عيسى مسعود بغني
(Issa Baghni)
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 13:58
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
ثورات 2011 من تونس إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا، كانت انتفاضات شعبية عفوية ضد الاستبداد والقهر الذي مارسه العسكر، ولكن الدوائر الغربية وأذيالها الخليجيين قد خططت أن يعصف بهذه الثورات الانقسام الداخلي والحروب ثم الانهيار الاقتصادي لأجل تركيعها وإفشاها، حتى لا تفكر تلك الشعوب في أي ثورة تحررية مستقبلا تنتج نموذج ديمقراطي متطور، وبالتأكيد لن تكون نموذج حداثي لزعزعة الانظمة السلطوية الوراثية في الخليج.
بالنسبة للغرب، بلغ مراده بأن سد الطريق أمام أي زعامات وطنية قد تسبب مشاكل للمصالح الغربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كما أن تلك الثورات استعملت جيدا لبيع تريليونات من السلاح لدول الخليج، وتم توجيه الأموال الفائضة من تلك الدول لاستثمارها في الدول الغربية عامة، وأمريكا على وجه الخصوص، وبذلك حان الوقت لطرح حلول لتلك الدول التي عانت من الإنهاك لقرابة عقد ونصف من الزمان، لإتاحة الفُرص أمام الدول الغربية لفوزها بعقود إعمار بعد أن قامت بهدم مدن الثوارت وإدخال بعضها في الديون وتشجيع البعض على الفساد لاجل الافقار الممنهج.
نعم تم استعمال السلاح الغربي والشرقي لهدم البيوت وتشتيت أهلها بأيدي وطنية وبأموال وطنية وبتنفيذ الالة العسكرية الوطنية، فما هو السيناريو المطروح بعد هذا الانهاك الكبير الذى أخذ عقد ونصف من الزمان؟
تقول التجربة العلمية أنه لو وضعت ضفدعة في مياه ساخنة فإنها تقفز وتفر بسرعة خارج الإناء، بسبب الفارق الكبير في الحرارة في فترة وجيزة، ولكن لو وضعت الضفدعة في مياه باردة، وقمت بتسخينها، فستبقى هناك تتأقلم مع الظروف القاسية، حتى فوران الماء، وستكون منهكة لا قدرة لها على الحياة بعد خروجها من الإناء، وتقبل بأي ظروف كانت في محيطها. تلك هي فلسفة الانهاك، بعد خمسة عشر عاما من الفوضى والتشظي، أصبحت الشعوب في سوريا والعراق واليمن وليبيا وتونس ومصر منهكة تنتظر من ينتشلها من الانقسام المؤسسي، ومن الأزمات الاقتصادية، ومن شيوع الفساد، ومن غياب الأمن، ومن سطوة الاستبداد ناهيك عن البطالة والغلاء الفاحش، وصعوبة الحصول على متطلبات الحياة.
في كل الدول المعنية السابقة تم زرع تيار أو طيف معين ليقوم كعراب لمنظومة الحكم الاستبدادي المقترحة والتي كثيرا ما تكون عميلة، وهناك مجموعات من الدرجة الثانية يمكن المساومة بها، بالاضافة الى التيار المدني الذي يتم إقصاؤه تماما من المشهد في معظم الاحيان.
ففى سوريا مثلا يتم تعظيم تيار الشرع رغم أنه من الاسلاميين المتشددين ليكون في الصدارة مع تحجيم العلويين والاكراد والارمن والدروز، وفي اليمن هناك التيار الإسلامي الموالي للسعودية مع مناهضة تيار الحوثي، وفي ليبيا يستمر الخليجيين والغرب في التعويل على وجود حفتر في المشهد إضافة الى دعم المصريين والروس، رغم إعترافهم جميعا بحكومة الوحدة الوطنية، وحتى تلقى اللعبة رواجا سيتم الدفع بشخصية شكلية لتمثيل الدور.
أما في السودان، فيتم مساندة الدعم السريع من الإماراتيين ويغض الغرب عن مجازرهم، رغم اعترافهم بالحكومة الشرعية في الخرطوم، علما بان الحكومة الشرعية هي انقلابية في الاساس ولذا الخيار بين الاثنين لا يؤثر في المشهد.
بالمقابل مصر لا تحتاج إلى تنافس داخلي فمصر لمن يكن لها حاكم منتخب خلال عمرها الطويل الذي يتجاوز 4 الاف سنة سوى أيام حكم محمد مرسي القليلة. ولذا الغرب يعلم ان مصر ستبقى مرهونة بمقولة "كثرة العيال وقلة المال" ولا يراد منها سوى كفالة الفقراء من المساعدات الامريكية والخليجية. ولذا فإن التغيير السياسي والمؤسسي في مصر يحتاج إلى تغيير الثقافة السائدة.
الحل المطروح حاليا، هو تحويل تلك الثورات الفاشلة إلى نظام دولة مستبد سياسيا، وله وفرة اقتصادية شبيهة لمقولة المستبد العادل في الثقافة العربية الإسلامية، أي تبني التجربة الرواندية التي يعتبرها الغرب رائدة في الاقتصاد رغم أنها منعدمة الحريات العامة، ولا إنتخابات ولا تبادل سلمي للسلطة، ولكن ما هي التجربة الرواندية؟
إقليم رواندا كان يقطنه في البدء قبائل تدعي “التوا”، استوطنت الغابات، واعتمدت على الصيد في معيشتها، لتأتي بعدهم قبائل “الهوتو” التي اعتادت على الزراعة وشكلت غالبية سكان رواندا، وأخيراً استوطنت قبائل “التوتسي” التي احتلت مكانة بارزة بسبب امتلاكها الماشية وتمثل 15% من سكان رواندا.
عمد الاستعمار البلجيكي عن قصد إلى تمييز أقلية التوتسي، وسن قانون “مورتهان” عام 1926، الذي يمنح التوتسي السلطة الكاملة في مناصب الدولة، كما أوغل الاستعمار في التفرقة بين القبيلتين، باستصدار بطاقات هوية مختلفة لكل من التوتسي والهوتو.
في سنة 1959م بدأت الأحزاب السياسية لجماعه الهوتو بالتشكل بدعم من الإدارة البلجيكية، لتتصاعد بعدها حدة التوترات بين أحزاب الجماعتين. فالهوتو الذين برغم أن غالبيتهم كانوا يعملون كمزارعين لحساب المستعمر وجماعه التوتسي المسيطرة، ولكن مع تبدل سياسة الاستعمار وجد الهوتو المهضومون حقهم فرصة للانتقام من أقلية التوتسي، وبدا النزاع المسلح بينهم وكان مجموع القتلى 20 ألفاً تقريباً، وشهدت رواندا أول موجة من اللاجئين إلى أوغندا وتنزانيا.
بعد عام من إسقاط الهوتو لملكية التوتسي، نجح الهوتو في نيل الاستقلال من الاستعمار البلجيكي، ولكنهم واصلوا ذبح المدنيين من جماعة التوتسي، ليفر بعد عام من الاستقلال أكثر من 200 ألف إلى أوغندا بعد أن قتل أكثر من 10 آلاف مدني، ليصبح نصف مواطني التوتسي لاجئين رسميين في أوغندا وتنزانيا بحلول عام 1964.
عانى اللاجئون الروانديون في أوغندا حياة قاسية دفعت بهم إلى تشكيل جبهة وطنية رواندية “RPF”، عام 1987، معنية بتحقيق الديمقراطية لمجتمع اللاجئين، وللمطالبة بعودتهم إلى ديارهم بطريقة سلمية، إلا أن الرئيس الرواندي حينها أصر على عدم إمكانية العودة، لتتكرر معها مجازر جديدة راح ضحيتها أكثر من 50 ألفاً من الهوتو، عام 1988، على يد الجبهة الوطنية، على سبيل الانتقام، الأمر الذي أثار مزيداً من المخاوف والقلق من عودة التوتسي المبعدين في أوغندا. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولكن الجبهة الوطنية الرواندية عملت على تأسيس جيش وطني “RPA”، عمل على شن غارات وحروب على الحدود الرواندية حتى بداية التسعينيات، لينتهي الأمر بوقف إطلاق النار وعقد مباحثات سلام في 1992. وصل عدد المشردين حينها 600 ألف رواندي نتيجة الصراع.
أدرك الرئيس الرواندي حينها أنه يخسر سياسياً أمام الجبهة الوطنية، ومع ضغط المجتمع الدولي لتنفيذ اتفاقية سلام ووقف إطلاق النار، وافق الرئيس على عقد معاهدة سلام “أورشا” عام 1993، في تنزانيا، والتي قضت بإدماج الجبهة الوطنية في الجيش الوطني، والسماح بالتعددية الحزبية وتقاسم السلطة مع جماعة التوتسي. برغم أنها لاقت ترحيباً وقبولاً عند معظم الروانديين، إلا أن الرئيس كانت موافقته شكلية، وعمد إلى التمهيد للإبادة الجماعية، فبدأ بتشكيل تنظيمات سرية من متطرفي الهوتو، سميت “شبكة الصفر” (Zero Network)، وقام بتسليح المدنيين من الهوتو لشن مجازر ضد التوتسي في معسكرات النازحين داخلياً في شمال غرب رواندا، حيث قتل العديد من التوتسي، وقام المتطرفون بإضرام النار في خيام النازحين. شُكلت لجان دولية للتحقيق في الانتهاكات، تبين أن هناك معسكرات تدريب للمتطرفين يتم فيها تدريب وتزويد المتطرفين بالسلاح بهدف التصفية العرقية لجماعة التوتسي.
أعمال قتل وحشية وإبادة جماعية قامت بها جماعة الهوتو ضد التوتسي، أدت إلى أعلى معدل قتل في البشرية في وقت قياسي، حيث قتل في 3 اشهر ما يقارب مليون رواندي من جماعة التوتسي، بدأت الإبادة بعد مقتل الرئيس الرواندي عندما تم استهداف طائرته الخاصة قبل أن تهبط في مطار كيجالي، ولم يعرف على وجه الدقة من هو المسؤول عن إطلاق الصاروخ الذي استهدف الرئيس الرواندي، وفي كل الأحوال اتجهت أصابع الاتهام لجماعة التوتسي، لتنطلق بعدها موجة التحريض عبر وسائل الإعلام من الإذاعات والصحف، وحث الهوتو على أخذ الثأر والانتقام من التوتسي، لتشهد بعدها البلاد مجازر وتصفية عرقية قادها الحرس الرئاسي ومليشيا “شبكة الصفر”، وحتى المدنيون شاركوا في المجازر الجماعية التي استهدفت كل من يحمل بطاقة هوية “توتسي”، وعمدت مليشيا من الهوتو إلى قطع الطرق أمام الفارين، وتعقب منازلهم، لتعيش حينها كلتا الجماعتين في مناخ من الذعر قل أن يتكرر مثله عبر التاريخ.
ناضلت الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة باول كيجامي الذي ينحدر من أقلية التوتسي وحيدة دون أي دعم من المجتمع الدولي، حتى تمكنت من اختراق صفوف الحكومة، والسيطرة على مقاليد الحكم في العاصمة كيجالي، وإنهاء المجازر التي قتلت قرابة المليون روندي في 100 يوم من الإبادة.
عملت الحكومة بكل طاقتها لإعادة بناء جيش وطني يحمل قيم الوحدة الوطنية الرواندية بعيداً عن الفروقات العرقية. ميزانية كبيرة خصصتها الحكومة لإعادة بناء جيش رواندي ما بين 3.3% و4.4% من الناتج المحلي، كرست الأموال في برامج تعليمية لتعزيز الوحدة الوطنية في الجيش، وضم جميع القوات والمسلحين والمليشيات تحت مظلة الوحدة الوطنية لخدمة جميع الروانديين على حد سواء. كما فرضت قوانين تجرم أي أفعال عنصرية.
قاد الرئيس كيجامي حزمة من الإصلاحات الاقتصادية بهدف إنشاء اقتصاد ناشئ وقوي، وخلق مناخ من الاستقرار لتشجيع الاستثمار والقطاع الخاص، فبحسب البنك الدولي تعد رواندا أفضل بلد أفريقي للبدء بمشاريع استثمارية. حازت الحكومة الرواندية على ثقة المنظمات والقوى الأجنبية، إلا أن هذا لم يمنع رواندا من الاستقلال الاقتصادي ومحاولة النهوض الذاتي، فعمدت الحكومة إلى مكافحة الفساد وسن قانين صارمة ضد المتورطين.
النمو الاقتصادي السريع لرواندا جعل كثيراً من الخبراء يصفونها بالمعجزة الاقتصادية، فخطة الرئيس كيجامي كانت تركز على النمو الاقتصادي بعيداً عن مناخ الحرية السياسية؛ فالكثير من التصفيات والاعتقالات كانت تتم للمعارضين والمنتقدين، وبرغم الانتقادات التي تطال سياسة التقييد السياسي، إلا أن الكثير من الخبراء يرجح أن النمو الاقتصادي السريع قد يستمر تبعا لسياسة الرئيس كيجامي التي عرفت بـ”الأبوية التنموية” في إدارة الموارد ومواءمتها مع نموذج شرق آسيا.
رغم تلك الطفرة الاقتصادية الا أن التململ الشعبي نتيجة غياب الديموقراطية وتدني مستوى الحريات العامة وعدم وجود تناوب سلمي على السلطة (فكيجامي هو الرئيس لما يزيد عن ربع قرن وليس هناك أمل في تغييره)، الامر الذي قد يفجر الوضع في اي لحظة، وذلك يعتمد على القبضة الحديدية للسلطة. هذا النوع من الحكم لا يرتضيه الغرب لنفسه ولكنه يشجع على تبنيه لدول الشرق الاوسط وشمال أفريقيا.
#عيسى_مسعود_بغني (هاشتاغ)
Issa__Baghni#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟