وجدي حسن جميل
الحوار المتمدن-العدد: 8427 - 2025 / 8 / 7 - 14:05
المحور:
القضية الفلسطينية
تُعد دراسة الشخصيات المحورية في تاريخ الشعوب وحركاتها النضالية ركيزة أساسية لفهم مسارات التطور السياسي والاجتماعي. في سياق القضية الفلسطينية، التي اتسمت بتعقيدات فريدة وصراعات متعددة الأوجه، تبرز قامة النقابي العمالي سامي طه الحمران (1911-1947) كإحدى هذه الشخصيات التي لا يمكن إغفال تأثيرها. إن دراسة مسيرة طه لا تقتصر على كونها سرداً لسيرة فردية، بل هي نافذة على حقبة زمنية مفصلية شهدت تشكل الوعي الوطني والطبقي في فلسطين تحت وطأة الانتداب البريطاني والمشروع الصهيوني. هذه الدراسة تسعى إلى استكشاف الأبعاد المتعددة لحياة سامي طه، بدءاً من نشأته المتواضعة، مروراً بتدرجه اللافت في العمل النقابي، وصولاً إلى اغتياله "الغامض" الذي لا يزال يثير تساؤلات حول الفاعلين والدوافع الحقيقية وراءه.
نشأ سامي طه في بيئة بسيطة ببلدة عرابة قضاء جنين. وفاة والده في أوائل الثلاثينات دفعته إلى مدينة حيفا بحثاً عن فرص عمل، وهو ما يعكس مبكراً روح المثابرة والاعتماد على الذات التي ميزت شخصيته. بدأت مسيرته المهنية المتواضعة كمراسل في "غرفة التجارة العربية"، ثم التحق بجمعية العمال العربية الفلسطينية، حيث أظهر سريعاً قدرات تنظيمية وفكرية فاقت مهامه الأولية. لم يكتفِ طه بأداء واجباته الوظيفية، بل دأب على تثقيف نفسه ودراسة الأوضاع العمالية وقوانينها، حتى أتقن اللغة الإنجليزية، مما مكنه من الارتقاء في مدارج العمل النقابي بسرعة ملحوظة. هذا التدرج، من مراسل إلى سكرتير، فكاتب، ومنظم للعمال، ومفاوض نقابي، يعكس إصراره وذكاءه ودرايته المتعمقة بشؤون العمال، حتى أصبح الأمين العام للجمعية. هذه المسيرة من القاع إلى القمة تجسد نموذجاً للقيادة الشعبية التي تنبثق من رحم المعاناة والعمل الجاد.
لم يكن دور سامي طه مقتصراً على الجانب التنظيمي البحت، بل امتد ليشمل قيادة العمل المطلبي العمالي. فقد كان له دور بارز في إضرابات عمالية هامة، مثل إضراب عمال التنظيفات في بلدية حيفا عام 1936، حيث نجح في حشد العمال وإقناعهم بإعلان الإضراب، مما أظهر قدرته على القيادة الميدانية والتفاوض الصلب. إن انخراطه في مثل هذه الإضرابات، في فترة اتسمت باضطرابات سياسية واسعة النطاق كالثورة العربية الكبرى (1936-1939) يُبرز إدراكه العميق للروابط بين النضال المطلبي العمالي والقضية الوطنية الأشمل.
تُسلط الدراسة الضوء على التحديات الجسيمة التي واجهت سامي طه وجمعية العمال العربية الفلسطينية من قبل سلطات الانتداب البريطاني. فلقد تعرض طه للاعتقال أكثر من مرة، كان أبرزها في أعقاب اغتيال حاكم لواء الشمال لويس أندروز في أيلول 1937، وهي حملة طالت الآلاف من القيادات الوطنية الفلسطينية، وشملت حل الهيئة العربية العليا. هذه الاعتقالات المتكررة لم تثنِ سامي طه عن مواصلة نضاله، بل زادت من صلابته وعزيمته، مما يؤكد صموده وإيمانه بقضيته.
تأسست جمعية العمال العربية الفلسطينية عام 1920 على يد عمال سكك الحديد في حيفا. لعبت هذه الجمعية دوراً محورياً في تنظيم الطبقة العاملة بعيداً عن هيمنة النقابات الصهيونية كـ "الهستدروت". وقد شكلت هذه الاستقلالية تحدياً كبيراً، إذ أن "الهستدروت" كانت تسعى لاحتكار تمثيل العمال، بينما أصرت الجمعية على هويتها العربية الوطنية. في هذا السياق، كان للشيخ عز الدين القسام تأثير بالغ في دعم الحركة العمالية العربية وتشجيعها على الاستقلال. لقد كانت علاقته بعبد الحميد حيمور، أحد مؤسسي الجمعية، عاملاً حاسماً في توجيه الجمعية نحو مسارها الوطني المستقل. هذا التأسيس، الذي تم بعد جهود مضنية للحصول على الترخيص الرسمي في 8 آب 1925، يُعد نقطة انطلاق هامة للحركة النقابية المنظمة في فلسطين.
قسم سامي طه تاريخ عمل الجمعية إلى خمسة أدوار رئيسية، تعكس تطور الحركة وتحدياتها: من التنبيه وإيقاظ الوعي في الدور الأول (حتى 1930)، إلى الدفاع عن حقوق العامل في الدور الثاني (حتى 1936)، مروراً بفترة الركود في الدور الثالث (حتى 1942) بسبب قمع الانتداب والثورة الكبرى، ثم الاتجاه الاقتصادي والتعاوني في الدور الرابع (حتى 1946) مع تأسيس الجمعيات التعاونية و"دعم سلطات الانتداب"، وصولاً إلى الدور الخامس (1942 حتى اغتياله في 1947) الذي شهد انتعاشاً كبيراً في النشاط النقابي وتولي سامي طه قيادتها. هذا التطور المتسلسل يُظهر قدرة الجمعية وقيادتها على التكيف مع الظروف المتغيرة ومواصلة العمل رغم الصعاب.
إن مسيرة سامي طه والجمعية التي قادها لم تكن بمعزل عن التغيرات السياسية الكبرى في المنطقة. ففي فترة اتسمت بـ"سنوات الردة في العمل الوطني" (1940-1946)، حيث شهدت الساحة الفلسطينية صعوداً لمحور الهاشميين والبريطانيين ومعارضي المفتي، حافظ سامي طه على قدر من التعاون "الحذر" مع سلطات الانتداب. هذا التعاون، الذي تجلى في زيارات المسؤولين الإنجليز للجمعية وتكثيفها، كان جزءاً من استراتيجية أوسع تهدف إلى إيجاد قيادة بديلة في المشهد الفلسطيني، خاصة بعد "رهان" المفتي أمين الحسيني(الخاسر) على ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني مساومة طه على المبادئ الوطنية، بل يُظهر براغماتيته في التعامل مع المعطيات السياسية المعقدة لخدمة قضيته.
لقد شهدت الفترة الأخيرة من حياة سامي طه تحولاً جوهرياً في توجهات الجمعية نحو الانخراط الصريح في العمل السياسي الحزبي. فبعد أن كانت الجمعية تتبنى شعار الفصل بين العمل النقابي والسياسي، أعلن سامي طه في كانون الثاني 1946 عن تطلع الجمعية لتشكيل "حزب سياسي يكون بمثابة القسم السياسي للحركة النقابية". هذا التوجه تجلى بشكل واضح في المؤتمر الثاني للجمعية في آب 1946، والذي رسّخ المبادئ الاشتراكية الوطنية كأهداف للعمال، وأكد على ضرورة ممارسة العمل السياسي من خلال حزب منبثق عن الحركة النقابية. هذه التطورات لم تكن لتمر دون أن تثير حفيظة الزعامات التقليدية، التي رأت في صعود سامي طه وجمعية العمال تهديداً مباشراً لنفوذها ومصيرها السياسي.
إن اغتيال سامي طه في أيلول 1947 يمثل ذروة الصراعات الخفية والمعلنة التي كانت تعصف بالساحة الفلسطينية. فبينما اتهم أهله ورفاقه الهيئة العربية العليا بالوقوف وراء الجريمة، قدمت الدراسة حججاً متعددة لدعم هذا الاتهام، منها أقوال الحوراني والخفش(وغيرهم) التي تشير إلى أن نفوذ طه كان يهدد الزعامات التقليدية. هذا الاغتيال لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان نقطة فاصلة كشفت عن عمق الانقسامات داخل الصف الفلسطيني، ودوافعها التي تجاوزت مجرد الخلافات التكتيكية إلى صراع على التمثيل والقيادة والمشروع المستقبلي لفلسطين.
هذه الدراسة (التي ستصدر قريبا ان شاء الله) تهدف إلى تقديم صورة شاملة ومتكاملة لحياة سامي طه، محللة السياقات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي شكلت مسيرته ونهايته. من خلال استعراض الأدوار المختلفة للجمعية التي قادها، وتوثيق المحطات الهامة في حياته، وتقديم الروايات والتحليلات المتعلقة باغتياله، ومراجعة بعض الكتب والدراسات التي نشرت عنه دونما كثير من التدقيق والتمحيص وخاصة ما نقلته الباحثة د. بيان الحوت عن مذكرات حسني صالح الخفش- تلك المذكرات التي يبدو انها أتت بناء على ذاكرة الكاتب الخفش (التي خانته بكثير من المواضع) دونما استناد الى وثائق او حتى تدوينات شخصية للكاتب, فجاءت بمعلومات غير دقيقة بكثير من صفحاتها- وبالتالي ما نقله عنها الكثير... تسعى هذه الدراسة اخيرا إلى المساهمة في فهم أعمق لشخصية سامي طه ودوره المؤثر في تاريخ فلسطين الحديث. (بتصرف عن مقدمة دراستي القادمة بنفس العنوان)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟