سامي القسيمي
الحوار المتمدن-العدد: 8386 - 2025 / 6 / 27 - 22:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تمهيد: ماذا لو لم يكن الإله عظيمًا؟
هل ما زال الدين هو مرجع الحقيقة في عصر العلم والفضاء؟ هل تُبنى الأخلاق فقط على خوف من العقاب السماوي؟ وهل الإيمان أداة للسلام أم وقودٌ للصراع؟
في خضم هذه الأسئلة التي لا يكفّ العقل المعاصر عن طرحها، يأتي كتاب "الإله ليس عظيمًا: كيف تسمم الأديان كل شيء" للمفكر والصحفي البريطاني كريستوفر هيتشنز، ليقلب الطاولة على كل ما هو مُقدّس، ويعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان، والدين، والعقل.
هذا الكتاب ليس مجرد نقد للدين، بل بيان ثوري يتجاوز حدود الجدل اللاهوتي إلى مطالبة جذرية بإعادة تعريف الحقيقة، والحرية، والأخلاق. بأسلوب ساخر، حاد، وعميق، يخوض هيتشنز في التاريخ، والفكر، والعلم، ليبيّن كيف أن الأديان – رغم كل وعودها بالسلام والخلاص – كانت في كثير من الأحيان أدوات للهيمنة والعنف والانغلاق الفكري. ما ستقرأه في السطور القادمة، ليس مجرد عرض لأفكار كاتب، بل دعوة إلى إعادة التفكير في أقدس المسلمات، ومحاولة لرؤية العالم من منظور لا يحتاج إلى سماء فوقه كي يكون غنيًا بالمعنى، ولامعًا بالوعي.
مقدمة: نحو فجر جديد من العقل والتنوير
في عالمٍ يتنازع فيه الإيمان مع الشك، وفي زمنٍ تُكبَّل فيه العقول بموروثٍ دينيٍّ صارم، يظهر عمل كريستوفر هيتشنز كنداء قوي ومنبه لعصر جديد من الحرية الفكرية. ينطلق هيتشنز في ”الإله ليس عظيمًا” من فرضية جريئة: أن الدين، بدلاً من كونه مصدرًا للمعرفة والقيم الإنسانية، هو في الواقع عامل مضر يُثقل كاهل البشرية بأنظمة من القمع والفكر الجامد. ومن هنا، يبدأ هيتشنز رحلة نقدية مفصلة تسبر أغوار النصوص الدينية والمؤسسات المرتبطة بها، مُفضِّلاً العقل والابتكار على الخضوع للتقاليد. تتنوع أفكاره في هذا الكتاب بين النقد العلمي والجاد للمعجزات، وبين تحليلٍ تاريخيٍّ للأديان وتحولات السلطة التي رافقت نموها. ومن المهم أن نتأمل في هذه الأفكار ليس فقط كأدوات للنقد، بل كدعوة لتفكيك الأساطير التي قيدت الإنسان لقرون طويلة، ودفعه إلى استعادة حريته الفكرية والروحية.
في هذه المقالة، سنسلك طريقًا طويلاً نستعرض فيه بعمق ما طرحه هيتشنز، بدءًا من إشكالية الإيمان دون دليل، مرورًا بالتحليل الحاد للممارسات الدينية التي أثبتت على مر العصور كونها عوامل للتفرقة والعنف، وصولاً إلى دعوته لنهضةٍ جديدة تعيد للعقل مكانته في تقدير الحقيقة والعدالة. سنتطرق إلى عدة محاور رئيسية كما يلي:
1. الدين والإيمان دون دليل
نستعرض فيه كيف يشكل الدين نظامًا يُعتمد فيه على الإيمان الخالص دون اختبار أو براهين، مما يؤدي إلى جمود فكري وفقدان للقدرة على النقد.
2. العنف والإسلام والسياسة الدينية
يتعرض هيتشنز في هذا السياق للأحداث التاريخية والمعاصرة التي استخدمت فيها الأديان لتبرير حروب وجرائم لا تُعد ولا تُحصى، مؤكدًا أن العنف لا ينشأ فقط من التطرف، بل من البنية الفكرية للدين نفسه.
3. النصوص المقدسة: بين الأسطورة والواقع
تحليلٌ عميقٌ لكتب المقدسة، سواء في اليهودية والمسيحية أو في الإسلام، وكيف أنها تحمل تناقضات وأفكارًا لا تتماشى مع العقل والمنطق.
4. قضية التصميم والخلق
من أشهر الحجج التي يطرحها هيتشنز سؤال ”من خلق الخالق؟”، وهو سؤال يقوض فكرة التصميم الذكي وينقلنا إلى مستوى جديد من التساؤل حول أصل الكون.
5. الأخلاق والضمير بدون إله
ينقض هيتشنز الاعتقاد السائد بأن الدين هو المصدر الوحيد للأخلاق، ويعرض أدلة على أن الإنسان قادر على بناء نظام أخلاقي قائم على العقل والرحمة الإنسانية.
6. الدين والسلطة: آلية القمع والتحكم
يستعرض في هذا المحور كيف أصبح الدين أداةً للسلطة السياسية والاجتماعية، وكيف استُخدم عبر التاريخ لتعزيز النظم الاستبدادية وقمع التحرر الفكري.
7. دعوة للتنوير وإعادة تقييم الهوية الإنسانية
يختم هيتشنز عمله بنداء مفتوح لكل من يرغب في تحرير نفسه من قيود الفكر الديني الجامد، داعيًا إلى عصر يستند إلى العقلانية والتجربة الإنسانية بدلاً من الطقوس والتقاليد القديمة.
الجزء الأول: الإيمان دون دليل... هل هو فضيلة أم نقمة؟
1.1 الإيمان كأصل للفكر الديني
يبدأ هيتشنز مقاله بطرح سؤالٍ أساسي: لماذا يُتوقع من الإنسان أن يؤمن بأمورٍ لا يمكن التحقق منها؟ في هذا السياق، يشير إلى أن الدين يُعتمد بشكل كبير على الإيمان الخالص، حيث تُعتبر القدرة على تصديق الأمور دون دليل من الصفات الفاضلة التي يُمدحها الخطاب الديني. لكن على الرغم من إعلاء هذا النوع من الإيمان، فإن هيتشنز يرى أن مثل هذا النظام الفكري يُفضي إلى إغلاق الأبواب أمام البحث والعقلانية.
يرى الكاتب أن الاعتماد المطلق على الإيمان يؤدي إلى تبلد الفكر، حيث يصبح النقد والتحليل مجرد كلمات فارغة تُنادى بها في الكنائس والمعابد. بل والأمر لا يتوقف عند ذلك، فالإيمان دون دليل يخلق حالة من التبعية الفكرية تجعل الفرد عاجزًا عن اتخاذ قراراته الخاصة بمدى استقلالية ونضج عقله. في سياقٍ أوسع، يعتبر هيتشنز أن هذا النمط من التفكير هو أحد العوامل الرئيسية التي أدت إلى ظهور الكثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها العالم اليوم.
1.2 الإيمان والعلم: طريقان متعارضان
على النقيض من الدين، يبرز العلم كمنهج قائم على التساؤل والتجربة والتجديد المستمر. ففي العلم، لا يُقبل شيء إلا بعد اختبار دقيق، وتُرى الحقائق كنتائجٍ للتجارب والبيانات التي يمكن التحقق منها مرارًا وتكرارًا. بينما يُعطي الدين الأهمية الأولى للكتب المقدسة والتقاليد، فإن العلم يحرص على مراجعة النظريات مع تقدم الزمن وتغير المعطيات. هكذا، يشكّل هيتشنز الإيمان عقبة أمام تقدم الإنسان، حيث أن قبول الأفكار دون دليل يُحدّ من قدرته على طرح الأسئلة التي تقود إلى اكتشافات جديدة.
تجربة الفكر العلمي تُظهر أن الحقيقة هي نتاج الاستقصاء المستمر والتفكير النقدي، وليس مجرد قبول لأمرٍ مفروض. وهذه هي الفجوة الأساسية بين منهج الدين ومنهج العلم. ففي حين يعتمد الدين على السلطة والتقاليد، يعتمد العلم على الملاحظة والتجربة. هذا التباين الواضح بين النظامين هو أحد أسباب صدامهما المستمر في قضايا مثل أصل الكون ونشأة الحياة ومفهوم الخير والشر.
1.3 عواقب الإيمان المطلق على الحرية الفكرية
من أحد المناهج التي ينتقدها هيتشنز هو أن الدين – من خلال مطالبه بالإيمان المطلق – يقيد حرية التفكير ويحول دون التطور الفكري والإنساني. إذ يُفرض على المؤمن أن يقبل الأمور كما هي دون طرح أسئلة، مما يؤدي إلى حالة من الجمود الفكري. هذا النمط من التفكير لا يسمح بتغيير النظريات أو إعادة تقييم الحقائق، بل يحفظها كما هي في صورة تقاليد دينية متوارثة. في ظل هذه القيود، يصبح الفرد عرضة للتبعية الفكرية والسياسية، حيث يستغل السلطة الدينية هذه الحالة لتبرير كل ما قد يُمارس ضد الحرية والعدالة. فالمؤسسات الدينية تاريخيًا استخدمت الإيمان كوسيلة للسيطرة على المجتمعات، ولم تبخل بتقديم الحجج التي تُبرر القمع والظلم باسم المعتقد. وهنا يكمن أحد أخطر الإشكاليات: أن الإيمان المطلق يمكن أن يكون سببًا في تبرير بعض أبشع الأفعال الإنسانية، بدءًا من اضطهاد الأقليات وانتهاءً بالحروب والصراعات الدموية.
ترقّبوا في الجزء التالي:
الجزء الثاني: الدين والعنف... بين المعتقد والدمار.
في المقال القادم من هذه السلسلة، نرافق كريستوفر هيتشنز في تحليل جريء لوجه الدين القبيح حين يتحول إلى مبرر للقتل والاضطهاد. من محاكم التفتيش، إلى فتوى اغتيال سلمان رشدي، إلى حروب البوسنة والإرهاب الحديث.
هل يحرّض الدين على العنف؟ أم أنه عاجز عن منعه؟ وهل المتطرفون شواذ عن الدين... أم أنهم أبناؤه الشرعيون؟
#سامي_القسيمي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟