عيسى طاهر اسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 8421 - 2025 / 8 / 1 - 22:30
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
زياد وسقراط
اختيار الموت بكرامة
هناك لحظات نادرة في التاريخ، مكثفة تأويلا؛ وقف أمامها أناس عظام كانوا أمام أحد اختيارين: مزيد من حياة بأي ثمن، أو الموت بكرامة. هذه اللحظات تكشف عن أعمق ما في الروح البشرية من قيم ومبادئ وتطرح أسئلة فلسفية عميقة حول معنى الوجود والحياة والحرية الإنسانية.
قبل أيام رحل عنّا زياد الرحباني، حيث تواترت أخبار عن أن زيادا رفض إجراء عملية زرع الكبد مختارا ومفضلا أن يرحل. في هذا المقال سنأخذ موقف زياد هذا ونقارنه مع موقف عظيم آخر، أختار هو الآخر أن يرحل بكرامة رافضا المزيد من حياة لا تتسق مع ما يؤمن به. ذلك العظيم الآخر هو سقراط. موقف الفيلسوف اليوناني سقراط قبل أكثر من ألفي عام، وموقف الموسيقار اللبناني زياد الرحباني في أيّامنا هذا.
سقراط: الموت انتصارا للمبدأ
في العام 399 قبل الميلاد، وقف سقراط في محكمة أثينا مُتهماً بإفساد الشباب والكفر بآلهة المدينة. حوكم عليه بالموت وكان أمامه خيارات: الهرب من السجن بمساعدة تلاميذه، أو التراجع عن أفكاره، أو قبول المنفى. لكن سقراط اختار طريقاً رابعاً: الموت بشرب كأس السم، اتساقاً مع مبادئه الفلسفية.
لم يكن اختيار سقراط نابعاً من يأس أو استسلام، بل من إيمان عميق بأن الحياة التي لا تُعاش وفقاً للمبادئ ليست جديرة بالعيش. قال في دفاعه الشهير: “الحياة غير المدروسة لا تستحق أن تُعاش”. كان يرى أن الهرب من المحاكمة سيكون خيانة لكل ما علّمه عن احترام القانون والعدالة، حتى لو كان هذا القانون ظالماً في تطبيقه عليه.
لعل ما ساعد سقراط وأعانه في تقبل الموت بكل هدوء وشجاعة، هو إيمانه بأن الموت ليس نهاية الطريق، بل ربما هو بداية لمرحلة جديدة من المعرفة. في حواراته الأخيرة، تحدث عن الموت كنوم عميق بلا أحلام، أو كانتقال الروح إلى مكان آخر حيث يمكنه مواصلة البحث عن الحقيقة مع الفلاسفة الآخرين. لا ننسى أن سقراط هو صاحب نظرية أن المعرفة تذكر، حيث أكد على أن المعرفة ليست شيئًا جديدًا يُكتشف، بل هي تذكُّر لما سبق أن عرفناه في حياة سابقة. وفقًا لنظرية التذكر، فإن النفس كانت موجودة قبل الجسد، وكانت تحمل معها المعرفة، وعندما تتجسد في الجسد البشري، تنسى جزءًا من هذه المعرفة. لكن بإجراء الحوار والتعليم، يمكن للإنسان استرجاع هذه المعرفة القديمة، أي يتذكرها.
في محاورة "مينون" يبيّن سقراط أن العبد ينجح في استنتاج مسألة هندسية لم يتعلمها مباشرة، لكنه يتذكر الحل من داخله، مما يدعم فكرة أن النفس كانت تعلم المعرفة قبل وجودها في الجسد، وأنه يمكن استرجاعها من خلال التفكير والتدريب.
إحدى نتائج نظرية التذكر هي خلود النفس؛ فهي تشير إلى أن النفس لا تفنى، وإنما تتنقل من جسد لآخر، وتحتفظ بمعرفة أزليَّة، وأن عملية التعلُّم هي تذكُّر لما كانت تعرفه النفس قبل في الجسد، هذه النظرة الفلسفية جعلته يواجه الموت بهدوء وحتى بفضول فكري.
زياد الرحباني: الموت كاختيار وجودي شخصي
على الضفة الأخرى من التاريخ والجغرافيا، واجه زياد الرحباني معركة مختلفة لكن لا تقل عمقاً. عندما أخبره الأطباء بحاجته إلى زراعة كبد لإنقاذ حياته، اختار الرفض. لم يكن هذا قراراً متهوراً أو نابعاً من جهل طبي، بل موقفاً فكرياً وشخصياً عميقاً.
زياد، الذي قضى حياته يتمرد على الأنظمة الاجتماعية والسياسية والفنية، بدا وكأنه يتمرد في النهاية على نظام الطب الحديث ذاته. رفضه لزراعة الكبد يمكن فهمه وتأويله كامتداد لفلسفته في الحياة: عدم القبول بالحلول المفروضة من الخارج، والإصرار على العيش والموت وفقاً لشروطه الخاصة.
هناك بُعد وجودي عميق في موقف زياد. ففي عالم يسيطر عليه الطب التقني والإجراءات المعقدة، اختار البساطة الأخيرة، مثل بساطة أشعاره الغنائية، العميقة في تلقيها: قبول مصيره كما هو، دون تدخلات جراحية معقدة قد تغير من طبيعة وجوده الأساسية. ربما رأى في زراعة الكبد شكلاً من أشكال الاغتراب عن الذات، هل هو زياد ذاته بعد زراعة اكبد أم هو شخص آخر أو ربما شعر أن حياته كانت مكتملة كما هي.
بين زياد وسقراط
رغم اختلاف السياقات والزمن والجغرافيا، يتشارك سقراط وزياد في عدة جوانب فلسفية أساسية:
الحرية الوجودية الكاملة:
كلاهما مارس أقصى أشكال الحرية الإنسانية - حرية اختيار الموت على الحياة. هذا الاختيار يتجاوز جميع الضغوط الاجتماعية والعائلية والغريزية، ويؤكد على قدرة الإنسان على تجاوز حتى أقوى الدوافع البيولوجية. لذا كان الانتحار عن سابق تصميم ووعي، فعلا شجاعا في اختيار طريقة الموت وعدم الرضوخ لقوى أخرى غير إرادة الذات في اختيار طريقة الموت.
رفض الحلول المفروضة:
سقراط رفض الهرب الذي اقترحه أصدقاؤه، وزياد رفض الحل الطبي الذي اقترحه الأطباء. كلاهما آثر أن يحدد مصيره بنفسه بدلاً من قبول ما يراه الآخرون حلاً منطقياً.
الكرامة الشخصية:
في كلا الحالتين، بدا الموت بكرامة أهم من الحياة بشروط مرفوضة. سقراط لم يرد أن يعيش كمنفي أو كمن تراجع عن مبادئه، وزياد لم يرد أن يعيش بجسد “معدّل” طبياً.
البُعد الفلسفي للموت:
كلاهما نظر إلى الموت لا كهزيمة، بل كموقف فلسفي له معنى وقيمة. الموت بالنسبة لهما لم يكن مجرد نهاية بيولوجية، بل بيان وجودي أخير، بل أن زياد متفوق شجاعة على سقراط من حيث أن سقراط كان يؤمن بخلود النفس وهذا مما ساعده في قبول الموت اختيارا، أما زياد والذي كان يؤثر عنه أنه كان ملحدا، فمع عدم إيمانه بوجود حياة أخرى، فقد تقبل الموت اختيارا، متفوقا بذلك على سقراط من حيث الشجاعة في تقبل الموت.
أوجه الاختلاف: السياق والدافع
الطبيعة الاجتماعية للاختيار
موت سقراط كان عملاً سياسياً وفلسفياً علنياً، موجهاً لإيصال رسالة للمجتمع الأثيني حول قيمة الفكر الحر. أما موت زياد فكان أكثر شخصية وخصوصية، رغم تأثيره العام على محبيه.
العلاقة بالمستقبل
سقراط كان يؤمن بإمكانية استمرار الروح بعد الموت واستكمال البحث عن المعرفة. موقف زياد بدا أكثر تركيزاً على الحاضر ورفض تمديد حياة قد لا تكون أصيلة.
الدافع الفكري
سقراط دُفع إلى موقفه بسبب اتهامات خارجية وضغوط اجتماعية، بينما زياد واجه تحدياً طبياً صرفاً لم يفرضه عليه أحد.
التحليل الفلسفي: معنى الاختيار الحر في مواجهة الموت
من منظور فلسفي أوسع، يطرح موقفا سقراط وزياد أسئلة عميقة حول طبيعة الحرية الإنسانية والمسؤولية الذاتية. في عالم يزداد فيه التدخل الطبي والتقني في الحياة الإنسانية، يصبح اختيار عدم التدخل موقفاً فلسفياً بحد ذاته.
الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر قال إننا “محكومون بأن نكون أحرارا”، وهذا يعني أن علينا أن نختار حتى في المواقف التي لا نريد الاختيار فيها. سقراط وزياد جسدا هذا المبدأ في أقصى صوره: اختارا الموت كتعبير أخير عن حريتهما المطلقة.
من ناحية أخرى، يثير موقفاهما تساؤلات أخلاقية حول حدود الحرية الشخصية ومسؤولياتنا تجاه الآخرين. هل من حق الإنسان أن يختار الموت دون اعتبار لمن يحبونه؟ وإلى أي مدى يجب أن تمتد الحرية الشخصية؟
الإرث الفلسفي: دروس للأجيال القادمة
يترك لنا سقراط وزياد الرحباني إرثاً فلسفياً قيماً حول أهمية الاختيار الحر والكرامة الإنسانية. موقفاهما يذكرنا بأن الحياة ليست مجرد استمرار بيولوجي، بل تجربة وجودية لها معنى وقيمة نحددها نحن بأنفسنا.
في عصر يهيمن فيه الطب التقني والحلول التكنولوجية، يصبح التذكير بأهمية الاختيار الشخصي والكرامة الإنسانية أكثر إلحاحاً. ليس الهدف هنا تشجيع الناس على رفض العلاج الطبي، بل التأكيد على أن لكل إنسان الحق في أن يقرر معنى الحياة الجيدة والموت الكريم بالنسبة إليه.
الموت كآخر عمل فلسفي
في النهاية، يمكن النظر إلى موتي سقراط وزياد الرحباني كعملين فلسفيين أخيرين في حياتيهما. كلاهما اختار أن يموت كما عاش: وفقاً لمبادئه وقناعاته الشخصية، رافضاً التسليم للضغوط الخارجية أو الحلول السهلة.
هذا لا يعني أن اختيارهما كان صحيحاً أو خاطئاً بمعايير مطلقة(فيما وراء الخير والشر)، فهذه أسئلة تتجاوز الأحكام البسيطة. ما يعنيه هو أن كلاً منهما عبّر، في لحظته الأخيرة، عن جوهر إنسانيته: القدرة على الاختيار الحر، حتى في مواجهة أعظم التحديات. وربما هذا هو الدرس الأعمق من قصتيهما: أن الإنسان، في نهاية المطاف، هو مجموع اختياراته، وأن الحرية الحقيقية تكمن في القدرة على اتخاذ هذه الاختيارات وتحمل مسؤوليتها، حتى لو كان الثمن هو الحياة ذاتها.
#عيسى_طاهر_اسماعيل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟