عبدالجبار الرفاعي
الحوار المتمدن-العدد: 8386 - 2025 / 6 / 27 - 11:25
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نتحدث عن لغة الدين الحاكية عن الحقائق الغيبية، وهي لغة تسعى لتصوير ما لا صورة له، وتعتمد على التلميح والإشارة والكناية والمجاز والتمثيل والتشبيه والترميز. هذه اللغة تختلف عن لغة العلم، فمهمة لغة العلم الكشف والتفسير والتوصيف والبيان بأوضح العبارات وأصرح الكلمات وأبسط التراكيب. لغة العلم تنأى عن التلميح والإشارة والمجاز والترميز، وتحرص على أن تبوح بمعانيها بجلاء، وتحذر من المواربة والغموض والالتباس، وتستبعد ما لا يصرّح بما يريد قوله. تسعى ألفاظها لأن تتطابق مع مفاهيمها، بما لا يفسح المجال لانصرافها إلى معنى بديل. لغة العلم تنشد التطابق، ما أمكن، بين الدال والمدلول، وبين اللفظ والمعنى. وهي لغة مباشرة في التعبير عن مراميها، واضحة في قوانينها ومعادلاتها وحساباتها. ولشدة وضوحها يوازي تصورها وفهمها التصديق بها، لأن موضوعاتها لا تفارق عالم المادة، كما هو الشأن في الفيزياء والكيمياء والأحياء وغيرها من العلوم الطبيعية.
أما لغة الدين التي تتحدث عن الغيب، فلا تشبه لغة العلم، لا في بنيتها ولا في وظيفتها. هذه اللغة لا تهدف إلى الكشف عن حقائق قابلة للاختبار أو المشاهدة أو الفحص التجريبي، بل تسعى إلى إيقاظ الحنين لما وراء العالم المحسوس، وتغذية التوق إلى الوجود المطلق، وتكثيف حضور المعنى في حياة الإنسان، وبث الرجاء في قلبه، وشحنه بطاقة روحية تضيء عتمة وجوده. لغة الغيب لا تفسِّر بل تتذوق، لا ترسم خرائط ولا تضع حدودًا، بل تلمّح وتوحي وتومئ. لا تستغرق في البراهين، بل تشرق لحظة صفاء روحي، حين تتسع آفاق البصيرة لإدراك شيء مما لا صورة له، وتتهيأ الروح لمشاهدة الأنوار. هذه اللغة لا تبوح بمعانيها لمن يقرأها بعين العقل المجرد فقط، بل تنفتح على من يسكنه شوق لا يخبو إلى معنى لا ينطفئ، وعلى من تجاوز ظاهر الألفاظ إلى ما وراءها. محاولة تسوية لغة الدين بلغة العلم، وقراءة الغيب بأدوات العلم ولغته، تفضي إلى تفريغ الدين من بعده الغيبي، وتجعل النص الديني نصًا تقريريًا فاقدًا لسحره وأفقه ورؤياه وثرائه الرمزي. الدين، في جوهره، تجربة وجودية عميقة، لا تشرحها المعادلات، ولا تختصرها القوانين، بل تسكن القلب، وتضيء الداخل، ويعيشها الإنسان في أفق البصيرة، لا بأدوات النظر كما يرى الأشياء المحسوسة.
مدلولات كل كلمة تتحدث عن الغيب تشي بحقائق مفارقة للمادة، خارج فضاء الحس، تنشد اتساع قدرة النسبي لاكتشاف آفاق المطلق، وتحاول ترجمة المحدود للامحدود، وتجلي الإلهي في البشري، وحضور الغيب اللامادي وانعكاسه في العالم المادي، وتجسيد اللامرئي في المرئي، واستيعاب اللامحسوس في المحسوس، ومحاولة تصوير ما لا صورة له، ورسم ملامحه كأبعاد الصور الحسية، واستكناه ما لا يكتنه، ورؤية ما لا يُرى، ومعرفة الحواس بما لا يمكن اكتشافه بالحواس. إنها رؤيا تتخطى مشاهدة العين البصرية، ومعرفة ذوقية عابرة للعقل وبراهينه ومحاججاته، وضرب من صلة أنطولوجية يتجلى فيها الغيب بشكل يستطيع معها أن يتذوقه مَن يؤمن به، إذ يتمكن مَن يؤمن عبر هذه اللغة أن يحقق شكلًا من أشكال الاتصال المباشر وشهود الغيب.
لا يتحقق شهود الغيب إلا إذا استطاعت اللغة أن توقظ الروح، وتتكلم بكلمات القلب، وتبعث في الإنسان بصيرته الباطنية. الغيب لا يشهد آفاقه من حبس نفسه في حدود الحواس وحدها، ولا يتذوقه من جف قلبه عن نور المعنى، واغترب عن ذاته، وغابت عنه دهشة الوجود. اللغة الحاكية عن الغيب ليست أداة توصيل بين إنسان وإنسان، بل وسيلة تواصل مع الله، وبوابة عبور، ونافذة إلى عوالم لا تفتح إلا لمن أعدّ نفسه للتذوق، وصاغ قلبه بوجد واشتياق لا يهدأ إلى الوجود المطلق. تكتسب اللغة الدينية، حين تحكي عن الغيب، وظيفة إنشائية إضافية، لا إخبارية فقط، فهي لا تكتفي بالإخبار، بل تنشئ صلة وجودية، وتعيد تشكيل وعي الإنسان بذاته، وتكشف له موقعه في الوجود، وتعيد ترتيب سلم الموجودات، وترسم إمكانات وحدود الموجود، وتعيد إنتاج معنى الحياة والموت والخلود. إنها لغة ترشد الإنسان إلى موقعه ومكانته بالنسبة إلى الوجود الحقّ، وتمنحه إشراقة نور، ونداء عميقًا يوقظه من سباته، ويستحثه على السفر الروحي إلى الله.
لغة الدين المختصة بالغيب تتكشف فيها مراتب أعمق من الوجود لا تتكشف للإنسان باللغة العادية، وتشير إلى معانٍ متعالية على الواقع المادي وحدوده الحسية الضيقة، ولا ييتحدث عن المعاني المحسوسة التي تختنق فيها اللغة. لغة الدين هي اللغة الوحيدة القادرة على التعبير عن حقائق العالم الأخرى اللامرئية، بنحو تعجز فيه كل أشكال اللغة الأخرى عن الإفصاح عنها. لا لغة كلغة الغيب تبوح بشيء من أسرار الوجود المطلق، وتتجلى فيها إشراقاته. لا تتحدث هذه اللغة عن الغيب بوصفه موضوعًا منفصلًا عن الذات، بل تكشفه كعلاقة حيّة تتجلى في القلب، وتتكشف في أعماق الروح. اللغة هنا ليست أداة خارجية، بل شيفرة للوجود ينفذ بها الإنسان إلى ما وراء الحس، وينصت عبرها إلى النداء الخفي للعالم اللامحسوس. وكلما تسامى الإنسان وارتقى من مضايق الحرف الجامد، وانفتح على الإيقاع الباطني لكلمة الغيب، تسرب إليه المعنى من حيث لا يدري، فاستحال النص مسارًا للعبور إلى ما لا يُحاط به، وأفقًا يتنفس فيه القلب دفء الطمأنينة. في لغة الغيب، لا معنى خارج ما تتذوقه، ولا دلالة بدون شعور باطني، ولا فهم بدون حضور وجداني. الغيب لا يُدرك بعقل خالص، بل بروح حيّة، ولهذا تظل لغة الغيب، في أعمق تجلياتها، نداءً لما هو أسمى من كل وصف، وإنصاتًا لمن هيأ قلبه لسماع الهمس الخفي في كلمات الله.
لا تنشد لغة الدين المختصة بالغيب التطابق بين الدال والمدلول، واللفظ والمعنى، لضيق الدال وقصوره، إذ يعجز اللفظ أن يتسع لما يختنق فيه فضاؤه، ويستوعب ما لا يمكنه تصويره كما هو، وتمثّل ما لا يمكنه تمثّله، ويفشل في نقل ما يضيق به ظرفه، واحتواء ما لا يتسع له وعاؤه. لغة الدين المختصة بالغيب يتنزل بها المعنى من نشأة أعلى إلى نشأة أدنى، لأن اللغة البشرية من شؤون العالم المادي، وليست من شؤون عوالم الغيب، وظرفها لا يتسع لمعاني تلك العوالم. إن السعة الوجودية للغيب يضيق بها كل ما ينتمي إلى العالم المادي، أي إن هذه اللغة لا يتجلى فيها المعنى إلا بكيفية تماثل حقيقتها البشرية، على نحو تنزّل على شاكلتها. ولأنها تنزل، فهي تلبس المعنى ثوبها، وتكسوه بألفاظ محدودة، وتجعل ما لا يُحدّ قابلًا للفهم بمقدار ما تسمح به أدوات الإنسان في هذا العالم. لا يمكن للغة أن تنقل المعنى الغيبي كما هو، بل تشير إليه بقدر ما تحتمله طبيعتها المادية، وقدرة الإنسان على التلقي. وما لم يتنبه القارئ إلى هذا الفرق الجوهري بين المعنى في ذاته، والمعنى كما يتجلى في اللغة، ينغلق عليه باب التأويل، ويحبس فهمه ظاهر النص، ولا ينتبه إلى ما يشير إليه الرمز أو المجاز. وما الرمز إلا قنطرة، يعبر منها من ألهمته رؤيته وأشرقت بصيرته، إذا تحرر من أسر الحرف، وتطهر قلبه من ظلمة التكرار، فغدا النص لديه كائنًا حيًا، ينبض بالمعنى، ويشع بالأنوار. ذلك هو ميدان التذوق لا الحفظ، ومجال الحضور لا الغياب. في هذا المقام، تصير اللغة مرآة لما وراءها، ومظهرًا لما خفي عن دلالاتها المتبادرة من كلماتها، وشاهدًا على أن الغيب لا يُدرَك بالكلام، بل يُشهد بالبصيرة.
#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟