عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 8414 - 2025 / 7 / 25 - 11:31
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عبد الجبار الرفاعي
حين يتجمد معنى لغة الغيب في حرفيته، وتنغلق مجازاته، ويتحول إلى فهم كلامي جدلي، لا يترك للقلب مساحته في الشهود، ولا يفتح للروح بصيرتها في التفاعل مع المعنى. لغة الدين الحاكية عن الغيب لا تنطق بذاتها، بل تتكلم عبر قارئها، وتتجلى في ضوء وعيه وبصيرته، وتشرق بمرآة القلب الذي يتذوقها. ليست الدلالة في الحرف بحدّ ذاته، بل فيما يشع من المعنى وراء الحرف، ولا تكون الدلالة في ظاهر القول، بل فيما يفيض منه على روح الإنسان وقلبه. لغة الغيب إشراق نوراني، لا يُلمس بالحواس، بل يُعاش بالشعور، ويجري تذوقه في لحظة تتحقق فيها الكلمة بحضورها كضوء، وتتحول العبارة إلى مرآة لما وراءها. الأسماء والصفات الإلهية حاضرة بكثافة في لغة الغيب، لكن قراءتها في سياق كلامي تغلق نوافذ البصيرة وتحجبها عن استلهام ما يفيضه معناها.
عندما تُفسَّر أسماء الله الحسنى وصفاته الجمالية والجلالية في سياقات المعجم الكلامي، تنطفئ دلالاتها، وتفقد قدرتها على إيقاظ المشاعر، واستنهاض الوجدان، وإلهام الإنسان المحبة والسلام. ويتحول مدلول اسم الله من كونه نداءً يتدفق من خلاله أسمى ما في الإنسان، إلى رمز سلطوي يُحمَّل بدلالات الترهيب والعقوبة والعذاب. ويمسي الكلام الإلهي من دعوة إلى الرحمة والجمال والطمأنينة والسكينة والسلام، إلى خطاب مشبع بالتسلط، منزوعة منه الحميمية والدفء والعفو والمغفرة. ما لم تتحرر لغة الغيب من أسر هذا المعجم المتراكم عبر السنين في اللاشعور الجمعي، وتُبعث فيها الدلالات الرؤيوية المنبعثة من إشراقات الأسماء الحسنى والصفات الإلهية، سيظل حضور الله في الشعور الديني محصورًا في صورة الحاكم المتسلط، لا الحبيب المحب، والرحمن الرحيم، والجميل الذي يتذوق الإنسان تجلياته المضيئة في الوجود، وينصت إلى صوته يتردد في أستغاثات وآهات الضحايا، ويشرق نوره في أعماق كيان البؤساء.
استحواذ الرؤية الكلامية على معاني النصوص الدينية أبعد الدين عن رسالته، وضيّق مجاله في بناء صلة بالله تستلهم أسمائه وصفاته وتجلياته الرحمانية، حتى غدت هذه الصلة، في المخيال الجمعي، مصدرًا لتغذية الخوف، وتكريس كابوس العقاب، بدلًا من أن تكون علاقة مفعمة بالمحبة والرحمة والسلام والطمأنينة. لم تعد أسماء الله تنبض بما تبثه من نور، وما تفيضه من سكينة، وما توقظه من شعور عميق بمعنى الحياة والوجود، بل استُهلكت في الجدل، وتخشبت في الحرف، وخبا فيها وهج اثراء الصلة بالله، ودفء الصلة الحميمة بمحبته ورحمته.
الدين لا يحقق حضوره في حياة الإنسان إلا حين ينعش في كيانه المعنى الروحي، ويوقظ ضميره الأخلاقي، ويغذي ذائقته الجمالية، ويعيد إليه إحساسه بغبطة الحياة بشهود النور الإلهي. عندما يختزل الدين في حدود المقولات الكلامية، تنطفئ الأنوار الرحمانية المنبثة بلغة الغيب، ويتحوّل إلى عبء ثقيل، بدلًا من أن يكون رسالة حب ورحمة وسلام وشفاء. الحياة الروحية لا تتكرس في مناخ يغيب فيه حضور الله بوصفه ملاذًا للمحب، ومصدرًا للطمأنينة، ومرفأً لسكينة الروح المتعبة.كما لا تنبعث القيم الأخلاقية من خطاب يحاصر الإنسان بالممنوعات، ويثقله بالوعيد والتهديد، بدلًا من أن يرشده بلطف ورفق إلى الخير، ويستنهض في أعماقه النداء الأخلاقي.
لا يشرق الجمال من لغة تصف الله بعبارات تقريرية جافة، لا تتصل بمشاعر الإنسان، ولا ينصت فيها إلى صوت الله، ولا يشهد أنواره. لغة كهذه تغلق أبواب التأمل، وتطفئ جذوة الشوق، ولا تتيح للإنسان تذوق النور الإلهي في لحظات الصفاء ونداءات القلب. إن استعادة وظيفة الدين بوصفه مسارًا لتتسامي بالنفس، وإنقاذ الإنسان من ظمئه الأنطولوجي وغربته الميتافيزيقية، لا تتم إلا بإحياء الأفق الرؤيوي للغة الغيب، تلك اللغة التي يستفيق بها ضمير الإنسان، وتستنهض وعيه، وتوقظ فيه الإحساس بالدهشة، وتبني صلة حيّة بينه وبين ربه، لا عبر الرهبة، بل من خلال المحبة والرحمة والعطف والرفق والسلام. اللغة التي ينبعث منها معنى يشد الإنسان إلى الله، ويضيء له درب النجاة، ويمنحه القدرة على استعادة ذاته في عالم يضج بالصخب، ويقسو فيه العيش، هي وحدها القادرة على مداواة القلب المنهك، وإنقاذ الإنسان من التيه، وإعادته إلى مكانته في الوجود.
لا يمكن استعادة حضور الله في قلب الإنسان إلا بتجديد تفسير لغة الغيب والأسماء الحسنى والصفات الإلهية الجمالية خارج أفق التراث المتراكم حول دلالاتها لدى المتكلمين، وتحريرها من أسر المعجم الكلامي، وإيقاظ دلالاتها التي تكرس الإيمان، وإحياء رمزيتها، وإزاحة الحجب التي تراكمت على تلك الأسماء والصفات، والانتباه إليها بوصفها منبعًا لما يمنح الحياة معناها، ويوقظ فيها الإحساس العميق بحضور بالله في الوجود. عندها فقط يمكن أن نستنطق هذه الأسماء في سياقها القرآني، ونفهمها بوصفها منارات للهداية، وشفاءً للروح، ومصدرًا لبناء علاقة محبة بين الإنسان والله، تتجلى فيها الرحمة قبل العقاب، والسلام قبل التسلط، والصلة الحميمة قبل الرهبة.
إعادة تأويل لغة الغيب ليست رفاهية يمكن تأجيلها، بل ضرورة ملحّة، لأن الدين لا يُعاش بعمق إلا إذا تحدّث بلغة تخاطب مشاعر الإنسان، وتسكن إليها روحه، وتعبر عن آلامه، وتفهم معاناته، وتجيبه بإغاثة ظمئه الوجودي، لا بلغة موروثة غريبة عن متطلباته الروحية واحتياجاته الوجودية. يفقد الدين أثره حين يصبح مرآة تنعكس عليها الرؤية الكلامية، ولا يسعف الإنسان في غربته، ولا يضيء عتمة وجوده، ولا يمنحه سلام الباطن.
اللغة الكلامية، بما هي لغة مقولات اعتقادية، لا تتسع للمعنى الغيبي الذي ترمز إليه آيات القرآن، ولا تحتمل طاقة الإيحاء الكامنة في أسماء الله الحسنى وصفاته الجمالية والجلالية، ولا تفتح أفقًا للحياة الإيمانية الحيّة، والتعددية الدينية. لا تنتج هذه اللغة تدينًا ينبض بالسلام، بل تدينًا مسكونًا بالخوف، يفتقر إلى الدفء، وتشح فيه منابع الرحمة والمحبة والرفق والعفو والمغفرة والسلام الباطني، واحترام المختلف في المعتقد.
تجليات الأسماء الإلهية في سياق لغة الغيب لا تنتهي للاعتقاد بأن مَن يعتقد بمقولات فرقة كلامية معينة هو الوكيل الوحيد لله، والناطق الحصري باسمه في الأرض، وأنه هو فقط من له الحق بامتلاك الحقيقة دون سواه، بل تمنحه تجليات الأسماء الإلهية في لغة الغيب رؤية فسيحة تسمح له بقبول تعددية المعتقَد واحترام الآخَر المختلف، بوصف الآخر مظهرًا وجوديًا لاسم من الأسماء الإلهية المتنوعة، فتكون التعددية في الأرض انعكاسًا لتعددية الأسماء في العالم الربوبي. الأسماء الإلهية مرآة تتجلى فيها الأنوار الإلهية بحسب استعداد القلب وصفاء الروح للتلقي. لأن لغة الغيب لغة رمزية رحبة، فإن الرؤية لله في سياقها تتنوع، وهكذا تتنوع الطرق إلى الله وتتعدد، كذلك تتنوع أنماط عبادة الله وتتعدد بحسب الأديان والمعتقدات. التعددية الدينية ليست نقيضًا لوحدانية الله، بل هي نتيجة لتعدد الطرق إليه، وتعدد تجلياته، وتنوع صوره في قلب الإنسان. حين تكون اللغة دالةً على الغيب، لا يمكن أن تنغلق على تأويل واحد، لذلك يختلف تلقيها، كما يتنوع تفسيرها، وتتعدد فيها طرق الصلة بالله، وتتنوع منازل الأرواح ومشاهدات القلوب. لا تعني التعددية الدينية تعدد الحقيقة، بل تعني تعدد الطرق إلى الحقيقة الواحدة، وتنوع طرائق تلقيها.كلُّ تجربة روحية صادقة مرآة ينعكس فيها شيء من اشراقات النور الإلهي، وكلما كانت تلك التجربة مشبعة بالمحبة والرحمة والرفق والعفو والسلام،كانت أسرع إلى شهود الأنوار الإلهية.
موضوعات الغيب في القرآن تشكّل ركنًا أساسيًا في الإيمان، إذ يفتتح القرآن وصف المتقين بقوله: "الذين يؤمنون بالغيب" (البقرة: 3). الغيب في القرآن ليس غيابًا عدميًا، بل هو شهود نوراني لعالم ما وراء المادة. يظهر في القرآن تقابل واضح بين عالم الغيب الغائب عن الحس، وعالم الشهادة المحسوس. تتصدر لغة الغيب كلمات: الله، والأسماء الحسنى، والصفات الجمالية والحلالية، والعرش والكرسي، واللوح المحفوظ. لا تتوفر لدي معطيات دقيقة حول المساحة التي تحتلها موضوعات الغيب ولغته في القرآن، غير أن بعض التقديرات تذهب إلى حضوره بحدود 30٪ من آياته، ويعد الغيب من أوسع المحاور التي تتناولها آياته. أحاول أن أشير إلى كثافة حضور الله، وأسمائه الحسنى، وصفاته، في سياق آيات الكتاب الكريم، ولا أتحدث عن موضوعات الغيب الأخرى في الكتاب مثل القيامة واليوم الآخر، بغية التدليل على أن محاولات تفسير هذه الآيات في ضوء الرؤية الكلامية تخرجها من سياقها، ولا تضيء دلالاتها، ولا تفتح أفقًا للإطلالة على ما تنشده من بناء الإيمان وتكريسه، وإثراء الحياة الروحية، خلافًا لما لو فسرناها في ضوء رؤيتنا لآيات الغيب في سياقها القرآني.
يتكرر لفظ الجلالة "الله" في القرآن الكريم 2699 مرة. إجمالي 2699 مرة يتضمن 114 مرة في البسملة، و2585 مرة في غير البسملة. أما إجمالي تكرار أسماء الله الحسنى فيبلغ أكثر من 1800 مرة تقريبًا، حسب اختلاف طرق العد الدقيقة والتكرار في السياق. الأسماء الجمالية في القرآن هي: الرحمن، الرحيم، الرؤوف، اللطيف، الحليم، الكريم، الأكرم، الغفور، الغفار، العفو، الشكور، التواب، البر، الودود، الوهاب، الجواد، الحفي، الجميل، الصبور، النافع، المجيد، القريب، المجيب، الولي، الهادي، النصير، الوكيل، الكفيل، الحافظ، الحسيب، الكافي، الرازق، الفتاح، الباسط، المعطي، البديع، النور، الواسع، الحي، القيوم.
أما الأسماء الجلالية فهي: الله، الأحد، الصمد، الإله، الملك، المالك، مالك يوم الدين، العزيز، الجبار، المتكبر، القهار، القادر، القدير، المقتدر، القوي، المتين، العظيم، العلي، الأعلى، الكبير، الظاهر، الباطن، الأول، الآخر، الحق، الحكم، الحسيب، الشهيد، الرقيب، الحفيظ، المقيت، القائم، المنتقم، سريع الحساب، ذو الطول، ذو الجلال والإكرام، الغني، المغني، المانع، القابض، المذل، العدل، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، المحيط، البصير، السميع، العليم، الخبير. "الله" هو الاسم الأعظم الجامع لسائر الأسماء الحسنى والصفات العليا، ولا يُطلق إلا على الحقّ جلّ شأنه، وهو الاسم الأصل الذي ترجع إليه بقية الأسماء والصفات. وقد ورد في القرآن الكريم 60 اسمًا من أسماء الله الحسنى بصيغة الاسم الصريح.
ما ورد في القرآن الكريم من الصفات هي 81 صفة إلهية صريحة، تنوعت صيغها بين الاسم، والفعل، والجملة الوصفية والخبرية، فعبرت عن ذات الله وصفاته بأشكال متعددة. وما ورد بصيغة الاسم المباشر، في آيات القرآن: الرحمن، الرحيم، الغفور، العفو، التواب، الحليم، اللطيف، الكريم، الودود، الشكور، البر، القريب، المجيب، السلام، الهادي، العليم، السميع، البصير، الخبير، العزيز، الحكيم، العدل، الحق، القدير، الوكيل، الرقيب، الشهيد، القوي، المتين، الغني، الرازق، الفتاح، الوهاب، الحسيب، الحميد، الوارث، البديع، الظاهر، الباطن، الأول، الآخر، الحي، القيوم، الله، ذو الجلال والإكرام... وغيرها، وقد بلغ عددها 60 صفة. ومن الصفات ما ورد بصيغة الفعل، أو الجملة الوصفية أو الخبرية، في القرآن، مثل: كتب على نفسه الرحمة، وسعت رحمته كل شيء، يغفر الذنوب جميعا، يعفو عن كثير، لا يعجل بالعقوبة، يحب المحسنين، يحب التوابين، يحب المتطهرين، يدعو إلى دار السلام، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم ما توسوس به النفس، يعلم السر وأخفى، غافر الذنب وقابل التوب، قريب مجيب، لطيف بعباده، رزّاق ذو القوة المتين، أرحم الراحمين، أحسن كل شيء خلقه، أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد... وغير ذلك، وقد بلغ عدد هذه الصفات 21 صفة.
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟