بن غربي احمد
الحوار المتمدن-العدد: 8404 - 2025 / 7 / 15 - 18:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اختلال ميزان الوعي: حين تقمع المقاومة ويُكافأ الاحتلال
بينما تتسارع الأحداث في منطقتنا، يكشف المشهد السياسي العربي والدولي عن مفارقات صارخة تتحدى أبسط قواعد المنطق والأخلاق. نعيش لحظة تاريخية يتقاطع فيها الفعل العدواني مع رد فعل مقلوب، فترتسم أمامنا صورة لعالم مختل في ميزان الفهم، لا تحكمه المبادئ بل تحركه المصالح، ولا يقوده الوعي بل تطبعه الوظيفة الأمنية و"الممكن الدبلوماسي" على حساب الحق والكرامة.
أولًا: حين يرفع الحصار عن دمشق وتغرس خناجر جديدة
بينما يعمل الغرب تدريجيا على إعادة تطبيع علاقاته مع النظام السوري، سواء بدوافع جيوسياسية أو لمواجهة المد الإيراني والروسي، تتصرف إسرائيل في الاتجاه المعاكس، حيث تكثف ضرباتها الجوية وتستهدف البنية الأمنية والعسكرية السورية بهدف إطالة أمد التشظي وتفكيك بقايا الدولة الوطنية. إنها ازدواجية تؤكد أن "الاستقرار" لا يعني الشيء نفسه عند الجميع: فبالنسبة للغرب هو توازن مصالح، وبالنسبة لإسرائيل هو استمرار في تفتيت الجوار.
ثانيًا: إبادة في غزة واتفاقيات سلام في الخليج
بينما ترتكب في غزة إبادة جماعية مكتملة الأركان، بشهادات أممية ومؤسسات حقوقية، يهرول بعض العرب إلى التفكير في توقيع اتفاقيات سلام أو الترويج لمنتديات حوارية مع الكيان نفسه الذي يبيد الفلسطينيين. ما يثير الصدمة ليس فقط التطبيع في ذاته، بل توقيته، إذ يأتي في لحظةٍ تاريخية مشعة بالدم والأشلاء، ليحول الضحية إلى طرف مشوش والجلاد إلى شريك "حضاري".
ثالثًا: أوروبا
بينما نشهد تحولات حقيقية داخل الرأي العام الأوروبي، وضغوطا سياسية بدأت تترجم إلى دعوات لمراجعة العلاقات مع إسرائيل في ضوء المجازر في غزة، نلاحظ أن بعض الأنظمة العربية تسير في الاتجاه المعاكس، وتفتح مسارات جديدة لما يسمى ب "السلام الإقليمي". وكأنهم يعيشون في كوكب آخر، أو ربما يخضعون لروزنامة مصالح خارجية لا تعبأ بقيم الأمة أو نبض شعوبها.
رابعًا: سلطة فلسطينية بلا مقاومة
ربما أكثر صور التناقض ألما هي ما نراه من أداء السلطة الفلسطينية، التي بدلا من تعزيز صمود الضفة أو بناء وحدة داخلية وطنية، تنشغل في مساعي نزع سلاح المقاومة وملاحقة المقاومين، تحت شعار التنسيق الأمني. هكذا تتحول السلطة من مشروع سياسي إلى أداة ضبط لصالح الاحتلال، تعيد إنتاج الهزيمة كل يوم باسم "الشرعية".
خامسا: ترمب والمهزلة الأخلاقية
في مشهد عبثي آخر، بينما توجّه اتهامات جنائية للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بالتواطؤ في دعم آلة الإبادة الإسرائيلية، يروج له البعض عربيا وأوروبيا بوصفه رجل سلام محتمل وجدارة بجائزة نوبل! وكأن الذاكرة السياسية العالمية قد أصيبت بعطب أخلاقي حاد، فلا يبقى من التاريخ إلا ما تسمح به أدوات الهيمنة والترويج الإعلامي.
سادسا: مفاوضات على أنقاض غزة!
بينما يستمر الاحتلال الإسرائيلي في رسم خرائط جديدة لاحتلال غزة وتغيير تركيبتها السكانية والمجتمعية بالقوة، تدفع بعض الأطراف الفلسطينية والعربية نحو مفاوضات عبثية، وكأن الواقع لا يتطلب ردعا أو مقاومة، بل مجرد "حلول تفاوضية" تُساوي بين القاتل والضحية، بين من يهدم البيوت على ساكنيها ومن يدفن أطفاله بيديه.
سابعا: الأنظمة العربية كأذرع أمنية تخدم الرؤية الصهيونية
في واحدة من أكثر الصور تعبيرا عن انقلاب وظيفة الدولة في بعض المحيط العربي، نرى أن إسرائيل رغم عدوانها المستمر على الجوار، فإن سياساتها الأمنية تجد صدى وتكريسا في بعض الحكومات العربية. ففي لبنان والأردن والعراق واليمن، لا توجه الجهود الرسمية ضد الاحتلال أو أدواته، بل تركز على استهداف القوى الوطنية والتيارات الرافضة للتطبيع، بوصفها "تهديدا داخليا للأمن"، في تماه خطير مع رواية الاحتلال نفسه. وهكذا تتحوّل الدولة من كيان للحماية إلى ذراع لضبط الممانعة وتدجين المقاومة.
ثامنا: إيران بين العداء المعلن والتكتيك المزدوج
في الوقت الذي تتعرض فيه إيران لحصار خانق وتآمر صريح من إسرائيل والقوى الغربية، يتوقع المراقب أن تبني إيران تحالفا استراتيجيا ثابتًا مع جيرانها وشركائها الإقليميين، إلا أنها تميل إلى إبقاء خط الرجعة مفتوحا مع الغرب، وتحكم إغلاقه في وجه شركائها في المنطقة. كما تُمارس سياسة مزدوجة في علاقاتها مع روسيا والصين، حيث تسعى لاستثمار هذه العلاقات كأوراق ضغط تفاوضية لا كشراكة مصيرية. هذا التلاعب بالتوازنات يطرح أسئلة جوهرية عن محدودية الرؤية الإيرانية للمقاومة في بعدها الإقليمي، وعن حدود تقاطعها الفعلي مع تطلعات الشعوب لا الأنظمة.
ومن خلال ما تقدم يمكن القول انه حينما يتحول الواقع إلى مهزلة سياسية
هذا الواقع ليس مجرد مفارقات، بل بنية كاملة لاختلال الفهم والإدراك، تؤسس لأخطر أنواع التطبيع: تطبيع الذهنية والوجدان. إنه تكييف سياسي وأخلاقي مع الجريمة، وإعادة تعريف للعدو وفق منطق المصالح المتبدلة لا القيم الثابتة.
ما نحتاجه اليوم ليس فقط مقاومة مادية، بل مقاومة معرفية تُعيد للعقل العربي توازنه، وللفكر السياسي منطقه، وتخرجنا من هذه الحالة من الانفصام الجماعي. فحين يصبح الحديث عن المقاومة رجعية، والتطبيع "واقعية سياسية"، يكون لزاما علينا أن نعلن رفضنا لهذا المنطق المقلوب، ونعيد رسم بوصلتنا بناء على الحق لا على وهم التعايش مع الباطل.
وانه هناك ملاحظة من خلال ما تقدم ذكره انه بين الأنظمة والدول هناك هشاشة التوازن بين الأخلاق والمصلحة
وذلك ما يبدو من تناقضات صارخة بين التطبيع والإبادة، وبين مقاومة تجرّم واحتلال يطَبّع، لا يمكن فهمه خارج الإطار الأوسع لما يمكن تسميته الهوة بين منطق الدولة ومنطق النظام. فمعظم الأنظمة في المنطقة العربية، وحتى إيران من جهة أخرى، تتعامل مع القضايا الكبرى بعقلية العبور الآمن نحو البقاء السياسي، لا بعقلية بناء مشروع وطني مستقر ومستقل.
إنها لحظة تتداخل فيها المصالح الآنية مع غياب التفكير الاستراتيجي، وتبرز فيها هشاشة العلاقة بين تطلعات الشعوب وطموحات الأنظمة، بل وأحيانا بين القيم الأخلاقية والمفاهيم المصالحية التي أصبحت تُقدم كبدائل للحق والعدل.
هذه الازدواجية لا تعبر فقط عن أزمة في القرار، بل عن تآكل في التصور العام للهوية والمصير والوظيفة السياسية للدولة، وهو ما يجعل من هذه اللحظة العربية والإسلامية أكثر من أزمة سياسية؛ إنها أزمة معنى. حتما لن تر حتى تحدث أثرا في التغيير وانها آثار طوفان الأقصى الذي أوضح بشكل جلي تلك المتناقضات
ا.بن غربي
#بن_غربي_احمد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟