نزار بدران
الحوار المتمدن-العدد: 8418 - 2025 / 7 / 29 - 18:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إيران: وهم القوة
قد يكون من نافل القول التذكير بأن الأنظمة الاستبدادية لا تحمي بلدانها، وإنما فقط أنظمتها. عدوها الأول ليس الآخر المحتل أو المستعمر، وإنما شعبها نفسه.
كما نرى في الحالة الإيرانية، فإن كل جهد المؤسسات الإيرانية منذ عشرات السنين وُجِّه فقط لقمع الحريات وإخفاء وشَنق المعارضين، ومراقبة طريقة لبس ومشي النساء. لهذا نرى اليوم مستوى الاختراق الاستخباري الإسرائيلي غير المسبوق في التاريخ نوعًا وحجمًا، متمثلًا بمقتل النخب العسكرية والعلمية، وما أسفر عنه من انهيار نظام الدفاع الجوي والاستيلاء الإسرائيلي عليه بالكامل، كما فعلت سابقًا مع لبنان وسوريا. هذه السيطرة سمحت بضرب كل الأهداف دون عائق، وإرباك وتدمير البنية النووية والصاروخية، فخر الدعاية الإيرانية منذ عقود.
يدفع الشعب الإيراني اليوم جرائم النظام، فهو لم يحمِ البلاد من الغزو الصهيوني، بل قدَّمها له على طبق من ذهب.
من يريد أن يبني وطنه، يبدأ بحماية أبناء هذا الوطن، وليس ملاحقتهم وقتلهم. لا يمكن لدولة أن تنتصر دون وجود وحدة وطنية، والتِفاف حقيقي حول السلطة.
الصواريخ الإيرانية مهما كانت مؤثرة، فإنها لم تعوِّض خسارة السيطرة على أجواء البلاد. هي بدورها كانت هدفًا للطيران المعادي، وليس فقط المواقع المتهمة بتطوير مشروع إيران النووي. إضافة إلى أن الدول العربية التي تفصل إيران عن فلسطين المحتلة شكَّلت حاجزًا مفيدًا لإسرائيل، فهي لم تتصدَّ لأي طائرة أو مسيَّرة إسرائيلية، بينما هذه الدول نفسها كانت عائقًا حقيقيًا أمام المسيَّرات والصواريخ الإيرانية، حيث تنتشر القوات الأمريكية.
لم تبن إيران خلال عقود جيشًا يحمل عقيدة قتالية تجاه دولة مثل إسرائيل، بل مجموعات من المليشيات المسلحة، تحت تسميات مختلفة، ذات بُعد أيديولوجي، تحمل مشروعًا سياسيًا دينيًا، يتعدى حدود إيران إلى الدول العربية، وصولًا إلى بيروت. ما كان يُسمى "محور المقاومة" هو في الحقيقة ترجمة لهذا الطموح.
في إطار هذا المشروع التوسعي، تمكَّنت إيران من صياغة عقيدة قتالية مبنية على التحالفات مع دول استبدادية مثل روسيا والنظام السوري الأسدي. على مدار سنوات عديدة، قصف الطيران الروسي الحليف بالتعاون مع ميليشيات المحور المدن السورية، وحوَّلها إلى ركام، مهجِّرًا نصف الشعب السوري، قاتلًا مئات الآلاف من المواطنين العُزَّل، وسط صمت تام من إسرائيل والغرب. بينما لم نرَ أي شيء من روسيا لدعم إيران في المواجهة الأخيرة، التي بقيت وحيدة أمام الهجوم الإسرائيلي الأمريكي.
تحالف إيران مع سوريا الأسدية وحزب الله وروسيا كان تحالفًا ضد الشعب السوري وثورته، وليس خدمة للقضية الفلسطينية أو دفاعًا عن دول تدَّعي لنفسها مقاومة إسرائيل (ما يفسر الصمت الغربي). انهيار التحالف المذكور أمام العدوان الإسرائيلي، الذي أكل أطرافه طرفًا طرفًا دون أن تتحرك، يظهر طبيعة هذا التحالف القائم فقط على مصالح آنية، وليس له علاقة باتفاق على المبادئ أو على قيم مشتركة.
تراجُع إسرائيل عن قرار اغتيال رأس السلطة في إيران، تحت الضغط الأمريكي، لم يكن برأيي احترامًا لهيبته الدينية، بل لكونه الشخص الوحيد المؤهل لتقديم التنازلات المطلوبة، مثل التراجع عن المشروع النووي والصاروخي الباليستي، أو الموافقة على إعادة العلاقات مع إسرائيل، (كما اشترط السيناتور ليندسي جراهام). فهو الوحيد -حسب توازنات قوى النظام- من يملك الشرعية القانونية والدينية لفعل ذلك دون معارضة.
تغيير النظام في إيران ليس أولوية لأمريكا، ما يهمها هو أن تبقى إسرائيل القوة الفاعلة الوحيدة. وقد نجحت إسرائيل في استرجاع دورها كشرطي قوي لخدمة مصالح أمريكا، مهمِّشةً دور دول عربية ظنَّت أنها تنافس إسرائيل على هذا الدور، خصوصًا بعد حربي الخليج الأولى والثانية، حيث حُرِمت إسرائيل في زمنهما من المشاركة بهما، حفاظًا على التحالفات الجديدة مع الدول العربية في المشرق.
علينا أن نعي بعد هذه التجارب المريرة، التي يعيشها الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة المغلوب على أمرها، أن النصر يبدأ من الذات الحرة، والشعوب الواعية التي ترمي الأوهام جانبًا. تجربة حرب غزة وما تبعها من اعتداءات في لبنان واليمن وإيران، تعلمنا ترتيب الأولويات بشكل سليم. البداية في بناء المواطن الحر، وليس في بناء أجهزة المخابرات للتنصت عليه وقمعه وقتله، بينما نترك الباب مشرعًا أمام اختراقات أجهزة المخابرات المعادية، التي نخرت هذه الأنظمة حتى النخاع، وكانت سببًا في هزيمتها النكراء.
بناء المواطن الحر هو أولًا استعادة حقه الطبيعي في تحديد خياراته الوطنية، ومَن يمثله ومَن يعبِّر عن طموحاته، ومَن يستلم مفاتيح قيادته. وحدها الشعوب الحرة من تصل إلى شط الأمان.
التقدم والازدهار الاقتصادي، حتى ولو كان حقيقيًا، لن يدوم في ظل الحكومات الاستبدادية واستبعاد المواطن في أخذ القرار. الفساد السياسي والاقتصادي والمحسوبيات ستكون كفيلة بهدم أي صرح. من جهة أخرى، نرى الآن مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي يمارس الابتزاز بشكل علني، ويجرد دول الخليج من ثرواتها وتريليوناتها، أن الحماية الوحيدة لأي انتعاش اقتصادي لن تكون ممكنة، إن لم نَمتلك وسائل الدفاع عنه أمام القوى الاستعمارية الطامعة في ثروات الأمة.
الارتماء في أحضان أمريكا لحماية الأنظمة من تطلعات شعوبها هو خطأ منهجي قاتل، للنظام والشعوب. المستعمر الغربي لا يهتم ببقاء الأنظمة، إنما فقط ببقاء مصالحه. النظام الفاقد لغطاء شعبه الدافئ لن تحميه صواريخ وبارجات المحتل الإسرائيلي أو القادمين من وراء البحار. وحده الانفتاح على المجتمع وفتح باب الحريات من سيُعدِّل المعادلة لصالح النظام والشعب في آنٍ واحد.
على أنظمتنا قراءة ذلك جيدًا، وأن تأخذ العبرة مما حدث في دول عدة. عليها أن تعلم أن المطالب الشعبية هي في استرداد الحريات العامة والكرامة. مطلب الربيع العربي بتغيير الأنظمة، لا يعني بالضرورة تغييرا للأشخاص، بل أسلوب الأنظمة في التعامل مع المجتمع والقوانين التي تحكم ذلك. ما حصل في سوريا قبل أشهر من سقوط النظام الذي حكمها لأكثر من ستين عامًا بالحديد والنار، والذي كان مدعومًا من أعتى قوى العالم، يجب أن يكون درسًا ومصدر عبرة وتفكُّر.
بدورها، على المجتمعات العربية أن تبدأ أيضًا بتحديد مطالبها ورفع صوتها عاليًا، فلن يقدِّم لها أحد شيئًا مجانًا.
على نخب الأمة أن تعمل وتجتهد في صياغة تطلعات المواطنين، وتدفع دون عنف نحو العمل لفرض الإصلاحات الضرورية. نحن الآن -أنظمةً وشعوبًا- أمام امتحان التاريخ، والسقوط فيه يعني مزيدًا من الفوضى والحروب والخراب ومزيدًا من التفكك، ولا أظن أن أحدًا يريد ذلك أو له مصلحة فيه.
#نزار_بدران (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟