أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال محمود الطيارة - أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة) (2) الفصل الأوّل (جزء 1) الحِمى والأنصاب والمذبح: ثقافة الأحجار المقدّسة















المزيد.....



أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة) (2) الفصل الأوّل (جزء 1) الحِمى والأنصاب والمذبح: ثقافة الأحجار المقدّسة


كمال محمود الطيارة

الحوار المتمدن-العدد: 8401 - 2025 / 7 / 12 - 08:39
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


كان تارح أبو إبراهيم مقيماً على ما جاء في التوراة في "أور الكلدانيين" (جنوب العراق اليوم) ولا نعلم أكان فيها أصيلاً أم مهاجرا وقد رُزِق بثلاثة ذكور أبرام (= إبراهيم) وناحور وهاران الذي وافته المنيّة بعدما أنجب لوطاً وقد تزّوج أبرام من ساراي أخته غير الشّقيقة من أبيه (مما يعني أنّ تارح كانت له غير امرأة واحدة) وتزوّج ناحور مِلكَة ابنة أخيه المتوفّي هاران (أي أخت لوط) ثم قرّر تارح شيخ العشيرة الهجرة من "أور الكلدانيين" فترك ناحور ابنه الثاني في "أور" (ربّما كتدبير احترازي في حال تعثّر مشروع الهجرة لاحقاً) وخرج برهطه الأقربين أبرام وزوجه ساراي ولوطاً ابن هاران المتوفّي قاصدين أرض كنعان وأتوا في طريقهم "حاران" فأقاموا هناك لسنين (تك/11 26 ـ 32)

ثمّ أنّ أبرام بعد ذلك مضى قُدُماَ في مشروع أبيه (وليس الأمر واضحاً أكان ذلك قبل موت هذا الأخير في حاران أم بعد ذلك) فارتحل بركْبِه إلى أرض كنعان (والمؤمنون بالرّواية يجعلون أحداثها حوالي 1800 قبل الميلاد) ونزل قرب "شكيم" عند "بلوطة مُورَة" (وهذا ما يقابل اليوم على قول البعض موقعاً قرب نابلس الحاليّة) "وكان الكنعانيون حينئذٍ في الأرض [...] فبنى هناك مذبحاً للرب الذي ظهر له" ويبدو أنّ إقامته بجوار الكنعانيين لم تَرُقْ له كثيراً "فنَقَلَ من هناك إلى الجبل شرقيّ بيت إيل (على نحو 35 كلم من شكيم/نابلس) ونصب خيمته وله بيت إيل (والمعتقد اليوم أنها بمكان ما قرب قرية "بيتَّين" شمال شرقي مدينة رام الله) من المغرب وعاي (ويُظَنُّ أنها الموقع المعروف اليوم باسم "خربة التّل") من المشرق فبنى هناك مذبحاً للرّب ... ثمّ ارتحل أبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب" (تك/12 8 ـ 9)

وفي سياق لاحقٍ من السيرة يَرِد أنّ أبرام بعد انفصال لوط ابن أخيه عنه على أثر عودتهما من مصر ترك "مكان المذبح الذي عمله هناك أوّلاً (أي بين بيت إيل وعاي أي بعيداً عن "بلوطة مُورَة" وعن الكنعانيين) ونقل خيامه وأتى وأقام عند بلوطات مَمْرا التي في حبرون (على نحو 45 أو 50 كلم جنوب بيت إيل) وبنى هناك مذبحاً للرب" (تك/ 13 4 و18) وعقد حِلْفاً مع الأموريين جيرانه الجدد ممرا واخويه أشكول وعانر وحطّ رحله هناك فنصب خيمته وأقام مع عشيرته وعبيده ومواشيه وقطعانه

من جهة أخرى يُعادُ تأكيد الآية 12/ 9 "ثمّ ارتحل أبرام ارتحالاً متوالياً نحو الجنوب" في الآية 20/ 1 "وانتقل إبراهيم من هناك (أي من حبرون) إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وشُور وتغرّبَ في جَرار" وفي الآيات 21/ 32 ـ 34 "فقطعا ميثاقاً في بئر سبع (أي أبي مالك شيخ جَرار والمنطقة بأسرها ومالك جميع الأراضي فيها والقرى وإبراهيم الذي منحه أبو مالك هذا قطعة أرض لعشيرته وماشيته) [...] وتغرّبَ إبراهيم في أرض الفلسطينيين أيّاماً كثيرة" وهكذا تؤكد الرّواية التّوراتيّة في ثلاثة مواضع متفرّقة أنّ أبرام كان يتنقّل بعشيرته وقطعانه بين حبرون (حيث الأرض المشاع التي اقتطعها لنفسه عند بلوطات ممرا وهم أموريون قد دخل معهم في حلف) وبئر سبع (حيث الأرض التي منحه إياها أبو مالك) وهذا هو بالضبط نمط حياة القبائل شبه الرُّحل في الحلّ والتّرحال والانتجاع أي طلبُ الماء والكلأ للمواشي والمسافة بين حبرون وبئر سبع قد لا تزيد عن 60 كلم يمكن قطعها سيرا على الأقدام (لا بدّ هنا من إشارة خاطفة إلى ارتباك في الرواية وإن كان الأمر لا يمسّ موضوعنا في الصّميم فعصر أبرام جُعِل حوالي 1800 ق.م. أو قبل ذلك بنحو قرن في حين أنّ شعوب البحر والفلسطينيون منهم وصلوا إلى جنوب فلسطين وشمالي سيناء حوالي 1200ق. م. فلا بدّ والحال هذه أنّ أبرام كان وقع آنذاك في ارتحاله المتوالي إلى النّقب على شيخ من شيوخ القبائل العربية المنتشرة منذ عصور مغرقة في القدم بين مثلث شمالي جزيرة العرب/ جنوبي فلسطين والأردن/ شمالي سيناء واسم أبي مالك المذكور هنا تُراه أقرب إلى العربيّة منه إلى لغة شعوب البحر ومن المرجّح أنّ هذا الارتباك مردّه إلى أنّ كاتب النّص ـ أو مجموعة الكتبة ـ كان يجهل التّاريخ السحيق لهذه المنطقة وصادف أنّه لمّا جمع ما كان متناقَلاً شفاهةً لإثباته كتابةً وكان ذلك بدءاً من حوالي القرن 800 ق.م. كان الفلسطينيون في عصره هم أسياد المناطق المشار إليها فذهب به الظّنّ إلى أنّهم حيث هم منذ الأزل)

نعود إلى صُلب موضوعنا إذ يمكن إيجاز ما سبق بما يلي إنّ أبرام قد بنى لربّه ثلاثة مذابح في سياقٍ واحدٍ لم يتغيّر قطّ ألا وهو اقتطاعه في كلّ مرّة أرضاً مشاعاً جديدة وتهيّؤه للدخول إليها وحطّ الرحال فيها ونصب خِيّم العشيرة وإقامة حظائر الماشية فكان أوّل ما يبدأ به في كلّ مرّة عند اختياره الأرض هو بناء "مذبح للرّب" فيها
1) فكان المذبح الأوّل في شكيم عند "بلوطة مورة" (على رمية حجر من نابلس اليوم) وهنا ظهر له الرّبّ وأقطعه الأرض فبنى للرب مذبحاً وكان جيرانه من الكنعانيين
2)ثمّ كان المذبح الثاني عندما قرر الابتعاد عن جيرة الكنعانيين والانتقال إلى مكانٍ ما مرتفعٍ بين بيت إيل وعاي (على أميالٍ قليلة من رام الله) فاستهلّ إقامته في هذا المكان ببناء مذبح للرب وقد نزل مجدّداً في المكان عينه إثر عودته من مصر رغم انفصال ابن أخيه عنه ولكنّه ما عتّم أن هجره وذهب إلى حبرون
3)المذبح الثّالث بناه في حبرون بعدما كان قد انفصل عنه لوط ابن أخيه الذي انتقل برهطه إلى بلاد سدوم فقلّ عديدُ أبرام وضعُفت شوكته فانتقل عندئذٍ إلى جوار حبرون (الخليل اليوم) واقتطع لعشيرته وماشيته أرضاً هناك وبنى فيها مذبحاً للرب تماماً كما فعل في المرتين السابقتين وحالف الإخوة الأموريين الثّلاثة

وفي المقابل يبدو أنّ أبرام لم يبنِ أيَّ مذبح قطّ في الجنوب في النّقب أو بئر سبع فالنصّ لا يذكر البتّة شيئاً من هذا القبيل والسؤال الذي يستدعي النّظر في هذه السّرديّة هو التالي أيُعْقَلُ أن يبني أبرام في كلّ مرّة وفي أرضٍ مشاع لا سكن فيها ولا ناس مذبحاً للربّ الذي لا يُقدّسه إلا هو وبعض من معه وهم جدّ قليل آنذاك ثمّ يتركه بعد مدّة قفراً خاوياً وينتقل إلى مكان آخر ليعاود الكرّة من جديد؟ ثم لماذا لم يعمد كما كانت العادة قد جرت لديه في الشّمال إلى بناء "مذبح للرب" في أرض الجنوب "التي تغرّبَ فيه أيّاماً كثيرة"؟ وأخيراً ما هي طبيعة هذه المذابح وكيف تمّ له بناؤهما؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه في هذا الفصل

إنّ حكاية يعقوب وهو أكثر من واظب على الاقتداء بخطى جدّه إبراهيم والنّسج على منواله في ما تعلّق بالأعراف والتّقاليد تصلح على ما نرى لأن تكون مدخلاً مناسباً للجواب عن الأسئلة المثارة أعلاه وإماطة اللثام عن الملتبس في سلوك الجدّ الأعلى لبني إسرائيل فهاكم حكاية يعقوب (تك/ 28 ـ 32) باختصار شديد مع الاحتفاظ بما هو أساسي لموضوعنا وإنْ بدا أنّ في الأمر استطراد إلاّ أنّه جدّ مفيد لبحثنا كما سنرى

يُروى أنّ رَفقة (زوج إسحق وأمّ عيسو ويعقوب) ضاقتْ ذرعاً بأزواج عيسو الأجنبيّات من بني حِثّ وألحّت على إسحق بأن يوصي ابنهما الثّاني بألاّ ينظر إلى من هنّ في الجوار من بنات كنعان وبأن يسعى إلى الزواج من بنات خاله لابان المقيم في فدّان آرام (أرض آرام) فامتثل يعقوب لوصية والده "فخرج من بئر سبع وذهب نحو حاران" (ما يقرب من 1200كلم) وفي الطّريق ليس بعيداً عن رام الله أخذه النوم فتخيّر من "حجارة المكانِ واحداً ووضعه تحت رأسه واضطجع" فرأى يهوه (יְהוָה) في الحلم والسماء مفتوحة له وقد تدلّى منها إلى الأرض سلّمٌ وعليه الصّاعد والهابط فاستيقظ خائفاً مذعوراً قائلاً " ما أرعب هذا المكان (מַהנּוֹרָא, הַמָּקוֹם הַזֶּה) ما هنا إلاّ بيت إيلوهيم (בֵּית אֱלֹהִים,) وما كان لي بالتّأكيد علم بذلك [...] وفي الصباح أخذ الحجر (הָאֶבֶן = وتتُنطق هـ "إبِن" وجذرها قريب مع العربيّة "لَبِنَة" وهي حجر البناء)الذي وضعه تحت رأسه وأقامه نصباً (מַצֵּבָה) وصبّ على رأس النّصب زيتاّ ودعا ذلك المكان "بيت إيل" وكان اسمه قبل ذلك "لوز" ونذر يعقوب قائلاً إن كان يهوه (יְהוָה) معي وحفظني في هذا الطّريق [...] ورجعت بسلام إلى بيت أبي يكون يهوه إلهي وهذا الحجر الذي نصبته يكون بيت إيلوهيم وكلّ ما تعطيني يا ربي أعشِّرُهُ لك" (= أي أصطفي لك عُشْرَه) (تك/28 15 ـ 22)

وصل يعقوب "الآرامي التائه" كما يصفه موسى (تثنية/ 26: 5) أي البدوي المتنقّل (الرّحّل أو شبه الرّحل) صاحب الماشية وبيوت الشّعر إلى مساكن خاله لابان بن بتوئيل الآرامي الحضري صاحب المزارع والقطعان المستقرّ في فدّان آرام وتزوج بابنتيه لَيْئة وراحيل وأمضى ما يقرب من 20 سنة في خدمة خاله ثمّ ساءت الأمور بين الرّجلين فظهر إيلوهيم ليعقوب قائلاً "أنا إله بيت إيل حيث مَسَحْتَ لي هناك نصباً (מָשַׁחְתָּ שָּׁם מַצֵּבָה) ونذرت لي نذراً قم واخرج من هذه الأرض وارجع إلى أرض ميلادك" فأخبر يعقوب امرأتيه بنيّته العودة إلى بئر سبع فتساءلت المرأتان "أيكون لنا ميراث في بيت أبينا إن رحلنا؟" ولكنهما رضختا في النهاية لأمر يعقوب الذي "حمل أولاده ونساءه على الجمال" وانطلقوا في غفلة من لابان وكانت راحيل قد "سرقت أصنام أبيها المنمنمة (וַתִּגְנֹב רָחֵל, אֶתהַתְּרָפִים אֲשֶׁר לְאָבִיהָ) وأخفتها في حداجة الجمل وجلست عليها" ولم تخبر يعقوب بذلك وبعد أيام فطن "لابان الآرامي" إلى غياب ابنتيه ورجُلِهما يعقوب واختفاء أوثانه المنمنمة فلحق بهم مع إخوته وأدركهم "في جبل جلعاد"

وبعد عتاب وأخذٍ وردّ بين الرّجلين قال لابان لابن اخته تريد العودة إلى ديارك لا بأس ولكن لماذا "سرقت آلهتي خاصتي (לָמָּה גָנַבְתָּ, אֶתאֱלֹהָי)؟" فنفى يعقوب علمه بذلك ففتّش لابان كامل الأمتعة فلم يجد بالطبع شيئا وانتهى به الأمر أن دعا يعقوب قائلاً "الآن هلُمّ نقطع عهداً أنا وأنت ويكون شاهد بيننا" فأخذ يعقوب حجراً (אָבֶן)وأقامه نصباً (מַצֵּבָה) وقال يعقوب لإخوته "اجمعوا حجارة (אֲבָנִים) " فجمعوا حجارة وعّملوا منها رجمة (גָל = جلّ أو تلّ) وأكلوا هناك على الرّجمة ودعاها لابان "يَجَرْ سَهْدوثا (יְגַר שָׂהֲדוּתָא)" وأمّا يعقوب فدعاها "جلعيد" (גַּלְעֵד)وقال لابان "هذه الرّجمة شاهدةٌ بيني وبينك اليوم فلندعها "جلعيد" (גַּלְעֵד) ولندعها كذلك "المرقب" (וְהַמִּצְפָּה) لأن يهوه قال "إنّه يبقى يراقبنا حتى عندما نتوارى بعضنا عن بعض ..." وتابع لابان قائلا "لتكن هذه الرّجمة التي بيني وبينك شاهدة وليكن هذا النّصب(הַמַּצֵּבָה) الذي أقمته بيني وبينك شاهداً أني لا أتجاوز هذه الرّجمة إليك وأنّك لا تتجاوز هذه الرّجمة وهذا النصب (הַמַּצֵּבָה) إليّ بشرّ وعلى هذا ليقضي بيننا إله إبراهيم وإله ناحور (אֱלֹהֵי אַבְרָהָם וֵאלֹהֵי נָחוֹר) وآلهة أبيهما" وحلف يعقوب بهيبة أبيه إسحاق وذبح ذبيحة في الجبل ودعا اخوته ليأكلوا طعاماً فأكلوا طعاماً وباتوا في الجبل (تك/ 31 44 ـ 54)]

غبّ الصّلحِ بين لابان وصهره مضى هذا الأخير بامرأتيه وجاريتيه وأولاده الأحد عشر وبمن معه وما معه وعبر بهم مخاضة يَبّوق (شمال شرقي البحر الميت) وأجازهم الوادي وهم في طريق العودة وكان أن بقي يعقوب وحده فظهر له في العتمة كائن على هيئة إنسان فتصارعا "حتى طلوع الفجر" ولمّا لم يقدر على يعقوب قال له "أطلقني الآن لأن الفجر (הַשָּׁחַר) يكاد يطلع علينا" فأجابه يعقوب "لا أطلقك إن لم تباركني!" فسأله "ما اسمك؟" فقال "يعقوب" فقال "من الآن لا تُسمّى يعقوب بل سيكون اسمك إسرائيل لأنّك غالبت إيلوهيم وغالبت البشر فغلبتهم جميعاً" وبدوره سأله يعقوب "وأنت ما اسمك؟" فأجاب "لماذا تسأل عن اسمي!؟" وباركه هناك وانصرف ثمّ تابع يعقوب طريقه مع رهطه إلى "سُكُّوت" ومنها إلى مدينة "شكيم" (القريبتين من بعضهما فالمسافة بينهما لا تزيد عن 5 كلم) "وابتاع قطعة الحقل التي نصب فيها خيمته من يد بني حَمُورَ أبي شكيم بمئة قّسيطة وأقام هناك مذبحاً ودعاه إيل إله إسرائيل" (تك/ 33 17 ـ 19) وهنا بداية الاستقرار والحياة الحضريّة ليعقوب وعشيرته

إنّ هذا النص الطويل نسبيّا (وهو مختصر شديد لسردية تزيد عن 10 صفحات) يكشفُ في ما يخصُّ بحثنا عن أمرين اثنين
* رمزية الحجارة وقدسيتها عند الحضر (لابان) والبدو (يعقوب)
* اعتقاد هؤلاء بكائنات غيبيّة تملأ الفلوات والأماكن الموحشة أو الخالية من البشر (سنطرقه في الجزء القادم)

* رمزية الحجارة وقدسيتها عند الحضر (لابان) والبدو (يعقوب)

لو نظرنا إلى العرب تحديداً حَضَرُهم وبدْوهم على السّواء لوجدناهم بدورهم أيضاً يقدّسون الحجر منذ آلاف السّنين (كتابات قدماء المؤرخين والتنقيبات الأثريّة في جزيرة العرب وبادية الشّام وما بينهما تثبت ذلك) ولكن على أشكالٍ مختلفة طِبقا لنمط الحياة لكل جماعة منهم وقد استمرّ أمرهم على ذلك إلى أن تركوا الحجر بذاته إلى عبادات أخرى (خصوصاً الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة) فتلاشى تقديس الحجر عندهم ولكنّه لم يندثر تماماً (!)

فالحجر عند أهل المدَر ِ(والمَدَرُ الطّينُ اللّزج المتماسك الذي تُبنى به المساكن الثّابتة) المستقرين في قراهم وحواضرهم هو أحجارٌ ضخمة وغليظة نُحِتَتْ إمّا على أشكال تجريديّة رمزيّة وإمّا على أشكال كائنات متفاوتة وزُيِّنت بنقوش ورسوم وزوّقت بألوان وقد يُضاف إليها بعض الخطوط أو الكتابات وربّما جُعِلت هذه الأحجار المنحوتة على نوعيها في هياكل أو معابد ثابتة يزورها النّاس ويحجون إليها في المواسم أو إذا ما دعت بهم الحاجة إلى ذلك أمّا أهل الوَبَر الرُّحل أو شبه الرّحل (أصحاب الخيام من الشّعر أو الوبر وأصحاب القباب الحُمر من الأدم = الجلود) فالحجر المقدّس عندهم هو ما يجدونه في الفلاة فيتخيّرون ما هو حسنٌ لشكله أو للونه أو لميزة ما فيه ويجعلونه نصباً يذبحون عنده أو يسكبون عليه الزّيت أو الخمر ومن كان من العرب حضرياً كان أو بدوياً على شيء من اليسر اقتنى منمنمات أي تماثيل صغيرة جعلها في دياره على غرار لابان وابنته راحيل كما رأينا وقد عثر المنقبون وعلماء الآثار على الكثير جداّ من مثل هذه المنمنمات في بقاع مختلفة في بلاد الشام وفي غيرها من المناطق المجاورة

إنّ حياة الحلّ والتّرحال الدّائمين وطلب النّجعة من ماء وكلأ كانت تفرض على البدوي أن يتنقّل فقط بما خفّ حمله وبما هو ضرورة حياتيّة قصوى وينقلُ الاخباريون العرب من مثل ابن الكلبي وغيره أنّ الأعرابيّ إذا نزل منزلاً أخذ أربعة أحجار وجدها في المكان فنظر إلى أحسنها فاتّخذه رباً وجعل الأحجار البواقي أثافيه أي الموقد الذي يوري فيه النار وقد يرى البعض أنّ هذا الوصف من ظنون الإخباريين وتهيّؤاتهم إذ لا يمكن لأحدنا اليوم أن يتخيّلَ الخروج في سفر من دون آلاتٍ ومؤنة كافية ولكنّ هذا تماماً ما كانوا يفعلونه عصر ذاك والشّاهد على ذلك ما فعله يعقوب نفسُه في رحلته التّوراتيّة إلى فدّان آرام الواقعة على بعد يقرُبُ من 1200 كلم من بئر سبع حيث كان يقيم مع أبيه إسحاق فهو قد سافر خفيف الأثقال لا يحمل معه حتى ما يمكن أن يتوسّده ولمّا أجهده التّعب ودهمه النّعاس تخيّر حجراً وتوسّده فرأى مما يراه النّائم في المنام من كائنات غيبيّة فنظر إليها على أنّها "إيلوهيم" وبدلاً من أن يستبشر خيراً وينشرح صدره لهذه الرّؤيا هبّ خائفاً مذعورا قائلا إنّه لمكان مرعب هنا حيث غَفَوتُ (سنعود إلى هذا المشهد لاحقاً في الجزء القادم) وأسرع فنصب الحجر (أي أقامه على نحو عمودي بالنسبة إلى سطح الأرض) الذي توسّده تعوّذاً وسكب عليه زيتاَ قائلا هذا بيت الرّب (بيت إيلوهيم)

إنّ الحجر الخام في ذاته ليس مقدّساً فهو عنصرٌ عاديّ من العناصر الماديّة الموجودة ُفي الطّبيعة يلتقطه الرّاحل إذا ما نزل منزلاً في أي مفازة أو فلاة أو أرض موحشة كما رأينا ولكنّه يصير ذا وظيفة مقدّسة يصير نصباً مقدّساً إذا ما نَوى أحدهم ذلك فسَكَبَ عليه الزّيت أو الخمر أو هريق عليه دم الذّبيحة لجعله محلاًّ أهلاً بالإله ومسكناً له (= بيت إيل) تماماً كما الماء المقدّس في الكنيسة (ماء الميرون) فالماء هنا عنصرٌ عاديّ من العناصر الماديّة الموجودة ُفي الطّبيعة ويصير مقدّساّ إذا ما أُضيف إليه الميرون وتُليت على نيّة الرّب بعض الصلوات والأدعية فصار صالحاً للعمادة أو مباركة النّاس وأغراضهم إن أحبّوا وكلمة "نَصْب" العربيّة بمعناها المقدّس أي "مذبح" عَلاهُ زيت أو خمر أو دم لها ما يقابلها من الجذر عينه تقريباً في العديد من اللغات السّاميّة كما جاء في (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام) لجواد علي فهي مثلاً "مصب" في العربية الجنوبية و"مصبت" في الفينيقية و"مصبه (מַצֵּבָה) " في العبرانيّة كما رأينا

والحجر مقدّس في الكثير من الحضارات والثّقافات القديمة في بعض المناطق من أميركا اللاتينيّة والوسطى وإفريقيا وأستراليا وكلّ ثقافة منها تُرجِعُ هذه "القدسيّة" لسبب ما أُسطوريّ أمّا في ما خصّ العرب فإنّ المستشرق الفرنسي الأب هنري لامنس يرى في كتابه (L’Arabie occidentale avant l’Hégire ولا أدري ما إذا كان قد نُقِلَ إلى العربيّة) "أنّ جذور تقديس الحجر عند العرب تعود إلى عصور مغرقة في القدم كان السّائدُ فيها عبادة الأسلاف أو تقديسهم" والواقع أنّ الأجداث خصوصاً عند الرّحل كانت حجارة تجُمع أو تٌكوّم أو تُصفُّ على الميت الممدّد على الثّرى أو في حفرةٍ غير عميقة ربّما مع بعض حاجياته وآلاته الدّنيويّة يقول ابن منظور في مُعجمه الرّجمة عند العرب هي الحجارة تُجمعُ على القبر أو تُنْصب عليه وهي كذلك حجارة تُجْمعُ مرتفعةً كانوا يطوفون بها ويذبحون عليها ويقول شاعرهم ". .. كما صَبَّ فوق الرُّجْمةِ الدّمَ ناسِكُ" والرُّجْمَة والرَّجْمَة والرّجَمَ القبر نفسه ويقول شاعر آخر " ... ولم أخْزِهِ حتى أُغَيَّبَ في الرّجَم" وما زالت القبائل العربيّة في النّقب إلى اليوم تّسمّي الأجداث والقبور "رُجوماً" (راجع P. Antonin JAUSSEN, Coutumes des Arabes au Pays de Moab) وتذبح عندها وتريق عليها دم الذّبيحة وكان رمي الحجارة على هذه الأجداث عملاً محموداً وأهل النّقب ما زالوا يفعلونه ولا يُعدُّ هذا رجماً سلبيّاً كما يفعل الحجيج اليوم مع إبليس في مكّة والآية "وإذا القبور بُعثرت" (الانفطار/4)تشير بلا أدنى شك إلى هذه الأنواع من الأحجار المركومة التي تشكّل الأجداثَ وتحمي جثَّة الجدّ المُقدّس من الكاسر والجارح ومن باب اقتران الشيء بالشيء انتقلت القداسة في المخيلة الجمعيّة في الأزمان السّحيقة من الهامة المقدّسة التي ترقد تحت الحجر إلى الحجر نفسه الذي يحميها وما زال في عصرنا الحالي بقايا من تلك الثقافة البائدة أي ثقافة تقديس الأسلاف فمن منّا مثلاً لم يسمع يوماً أحدهم يحْلِفُ "بتراب أبيه" أو "تُربة أبيه" (!) ولو عُدنا إلى النّص التّوراتي الذي بين أيدينا لوجدنا يعقوب نفسه يُقسم أيضاً "بهيبة أبيه إسحاق (וַיִּשָּׁבַע יַעֲקֹב, בְּפַחַד אָבִיו יִצְחָק)" (فهو لم يكن بعد قد مات) والقسم كما نعلم إنّما يكون عادةً بالعزيز أو بالمقدّس أو بكليهما معاً إنّ اعتماد الأحجار في الأغراض الدّينيّة وفي الطّقوس والشّعائر المقدّسة في جزيرة العرب وامتدادا حتى بادية الشّام يعود إلى أكثر من 10000 سنة قبل الميلاد على ما أظهرته التنقيبات التي جرت في السّنوات الأخيرة في تلك الأماكن وكشفت عن رُكامات حجريّة بالآلاف على شكل مستطيلات أو مسماريات أو دوائر

من الواضح جدّا في الرّواية التّوراتيّة أنّ ثقافة الحجر المقدّس البدوية كانت متجذّرة في يعقوب "التّائه" (المتنقّل) أكثر مما هي عند لابان الذي ألِفَ حياة الحضر المستقرّة في فدّان آرام وغيرها منذ ثلاثة أجيال على أقلّ تقدير ويذكر النّص صراحة أنّ لابان يتبع إله جدّه ناحور وأمّا يعقوب فيدين بدين جدّه إبراهيم الذي عاش متنقّلاً بين حبرون وبئر سبع لذلك ما أن دعا لابان ابن اخته إلى الصّلح ونبذ الخلاف بينهما حتى هبَّ هذا الأخير وبادر إلى إقامة "نصبٍ" وأمر إخوته بعمل "رجمة" وأقسم "بهيبة أبيه" و"ذبحوا ذبيحة" و"أكلوا" جميعا إنّها الطقوس والشّعائر عينها الني نجدها عند البدو تحديداً (الرحّل منهم أو شبه الرّحل) في تلك الأصقاع وفي مناسبات كهذه اليوم عند بدو النّقب وهم يسمّون مثل هذا الاحتفال "بذبيحة الصّفاح أو العقد" Coutumes des Arabes au Pays de Moab) تماماً كما بالأمس منذ أكثر من 2500 سنة على ما يذكر هيرودوت (484 ق.م ـ 425 ق.م) في كتابه "التّاريخ" يقول عن العرب البدو "فإذا أراد رجلان أن يوثّقا عهداً بينهما فأنّهما يقفان على جانبي رجل ثالث يحمل حجراّ حاداً يستخدمه لجرح راحتي يديهما بالقرب من أسفل الإبهام (المشهد يعود إلى العصر الحجري الحديث إذ كانت فيه الآلات والأدوات من الأحجار) ثمّ يأخذ بعض خيوط الصّوف من ثيابهما ويغمسها في الدّم ويلطّخ بها سبعة أحجار مركومة بينهما وهو يردّد اسم كلٍّ من ديونيس وأورانيا [...] والعرب يعبدون إلهين فقط هما ديونيسوس [...] وهو في لغتهم أوروتال أمّا أورانيا فهي اللات" (نص مستلّ من الترجمة العربيّة للكتاب وفي هذا الوصف شيء ما من طقوس حلف "لَعَقَة الدّم" على ما يرويه الاخباريون العرب)

إنّ العنصر الرّئيس في مثل هذه المشاعر والطّقوس عند يعقوب وهيرودوت هو كومة الأحجار المقدّسة أي "الإله" (السّاكن في هذه الأحجار) الشّاهد على العهد والضّامن له إنّه "المرقب" أو "المراقب" (וְהַמִּצְפָּה) الذي يُراقب عن بُعد طرفيّ العهد حتى في حال غيابهما عن بعضهما بعضا تلك الحجارة (אֲבָנִים) المكوّمة سمّاها لابان بلغته الآراميّة "يَجَرْ سَهْدوثا (יְגַר שָׂהֲדוּתָא)" وهي قريبة من الأصوات العربيّة "(كومة) حجر الشّهادة" ودعاها يعقوب بلغته (!) جلعيد" (גַּלְעֵד) ولكنّ الأمر هنا يستدعي التّوقّف قليلاً ويثير الحيرة فعلى ما جاء في الرّواية لابان آرامي وأخته رفقة آراميّة مثله وقد نشأت معه في آرام النّهرين ثمّ تزوّج بها إسحاق وانتقلا للعيش في بئر سبع وابنهما يعقوب "الآراميّ التّائه" (الرّحّل) خدم خاله وهو حميّه في الوقت نفسه في فدّان آرام ما يقرب من 20 سنة وامرأتاه ليئة وراحيل ابنتا لابان آراميتان وعلى هذا فكلّهم على دراية تامة باللسان الآرامي فإذا كان الأمر على ما ذكرت الرّواية حقّ لنا أن نسأل إذاً لماذا لم يكرر يعقوب البدوي عفوياً وبتلقائيّة عبارة خاله وحميّه الآرامي المتداولة عادة في مثل هذه المواقف "يَجَرْ سَهْدوثا (יְגַר שָׂהֲדוּתָא)" ويسمّي تلك "الرّجمة" باسمها الآرامي ؟ لماذا لجأ إلى عبارة غريبة لم ترد قط إلاّ مرة واحدة في التّوراة في هذا الموضع بالذات ثمّ ما هي هذه اللغة التي نطق بها يعقوب لِيَسِمَ "الرّجمة" المقدّسة التي شهدت العهد بين الطّرفين؟ لا تذكر الرّواية التّوراتيّة شيئاً حول هذا الموضوع ونحن في ما توفّر من معلومات أثريّة عن تلك الحقبة لا نملك إجابات علميّة وقاطعة عن هذه الأسئلة ومع ذلك يمكننا أن نقوم ببعض التّحليل اللغوي السّريع لما نطق به يعقوب

كلمة يعقوب (גַּלְעֵד) لدّلالة على كومة الأحجار لفظ عبريّ لا جذر له لأنّه مؤلّف من شقّين (גַּלְ) و (עֵד) لكلٍ منهما جذره الخاص ف(גַּלְ) (يُنطق "جل/غل" أي غين تميل إلى جيم) معناه الكومة و(עֵד) ينطق "عِد" ومعناه "الشّاهد" فيكون المعنى الكامل تقريباً للفظ "كومة الشّهادة" و"الكومة" تُحيل هنا في هذا السّياق إلى الحجارة طبعاً وهكذا ففي حين استعمل لابان تركيباً إضافيّا (مضاف ومضاف إليه) مؤلّفاً من لفظين مستقلّين لكلٍّ منهما جذره استعمل يعقوب تركيباً مزجيّاً رباعياّ مؤلّفاً من شطرين (גַּלְ + עֵד) والغريب في الأمر أنّ هذا التّركيب المزجي (גַּלְעֵד) من حيث هو كذلك لم يرد في أيٍّ من النقوش العبرية القديمة وبعضها يرجع إلى 1000 ق.م. ولم يرد في التّوراة إلاّ في منطوق يعقوب هنا (وكذلك اسم علم أُطلقّ على الجبل الذي أُقيمت الكومة على قمّته) زدْ على ذلك أنّ وجوده في اللغات السّاميّة الأخرى يبدو معدوماً أمّا إذا أخذنا كلّ شطرٍ بمفرده تبيّن لنا انّ الشّطر الأوّل (גַּלְ = جل) فَقَدَ معناه القديم (كومة أو تلّ) في العبرية الحديثة تماماً وهو موجود في العديد من النقوش واللغات السّاميّة بمعنى يُقارب معناه القديم أمّا الشّطر التّالي مما تكلّم به يعقوب (עֵד = عِد) فله مقابل في بعض اللغات السّاميّة ويعود إلى جذرٍ من معانيه شاهدَ ورأى وعليه فمن المؤكّد إذاً أنّ شطريّ (גַּלְ + עֵד) كل بمفرده ربّما وُجِدَ في بعض اللغات السّاميّة أمّا اللفظ بمجمله من حيث هو تركيب مزجيّ فلم يرد في العبريّة القديمة بهذا المعنى إلاّ مرّة واحدة في التوراة في هذا الموضع بالذات ولا أثر له في اللغات السّاميّة الأخرى باستثناء اللغة العربيّة كيف ذلك؟

أنّ الشّطر الأوّل (גַּלְ = جل) من حيث هو جزء من الكلمة المزجيّة هذه يتقاطع مع أصول لغوية عربيّة مماثلة مغرقة في القِدَم إذ نجد له مقابلاً في معاجم اللّغة فهناك كوكبة من الألفاظ العربيّة رّباعيّة الجذر قليلة الاستعمال جدّا اليوم وربّما سقطت في غياهب النّسيان القاسم المشترك بينها أمران

* الأوّل أنّها مركّبة تركيباً مزجيّا من جزئين (على غِرار الكلمة العبرية هنا) أوّلهما المقطع الصوتي المزدوج "جَلْ" يليه مقطع آخر مزدوج صادر عن جذور أخرى ومختلف باختلاف الكلمات
* الثّاني إنّ هذه الألفاظ الرّباعيّة تحملُ كلُها تقريباً في معانيها العامّة فكرة الصلابة أو العِظَم أو الكِبر أو الشّدة أو ما شابه

ولا بدّ أنّ المقطع الصّوتي الأوّل "جَلْ" بما يحمله من معنى الكِبَر والعظمة والصّلابة هو الذي يُضفي على هذه الألفاظ هذه الجزئيّة من معانيها العامة وكلّنا يعرف معاني "الجلل" و"الجلالة" وغيرها من الألفاظ المشتقّة من "ج ل ل " وفيها كلّها معاني الكِبَر والعظمة وإن قال قائلٌ هذا الكَلِم من الأضداد في العربيّة يجوز فيه العظيم والوضيع كليهما قلنا إنّ الأصل هو "العظيم" والعربُ جرت على تسميةِ الأشياء بأضدادها تفاؤلاً أو لسبب آخر فسمّوا اللديغ سليما مثلاً ومن هذا كثير كما هو معلوم والغالب في الاستعمال هنا الأوّل دون الثّاني أمّا الشّطر الثاني (עֵד = عِد) فصادر عن الجذر العبري "ع.ه.د" ومن معانيه كما رأينا شاهدَ ورأى ويقابله في العربيّة الجذر "ع ه د" ولكن ليس بالمعنى الأكثر شيوعاً اليوم أي الحلف والقسم والوعد وإنّما بمعنى أقلّ انتشاراً عَنّيتُ "شَهِدَ" و"رأى" أيضاً وقد وردت بهذا المعنى في العديد من المواضع في القرآن وفي أدب ما قبل الإسلام التي لا يتسع المجال هنا لذكرها

خلاصة القول هنا أنّ العنصرين اللغويين اللذين يتألّف منهما مزجيّاً التّركيب اليعقوبي (גַּלְעֵד = جلعيد) لهما في العربيّة ما يقابلهما لفظاً ومعنى (جل + عهد) وبناءً عليه وإذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ هذا اللفظ لم يرد في اللغة العبريّة قطّ بهذا المعنى إلاّ مرة واحدة في هذا الموضع وأنّه لا شبيه له في اللغات السّاميّة الأخرى باستثناء العربيّة التي ما زالت تحتفظ في معاجمها بحوالي 30 لفظاً مزجيّاً من هذا النّمط مع أمثلة تعضدها ألا يحقّ لنا عندها أن نفترض أنّ "جلعيد" يعقوب أو "جلعد" كانت في ماضٍ سحيقٍ جدّاً جزءاً من مجموعة الألفاظ العربيّة الرّباعيّة الجذر من مثل جَلْبَبَ/ جَلْبَدَ/ جَلْجَبَ/ جَلْجَلَ/ جَلْسَدَ (جلْسَد اسم صنم)/ جَلْعَبَ/ جَلْمَدَ/ جَلْحَدَ/ وغيرها ... وعلى سبيل النكتة نورد هنا الوصفَ الشّهيرَ لامرىء القيس حصانَهُ يقول
"مِكرٍّ مِفرٍّ مُقبلٍ مُدبرٍ معاً ..........كجلمُودِ صخرٍ حطّه السّيلُ من علِ")
إنّ ميل يعقوب في هذا السّياق المقدّس إلى استعمال لفظ ينتمي إلى غير الآراميّة وهي اللغة التي ولا بدّ أنّه كان يتقنها جيّداّ للإشارة إلى الحجر المقدّس الشّاهد قد يُفسّره اتّباعه إله إبراهيم وما قد يستوجبه ذلك من تغيير في "المصطلحات" الدّينيّة فكان أن استعمل اللفظ المستلّ من قاموسه الديني الجديد (العربيّة القديمة) على حساب اللفظ الآرامي التقليدي الذي نطق به لابان

وقبل إغلاق هذه الصّفحة لا بدّ من الإشارة إلى أنّه كانت لهذه الأنصاب والرّجوم إلى جانب وظيفتها المقدّسة وظيفة أخرى لا تقلُّ شأناً لأنّها توفّر السّلم الأهلي في مجتمع قبائلي قائم على القوّة (لنتذكّر مسألة استنقاذ أبرام لابن أخيه لوط من أيدي القبائل الغازيَة) إنّها وظيفة جغرافية وقانونيّة ألا وهي تعيين الأماكن وحدّها وبيان ملكيّتها وهذا ما جاء في خطاب لابان لابن أخيه "أني لا أتجاوز هذه الرّجمة إليك وأنّك لا تتجاوز هذه الرّجمة وهذا النصب إليّ بشرّ" إنّها علامات حدوديّة بالمعنى الاصطلاحي للكلمة تحدُّ رَبع العشيرة وتبيّنُ حِماها ومن يطغى يكون قد نكث العهد وخرق القانون وعرّض نفسه لخطر المساءلة أمام العرف القبلي وقد عثر علماء الآثار على الكثير جدّاً من مثل هذه الأنصاب والرّجوم في المناطق الممتدّة من شمال جزيرة العرب إلى بادية الشّام بعضها خام على حالته الّطّبيعيّة وبعضها قد شُذّب وخُطَّ عليه بعض الرّسوم أو الكتابات التي تُعلن اسم صاحب المنتجع أو الحِمى

في الجزء الثاني والأخير من هذا الفصل سنتطرّق إلى الاعتقاد بكائنات غيبيّة تملأ الفلوات والأماكن الموحشة أو الخالية من البشر ثم نصل إلى موضع الإجابة عن تساؤلاتنا بشأن "مذابح الرّب" التي كان أبرام يقيمها في كلّ بقعةً مشاع كان يستقرّ فيها

يتبع



#كمال_محمود_الطيارة (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سير ...
- -شاهد ما شفش حاجة- أو شرُّ البليّة ما يُضحِكُ (موتُ النّخْوَ ...
- من إسلام الضّرورة ‘لى إسلام البزنس (تدنيس المقدّسفي المخيال ...


المزيد.....




- تردد قناة طيور الجنة الجديد على النايل سات.. متع طفلك الأن
- مشروع -الرقعة اليهودية- ينهي حلم الدولة الفلسطينية
- الرئاسة الروحية للدروز بالسويداء: نرفض دخول الأمن العام إلى ...
- دمية عالم سمسم تثير الجدل على إكس وتدعو إلى تدمير اليهود
- الاحتلال يجبر مواطنا على هدم منزله جنوب المسجد الأقصى
- أولمرت: يهود يقتلون فلسطينيين في الضفة ويرتكبون جرائم حرب
- في ذكراها الثامنة.. كيف يمكن استلهام تجربة هبّة الأسباط لحما ...
- العمود الثامن: الثورة ومعارك الطائفية
- نيجيريا تدين 44 عنصرا من بوكو حرام بتهمة تمويل الإرهاب
- خلال زيارته لبلدة الطيبة والاطلاع على اعتداءات المستوطنين د ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - كمال محمود الطيارة - أيكون إبراهيم عربيّاً؟! (في تأثيل بعض المشاهد الغامضة من سيرة إبراهيم التّوراتيّة) (2) الفصل الأوّل (جزء 1) الحِمى والأنصاب والمذبح: ثقافة الأحجار المقدّسة