واثق الجلبي
الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 18:11
المحور:
الادب والفن
قراءة / أ0د مصطفى لطيف عارف
ساد التبئير الداخلي في رواية " كل أنواع الحلي لا تفيد الموتى " ففي هذا النوع من التبئير تعبر الشخصية مباشرة عن ذاتها بواسطة الحوار الداخلي, ففيه يتم تقديم الأحداث بواسطة وعي إحدى الشخصيات, وقد وظّف الروائي التبئير الداخلي في الشخصية المحورية التي أخذت على عاتقها تقديم الشخصيات والأحداث, إذ تحاور الشخصية عبر جهاز التسجيل حياتها الماضية والتي عاشها مع زوجته، عن طريق الحوارات الاسترجاعية التي يقوم بها البطل، يقول الراوي: تعرفينني جيداً فتوثبي الدائم بلا غائية المهم عندي هو أن أعيش في أسرتي بلا مشاكل حتى في عملي لم أكن أبحث عن أي مصادمات, الحياة شيء لا وجود له أما وظائفنا في هذه الحياة فهي ساعة بلا عقارب الشيء الوحيد الذي نسمعه هو صوت القلب.
نلحظ في النص السردي إنّ الراوي المشارك أو بطل الرواية يحاور بواسطة أشرطة الكاسيت زوجته الراحلة, فيكشف ما تغوص به نفسه ويعرض أفكاره ويذكر عبر الحوار حياته التي قضاها مع زوجته ويتحدث عن ذاته وعلاقته بالمرأة كما بينته أسيل حسن , فنلحظ تخلي الراوي عن هيمنته على مجريات السرد , إذ ترك للشخصية حرية التعبير عن وجهة نظرها.
وفي سياق آخر يبئر السارد ذاته وبضمير المتكلم (أنا), فيقول: أين أنا الآن ؟ فقلبي ميت وعيني لا تعزيني وأنت بعيده وأنا اشعر بالبرودة. من يستطيع أن يزرع وردة فوق الجليد ؟ الشتاء لا يعرف الرحمة ,يتضح من النص السردي إنّ التبئير داخلي مع ذات السارد يكشف عما يعانيه من خلال الأسئلة التي يطرحها مع ذاته ليكشف عما يجول في ذهنه, وعن طريق التبئير نلحظ أنّ هناك صراع داخلي يشتد عند البطل, ولا يخلو النص من اللغة الرمزية المكثفة, فالبطل هنا يكشف عن الحالة النفسية السلبية التي يمر بها نتيجة فقده لعائلته ، فيشعر بأن قلبه ميت بعد رحيل زوجته عنه وعيشه وحيدًا.وعلى الرغم من هيمنة (التبئير الداخلي), إلّا إنّنا نلحظ في نهاية الأحداث (التبئير الصفري) فبعد موت البطل الذي كان يتولى مهمة تقديم الشخصيات ودفع الأحداث إلى الأمام نلحظ ظهور الراوي العليم ولكن بنسبة ضئيلة, يقول: في هذه الأثناء وبعد أن سكت المسجل استعد المطبخ لطرد جثته النائمة فوق الكرسي البلاستيكي .. ستون عاماً وجثة شاحبة الأعوام وهيكل لا تفيد معه أحدث الرافعات .. كانت ذراعاه متدليان ورأسه يسكن إلى حافة الكرسي لم تتح أنفاسه أكثر من هذا هاتفه الذي كان يرن ويجيب الطرف الآخر : ألو هل أنت بخير . لم يسمعه فما عاد له المكان ولا الوقت المترجل من الغيم, بعد موت البطل يتولى الراوي العليم مهمة سرد الأحداث فالسارد العليم بضمير الشخص الثالث الذي له القدرة على النفاذ إلى داخل الشخصيات , ومعرفة أفكارها وما يدور في خلدها , فهو يملك القوى التي تمكنه من هتك حجب الشخصيات وأستارها أي إنّ (الراوي = الشخصية) بحسب تعبير تودوروف , فيسرد مشهد موت الشخصية المحورية مع وصفه لهذا المشهد الدرامي فينقل لنا حرفيًا لحظة موت البطل وكيف أنّ ذراعاه متدليتان ورأسه يصل إلى حافة الكرسي ومع لفظ أنفاسه الأخيرة يرن هاتفه لكنه لا يجيب.
أما رواية " شفاه الشطرنج " فهي ذات (تبئير صفر) إذ إنّ الراوي كلي العلم يمر كل شيء من خلاله وله القدرة على اختراق الجدران, والغوص إلى دواخل الشخصية ليبين ما تعلمه وتفكر ,و يرمز له بعضهم بالشكل الآتي: " الراوي الشخصية " إذ نرى الراوي يعلم أكثر من أية شخصية , أو بطريقة أدق أكثر مما تعلم أي شخصية , يقول الراوي: كان عماد ثائرا كثور في الحلبة, حتى أن بعض الأطباء ظنوا بأنه والد الطفل, استغربت والدة دريد هذا التصرف من الأستاذ وبدأت تشك في الأمر, بعد نجاح العملية ودفع التكاليف الباهظة في المستشفى الخاص, اقترح عماد أن يباد أن يبات الطفل في منزله, رفضت الأم ذلك وعيناها يحكمها الشك والريبة, أذعن عماد لإصرار الأم وترك دريد في منزله متأوها مع كومة من إخوته الذين اصطاد منهم واحد بنظراته الثاقبة, فكر الأستاذ كيف يمضي وقته بلا عشق لغلام أمر, طلب من الأم أن يساعدها في مبيت حازم الأخ الأكبر لدريد, فرفضت مبدية شكرها وامتنانها على ما فعله, خــــــــــرج
عماد وقد اضناه الشوق لدريد ,يتضح من النص السردي إنّ موقع الراوي هنا في زاوية خارجية تبعد عن الشخصيات , وهذا الموقع جعله على معرفة بكل ما يدور في الرواية سواء أكان موضع هذه المعرفة من داخل الشخصيات أم خارجها لكونه يتحدث باسم الشخصيات وتعرف آراؤها من خلاله , كما أنه يعلم مصائرها وحقيقة أفعالها,نلحظ إنّ الراوي في الرواية عليم بكل شيء عن شخصياته، فيصف حال الأستاذ عماد وهو شخصية محورية وعلاقته بالطفل دريد ، فالأستاذ عماد المتصوف الذي يمارس العلاقة الشاذة مع الطفل دريد بعد أن استغل حياة الفقر التي يعيشها الطفل، لذا قام باستدراجه ليمارس معه فعله الشنيع ، وبعد مرض الطفل أصبح عماد ثائرًا كثور في الحلبة لأنّه لم يعد يمارس معه المحرمات, حتى إنّ لشدة خوفه على دريد أصاب الأم الشك والريبة , كما كشف لنا الراوي موقف الأم لرفضها طلب عماد من مبيت الطفل في بيته مبدية شكرها وامتنانها, أيضاً نستطيع أن نلحظ في المقطع السردي تدخل الراوي في داخل شخصية الأستاذ عماد فكلمة (أضناه الشوق لدريد) هي وصف داخلي للشخصية وتدخل من قبل الراوي.
أيضًا تجلى التبئير الصفري في المثال الآتي، يقول السارد : الضرر النفسي الذي أصاب نيران كبير جداً, تجربتها الأولى لم تكن ناجحة, بعد أشهر قليلة تم الطلاق ويا ليتها مارست المتعة مع رجل, أحست بأن بقاءها مع الكلب هو من أصابها باللعنة , لكنها كلما تطلعت إلى وجه تومي تشعر بالحنان تومي لن يفضحها يوما, الكلب الأخرس كان أميناً بصورة مطلقة يستحمان معاً وينامان معاً وهو حارسُ قوي, لكن نفسيتها وقلبها الذي يشتهي الحنان والعاطفة, كانا في معزل, اذنها تريد أن تسمع كلمات صادقة بدلاً من النباح كيف ستعيش بقية حياتها؟يكشف النص السردي عن الحالة النفسية للشخصية الرئيسة (نيران) والضرر النفسي إزاء تجربتها الفاشلة من زواجها الذي لم يستمر طويلًا بل خلال أشهر قليلة تم طلاقها, وإحساسها بأنّ هذه اللعنة إصابتها نتيجة بقائها مع الكلب, في نفس الوقت تشعر بالحنان كلما تطلعت إلى وجه كلبها، هذا الكلب الذي كانت تقيم معه علائق خارجة عن المألوف كبديل عن علاقة طبيعية مع رجل, فالراوي قدم لنا هذه الأوصاف الداخلية للشخصية وما كانت تشعر به, وما يجول في نفسها وكيفية تفكيرها, عن طريق راوٍ خارجي عليم مسيطر على السرد, ففي هذا الضرب من السرد يكون الراوي عالمًا بكل شيء فيما يخص شخصياته حتى أفكارها السردية فيقوم بعرضها للقارئ بعملية تامة0
وعلى الرغم من إنّ الراوي العليم هو الذي أخبرنا بأفعال الشخصيات وهو الذي يمدنا بالمعلومات حولها , إلّا إنّه سمح لبعض الشخصيات بأداء وجهه نظرها , كون الراوي يسند بعض المعلومات إلى شخصيات الرواية , إذ تتولى هذه الشخصيات التصريح ببعض المعلومات أو بعض الآراء ، مثال ذلك : لا تخبري أحدا بذلك وأحسن شيء قمت بعمله أنك لم تواجهي عماد بذلك, أنتِ امرأة عاقلة ومضحية, أرجوك اهتمي بشؤون الأولاد وسأتصرف مع عماد بطريقتي ,ومن خلال الحوار بين أم دريد، ومُدان يطرح مُدان رأيه حول تصرف أم دريد بعدما أخبرته بما فعله الأستاذ عماد مع أبنها , فطلبت مساعدته وتدخله وهنا ينقل مُدان رأيه دون تدخل من الراوي العليم ، فاختفى في هذا المقطع الحواري صوت الراوي العليم ليفسح المجال للشخصية أن تعبر عن رأيها وأسلوبها الخاص , مقدمة الحدث من وجهة نظرها , فعندما علم مُدان بالفعل الشنيع الذي قام به عماد مع الطفل دريد قدم النصيحة لأم دريد بأن لا تخبر أحدًا بذلك كما عبر عن رأيه بها من خلال قوله : أنتِ امرأة عاقلة ومضحية, وأخبرها بأنّه سيتصرف بطريقته ليجد حلًا للأستاذ عماد.
ومن بعد ذلك يعود الراوي العليم إلى هيمنته وسيطرته على السرد , وقد اتضحت معاودة الهيمنة عندما بدأ الراوي بسرد المونولوج الداخلي لشخصية (أم دريد), يقول السارد : زهدها وتضميدها للجراح بطريقة مقننة مكنت مُدان من الإمساك بخيط الفضيلة من الطرف الآخر, لكن هذه الأم لم تعرف بما قاله مُدان لعماد.
هل وبخه؟هل ضربه؟هل أوقف نزواته وشهواته عن متابعة رحلة عشق الأولاد ؟
لا تعلم , لكنها آمنت بسحر مُدان الذي أزاح الوحش بسحره الخاص ,يمسك السارد من جديد بمهمة سرد الأحداث, ويسبر لنا أغوار الشخصية, فيرسم لنا ما تغور به شخصية أم دريد من أسئلة لا تملك الإجابة عنها, فهي بعدما أخبرت مُدان بما حصل لولدها وما جرى عليه من قبل الأستاذ عماد, لا تعلم كيف تصرف مُدان معه هل صرخ عليه ؟ هل ضربه ؟ لا تعلم ولكنها أطمئنت على أولادها بعدما غادر الأستاذ عماد وترك فعله الشنيع, ويمكننا أن نلحظ سلطة الراوي على مجريات السرد , إذ لم يسند المعلومات إلى أي شخص, وإنما أسندها إلى ذاته ولم يخبرنا بها.
ولم تخل رواية " شفاه الشطرنج " من التبئير الخارجي والذي يسمى تبئير الكاميرا وهو الذي لا يمكن فيه التعرف على أفكار أو مشاعر الشخصية , أي إنّ الراوي محدود العلم, فهو لا يصرح للمتلقي عما في داخله بل يترك للمتلقي معرفتها في محاولة لما يدور في ذهنه من رؤى, فهي رؤية محدودة الإدراك خارجياً, ومستحيلة الإدراك داخلياً , فتكون معرفة الراوي أقل من معرفة الشخصيات ، يقول الراوي : الوالد ذهب ضحية رصاصة أمريكية إبان الاحتلال الأمريكي على العراق , وهو يقود سيارة يعمل فيها كسائق وسط كميات الدمار رحل الوالد النزيه لتبقى الأمور متباينة إلى حد القرف , خمسة أطفال وأم متبتلة , لم ترض الزواج حفاظاً على أولادها ,نلحظ في النص السردي عدم تدخل الراوي إلى باطن الشخصية ولا يعلم ما تشعر به هذه الأم , كما إنّه لم يعلمنا باسم الوالد الذي راح ضحية الاحتلال الامريكي وترك أولادة الخمسة على كاهل زوجته, أيضاً لم يكشف الراوي عن أسماء الأولاد إنّما أكتفى بذكر عددهم, كذلك ذكر الراوي ابتلاء الأم بتحملها مسؤولية المعيشة وحدها ولكنه لم يصرح بشعورها، بل ترك على عاتق المتلقي رؤيتها, وبذلك يكون حزامًا عليه متابعه سرد الرواية لتتشكل الرؤية الواضحة لما يدور في كوامن الشخصية.
ولم تختلف "رواية يوسف لا يعرف الحب" عن سابقتها كونها ذات ( تبئير صفري) , فالراوي العليم ينظر إلى الأحداث من مكان خارج الرواية نفسها وحقيقة إنّ هذا الراوي يمتلك موضعًا خارج عالم القصة, مما يجعل من السهل علينا أن نتقبل ما لا يمكننا تقبله في الحياة الواقعية ,يقول الراوي: أنجبت سماء ولداً وبنتا وأنجبت قبلهما زوجا لا يمت إلى يوسف بشيء, عملت بعقلها وعاشت به وكان قلبها مع الطفلين الصغيرين والحب الغائب, استوعبت سماء دروس الحياة حتى أنها لم تعد تتذكر يوسف إلا في خلوتها فتبكي وتنام على وسادة لم تطأها عيون من أحبت, وتخبر شعرها بأيامها معاً, ثم تبكي فلم يعد بالإمكان أن تمتد أنامل من تحب إلى خصرها ولا إلى أي مناطق الإحساس الكامل لديها0
يكشف النص إنّ الراوي العليم يسرد الأحداث سردًا تفصيليًا, فقد اخترق دواخل الشخصية, وغاص في عمقها, وعرف عنها كل شيء فيسبر لنا أغوارها, فهو عليم بما تحمله من معاناة جاثمة على صدرها بعد زواجها من شخص آخر غير يوسف الذي أحبته لسنوات طويلة لينتهي بها الأمر إلى زواجها من شخص ثانٍ وإنجابها الأطفال, فتعيش مع ذكرياتها الأليمة تبكي وتنام, إلّا أنّها تدرك أنها ليست مع يوسف.
#واثق_الجلبي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟