتغاء ضمان التوازن بين الحقوق و الحريات و المصلحة العامة( ). الثالث: هو ضمان التمتع بالحقوق والحريات كقيد على الاجراءات الجنائية تتخذ لاقتضاء حق الدولة في العقاب تحقيقا لمصلحة المجتمع، فإذا تطلب القانون صدور الامر من سلطة التحقيق بالقبض على المتهم او تفتيشه فلا يجوز ان يكون ذلك بالتضحية على نحو مطلق بحقه في الحرية أو حقه في حرمة مسكنه، كما ان محاكمة المتهم لا يجوز ان تحرمه من حقه في الدفاع ومن التمتع بالحقوق الاخرى بالتوازن مع سلطة الاتهام. وهو ما يبرز دور قانون الاجراءات الجزائية في تكملة اهداف قانون العقوبات. ذاتية قانون العقوبات: مصدر الذاتية: يتميز قانون العقوبات داخل النظام القانوني بذاتية خاصة من خلال حمايته لمختلف انواع الحقوق و المالصح التي تنشأ في علاقات كل من القانون العام و القانون الخاص بمختلف فروعه، مثال ذلك القانون المدني، فهو ينظم الملكية التي يحميها قانون العقوبات من السرقة و النصب و القانون التجاري فهو ينظم الشيك الذي يحميه قانون العقوبات من اصدراه بدون رصيد و ينزم الافلاس الطي يعاقب عليه اذا تم بالتدليس أو التقصير، و القانون الاداري الذي يحكم الوظيفة العامة التي يحميها قانون العقوبات من العبث عن طريق الرشوة او الاختلاس او غيرهما من الجرائم و نحو ذلك( ) و يعني ذلك أن القانون الجنائي يواجه نقص الجزاء الذي تقرره القوانين الاخرى فيقدم لها الجزاء القوي الذي يكفل احترام احكامها، و يساهم في تمكينها من اداء وظيفتها الاجتماعية( ). و قد استخلص بعض الفقهاء من ذلك ان للقانون الجنائي دورا ثانويا في النظام القانوني العام، باعتباره لا يقرر حقوقا، و انما يحمي ما تقرره القوانين الاخرى من حقوق عن طريق وضع جزاءات فهو قانون جزائي Droit Sanctionnatuer و استنتجوا من ذلك ايضا انه اذا استمد القانون الجنائي من القوانين الاخرى فكرة او نظاما كي يحميه او يستعين به في صياغة نصوصه، تعين الاعتراف له بنفس المعنى الذي تقرره له هذه القوانين فالملكية لها في القانون الجنائي نفس مدلولها في القانون المدني و الموظف العام له في القانون الجنائي عين مدلوله في القانون الاداري. و هذا الراي يجانبه الصواب: فالقانون الجنائي لا يقتصر على حماية حقوق تقررها القوانين الاخرى، و انما يحمي حقوقا لا ينظمها فرع بعينه من فروع القانون، و لكن تستخلص من النظام القانوني في مجموعه، كالحق في الحياة او سلامة الجسم. و اذا استمد القانون الجنائي من افرع القانون الاخرى نظاما معينا، فهو لا يعطيه دائما ذات مدلوله في هذه الفروع، و لا يحميه بنفس الصورة، و في ذات النطاق فالموظف العام في جريمة الرشوة ليست له ذات دلالته في القانون الاداري، اذ يوسع الشارع الجنائي من مدلول هذا التعبير و يشبه بالموظف العام اشخاصا ليست لهم هذه الصفة في القانون الاداري( ) ( المادة 02 من القانون 06-01 المتعلق بالوقاية من الفساد و مكافحته). و اذا لم يدخل القانون الجنائي تعديلا على مدلول النظام الذي استمده من قانون اخر ، فقد يقصر حمايته على بعض نطاقه، او يقصرها على وسائل معينة للاعتداء عليه: فالشارع الجنائي لا يحمي ملكية العقار على ذات النحو الذي يحمي به ملكية المنقول، و لا يحمي ملكية المنقول ضد كل صور الاعتداء عليها و انما يجعل نطاق حمياته مقتصرا على صور معينة، و يعني ذلك ان للملكية – من حيث الحماية الجنائية- نطاقا يختلف عن نطاقها من حيث الحماية المدنية( ). و اذا اقتصر القانون الجنائي على مجرد حماية الحق الذي يعترف به قانون اخر دون ان يدخل تعديلا على مدلوله او نطاقه فليس معنى ذلك ان للقانون الجنائي دورا ثانويا، اذ يعني تدخله عجز الجزاء الذي يقرره القانون الاخر و حاجة المجتمع الى تدعميه بالجزاء الجنائي ، و اذا استعمل القانون الجنائي تعبيرا له في احد فروع القانون مدلولا محددا، فالاصل ان تكون له في القانون الجنائي نفس الدلالة، ولا يعني ذلك تبعية القانون الجنائي لهذا الفرع. و انما يفسره كون النظام القانوني كلا تتسق اجزاؤه، بما يستلزم ان يفهم التعبير الواحد في ذات المدلول، ايا كان موضوع استعماله، و مع ذلك فليست نادرة الحالات التي يقرر القانون الجنائي فيها مدلولا خاصا للتعبيرات التي يستمدها من القوانين الاخرى( ). و قد حاول الفقيه karl binding تدعيم الراي المنتقد. نظرية بندنج: يرى بندنج ان مصدر الصفة غير المشروعة للفعل الاجرامي ليس نص قانون العقوبات الذي يقرر العقوبة و انما مصدرها قاعدة قانونية Norm مستقلة عن قانون العقوبات تتضمن الامر او النهي الذي يضع قانون العقوبات جزاء الخروج عليه، فكل قاعدة جنائية تفترض وجود قاعدة غير جنائية، فهذه تقرر الحق الذي يحميه القانون و تلك تحدد جزاء الاعتداء عليه، و يدعم binding نظريته بقوله ان القاعدة الجنائية لا مجال لتطبيقها الا ارتكبت الجريمة و تعين توقيع العقاب على مقترفها، و لكن المجتمع في حاجة الى قواعد سلوك توجه الى الناس كافة، فتحدد لكل شخص مجال نشاطه: و هذه القواعد تطبق و لو لم ترتكب الجريمة، و هي من اجل ذلك غير ذات صفة جنائية و متميزة تماما عن القاعدة الجنائية التي تفترض ارتكاب الجريمة، و يقرر binding انه ليس بشرط ان ينص الشارع على القاعدة القانونية صراحة، ففي اغلب الاحوال تستخلص ضمنا من وجود الجزاء الجنائي( ). و هذه النظرية غير صحيحة: فالحجة التي تعتمد عليها ليست حاسمة فالقول بان وظيفة القانون الجنائي محلها ان ترتكب جريمة، و انه لا مجال لتطبيقه قبل ارتكابها يهدمه ما هو مسلم به من ان للقواعد الجنائية وظيفة الردع العام Prévention générale باعتبارها تتجه الى الناس كافة كي تنذرهم و تبصرهم بالعاقبة السيئة للاجرام، فللقانون الجنائي وظيفة قبل الجريمة وله وظيفته بعدها. ( ) قد يكون لنظرية binding ما يبررها حينما تقرر الحق قاعدة غير جنائية ثم تضع القاعدة الجنائية جزاء الاعتداء عليه، كالوضع حين يعترف الدستور بحق الملكية ثم يتولى القانون المدني تنظيمها و يضع القانون الجنائي جزاء الاعتداء عليها بتجريم السرقة... و غيرها من جرائم الاعتداء على الملكية، و لكن هذه النظرية تفتقر الى السند حينما يضع القانون الجنائي جزاء الاعتداء على حق لم تقرره من قبل قاعدة غير جنائية كالشان في جرائم الاعتداء على الحياة او سلامة الجسم او العرض و اذا افترضنا ان الفعل كان مشروعا ثم جرمه القانون فما مصدر صفته غير المشروعة اذا لم نقل بانه نص التجريم، اذ لت يوجد نص اخر يخضع له هذا الفعل، فالنقد الاساسي الذي يوجه الى نظرية binding انه لا وجود للقاعدة القانونية اذا فصلنا بينها و بين النص الجنائي، اذ ما موضع هذه القاعدة في غير الحالات القليلة التي يتضمنها نص صريح؟ يقول binding ان النص الجنائي يفترضها، و لكن اليس اقرب الى المنطق ان نقول ان النص الجنائي يتضمنها، فهي جزء منه في جميع الاحوال و لو قررها نص غير جنائي، اذ يتصرف فيها القانون الجنائي و يسبغ عليها طابعه ( ). و هكذا فان قانون العقوبات يعاقب على مخالفة بعض القواعد المنصوص عليها في القوانين الاخرى و تسمى بالقواعد extra pénale و من ناحية اخرى فان قانون العقوبات قد يستاثر بالنص على قواعد معينة لم يسبق لغيره من القوانين تنظيمها مثل القواعد المنظمة لجرائم الاعتداء على امن الدولة و جرائم الاعتداء على الاشخاص و تسمى بالقواعد الجنائية الخاصة purement pénale و من هنا، فان جميع المحاولات التي يبذلها البعض لطي قانون العقوبات في داخل القانون العام او في اطار القانون الخاص تعد عبئا يسيء الى الذاتية القانوني لقانون العقوبات، فهذا القانون يمثل بنيانا قانونيا متميزا من حيث أفكاره و مبادئه القانونية و أهدافه ( ).
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صيحات الجينز الجديدة.. فساتين وسترات وحتى إطلالات السجادة ال
...
-
إسرائيل تستهدف احتلال قطاع غزة بالكامل وتحضير ما بعد الحرب
-
شيتاجونج في بنغلادش: أكبر مقبرة للسفن في العالم
-
مروان البرغوثي يعود إلى واجهة التضامن الشعبي والدولي
-
نداء عاجل: حياة مروة عرفة في خطر وتحتاج لرعاية صحية عاجلة
-
استدعاء 60 ألف جندي احتياط.. وزير الدفاع الإسرائيلي يقرّ خطة
...
-
-يورونيوز- عند معبر رفح.. سائقو المساعدات يأملون في دخول غزة
...
-
مشروع استيطاني كبير في الضفة وبرلين تنتقد التصعيد العسكري ال
...
-
تصعيد بين إسرائيل وأستراليا على خلفية الاعتراف بالدولة الفلس
...
-
القضاء الفرنسي يفتح تحقيقا إثر وفاة مدوّن فيديو ينشر مقاطع م
...
المزيد.....
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|