أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عدي الراضي - بين مسقط الرأس ومسقط القلب: مقاربة نفسية بعلاقة الإنسان بالمكان.














المزيد.....

بين مسقط الرأس ومسقط القلب: مقاربة نفسية بعلاقة الإنسان بالمكان.


عدي الراضي
باحث في التاريخ والتراث.

([email protected])


الحوار المتمدن-العدد: 8411 - 2025 / 7 / 22 - 18:21
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في لحظة عابرة داخل سيارة الأجرة، وبينما كان الحديث قد بدأ للتو مع اقتراب نقطة الوصول، جاء سؤال عن الانتماء. كان الجواب ببساطة ودون تردد: «مسقط الرأس فاس، ومسقط القلب أزيلال». كانت تلك العبارة، التي تشبه جوهرة الماس في نقائها وعمقها، تحمل بين كلماتها معانٍ نفسية عميقة وتجليات مختلفة للانتماء. فكيف يمكننا فعلاً التفريق بين هذه الأمكنة التي تحدد هويتنا؟ وما هو الفرق النفسي والوجداني بين مسقط الرأس ومسقط القلب؟. واستحسنت مشاركة معكم هذه الدردشة الوجيزة ، التي أنتجت مقالا بهذا العنوان.

بين مسقط الرأس ومسقط القلب: مقاربة نفسية لعلاقة الإنسان بالمكان
يناقش هذا المقال العلاقة المعقدة بين الإنسان والمكان من منظور نفسي، بالتمييز بين مفهومي مسقط الرأس ومسقط القلب. فبينما يشير الأول إلى المكان البيولوجي الذي وُلد فيه الإنسان، يرتبط الثاني بالانجذاب العاطفي إلى مكان يحقق له التوازن النفسي والانتماء الشعوري. يستند التحليل إلى مفاهيم من علم النفس البيئي ونظريات الذاكرة الانفعالية والانتماء، ليخلص إلى أن الارتباط بالمكان لا يُبنى فقط على الجغرافيا بل على التجربة الشعورية داخله، وهو ما يجعل "مسقط القلب" يتفوق، في كثير من الأحيان، على "مسقط الرأس".

يختزن مفهوم المكان في الذاكرة الإنسانية بعدًا يتجاوز كونه حيزًا جغرافيًا أو بيئة مادية. فالمكان يمثل في أبعاده النفسية والعاطفية وعاءً للهوية، ومستودعًا للتجارب والانفعالات. في هذا السياق، تظهر ثنائية دالة: مسقط الرأس بوصفه مكان الميلاد الجسدي، ومسقط القلب كمكان الميلاد العاطفي والاختياري. تطرح هذه الثنائية سؤالًا جوهريًا حول طبيعة الانتماء: هل نحن أبناء المكان الذي ولدنا فيه، أم المكان الذي أحببناه وسكننا وجدانيًا؟

يحمل "مسقط الرأس" دلالة بيولوجية واجتماعية مفروضة على الفرد، إذ يولد الإنسان دون خيار في بيئة معينة، ويكتسب منها لغته الأولى، وعاداته، وتمثلاته الأولى للعالم. غير أن هذا الانتماء قد يظل قدرًا لا اختيارًا. في المقابل، يمثل "مسقط القلب" ذلك الفضاء الذي يختاره الإنسان بحرية، لما يمنحه إياه من طمأنينة، وانسجام، وتطابق مع الذات.

من خلال علم النفس البيئي، ندرك أن المكان ليس عنصرًا خارجيًا فقط، بل مكون داخلي في بناء الذات. يتأثر الإنسان بالأماكن التي شهدت لحظاته الحاسمة، سعادةً أو ألمًا، حبًا أو فَقْدًا. هذا ما تسميه المدرسة السلوكية بالارتباط الشرطي الانفعالي، إذ تكتسب بعض الأمكنة حمولة وجدانية عالية تجعلها جزءًا من هوية الفرد العاطفية. كما أن نظرية "هرم ماسلو" للحاجات الإنسانية تُبرز الانتماء كحاجة أساسية، قد لا يُشبعها "مسقط الرأس" في حال شعور الإنسان بالاغتراب أو القطيعة، مما يدفعه لاختيار "مسقط القلب" كبديل تعويضي.

في حالات كثيرة، يُعيد الإنسان تشكيل علاقته بالمكان من خلال النوستالجيا (الحنين للماضي). فحتى الأماكن التي غادرها قد تحتفظ بقدسية وجدانية لا تمحى، ويبدو "مسقط الرأس" كأنّه الفردوس المفقود. غير أن هذه القدسية قد تضعف أمام تجارب عاطفية أقوى في مكان آخر، ما يجعل "مسقط القلب" ينتصر شعوريًا.

تُظهر التجربة الإنسانية أن "مسقط القلب" قادر على إزاحة "مسقط الرأس" من مركزية الهوية، خاصةً إذا مثّل هذا الأخير فضاءً للحرمان، أو العنف الرمزي، أو القهر الاجتماعي. كما أن المكان الذي يتطابق مع قِيَم الإنسان، وتطلعاته، وذاكرته العاطفية، يكتسب مع مرور الوقت سلطة رمزية تجعله أكثر رسوخًا من الجغرافيا البيولوجية.

وتجدر الإشارة إلى أن العمر الذي يغادر فيه الإنسان مسقط رأسه يلعب دورًا حاسمًا في تشكيل علاقته به لاحقًا. فالأشخاص الذين يغادرون في سن مبكرة قد لا يحتفظون بذاكرة شعورية قوية للمكان، مما يضعف الأثر النفسي والانفعالي لمسقط الرأس. في المقابل، من عاش فيه مراحل الطفولة والمراهقة يحمل غالبًا ذاكرة وجدانية أعمق، وقد يستمر هذا الارتباط حتى إن سكن في أمكنة أخرى. هنا تتداخل العوامل الزمنية والعمرية في تحديد مدى رسوخ المكان الأول في لاوعي الإنسان، ومدى قابلية استبداله بمكان بديل يصبح لاحقًا مسقط القلب.

ليس الإنسان ابن الأرض التي وُلد فيها فقط، بل ابن التجارب التي عاشها فيها أو في غيرها. تتشكل علاقة الإنسان بالمكان من خلال تفاعلات وجدانية عميقة، تتجاوز البعد المادي إلى التماهي النفسي. ولعلّ أصدق ما يُختزل به هذا الشعور قول بعضهم: "هناك أماكن تسكننا، ولسنا نحن من يسكنها". إنها لحظة شعورية كثيفة يكون فيها المكان مرآة للذات، لا مجرد مسكن للجسد.



#عدي_الراضي (هاشتاغ)       [email protected]#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشباب المغربي وسؤال القدوة : حين تخصب التفاهة وتجف القيم.
- أيت هرهور : البنية المجالية والتحولات السوسيو-تاريخية
- أضواء كاشفة على جوانب قاتمة من تاريخ قرية أفراسكو النائية.
- ثورة الملك والشعب قفزة نوعية في مسيرة الكفاح الوطني بالمغرب.
- الوضعية الاقتصادية والإجتماعية لقبائل الجنوب الشرقي بعد معرك ...
- قراءة في قصيدة -نسير في فوضى -للشاعرة فاطمة بورزى.
- معركة -تحيانت-محطة نوعية في تاريخ مقاومة أيت حديدو للإستعمار ...
- التقاط الأخبار ؛بين سطور الأسفار؛ لإنارة عتمة تاريخ مجاط.
- -ثِمْجّاط-مجال الرعي ومنتجع الرحال.
- جيل مخضرم.
- -زلاغ -و-ثغاط-أعلام أمازيغية تحرس مدينة فاس.
- شظايا جسد متفتت.
- جسور من الاوراق.
- أشاوس المقاومة المنسيون من رجال أيت حديدو الشجعان:عادين وعرا ...
- القنديل الوامض في عتمة تاريخ قرية أفراسكو الغامض.
- -أنرار- في تاريخ قصور منابع زيز بين الوظيفة الزراعية والسوسي ...
- أنوار ساطعة على أركان دامسة من تاريخ تاعرعارت المنسية.
- منتدي شباب اميلشيل من أجل التنمية المستدامة: قراءة في الشعار ...
- الأنظمة الرعوية بأعالي زيز-تويلي-نموذجا.
- حلف أيت يفلمان: التاريخ والمجال.


المزيد.....




- كريستين بيل تشعل فتيل جدلٍ حاد بسبب تهنئتها لزوجها في عيد زو ...
- ترامب: إسرائيل ستخسر كل دعم أمريكا في هذه الحالة.. وسأزور غز ...
- ما هو مرض الدفتيريا الذي ظهر في الجزائر بعد اختفائه بعقود؟
- رياح شديدة تضرب نيوزيلندا للمرة 2 خلال أسبوع
- أندية قتال فاشية في مرمى الاستخبارات.. تقرير يرصد تمدّد حركة ...
- إيران محذّرة من الهجوم على منشآتها: تكرار التجربة لن يؤدي إل ...
- أول صلاة مشتركة تجمع ملكًا إنجليزيًا وبابا كاثوليكيًا منذ خم ...
- جدل بعد تصريحات فانس حول تصويت الكنيست لضم إسرائيل للضفة الغ ...
- الانتخابات الرئاسية بساحل العاج: أحياء العاصمة أبيدجان بين د ...
- رغم سريان وقف إطلاق النار.. إسرائيل تشن غارات على البقاع وال ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عدي الراضي - بين مسقط الرأس ومسقط القلب: مقاربة نفسية بعلاقة الإنسان بالمكان.