وجدي حسن جميل
الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 13:14
المحور:
القضية الفلسطينية
تحل بمثل هذه الأيام الذكرى المائة لوصول صاحب الوعد المشؤوم والاستعماري – اللورد ارثر بلفور, لفلسطين للاحتفال بافتتاح الجامعة العبرية على جبل الزيتون - ماونت سكوبس- في نيسان 1925, بمشاركة الاف الصهيونيين ومؤيديهم من انحاء العالم وكذلك العديد من العرب والفلسطينيين الخارجين عن الاجماع الوطني الفلسطيني والعربي الداعي لمقاطعة الاحتفال ومقاطعة استقبال بلفور...
بهذه المقالة سنعرض لاهم احداث تلك الأيام التي واكبت وصول بلفور, الاحتفال والاحتجاج الكبير في فلسطين وبلاد الشام عموما, منذ اليوم الأول لوصوله حتى خروجه من بلاد الشام مُرحلا, مخفورا بحراسة كبيرة وبالخفية خوفا من غضبة الجماهير في دمشق وبيروت.
*********
لم يكن يوم 1/4/1925 اول مرة تحتفل بها الحركة الصهيونية بافتتاح الجامعة العبرية التي اقامتها على ارض عربية اقتناها احد الرعايا الانجليز في الفترة العثمانية ومن ثم حُولت للحركة الصهيونية
, فقد سبق هذا الاحتفال الرسمي والكبير, حفل وضع 12 حجرا أساسيا للجامعة في العام 1918 أوائل الاحتلال الإنكليزي لفلسطين, بقرار مباشر من بلفور وسط معارضة اللورد اللنبي في ذلك الوقت.
وقد جاء في برقية جلبرت كلايتون (رئيس هيئة المخابرات العسكرية بالقاهرة) من القدس في 25/7/1918 تصف الاحتفال الذي اقيم في اليوم السابق امام حشد كبير. "فقد وضع ۱۲ حجرا اساسيا تمثل قبائل اسرائيل الاثنتي عشرة، وحضر الحفلة القائد العام وممثلو القوات الفرنسية والايطالية والضباط الكبار، وكبار يهود مصر ورؤساء الطوائف المتعددة بينهم مفتي القدس (كامل الحسيني- الكاتب) ومطرانها اللذان شاركا بوضع حجرين من الاحجار الاثني عشر..وقد تُليت برقيات التهنئة من الحكومتين البريطانية والفرنسية ومن بلفور..واُختتمت وقائع الحفل بنشيد هاتكفا (الامل بالعبرية) ونشيد (الله يحفظ الملك) . وكانت للامير (الملك لاحقا) فيصل بن الحسين كلمة تهنئة تليت بهذا الاحتفال, الذي قال عنه حاييم وايزمن أنه "أول حجر نضعه في إعادة بناء كيان اليهود السياسي في فلسطين".
ما ان أعلنت السلطات الإنكليزية المحتلة ان بلفور سيشارك بحفل افتتاح الجامعة في الفاتح من نيسان 1925 حتى بادرت اللجنة التنفيذية الفلسطينية بإعلان الاضراب العام بكل انحاء فلسطين داعية لمقاطعة الاستقبال والاحتفال: "وستظهر الامة يوم دخوله الى البلاد وابان اقامته فيها في ابهى مظاهر الاتحاد التام وسيرى العالم ان الامة الفلسطينية ما زالت كما كانت كتلة واحدة تسير في طريق واحدة نحو غاية واحدة".
في كتاب مذكراته ذكر رئيس الدولة الأول حاييم وايزمان انهم توقعوا ردة فعل الأهالي ولم يقلقهم ذلك:
"وقد كان لوصول بلفور إلى القدس أثره على العرب، وقد قدرنا ذلك، لأن المسألة لم تقلقنا، فلقد كانت النتائج معروفة ..فهي لا تتعدى قفل بعض حوانيت العرب فى القدس، ويافا، وحيفا، ثم بعض غوغاء يتظاهرون فى الشوارع، ويرددون نداءات معادة.
لم تقلقنا هذه الأشياء، ولم تشغل وقتنا، وإنما الذي أشغلنا بالفعل هو تدبير أماكن للضيوف القادمين للاشتراك في الحفلة، وكانت القدس في ذلك الوقت فقيرة بفنادقها. وقد تعاون من السكان اليهود في حل هذه الأزمة، وقدم لنا الجميع بيوتهم، فوجه. الضيوف الراحة التامة، أما بلفور واللنبى فنزلا ضيفين على دار المندوب السامي".
...تقرر ان يحمل الأهالي شارات السواد على الصدور ورفع شارات مثلها على الاسطحة والنوافذ والشرفات والحوانيت في كل الاحياء الوطنية, وتقرر صدور الصحف العربية يوم وصوله موشحة بالسواد وباللغة الإنكليزية. وتقرر ايضا اغلاق الحرم القدسي وابواب كنيسة القيامة امام بلفور ومنعه من دخولهما والامتناع عن المشاركة بأي مظاهر احتفالية في الكنائس التي ينوي زيارتها.
واعلن المحامون الفلسطينيون الاضراب التزاما بالقرار , كما قرر تلامذة المدرسة الثانوية في القدس و"دار المعلمين" الاضراب, "وقد شاركهم في هذا الشعور الحي معظم اساتذتهم ومعارضة مديرها خليل طوطح...."ولما سمع مدير المعارف المستر بومن بالامر اهتم له اهتماما كبيرا وذهب الى المدرسة وجمع المعلمين والتلامذة وحاول ان يقنعهم بالعدول عن الاضراب فلم يفلح". واصر الطلاب والمعلمون على الاضراب:
"واخذ يتناقش مع المعلمين قصد ان يعلمهم أن يعدلوا عن الاضراب وبين لهم سوء العاقبة من عملهم هذا، ولكن أربعة من المعلمين اصروا على الاضراب ولم يقنعوا من قول مدير المعارف وتبعهم التلامذة كلهم. فحدث بعد يومين....أن التلامذة اخبروا المعلمين الذين لم يقرروا ان يضربوا انهم لا يقبلونهم في صفوفهم وانهم يخرجون اذا دخلوا هذه الصفوف. فخابر مدير المدرسة مدير المعارف بالامر فأمره ان يقول للمعلمين ان يدخلوا الصفوف فلما دخلوا خرج الطلبة فلما سمع مدير المعارف بذلك فاوض المندوب السامي بما وقع فصدر الأمر باغلاق المدرسة إلى أجل غير مسمى" ...ولدى خروج الطلاب من المدرسة قاموا بالقاء الحجارة على البوليس الإنكليزي وعلى المارة اليهود وهتفوا ضدهم وفقا للصحف العبرية. كانت صحيفة التايمز اللندنية قد دعت سلطات الانتداب لاتخاذ إجراءات حازمة ضد الطلاب المضربين, لكي لا "يقلدوا" مظاهرات الطلاب بمصر, التي كانت متقدة بتلك الفترة ضد المفوض الإنكليزي "ملنر".
وأصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفلسطيني منشوراً بمناسبة قدوم اللورد بلفور حملت فيه على الحكومة الانكليزية حملة شعواء ووصفت سياستها الاستعمارية باللصوصية وشبهت زعماء الصهيونية بقطاع الطرق .وختمت هذا المنشور الطويل بقولها :
فليسقط الاحتفاء باللورد بلفور، وليسقط تصريح بلفور، ولتسقط زمرة اللوردات الملاكين المتهوسين، ولتسقط المخاطرة الصهيونية".
فيما كتبت صحيفة "حيفا" الناطقة باسم العمال العرب تقول:
"يقدم بلفور الى بلادنا ليتظاهر ويعلن ان تصريحه الورقي اقوى من ارادة الشرق العربي بأسره ؛ وما مجيئه سوى مظاهرة انكليزية ضد النهضة الوطنية العربية.
"فليعلم كل مخلص يريد حرية الشعب ان من واجباته المقدمة نحو الامة -وان كان رأيه يختلف عن رأي اللجنة التنفيذية- ان ينبذ الان كل ما فيه ضرر للشعب ولسنا نخال السواد الاعظم من الشعب العربي الموحد الا مدرك اهمية موقفه امام ذلك".
فيما دعت الصحيفة العمال والفلاحين الى الاشتراك بالاضراب وانتقدت قرار اللجنة التنفيذية صدور الصحف باللغة الإنكليزية بذلك اليوم.
في كتابها "خمسون عاما في فلسطين", نقلت المس ايميلي فرانسيس نيوتن (وكانت ممن كتب وترجم مقالات بالانكليزية ضد هذه الزيارة) ما عايشته هنا في فلسطين بتلك الأيام فكتبت تقول:
"وفي سنة ١٩٢٥ اتخذت العدة للاحتفال بتدشين تلك الجامعة العبرية. وكان بين عظام المدعوين بل في طليعتهم، اللورد بلفور. وأقيم ذلك الاحتفال في اول نيسان ١٩٢٥، وحضره اللورد بلفور، صاحب التصريح المشهور. وكان لاشتراك الوزير البريطاني فيه في نظر العرب معنى سياسي ومغزى خطير، ولم يكن شعورهم بخاف على احد. ولاح لي انه حق علي أن اواجه المندوب السامي، واصور له عواقب مثل هذا التحدي لعواطف العرب. واذ كنت افضي بغرضي من المقابلة لموظف كبير من اعوانه فهمت منه ان كل وسيلة اتخذت لدى السير هربرت صموئيل للحيلولة دون استقبال اللورد بلفور لهذه الزيارة، فلم يكن من سبيل الى اقناعه. واشار علي ان اواجه رئيس دائرة التحريات الجنائية بدلا من مكالمة المندوب. وعملت بالمشورة. ومن هذا الرئيس علمت ما كان يدور في خلد المندوب السامي حتى انطلق عن لسانه، حيث قال: « لقد حان للعرب ان يعلموا ان اليهود سادة في بلادهم»..فانقلبت الى اصدقائي العرب، اعلمهم بما هنالك، وأنا مشفقة ان يخرجوا باستنكارهم الى ما لا تحمد عقباه، وما به من جدوى. وكان الزعماء العرب على جانب كبير من التعقل وحسن التبصر، فاكتفوا بإضراب دام ثلاثة ايام، وبشارات حداد سودا على محالهم، ومقاطعة عامة للورد الوزير البريطاني، الا من كان منهم مضطر مجبراً بحكم وظيفة".
وصل بلفور فلسطين على متن باخرة اقلته لمصر (تأخر وصولها لعدة ساعات بسبب رياح عاتية) ومنها لفلسطين, واحتفى به المستوطنون اليهود ايما احتفال في ارجاء البلاد وقاطعه العرب ورفضوا بجموعهم استقباله, سوى قلة من "الخارجين عن الاجماع" اطلقت صحيفة فلسطين على بعضهم لقب "أبو رغال المسلمين ويهوذا المسيحيين", وسوى "بعض المرتزقة ممن احضرهم الصهيوني "كلفرسكي", ومنهم بعض رجال الرملة ويافا وأبو غوش "وعدد قليل من الموظفين". (انظر لاحقا قائمة المستقبلين) وسمع هؤلاء تأكيدات بلفور على وعده وعلى صهيونيته, ففي زيارته لمستوطنة "عيون قارة"(ريشون لتصيون) صرح قائلا:
"انني صهيوني قديم وتمسكي بالفكرة الصهيونية سابق للتصريح (الوعد) بعدة سنين. ويجب ان تتذكروا ان هذا التصريح (الوعد) لم يكن من عندي بل هو قرار الدول الأوروبية جمعاء ولا يمكن محوه".
توشحت البلاد يوم وصوله بالسواد, وأغلقت المحال والتزم الأهالي بيوتهم:
"لقد شاهد المارون في شوارع القدس في اول يوم من أيام شهر رمضان مناظر خطيرة ومدهشة حيث اوصد العرب في فلسطين جميع منازلهم وحوانيتهم ونوافذ منازلهم ورفعوا الاعلام منكسة ووضعوا إشارات الحداد في كثير من الأماكن احتجاجا على زيارة بلفور"..بهذه الكلمات وصفت صحيفة البلاغ المصرية ما كان بفلسطين يوم وصول بلفور اليها. اما المقطم فقد نبهت الى الوحدة الفلسطينية الشاملة التي حدثت بعد فترة من الانقسام والتفرقة :"حتى جاء اللورد بلفور فاتحدوا دون دعوة وتفاهموا دون وساطة".
تحولت البلاد وخاصة مدنها الكبرى الى "ساحات حرب" "فقد كانت السيارات المصفحة تجول في الاسواق، وكانت الفرسان على ظهور خيولها تتمخطر في الشوارع وهي حاملة الحراب الطويلة، وكان السور (بالقدس) مملوءا بالجنود المسلحة عدا عن البوليس والجندرمة الذين كانوا يجولون في الشوارع والازقة الضيقة".."واخذت الطائرات تتجول في الفضاء والجنود المسلحة فوق الأرض " ...
عم يوم 25/3/1925 الاضراب الشامل في ربوع فلسطين, فوقفت حركة الاشغال – المخازن, المصانع, الكمرك, الميناء البحرية – الحمالة, المحامين -, التجار, الباعة, العربيات, السيارات, النقليات ..
ورفض القيمون المسلمين على ساحة البراق "السماح لبلفور زيارة هذا المكان، ورفضوا الاذن الذي يمنح لزائر البلاد المقدسة، غير اليهودي، رفضاً أحس به الوزير الخطير نفسه وكل موظف بريطاني في حكومتها. ومنه ان جوقة الصبيان المرتلين العرب اعلنوا استعدادهم للاضراب ان كلف اللورد بلفور التلاوة في كنيسة القديس جورج" ....
وقد امتنع رئيس المجلس الاسلامي الأعلى عن حضور أي حفلة لبلفور وقد ابى مقابلته وكذلك بطاركة القدس جميعاً .ولما زار كنيسة القيامة زارها ومعه قوة كبيرة تحرسه وكان حاكم القدس بقوم مقام الخوارية والرهبان في شرح الاماكن داخل الكنيسة لأن رجال الدين كلهم "تركوا الكنيسة وابوا رؤية "ذلك الذي جلب على فلسطين الشقاء والنكد. واما الحرم القدسي فقد اغلق في وجه و لم يسمح له بزيارته قط".
واضربت المدارس وعلى رأسها مدارس القدس ويافا والناصرة وشفاعمرو وطولكرم وذنابة وغزة والخليل..وجابت المدن الرئيسية مظاهرات صاخبة ضد قدوم صاحب الوعد المشؤوم, وكان لطلبة الجامعة الامريكية ببيروت دور كبير بهذه الإضرابات ومقاطعة حفل افتتاح الجامعة العبرية كما سنرى لاحقا.
توالت برقيات الاحتجاج من كل حدب وصوب من فلسطين ومن بلاد الشام قاطبة: من شرق الأردن ومن حلب ودمشق ووجهاء اللاذقية, وبيروت...
نذكر هنا ان هانس هرتصل- نجل مؤسس الحركة الصهيونية- نشر مقالا بنفس يوم وصول بلفور الى فلسطين قال فيه انه لا حق لليهود وللصهيونية في ارض فلسطين, "وهي ملك للعرب وحدهم فقط".
وفي يافا خرج أعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني, عربا ويهودا بمظاهرة مناهضة لزيارة بلفور, وتم يوم 31/3/1925 اعتقال 16 متظاهرا, تم إيداع بعضهم بسجن عكا , كما تم طرد 6 من عمال نيشر بتهمة توزيع منشور الحزب الشيوعي انف الذكر.
وفي استجوابه لوزارة المستعمرات في البرلمان الإنكليزي وقف النائب الشيوعي "الرفيق ساكاوتفالا" (من أصول هندية) حول هذه الاعتقالات, اجابه مندوب الوزارة "اورمسبي جور":
"قبض على ستة عشر شخصا يوم وصول اللورد بلفور الى يافا لانهم عملوا عملا من شأنه أن يحدث خللا مباشرة فى الامن .
وأضاف: "أن اولئك الستة عشر شيوعيا أصدروا منشوراً حملوا فيه حملة عنيفة على اللورد بلفور وشتموه باقبح الألفاظ ووزعوا منشورهم في المدينة, فكان ما فعلته حكومة فلسطين ضروريا جداً والا لحدث اضطراب في الأمن".
فأجابه المستر ساكاوتفالا:
"اما كان ستة عشر شابا من شبان الانكليز يفعلون هذا الفعل لو جاء زعيم عربى الى انكلترا واملى عليها شروط الحياة ؟ فلم يجاوبه احد" ...
اضراب المدارس وردة فعل السلطات العنيفة:
كانت ولا زالت السيطرة على المدارس احدى اهم وسائل الأنظمة للتحكم سواء بالطلبة او بالمعلمين وبضبط إيقاع العمل الجماهيري لدى هذه الشريحة الهامة في المجتمع. وكانت مظاهرات الطلاب الصاخبة في مصر آنذاك ماثلة امام قوات الاحتلال الإنكليزي فعملت جادة وبكل ما بوسعها لمنع نقل التجربة الى طلبة فلسطين, فبمجرد ان اعلن طلاب الثانوية الاميرية بالقدس و"دار المعلمين" فيها الاضراب حتى هرع مدير المعارف بنفسه مهددا ومتوعدا (انظر سابقا) ولما فشل بذلك اعلن اغلاق المدرسة ودار المعلمين من صباح يوم 23/3 لاجل غير مسمى. وجاء في البلاغ الرسمي:
"بناء على العصيان الذي نشأ في دار المعلمين والمدرسة الثانوية المركزية حيث رفض الطلبة الدخول إلى صفوفهم واطاعة أوامر المدير فقد قررت الحكومة اغلاق هذه المدرسة اعتباراً من هذا اليوم وارسال الطلبة الى بيوتهم حتى اعلان آخر".
عم الاضراب يوم 25/3/1925 عموم فلسطين ومدارسها وسار طلابها بمظاهرات حاشدة ضد بلفور وزيارته, وتولى طلاب الخطابات ببعض هذه المظاهرات, ففي طولكرم سار الطلاب والأهالي بمظاهرة وصلت "دار الحكومة" ومنها للمسجد حيث وقف الطالب عبد الرؤوف حمزة والقى خطابا باسم التلاميد ثم تبعه التلميذ سعادة الجلاد بقصيدة حماسية. وفي الناصرة سار الطلاب بتظاهرة ورفعوا برقية احتجاج لبلفور وللمندوب السامي جاء فيها:
"فلسطين العربية تعتبر مجيئكم اليها احتقارا لشعورها القومي. الناصرة بلد سيدكم اضربت بيانا لاستيائها من قدومكم اليها عقيب تصريحكم المخالف لكل عدل ولامال العرب".
لم تتأخر السلطات باجراءاتها فاعلنت عن اقفال 8 مدارس حكومية واهلية في عموم البلاد وارسلت طلابها الى منازلهم لاشعار آخر, وقامت بعض المدارس التابعة للارساليات بطرد طلاب شاركوا بالاضراب والمظاهرات, ففي القدس قامت "مدرسة مطران الإنكليز" بطرد 15 طالبا وقامت "مدرسة الكلية الإنكليزية" بطرد 13.
وفي غزة, ذهب التلاميذ في اليوم الثاني الى "مدرستهم فالفوها مقفلة في وجوههم فانصرفوا والتلميذات واخذوا يطوفون في شوارع المدينة منشدين الاهازيج الوطنية، ومما يسر له القاريء ان الفتيات كن يخطبن في المجتمعات مقرعين الحكومة على سياستها ضد الوطنيين، التي تريد بها ان تهدم القومية العربية, حتى قامت اخيرا الى المدارس فاقفلتها في وجوه ابناءها. وابرقوا يحتجون على اقفال مدارسهم بسبب مشاركتهم اباءهم واخوانهم في شعورهم الوطني" ...
كانت مدارس دار المعلمين والثانوية الحكومية بالقدس, ومدرسة طولكرم والطيبة وذنابة وشفاعمرو من بين هذه المدارس التي تم اغلاقها أبوابها.
وفي شفاعمرو تم اعتقال مدير المدرسة الاميرية "هاني أبو مصلح" واحيل على التحقيق لان تلامذة مدرسته اضربوا يوم قدوم بلفور ولانه القي خطاباً نادى فيه بسقوط السياسة الانكليزية العاملة على تطبيق ذلك التصريح.
لم تلبث السلطات الا ان قررت فصل الأستاذ أبو مصلح من عمله بالمدرسة فاحتج وجوه أهالي قرية شفاعمرو لدى الحكومة على فصل مدير مدرستهم. "فاستدعتهم الحكومة بواسطة البوليس وكان في نية البوليس المستدعي ان يأخذ عليهم كفالة ليحضروا لحيفا وفي ثاني يوم حضورهم اضطروا ان ينتظروا اكثر من ساعتين حتى قابلهم حضرة المفتش المستر لويك فاسمعهم كلاما جارحا وقال ان العريضة التي قدموها وقحة باردة وانـه ليس من شأنهم التدخل في مسألة كهذه لا يفهمونها .....
ظلت المدارس مغلقة لغاية 30/3 فيما أغلقت ثانوية القدس ودار المعلمين فيها الى يوم 1/6/1925. وفرضت الاحكام التالية على بعض المعلمين والطلاب فيها:
- نقل الاستاذ جورج معمر الى عكا
- قطع راتب الاساتذة: جورج معمر, درويش الحاج ابراهيم جلال زريق منذ أوقفوا عن العمل ولغاية 19 من شهر حزيران.
- ان يتعهد الاساتذة المذكورون كتابة بأن لا يشتغلوا بالسياسة
- ان يحرم التلميذ مصطفى الطاهر من الاعانة المدرسية
- ان يحرم التلميذ اميل خوري سنة دراسية.
- ان يتعهد التلاميذ كتابة بان يحافظوا على القوانين ويحترموا مدير ومساعد المدير ويعتذروا اليهما" ....
حفل افتتاح الجامعة العبرية 1/4/1925:
استعدت الوكالة الصهيونية بكافة اذرعها وامكاناتها لاخراج يوم افتتاح الجامعة العبرية بمشاركة بلفور على ابهى صورة وهيئة, وارسلت العشرات واكثر من الدعوات لمؤسسات وشخصيات سياسية وعلمية واعتبارية بكل انحاء العالم. وكان العشرات من العرب والفلسطينيين ممن وُجهت اليهم الدعوة للمشاركة بالافتتاح يوم 1/4/1925. وتوجهت "اللجنة التنفيذية لليهود في ارتس يسرائيل/فلسطين" للمواطنين العرب بالدعوة للمشاركة بالاحتفال, فكتبت تحت عنوان: "الى الشعب العربي" تدعوهم للمشاركة "باليوم الاحتفالي الكبير" و"بهذا العيد الثقافي والوطني المعد لخدمة كل اهل فلسطين عربا ويهودا", كما توجهت بعض الصحف والقيادات الصهيونية للعرب بهدف اقناعهم بالمشاركة وبأهمية هذه الجامعة, فكتبت صحيفة "اتحاد العمال" التابعة لنقابة العمال اليهودية (الهستدروت) قائلة:
"أن افتتاح هذه الجامعة في عاصمة فلسطين (كذا بالاصل) ، من خير الامور واعظمها نفعاً للهيئة الاجتماعية في فلسطين ولجمهور العمال بوجه الاطلاق. ذلك لانه اذا لم يكن في وسع الكثيرين منهم سماع محاضراتها وتلقي دروسها في اوقات فراغهم من عملهم في المساء، فان باستطاعتهم ارسال ابناءهم اليها، دون ان يكلفوا شيئاً من النفقات ما دام التعليم فيها مجانيا، وهي تقبل الطلبة من جميع العناصر والمذاهب بلا فرق او استثناء.
وجاء في صحيفة فلسطين:
"لقد استخدم الصهيونيون لهذه الحفلة كل وسائط البروبغاندا المعروفة وغير المعروفة فأذاعوا خبرها في جهات العالم الأربع ودعوا لحضورها كل الجامعات في العالم واذاعوا خبر وصول بلفور بالتلغراف الاثيري وكذبوا على الله والناس ما شاؤوا عن حفلات استقباله واشتراك وفود العرب في محطة اللد وفي الدلب بالاحتفاء به (انظر لاحقا-الكاتب) وعن فشل الاضراب الذي لم يشذ عنه احد من الوطنيين في فلسطين وشاركهم فيه اخواتهم اهالي سوريا !وقد اتصلت بهم القحة فوق دعوة العرب الفلسطينيين إلى دعوة المجمع العلمي السوري والجامعة المصرية والجامعة الاميركية في بيروت للاشتراك في حفلة افتتاح جامعتهم وما زالوا يراودون ملك مصر بواسطة اخصائه من اليهود حتى اذعن بارسال احمد لطفي السيد" ....
ما ان اعلن عن مشاركة لطفي السيد بالاحتفال حتى انهالت البرقيات والمقالات ضد هذه المشاركة, كان أولها برقية موسى كاظم الحسيني رئيس اللجنة التنفيذية للملك فؤاد, وكذلك برقية الجمعية الاسلامية المسيحية في يافا بتوقيع رئيسها عمر البيطار إلى رئيس الوزارة المصري- زيور باشا :
"روت الأنباء اليهودية خبر عزم الحكومة المصرية على حضور حفلة افتتاح الجامعة اليهودية فان صح هذا النبأ فان فلسطين المتألمة تتقدم اليكم راجية اعادة النظر في هذا الأمر حفظاً للعطف المتبادل بين القطرين الشقيقين. "
وارسلت الشبيبة العربية البرقية الآتية إلى رئيس الوزارة المصرية ووزارة المعارف والجامعة المصرية والرابطة الشرقية والوفد المصري والحزب الدستوري والحزب الوطني وحزب الاتحاد وجرائد الاهرام والمقطم والبلاغ والسياسة وكوكب الشرق والاخبار والاتحاد والشورى :
"عزم الحكومة المصرية على الاشتراك بحفلة افتتاح الجامعة اليهودية طعن فلسطين العربية في الصميم, نستحلفكم اقدس الروابط بين القطرين الشقيقين ان تعدلوا فلا يسجل التاريخ على مصر الناهضة اشتراكها في عمل يرمي الى القضاء على القومية العربية في فلسطين" ...
كما ابرقت شخصيات وهيئات نابلس برقيات للملك فؤاد ولحكومته, البرقيات المحتجة والداعية لرفض المشاركة:
"ان عرب فلسطين يعتبرون مشاركة مصر حفلات الصهيونيين شماتة بعاطفة فلسطين الحزينة ويطلبون الا تقدم الحكومة المصرية الى قطع العلاقة القلبية بين قطرين شقيقين". وكانت بتوقيع: عزت دروزة عن المدارس الوطنية -وعن العلماء : محمد تفاحه - عن الشبان :الرحيم جردانه -عن الزراع : إبراهيم عبد الهادي - عن الصيادلة : راشد ابو غزالة عن المحامين عبد اللطيف خماش - مدير النادي العربي رشدی ملحس: عن الاطباء: مصطفى بوشناق معتمد الجمعية الاسلامية المسيحية : حافظ طوقان عن التجار : عبد الرحيم التميمي.
وابرقوا أيضا برقية شخصية للطفي السيد فقالوا:
"الطبقات المفكرة في نابلس تعوذ بالاستاذ لطفي السيد أن لا يتلوث اسمه النقي بحضوره الحفلة الصهيونية ومشاركته الشامتين بعواطف فلسطين والعرب وحقوقهم".
انتقل السجال والنقاش حول مشاركة السيد الى الصحافة, فانبرت صحيفتي الاهرام والسياسة المصريتين للدفاع عن هذه المشاركة واعتبرتهما مشاركة علمية لا سياسية, وأضافتا دعوة للفلسطينيين الى إقامة معاهد علمية وجامعات مشابهة ليشارك بها ممثلو مصر:
فقالت الاهرام:
"على أن اشتراك مدير الجامعة لا يتجاوز حد حضور الاحتفال فقط وفضلا عن ذلك فانه لا يتأخر من زيارة المعاهد العلمية الوطنية هناك كما ان الحكومة المصرية مستعدة للاشتراك بكل محفل علمي بصرف النظر عن أية وجهة سياسية".
اما السياسة فكتبت:
"وردت الينا برقية من سعادة موسى كاظم باشا الحسيني رئيس الجمعية الاسلامية المسيحية ( كذا) في فلسطين موجهة الى جلالة الملك يناشده فيها أن تعدل الحكومة المصرية عن تمثيل مصر في حفلة افتتاح الجامعة العبرية. والواقع ان تمثيل مصر ليس له أية صبغة سياسية بل هو أمر علمي محض وسيحضر مدير الجامعة بهذه الصفة ونود لو يوفق اخواننا الفلسطينيون يوما إلى انشاء جامعة عربية تمثل فيها الحكومة للمصرية".
الى ذلك كانت ردة فعل الفلسطينيين تجاه مشاركة ممثل الجامعة الامريكية ببيروت بهذا الحفل اكثر حدة واكثر شدة, وخاصة من قبل الخريجين الفلسطينيين والعرب ومن طلاب هذه الجامعة.
فاضافة للبرقيات الفلسطينية الرسمية المماثلة للبرقيات التي صوبت نحو الحكومة المصرية, رفع طلاب الجامعة الامريكية ببيروت برقيات احتجاج ورفض لادارة الجامعة ضد هذه المشاركة.
وابرق الطلاب لرئيس الجامعة قائلين:
"ان الطلاب العرب في الجامعة الاميركية من سوريين وفلسطينيين ولبنانيين وعراقيين ومصريين وغيرهم قدموا عريضة الى ادارة الجامعة طلبوا فيها اليها اذا ارادت ان توفد من قبلها من يشترك في حفلة افتتاح الجامعة الصهيونية ان لا يتكلم الموفدون باسم الطلبة العرب الذين لا يوافقون على تلك الجامعة بل يحتجون على الروح السياسية التي ادت الى انشائها", واشاروا في ختام عريضتهم إلى احتمال مرور بلفور ببيروت وطلبوا من عمدة الجامعة عدم دعوته اليها.
ومع امعان الجامعة ارسال ممثل عنها اعلن منتسبو "جمعية الالومني" – خريجو الجامعة الفلسطينيين انسحابهم من الجمعية وحلها واعلن رئيس الجمعية في حيفا – رشيد نصار- استقالته منها , وكانوا قبل ذلك قد حاولوا جهدهم ثني الجامعة عن المشاركة, والتقى وفد منهم مندوب الجامعة البروفسور "داي" ولكن عبثا:
"خريجو الجامعة الأميركية الفلسطينيون يناشدونكم ان تحرصوا على منزلة الجامعة في نفوسهم وفي الاقطار العربية فلا تشتركوا في حفلة /افتتاح الجامعة اليهودية".
"ولما كانت الجامعة الاميركية قد سبق لها ان خدعت وقبلت الدعوة جاءت برقية منها تذكر ذلك وتذكر انها في قبولها الدعوة نظرت إلى المشروع من وجهة علمية بقطع النظر عن الاجناس والاديان والاحزاب فعقدت على اثر ذلك جمعية المتخرجين في يافا (الالومني) جلسة عامة حضرها ثلاثون عضواً وارسلت إلى رئيس الجامعة والنادي الفلسطيني وسكرتير جمعية المتخرجين العام البرقية الاتية :
"حيث أن افتتاح الجامعة العبرية لا يقصد منه فرض علمي محض وانما هو مظاهرة صهيونية سياسية كما يتضح من اقوال جرائدهم وزعمائهم وحيث ان الجامعة الأميركية لا تتدخل في الأمور التي يشتم منها رائحة السياسة, واشتراكها في تدشين الجامعة العبرية خروج من خطتها يطعن العرب الفلسطينيين في الصميم وينشط البروبغاندا الصهيونية التي تسعى لهدم كياننا الوطني.
"وحيث ان التلامذة العرب هم قوام الجامعة لذلك نرجو بالحاح عدم الاشتراك في الحفلة شخصياً محافظة على شعورنا وعلى ما للجامعة من المكانة في نفوسنا لدوام الرابطة بين الجامعة ومتخرجيها.
"وقد علمنا ان جمعية متخرجي الجامعة الاميركية في القدس وجمعية المتخرجين في حيفا قد ابرقتا بمثل هذا الى رئيس الجامعة الاميركية في بيروت.
"على انا مع اعتقادنا بأن هذا الطلب قد جاء متأخراً لا نزال نؤمل أن تتدبر الجامعة الأميركية الأمر بحكمتها.
"اما ملك مصر فلا يجب أن نتخذ اصراره على ارسال من يمثل الجامعة المصرية - فيما لو اصر- دليلاً على عدم عطف اخواننا المصريين على قضيتنا لان المعروف عنه انه لا يعطف على غير مصلحته وفي استياء المصريين منه حجة عليه ولكن يسوؤنا ان يفقد الاستاذ احمد لطفي السيد ما له من المكانة العلمية في نظر اخوانه الفلسطينيين".
كما شنت بعض الصحف المصرية حملة ضد هذا الاحتفال وضد المشاركة به, وكانت صحيفة "كوكب الشرق" قائدة هذه الحملة فكتبت ضد زيارة بلفور ومشاركة لطفي السيد وقالت :
"اليس في مشاركة بلفور امتهان لهؤلاء القوم وهم ضعفاء مغلوبون على امرهم وهل هذا يتفق مع هيبة العلم وجلاله وهل لمثل هذا تفتتح جامعة العلم في العالم".
لم تجد كل نداءات العرب الفلسطينيين نفعا, ولا المعارضة المصرية الشعبية وفقا للكاتب الصحفى محمود عوض فى كتابه «وعليكم السلام -مصر وإسرائيل والعرب.. الجذور والمستقبل», فكان ابرز المستجيبين لهذه الدعوة من العرب وبلدانهم: الحكومة والجامعة (الاميرية) المصرية ممثلة بعميدها احمد لطفي السيد, والجامعة الامريكية فيها (بروفسور جفريس), وكذلك الجامعة الامريكية ببيروت (بروفسور داي) ومندوب عن شرق الأردن (مثقال باشا الفايز- مندوب سمو الأمير) , وممثلي صحف المقطم, الاهرام والسياسة المصرية , وممثل صحيفة "الاخبار" التي كانت تصدر بيافا , وممثل صحيفة "لسان العرب" ورئيس تحريرها إبراهيم سليم نجار, فيما رفضت الجامعات والكليات وعشرات الشخصيات العربية التي تلقت الدعوة المشاركة.
ومن اهم الممتنعين كانت وزارة المعارف العراقية التي رفضت الدعوة بعد حملة صحفية قوية دعت للمقاطعة "رعاية لشعور العرب الفلسطينيين". كما ان "احمد زكي باشا"- العالم المصري "اهمل الدعوة" ورفض المشاركة . "اما المجمع العلمي بدمشق فقد القى دعوتهم في سلة المهملات". وكذلك فعلت الكلية اليسوعية التي رفضت أيضا المشاركة. كما رفض مفتي مصر محمد بخيت مفتي الديار المصرية المشاركة:
"وقد ذهب فريق من يهود مصر إلى الشيخ بخيت ورجوه باسم العلم ان يحضر تلك الحفلة فاعتذر بكبر السن ومشقة السفر فألحوا عليه وعرضوا عليه تسهيلات كبيرة في السفر. فلما ضاق بهم ذرعاً أوضح لهم بأنه لا يستطيع ان يحضر احتفالاً يسيء إلى اهل فلسطين الذين هم في حالة حداد بسبب هذه الجامعة".
بالمقابل كانت مشاركة "احمد لطفي السيد" رئيس الجامعة المصرية -بدعوة قام لوسيان شوتو نائب رئيس الجمعية الصهيونية بالقاهرة ومارك اوفنهايم مدير جمعية الكيرن كاييمت بتسليمها لرئيس الحكومة زيور باشا - اهم المشاركات ومن اكثرها اثارة للنقاش والجدل والمعارضة -كما اسلفنا-, وبالمناسبة اخطأ الكثيرون ممن كتبوا ان الدكتور طه حسين هو الذي شارك بالحفل بدلا من لطفي السيد. وابرزت الصحف الصهيونية واليهودية خبر اشتراك لطفي السيد بهذه المناسبة, فقالت صحيفة "بالستين ويكلي" الصهيونية "ان حضور مندوب مصر هذه الحفلة كان دليلا على ان مصر العاقلة لا ترى في الصهيونية رأي اهل فلسطين". كما أشاد اليهود المصريون بهذه المشاركة, "وقد نوه يوسف بوتشو عضو مجلس الشيوخ المصري واحد المشاركين في الاحتفال بعطف الحكومة المصرية على القضية الصهيونية" ....
جلس احمد لطفي السيد يوم 1/4/1925- يوم حفل الافتتاح, في الصف الثاني على منصة الشرف خلف بلفور واقطاب الاحتلال الإنكليزي واقطاب الصهيونية وممثلي الجامعة العبرية. ونقلت الصحف العبرية انه قام باليوم التالي بالمشاركة بوضع حجر الأساس لكلية بالجامعة على اسم بلفور-اينشتاين, وأضافت انه القى كلمة بهذه المناسبة بدأها بالانكليزية واتمها بالعربية.
كانت صحيفة فلسطين نشرت قصيدة تقريع بحق لطفي السيد قال صاحبها:
يا سيداً قد جئتنا وقلوب قومك هالعة
وشهدت جامعة المطامع لا العلوم النافعة
أنظرت مصرعنا وعينك لا ترفرف دامعة
اخليق بأحمد ان يقاسمنا القلوب الجازعة
لا ان يقاسم خصمنا تلك الوعود الجادعة
لو جاء هذي الارض احمد قبل يوم الجامعة
لرأي فلسطينا تقيم له المحافل ساطعة
ولهرولت من كل حدب للقاء مسارعة
ولقدرت فيه النبوغ وحكمة متواضعة
خرجت الصحف العبرية غداة يوم الاحتفال تعلن "يوم امس احتلينا جبل الزيتون, اعلى واجمل قمة في القدس العاصمة, ذلك الجبل الذي وقف عليه تيطس ينظر للمدينة قبل ان يحتلها ويخرب هيكلها". واعتبر ممثلو الشعب اليهودي في قيام الجامعة "ثأرا تاريخيا", واعتبروا بلفور: "كورش الجديد".
...لم تمض أيام عدة على مشاركته وعلى ضوء الاحتجاج الكبير والنقد الذي وجه اليه, ومن الصحافة المصرية ايضا حتى اضطر للقول بأنه كان يمثل الحكومة وبناء على طلبها، وليس قبولاً منه للدعوة الشخصية أو كرئيس للجامعة حيث أرسلت له دعوة من إسرائيليي فلسطين المسئولين عن الجامعة العبرية، وأنه ذهب لغرض علمى، بالإضافة إلى أنه لم يعلم انه سيُستغل لهدف سياسي.
وبعد برهة من الزمن اجرت صحيفة مغمورة, "الوطنية", لقاء مع لطفي السيد, ونشرته صحيفة كوكب الشرق قائلة:
"نشرت جريدة «الوطنية» بيانا مهما عن اشتراك الأستاذ أحمد بك لطفى السيد مدير الجامعة الأميرية في حفلة تأسيس الجامعة العبرية في القدس، ونذكر القراء بأن إخواننا أهل فلسطين احتجوا على حضوره واشتراكه فى تأسيس الجامعة الصهيونية التي ينظر إليها العرب أبناء البلاد بعين المقت والسخط"، ثم نشرت الصحيفة بيانا من أحمد لطفى السيد نفسه، قدمت له بقولها: "إن صدور هذا البيان من الأستاذ لطفى السيد دليل على أن الحكومة المصرية التى أوفدته قد أخطأت فى تقدير الموقف، ولما كان هذا البيان على جانب كبير من الأهمية رأينا نشره ليطلع عليه المصريون والفلسطينيون والسوريون. كان العنوان العريض للبيان هو: "الأستاذ لطفى السيد يدافع ويعتذر عن اشتراكه فى حفلة الجامعة العبرية".
وقد نقلت صحيفة الشورى البيان وعقبت عليه بالقول:
"نقلت جريدة كوكب الشرق الغراء عن أحدى الصحف الاسبوعية المجهولة (الوطنية- الكاتب) اعتذاراً عن سفرته لفلسطين يوم حفلة الجامعة الصهيونية .وها نحن ننقله مستغربين كيف أن لطفي بك يختص صحيفة مجهولة باعتذاره دون الصحف الكبرى التي يسرها نشر مثل هذا البيان بدون اجرة ....
يقول البيان:
"لقد دُعيت من قبل الجامعة العبرانية لحضور حفلة افتتاحها فاعتذرت، ودعيت الجامعة المصرية فاعتذرت أيضا. ودعت الجامعة العيرانية الحكومة المصرية لارسال ممثل لها في ذلك الافتتاح فلم تر بدا من اجابة الدعوة لان حكومة جلالة الملك ترى واجبا عليها, فوق القيام بنشر العلم في بلادها, أن تعضد العلم في كل مكان على العموم وفي بلاد الشرق المجاورة لها على الخصوص. ولو ان الحكومة المصرية -أعرضت عن إجابة هذه الدعوة لفوتت على نفسها بعض الاغراض التي تسعى إليها خصوصا متى لوحظ أن الدعوة صادرة من معهد علمي كان المفهوم أن لا علاقة له بالسياسة العملية كما هو شأن الجامعات العلمية. فشرفتني حكومة جلالة الملك بانتدابي لهذه المهنة فقبلتها مع الارتياح. فلما كنت في القدس لم أشعر بالمقاطعة التي ذكرتها ولكني مع ذلك أحسست أن المبالغة في الاحتفال بافتتاح الجامعة إلى القدر الذي رأيته، ووصفة رجال كثيرين من القائمين بأمر تأسيس الجامعة، كل ذلك ينطوي على ترويج الدعوة الصهيونية خصوصا اني قد علمت من بعض القائمين بأمر الجامعة ساعة وصولي الى القدس أن لغة الجامعة هي اللغة العبرية. لهذه الاعتبارات التي لم تكن الحكومة المصرية تعلمها من قبل, أردت أن أبدأ بزيارة المجلس الاسلامي الأعلى في مساء اليوم الذي وصلت فيه وقبل أن أزور جناب المندوب السامي بفلسطين. فقابلني هناك فضيلة المفتي وأصحابه على الرحب والسعة وعلمت منهم بالصريح مصداق ما عرفته بالاستنتاج. وبالجملة لما رأيت ان لهذا الاحتفال مرامي سياسية لا تجب الحكومة المصرية ان تشاطر فيها - ولو أحبت لما أرسلت لهذه الغاية وجلا يعتبر نفسه أبعد الناس عن السياسية في بلاده فكيف به في غير بلاده. لما رأيت ذلك أصررت على أن لا أقول كلمة واحدة يؤخذ منها تعضيد مصر لسياسة ترمى إلى تفضيل العنصر الاسرائيلي على العنصر العربي أو تضر العنصر العربي أي ضرر. فلما أصبحت زرت معاهد العلم العربية التي لم تكن مضربة يومئذ وقد تفضل فصحبني في هذه الزيارة حضرة وكيل إدارة التعليم اسعاف افندي النشاشيبي الذي زارني هو وكثير من إخواننا الادباء في فلسطين ولم اشعر مطلقا بذلك الجفاء ولا تلك المقاطعة التي ذُكرت في بعض الصحف. والواقع انى لم اقل في حفلة الافتتاح الا ما يفيد أن الحكومة المصرية لم تكن لتشاطر في كل هذه الحركة إلا الجهة العلمية المحضة دون سواها. ولا أدرى بعد ذلك أي وجه للاعتراض على الحكومة فيما فعلت. فأما ما وردني قبل سفري من احتجاجات فأنت تعلم ان الحكومة لا يجوز لها أن تفرط في واجبها بحجة ان القيام بهذا الواجب لا يوافق بعض الناس، ولقد علمت أن امتناع ممثل الحكومة المصرية عن مشاطرة القائمين بالدعوة الصهيونية فيما يحبون قد كان في مجاملة العنصر العربي أبلغ مما لو كانت قد امتنعت من ارسال ممثل يمثلها هناك، تلك حقيقة ما اظن إلا ان العرب والصهيونيين قد شعروا بها على السواء" ...
وأكد هنري لورنس بكتابه "مسألة فلسطين" نقلا عن وثيقة بالخارجية البريطانية أن السيد قدم اعتذاره للمفتي عن مشاركته مضيفا أنه لم يكن على دراية بالوضع.
فلسطينيون شاركوا باستقبال بلفور وبافتتاح الجامعة:
لم يكن احمد لطفي السيد الوحيد بحفل افتتاح الجامعة وان كان ابرز الحضور واكثر من اُستغل وجوده إعلاميا, فقد شارك بعض العرب والفلسطينيين بهذه الاحداث, اطلقت عليهم الصحف اسم الخوارج او "أبو رغال" و"يهوذا" وذلك لتحديهم قرار المقاطعة الذي أصدرته اللجنة التنفيذية الفلسطينية.
عملت الوكالة اليهودية كل ما بوسعها لاقناع "و"شراء" حضور عدد من الشخصيات "الهامشية" لاستقبال بلفور واظهارهم كممثلين للشعب الفلسطيني ومحاولة اثبات فشل دعوة القيادة للمقاطعة. ولعب رئيس عصبة السلام اليهودي العربي(بريت شالوم) كلفرسكي, دورا كبيرا بتجنيد الحضور للاستقبال وللمشاركة, كما لعبت الاغراءات المالية دورا لا بأس به بهذا المجال.
وكان من أوائل المستقبلين لبلفور وفد من الرملة ومنطقتها عند محطة قطار اللد, وقام هذا "الوفد" بتسليم رسالة لبلفور وتبعها برقيات ترحيب أخرى بقدومه. ولم تنقل الصحف العبرية التي فخرت بهذا الوفد أسماء اعضاءه.
واثناء تجوال بلفور في البلاد وزياراته للمستوطنات اليهودية كان العديد من العرب الفلسطينيين باستقباله وفقا للصحف العبرية, ففي مستوطنة روش بينا/الجاعونة مثلا كان استقبال كبير بمشاركة عربية من وجهاء بدو المنطقة من عرب الهيب والزنغرية. وقام الشيخ "أبو حسين", بالقاء كلمة مرحبا ببلفور ومشيدا بالعلاقات الجيدة بين عرب ويهود المنطقة, "فقام بلفور وصافحه بحرارة". وتبعه شيخ اخر لم يذكروا اسمه. واشادت الصحف العبرية بالاطفال العرب من صفوف الروضة الذين استقبلوا بلفور بالورود, وقالت "انهم كانوا مهندمين جدا وكأنه يوم العيد".
وشارك ممثل قرية "ام جوني" العربية بحفل الاستقبال في مستوطنة دجانيا قرب طبريا. كما القى الشيخ موسى الجزائري كلمة باسم العرب المغاربة في لواء الشمال, وحظي بمصافحة حارة من بلفور. كما شارك شيوخ ووجهاء من أبو غوش وقرية قطرة باستقبال بلفور في مستوطنة كريات عنافيم, ودعوه لزيارة أبو غوش. وكان الشيخ عبد الحميد أبو غوش قد نفى لاحقا مشاركته في افتتاح الجامعة وأرسل محتجا للصحف العربية فكتبت صحيفة فلسطين:
"والحقيقة ان السيد عبد الحميد أبو غوش لم يكن موجوداً في الحفلة (الجامعة) والأمير الذي ذكره مراسل المقطم كان اسم محمد محمود ابو غوش.
"وتساءلت فلسطين: اذا كان السيد عبد الحميد لم يحضر حقيقة وانما بقي علينا ان نسأل السيد عبد الحميد عمن استقبل اللورد بلفور في الدلب لان الجرائد اليهودية ذكرت ان الوفد الذي قابله هناك يرأسه رجال من عائلته ...
وفي مستوطنة بيتح تكفا/ملبس قام أحد الحضور العرب ولثم يد بلفور امام عشرات الحضور العرب واليهود. وفي زيارته لمستشفى "هداسا" بكرمل حيفا, قام احدى مرضى قسم العيون, العرب, وحياه بخطاب باللغة العربية. وأضافت الصحف العبرية ان "شوقي افندي البهائي" كان أيضا باستقبال بلفور في حيفا.
اما في مستوطنة بلفوريا في مرج بني عامر والتي أقيمت على اسم بلفور, فقد كان وفقا للمصادر العبرية عشرات الخيالة العرب "الممتازين" باستقبال بلفور, بحضور الشيخ عبدالله حسين, شيخ الصقور, والامير محمد الزيناتي شيخ عشائر بيسان, وأكدت الصحيفة انهما وكل المشاركين العرب امتنعوا عن تناول الطعام مع الضيوف بسبب صوم رمضان. وقد لبى بلفور دعوة عبدالله وزيناتي وزار مضاربهم وجلس بخيمتهم وشرب القهوة من أيديهم وسط حفلة خيالة بهيجة اقامها المضيفون.
وعلق الكاتب هنري لورنس بكتابه "مسالة فلسطين", على مشاركة "البدو" بالاستقبالات قائلا:
"والحال أن مجرد مجموعة من البدو من وادي الأردن - ذوي الشعور الطويلة تحت الغطرة والعقال وذوي العيون التي زاد الكحل من سوادها والمتمنطقين بالخناجر, وجد الحقيقيين في النهاية بحيث إنهم قد بدوا وكأنهم قد خرجوا للتو من استديو من استوديوهات لوس آنجيليس - قد أخذت تمر وتعاود المرور أمام العدسات السينمائية ومن الواضح أن المراد من وراء حضورهم هو إظهارهم على كل شاشات العالم في صورة الممثلين لأبناء الصحراء الذي كسبتهم الصهيونية إلى حب الكيمياء العضوية" .
بالمقابل وكما اشرنا سابقا فقد لبت الغالبية العظمى من أبناء الشعب الفلسطيني دعوات المقاطعة باستقبال بلفور وإعلان الحداد والاضراب, وقد اشارت واشادت الصحف بموقف أهالي قرية "سمخ" الفلسطينية قرب طبريا الذين رفضوا استقبال بلفور واغلقوا محالهم وبيوتهم بوجهه رغم تهديدات السلطات لهم.
وقد اجملت صحيفة حيفا جولات بلفور بشوارع البلاد بطريقه للمستوطنات اليهودية قائلة:
"كذلك كان مسرى النصر والاحتفاء بشخصية بلفور في باقي المدن الفلسطينية العديدة الذي تحول الى سير خفي لا يفرق عمن يزحف سراً الى منزل عدوه، "واسفاه".. أضطر بلفور في سيره مراراً إلى ان يتحول عن الطرق العمومية (وينسل خلسة) للوصول الى مقصده عن طرق لا يطرقها الناس الا فيما ندر" ...
اما فيما يتعلق بالمشاركة العربية الفلسطينية في حفل الجامعة, فقد تضاربت الانباء حينها بأسماء المشاركين. وكانت الجامعة قد وجهت دعوات للكثيرين من العرب والفلسطينيين. ومن العرب عُلم-كما ذكرنا- مشاركة وفد مصري ممثل باحمد لطفي السيد ورئيس الجامعة الامريكية بالقاهرة, وممثل الجامعة الامريكية ببيروت, إضافة الى مثقال الفايز ممثل امير شرق الأردن, "ومرشد بك شاهين وحالته معلومة في الخليل والشيخ عبد الحميد ابو غوش. اما مشائخ بيسان فيقول الكرمل ان الذي اقتادهم هو الدكتور بركوفتش الصهيوني . وقد ذكرت جريدة الاخبار اليافية (بندلي غوراني- الكاتب) ان صاحبها كان بين اولئك الاساتذة وان ابرهيم افندي عابدين أحد وجوه الرملة ومؤسس الاحزاب الزراعية فيها كان حاضراً ايضا وصافح فخامة اللورد بلفور والمندوب السامي".
اما صحيفة فلسطين فقد ذكرت مشاركة "الشيخ خليل الخالدي ووجيه مراد وراشد الحداد من القدس والشيخ يونس الخطيب من حيفا وثلاثة من عربان بيسان جاء بهم المستر كلفرسسكي وهم الشيخ محمد الزيناتي والشيخ عبد الله الحسين وآخر لم يعرف مخبرنا اسمه - اما من قضت عليهم وظائفهم الرسمية بالحضور فهم راغب بك النشاشيبي رئيس بلدية القدس وعلي أفندي جار الله عضو محكمة الاستئناف والخواجا متري سلامة مدير محل كوك. وبالرغم من كون الدعوة أرسلت الى الوف من العرب فلم يحضر الحفلة احد خلاف من ذُكر".
وكتبت هآرتس ان الحضور من العرب: لطفي السيد, راغب النشاشيبي, علي جار الله, شيوخ بيسان محمد زيناتي و"أبناء الشيخ عبدالله حسين, ومندوبي حزب الزراع....وقفوا جميعا اثناء عزف النشيد القومي الصهيوني "هتكفا" .
كانت صحيفة الشورى قد ذكرت ان الدعوة وجهت أيضا الى عبدالله الناشف, "سكرتير الحزب الوطني" بطولكرم وتساءلت "عن علاقة عبدالله المذكور بالجامعة والجمعية بالوقت الذي لم تدع غيره من اهل هذه الجهات", ولم نعلم أشارك ام لا.
وكانت الصحف العبرية قد قالت ان اسعاف النشاشيبي سيشارك أيضا, ولم نعلم عن مشاركته فعلا.
بلفور طريدا من دمشق وبيروت:
"خرج اللورد الوزير من فلسطين بسلام، قاصداً دمشق الشام. وما خيم الظلام الا وقد احتشدت اقوام حول الفندق الذي نزل فيه فبات وخيبته في زيارة هذه المدينة القديمة اشد نكاية في نفسه. فما اصبح الا وقد بلغ تحرج الامور حد الخوف على سلامة الزائر الخطير، حتى ان السلطة الفرنسية اضطرت الى ترحيله سراً بسيارة انزلقت به انزلاقاً خفياً، في مسارب خلفية الى مدينة بيروت. فما رأى من دمشق شيئاً غير مظاهر السخط الصاخب. ولا رأى شيئاً من بيروت، بل مر فيها خفية، توا الى باخرة فرنسية راسية في مينائها. وهناك اقام مخفوراً محروساً ثلاثة ايام ريثما قامت الباخرة، ووجهتها مرسيليا". بهذه الكلمات لخصت المس نيوتن زيارة بلفور لدمشق ومن ثم بيروت.
لم تنجح جهود جورج انطونيوس وكيل مدير معارف فلسطين في اقناع زعماء سوريا "بحسن استقبال بلفور": "فقد أرسلته حكومة فلسطين إلى الشام في مدة زيارة بلفور ليعجم عود الزعماء هناك ويمهد الطريق لزيارة بلفور ولكنه لم ينجح في شيء بدليل ما حصل لبلفور فى الشام مما هو معلوم" ...
ونقل هنري لورنس ان جورج أنطونيوس، الذي كان آنذاك وكيلاً للتعليم في فلسطين، هو الذي كان قد كلف بمرافقة اللورد بلفور. وأضاف ان "القنصل يرى أنه قد أدى واجبه بكثير من الكياسة" .
اجتمع الناس وطلاب المدارس العالية اليوم في جامع بني أمية . وقد حضر الاجتماع كثيرون من طلاب المدارس المسيحية، وبعد انتهاء صلاة الظهر وقف أحمد الشبان والقى كلمة بين فيها للحاضرين أمر الحكومة بعدم القاء خطب غير دينية في المساجد "واردف بكلمة دعاء حار بشأن خلاص فلسطين من يد المغتصبين"، وفي الساعة الثانية عشرة والنصف خرج الجمع من المسجد بكل هدي وسكون فمنعتهم قوة الدرك التي كانت تدور في الشوارع وضربت بعضهم بالبنادق فتظاهر الوطنيون وهتفوا بسقوط بلفور ووعده المشؤوم والتف حول الدرك ما ينيف على الخمسين شرطيا واخذوا يضربون الأهلين العزل بالبنادق والعصبي .. فلم يثن ذلك من عزمهم وواصلوا سيرهم هاتفين بسقوط بلفور وحياة فلسطين عربية حرة. وكانوا مواصلين سيرهم نحو نزل فيكتوريا الذي نزل فيه اللورد بلفور.
ولم وصلوا ساحة الشهداء وقعت هناك المعركة الشديدة بين الاهلين الذين اخذوا يرشقون الدرك بالشرطة بالحجارة الموجودة هناك فقابلهم هؤلاء باطلاق الرصاص...وكان حماس الجموع شديداً بحيث لم تستطع القوة أن تردهم على اعقابهم، و داست سنابك الخيل كثيرين...وحاولت الشرطة ان تمنع الاهالي من الوصول إلى نزل فكتوريا فقطعوا عليهم خط الرجعة وواصلوا سيرهم من بين الطرقات والازقة، واطلق الجند الرصاص وكان صوته يصم الاذان...
وبعد حين ليس بقليل جاءت خيالة الجيش الأفرنسي المغاربة "السباهي" واخذت تضرب جمهور الاهلين بالسيوف التي شرعوها. فاصيب احدهم بجرح اليم فى ظهره . واطلق هؤلاء الفرسان الرصاص فاصيب احد الحوذية برصاصة طائشة وحالته تنذر بالخطر فكان اول ضحية لوعد بلفور".... ومنع الأهالي دخول بلفور الى المسجد الاموي. وأشارت الصحف الى رد فعل احد الضباط الفرنسيين الذي قال لما رأى "استقتال الاهلين":
C EST LA FORCE DE LA NATION! "هذه قوة الامة".
"لم تهدأ الحال في دمشق يوم الخميس الا بعد الساعة الثالثة مساء وقد بقي رجال الشرطة ودوريات الدرك يطوفون المدينة الى ساعة متأخرة من الليل وظل فرسان السباهي والسيارات المصفحة مرابطين في ساحة المرجة الى ان انقضت صلاة التراويح بعد العشاء...
"اما الجرحى والقتلى الذين دخلوا المستشفى فيبلغ عددهم (15) جريحاً منهم ثلاثة أصيبوا بجراح خطرة توفي احدهم متأثراً مما اصابه وهو محمد علي البلله من قرية دوما, ولا يزال الاثنان تحت الخطر. وقد اجريت عمليات بسيطة لعشرة من المجروحين فضمدت جراحهم وتركوا المستشفى في يوم الجمعة وجرح اكثرهم بسيوف السباهي"....
"وقد اخلت الحكومة بأمر من فخامة الجنرال سبيل الموقوفين الذين بلغ عددهم (58) شخصاً وذلك بعد سفر اللورد بلفور" ....
"كان في نية اللورد بلفور ان يزور الجامع الأموي وبعض الامكنة التاريخية في دمشق (وبعلبك في لبنان) ولكنه لم يستطع إلى ذلك سبيلا كما انه لم يتمكن من زيارة الجامع الاقصى في القدس ولا رأى من يقابله من سدنة كنيسة القيامة وهكذا كانت المعابد والمعاهد الاسلامية والمسيحية في البلاد العربية كقلوب اهلها موصدة في وجه صاحب السياسة الغربية".
وعن تهريب بلفور بالسر والحيلة من دمشق كتبت الصحف ان الامر تم بالاتفاق بين قنصل بريطانيا بدمشق مع سراي- المندوب السامي الفرنسي, الذي زار بلفور بالفندق لبضع الوقت وغادر وما لبث ان عاد بعد ساعة من الزمن واوقف سيارته خارج الفندق عند الجسر امام تحشد الجماهير, وقامت الطائرات بنفس الوقت بالتحليق فوق المكان بهدف جذب الأنظار, فأستغل بلفور الفرصة وركب ومرافقيه سيارة سراي وهرب من دمشق باتجاه بيروت. وسار بين سيارات محشوة جنودا وبوليسا سريا.
وكانت الصحف البريطانية قد شنت نقدا لاذعا ضد فرنسا بسبب ما حدث بدمشق وبيروت متهمة السلطات هناك بالتقصير بحمايته وعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة من اجل ذلك, وتساءلت وتسائل أعضاء في البرلمان البريطاني فيما كان لدى السلطات الفرنسية علم مسبق بهذه الاحداث التي كان فيها تهديد لحياته الشخصية وللعلاقة المشتركة بين البلدين, فرنسا وبريطانيا؟ وورد في احدى الوثائق ان الإنكليز والصهيونيين "اشتبهوا" بأن الفرنسيين قد تركوا الاحداث تقع "لكي يبرهنوا على ان البريطانيين لا شعبية لهم, مثلهم (الفرنسيين) عند العرب".
فرضت السلطة الفرنسية في دمشق غرامة بقيمة 500 ليرة عثمانية ذهب على بلدة ازرع من اعمال حوران لان زجاج القطار الذي كان يقل اللورد بلفور رشق بحجر من احدهم فانكسر ولم يُعرف الفاعل".
ومن ذيول هذه الزيارة نقلت الصحف أيضا "أن السيد توفيق عجم أوغلو الطالب بمدرسة الحقوق بدمشق كان يريد الاقتراب من الفندق الذي نزل فيه اللورد بلفور لما كان اللورد هناك فمنعه حبيب الكحالة أحد أعضاء المجلس التمثيلي المعينين ويقال أنه أهانه .وقد غضب ذلك الشاب الأبي لنفسه فذهب مند بضعة أيام إلى المجلس فشهد جلسته ولما انفرط عقده وخرج الاعضاء تقدم توفيق افندي عجم نحو حبيب الكحالة ولطمه على خديه صفعتين شديدتين. وروت الصحف انه بعد أن صفع الكحالة انصرف بدون أقل اهتمام، وكان ينزل درج السراي على مهل كأنه لم يصنع شيئا. اما النائب المصفوع فانه صاح من شدة الضرب وألم الإهانة" ....
في بيروت:
.....في بيروت وقبل قدوم بلفور وبعد صلاة الجمعة في مسجد بيروت "نهض أحد القدسيين وخطب فى المسلمين ان اللورد بلفور هو صاحب الوعد المشؤوم الذي يجعل موطن عيسى نهباً مستباحا لجماعة الصهيونيين بل يصير المسجد الاقصى بين ابدي زمرة من أعدائه فكونوا يا ابناء بيروت عصبة واحدة وانقطعوا يوم قدومه. فوقف الشيخ عبد القادر النحاس خطيب الجامع معترضا بأن الجامع جُعل للعبادة وليس للسياسة. فخالفه المصلون وكادوا يهرقون دمه لولا فراره بمعاونة اخوانه وآله ...
ما كادت تذيع اخبار دمشق في بيروت حتى اخذ الحماس من أهلها كل مأخذ وقرروا أن يكون الاضراب يوم قدوم بلفور اليها عاما ووزعت في البلدة الوف من النشرات جاء فيها:
"فلسطين الحزينة المنكودة، مهد السيد المسيح وأولى القبلتين وثالث الحرمين, فلسطين ضحية الظلم والاستعمار, فلسطين ضحية بلفور وعهده المشؤوم، فلسطين المجللة بالسواد، تدعوكم إلى مشاركتها بحزنها وحدادها، وتناشدكم الله والشرف والنخوة العربية ، تناشدكم الاباء وعزة النفس: أن تظهروا سخطكم على ما اصابها من الظلم, وتدعوكم باسم الرابطة القومية وباسم الامة العربية إلى مقاطعة بلفور الظالم الذي اساء إلى العرب والإنسانية بمجيئه الى فلسطين ليشاهد بعينه ضحية جنايته" .....
"وقبل أن يصل إلى بيروت ارسلت حكومتها إلى صوفر مدير الأمن العام في المفوضية العليا وبعض رجال الشرطة السريين اللبنانيين ثم بثت في بيروت نفسها رجالها مشاة ورکبانا على مفارق الطرق ومنعطفات الشوارع حتى لا تؤخذ على غرة وحتى لا تثور النار التي اشتعلت في الشام, وكان شباب بيروت قد استعد لاضرام مثلها. ولما بلغ مسامع الاهالي خبر وصوله وقد كانوا ينتظرونه نهار السبت تجمهروا في كل الطرق المؤدية إلى الجبل فاضطرت السلطة ان تمر به بطريق جمهور - بعبدا ومنها إلى الحدث فالغبيري ثم انعطفت عن الشوارع الرسمية الى طريق الساحل الجديد -طريق الروشن– وانزلته في زورق بخاري يخصها الى الباخرة "سفنكس" مع قنصل بريطانيا الذي كان بانتظاره" ....
"ولما كانت الباخرة سفنكس لا تغادر مرفأ بيروت قبل نهار الاحد ظل اللورد بلفور سجيناً فيها فلم ير من بيروت الا بقدر ما رأى من دمشق حيث كان سجين الفندق ايضاً .....
"غادر اللورد بلفور ميناء بيروت قاصدا الى مصر فانكلترا، حاملا من زيارته لهذه البقعة العربية ذكريات لا نعتقد أنه ينساها في امد قريب. لان الرجل الدموي، الذي اضطر الى الانزواء في غرفته بدمشق، وفي الباخرة ببيروت لا يستطيع ان ينسي بسهولة هذا الانزواء المرغم، وهو الذي تتحرك بأمره الجيوش وتفتح امامه وامام ادواته مخلفات الحوادث".
وعلقت المقطم على احداث دمشق وبيروت قائلة:
"إن موقف دمشق الأخير يعيد إلى الذاكرة موقف فلسطين سنة 1919، يوم قدمت لجنة المستر كراين الأمريكية (لجنة كينغ – كراين) لاستفتاء السوريين والفلسطينين في نوع الحكم الذي يختارونه. فقد طافت فلسطين من أقصاها إلى أقصاها واجتمعت بشيوخها وشبابها فسمعت منهم جواباً واحداً اذهبوا إلى دمشق) واسألوا قادتهم الرأي فنحن لهم متابعون وبكل ما يقرونه راضون هذا هو الموقف الذي وقفته فلسطين يوم نزلت بلادها لجنة كراين وضربت للبلاد العربية مثلاً عالياً في الاتحاد والتضامن. وقد دلت زيارة بلفور لفلسطين على أن الروح التي سرت في بلاد العرب سنة 1919 لا تزال صحيحة, ووقفت دمشق نفس الموقف الذي وقفته يومئذ تنادي أن بلاد الشام وحدة لا تتجزأ وأن فلسطين للفلسطينيين دون سواهم".
اما النفير فقد اجرت مقارنة بين موقفي السوري وموقف الحكومة المصرية فكتبت تحت عنوان "نحن والشقيقتين":
"حيا الله سوريا الشقيقة التي ما زالت تشعر أن نكبة فلسطين نكبتها هي فتدافع عنها وتشاركها في المها وحدادها واحتجاجها. سلام على نفوس عالية برهنت للعالم اجمع ان السياسة التي مزقت اوصال الشرق وجزأته لا يمكنها ان تقيم حاجزاً بين قطرين شقيقين كانت مصائب الحرب العظمى ونتائجها الجائرة مشتركة بينهما.
اما الحكومة المصرية ؟
تلك طعنت فلسطين في صميم قضيتها بارسالها مدير دار كتبها احمد لطفي السيد ليمثلها في افتتاح الجامعة دون ان تبالي بالشعور السيء الذي تخلفه هذه الزيارة فى نفوس العرب عامة" ...
صحيفة الحساب لسان حال الحزب الشيوعي المصري فقد علقت على زيارة بلفور لسوريا فكتبت تقول:
"كأن لم يكفه ما فعلته زيارته لأهالي فلسطين وأي تذكار مؤلم تركه في أنفسهم فأراد أن يتسلى بنفسه بين أهل سوريا ويتلهي بأن يتفرج على عذابهم وألمهم عندما يزورهم بائع شقيقة بلادهم للمستعمرين من اليهود".
وقد استعرضت الصحيفة وقائع المطاردة العنيفة التي قامت بها الجماهير السورية واللبنانية في كل من دمشق وبيروت ضد اللورد بلفور مما اضطره الى الفرار من المدينتين طلباً للنجاة.
اما علي بن الحسين- ملك الحجاز فقد رحب بحديث مع صحيفة "فتاة العرب" بمظاهرات دمشق ضد بلفور.
....في ذكرى الاربعين لشهداء "يوم بلفور" بدمشق, احتفلت مساجد فلسطين بذكرى شهداء دمشق الذين قتلوا في المظاهرات العظيمة التي قامت ضد بلفور. وأبرقت فلسطين بذلك إلى دمشق برقيات منها برقية الجمعية الاسلامية للمسيحية والنادي النابلسي العربي بنابلس: "النابلسيون الذين يحتفلون اليوم بذكرى الاربعين لشهداء دمشق في حادثة بلفور يجددون عواطفهم نحو اخوانهم الشاميين خاصة والسوريين عامة ويتوسلون الى الله ان يجمعهم معا فى ظل الوحدة والاستقلال ويستمطرون الرحمة لكل عربي اريق دمه الزكي فى سبيل الحق والحرية .
ومن حيفا جاء برسالة رئيس الجمعية الاسلامية سليمان الصلاح: "بمناسبة الاربعين احتفلنا اليوم بتلاوة الختم والسيرة النبوية عن أرواح الشهداء مستمطرين لهم الرحمة راجين للجرحى الشفاء. ومن حيفا أيضا بمناسبة الاربعين احتفلنا اليوم بتلاوة الختم والسيرة النبوية عن أرواح الشهداء مستمطرين لهم الرحمة راجين للجرحى الشفاء..ومن القدس إلى دمشق برقيات اخرى.....
وقالت المقتبس :
"صادف يوم أول أمس أربعون الشهيد محمد البلله الذى قُتل يوم حادث بلفور فقام فريق كبير من الاهلين بالذهاب إلى دوما على رتل من السيارات وهم يحملون أكاليل الزهور, كتب عليه بالتطريز (رحمة الله على شهيد وعد بلفور) ولما وصلوا الى دوما ذهبوا تواً الى المقبرة فرأوا فريقاً كبيراً من الاهلين يحتفلون بشهيدهم وقد تلى على القبر السيد سعيد الصوص أي الذكر الحكيم وتلى الشيخ يحيى المكتبي دعاء حاراً عن روح الشهيد ثم رثاه المحامي السيد بدر الدين الصفدي وبعد ذلك ذهب الجمع المحتشد من أهالي دوما ومن الدمشقيين إلى الجامع الكبير حيث أدوا صلاة العصر وقرأوا أي الذكر الحكيم ....
عاد بلفور مُهانا من بلاد الشام مبديا استغرابه(!!) مما حدث له في سوريا, وذاك لانه لا يعرف الصلة بين أبناء الشعب الواحد.
عن استغرابه هذا وجاء في وثيقة فرنسية أن "القنصل العام البريطاني له عين الرأي الذي لنظيره الفرنسي في القدس. إن اللورد بلفور لا يفهم أسباب هذه الضجة. فهو لا يدرك أنه من طوروس إلى سيناء، تعد سوريا بلدًا واحدًا من النواحي الطبيعية والعرقية والشعورية والاقتصادية. ودمشق قلب هذا البلد، وقد اعتبر سكانها زيارة صاحب تصريح 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917 عملاً من أعمال الاستفزاز. وهو لا يدرك مدى اتساع العداوة العربية للصهيونية" ......
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟