حسن بشير محمد نور
الحوار المتمدن-العدد: 8382 - 2025 / 6 / 23 - 20:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
نحو إعادة إعمار الخرطوم كمدينة حديثة: رؤية سياسية واقتصادية وعمرانية مستلهمة من تجارب عالمية
بروفيسور/ حسن بشير محمد نور
جاء في الأخبار ان حكومة الأمر الواقع المتموضعة في بورتسودان ناقشت موضوع العودة الي الخرطوم وخلصت الي ان الوضع هناك لا يسمح بعودتها. بالطبع هذا هو الواقع فالمدينة الان، بل الولاية في مجملها لا تتوفر فيها سبل الحياة الطبيعية، فهي تعاني من دمار هائل وانهيار تام في البنية التحتية، وتدهور كبير في الخدمات الاساسية، اضافة للنقص الحاد في الامداد الكهربائي والمياه الصالحة للشرب، اضافة للتلوث البيئي الذي أنتج وينتج العديد من الامراض والاوبئة وانتشار الكوليرا خير دليل علي ذلك. الغريب في الامر ان هناك والي في هذه البيئة يدعو لعودة الموظفين ويهدد اساتذة المدارس بالفصل إذا لم بحضروا ( لمزالولة أعمالهم) منذ منتصف يونيو 2025 الجاري، كأنما هناك مكان غير المكان وبيئة غير البيئة غير التى اقرت حكومته بانها غير صالحة للتواجد الطبيعي للانسات، بالشكل الذي يمكنه من الحياة في مجتمع لمزاولة عمله.
تُعد الخرطوم الان واحدة من المدن العالمية الأكثر تضرراً من الصراعات المسلحة، حيث أدت الحرب التي اشتعلت في 15 ابريل 2023 إلى تدمير واسع للبنية التحتية، وتشريد السكان، وانهيار المنظومات الإدارية والاقتصادية. ومع ذلك، فإن الدمار يمكن أن يكون فرصة تاريخية لبناء مدينة جديدة، تستفيد من دروس الماضي ومن تجارب عالمية ناجحة لإعادة الإعمار، كما حدث في شيكاغو الأمريكية بعد حريق عام 1871، ولندن بعد القصف خلال الحرب العالمية الثانية، وبرلين ووارسو وغيرها. هذه الامثلة تم ذكرها للبعد الزمني الذي تضررت فيه تلك المدن قبل اكثر من 150 الي 80 عاما وليس في وقتنا الحالي، اضافة لتوفر المقومات الاساسية لاعمارها من حيث المتطلبات السياسية والاقتصادية والادارية والعمرانية، وهي المتطلبات اللازمة لأعاده أعمار الخرطوم كمدينة جديدة وفقا لمواصفات الحداثة، من ضمن البرامج المستقبلية لأعمار السودان. نقترح هنا رؤية لمتطلبات أعادة أعمار الخرطوم كعاصمة عصرية حديثة.
أولاً: المقومات السياسية لإعادة الإعمار
1. الإرادة السياسية والتوافق الوطني:
يتطلب إعادة إعمار الخرطوم قيادة سياسية رشيدة تمتلك إرادة صلبة، مع ضمان التوافق بين القوى السياسية والاجتماعية حول مستقبل البلاد وطببعة العاصمة القومية بمدنها الثلاثة، في موقعها الطبيعي الذي جادت به الطبيعية بمقرن النيلين الأزرق والابيض وانطلاق نهر النيل من هناك.
2. ضرورة اللامركزية الإدارية:
لابد من اعتماد نظام إداري مرن كشرط يسمح بلامركزية اتخاذ القرار، خاصة في مراحل التخطيط والتنفيذ والخدمات، لتقريب الخدمات من المواطنين وزيادة الكفاءة. يمكن ان تكون هناك الية عمل مشتركة بين الحكومة المركزية والولاية والمحليات.
3. ضمان سيادة القانون والحوكمة:
من الضروري توفير بيئة آمنة يحكمها القانون كشرط أساسي لجذب الاستثمار، وضمان نزاهة تنفيذ مشاريع الإعمار وتجنب حالات الفساد المستشري وهدر الموارد، خاصة وأن اعادة اعمار الخرطوم بالشكل المطلوب تحتاج لأموال طائلة لا تقل عن 70 مليار كاعتمادات اولية لفترة زمنية محددة.
4. الشراكات الوطنية والدولية:
تحتاج اعادة الأعمار بالضرورة للتعاون مع المنظمات الدولية (مثل الأمم المتحدة، البنك الدولي، والاتحاد الإفريقي، الصناديق العربية وغيرها) لتوفير التمويل والخبرة، بجانب إشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني السوداني.
ثانياً: المقومات الاقتصادية لإعادة الإعمار:
1. التخطيط المالي والتمويلي
من الضروري ايجاد خطة تمويل طويلة المدى تعتمد على مزيج من الموارد الوطنية (مثل توظيف عائدات الصادرات ومنها الذهب، الاستثمار في الزراعة، الايرادات الضريبية الخ..) أضافة للمساعدات الدولية والقروض التنموية المتاحة في مصادر وانماط تمويل الأعمار.
2. تحفيز الاقتصاد المحلي:
يعد خلق فرص عمل في مجالات البناء والتنمية العقارية، الخدمات، والنقل، والطاقة ضروريا، لتقليل الاعتماد على الواردات ودعم الاقتصاد الوطني، خلال فترة اعادة الأعمار لتوفير واقتصاد الموارد، التي تعتبر تعبئتها وتوفيرها بالغة الصعوبة والتعقيد.
3. توطين صناعة مواد البناء:
من المتطلبات المهمة استغلال الموارد الطبيعية (مثل الحجارة، الطوب، الطين، الرمال، الحصى وحتي القش والاخشاب بشكل مبتكر) لإنتاج وتوفير المواد محليًا، مما يخفض التكاليف ويدعم الصناعات الصغيرة ويوفر انماطا معمارية متنوعة.
ثالثاً: المقومات الإدارية والتنظيمية:
1. ضرورة أنشاء هيئة عليا لإعمار الخرطوم:
تشكيل مثل هذة الهيئة الوطنية المستقلة التي بجب ان تضم خبراء في التخطيط العمراني، والهندسة، والاقتصاد، وإدارة الطوارئ، بالغة الأهمية لضمان قيادة مؤسسية مهنية للإعمار، وكضمانة لجودة الاداء والحوكمة والوقاية من الفساد والهدر.
2. وضع قوانين وتشريعات عمرانية جديدة:
من الضروري إصدار قوانين عمرانية حديثة تحكم البناء وتحدد أنماطه، استخدام الأراضي، حماية البيئة، وتخطيط النقل العام، كضرورة لمواكبة التطور وضمان الأستدامة.
3. إشراك المجتمعات المحلية:
من الطبيعي ان تتبع سياسة لاشراك السكان في عمليات التخطيط لضمان ملاءمة الإعمار مع الاحتياجات الحقيقية والخصوصيات الثقافية والاجتماعية للمجتمعات المحلية، والخصوصية التاريخية لبعض المناطق في ام درمان والخرطوم بحري وبعض مناطق الخرطوم (مثل سوبا وتوتي).
رابعاً: البنية التحتية الأساسية ومتطلبات الحياة الحديثة:
1. شبكات المياه
لتوفير مصادر واساليب متعددة للاستفادة من مياه النيل ومياه الآبار الجوفية، مع تقنيات حديثة لمعالجة المياه، لابد من
توفير شبكات توزيع ذكية، ومن المهم تصميم شبكات أنبوبية قابلة للصيانة بسهولة وتضمن العدالة في التوزيع وانسياب أمداد منتظم للمياه.
يمكن بالطبع، كفرصة أعتماد أنظمة ترشيد المياه وإعادة تدويرها، حسب النظم القياسية المتبعة عالميا، بالتزامن مع نظام النظافة والتخلص من المخلفات والنفايات بمختلف انواعها.
2. الكهرباء والطاقة:
يعتبر توفير الطاقة من أعقد المشاكل التي تواحه إعادة الأعمار في الخرطوم ومستقبل أعادة السكان. ويمكن ابتدأ ان تكون الطاقة الشمسية خيارا مناسبا، نظراً لارتفاع درجات الحرارة، ينبغي هنا التوسع في استخدام الألواح الشمسية بشكل يجعلها في متناول قطاعات واسعة من السكان وباسعار مناسبة.
تظهر هنا ضرورة الربط الإقليمي اللازم لتحسين شبكات الربط الكهربائي مع دول الجوار لتأمين مزيد من الإمداد. كما يستدعي التوزيع المرن لشبكات حديثة للكهرباء اتباع نظام يدعم التنمية الصناعية والتجارة والخدمات.
3. النقل والمواصلات:
يعتبر توفير شبكات طرق حضرية بتصميم لشوارع جديدة واسعة، مقاومة للفيضانات، مع أرصفة ومسارات للدراجات والمشاة، يعتبر امرا لا مفر منه لمدينة حديثة، اضافة لضرورة توفير وسائل نقل جماعي فعالة، كمطلب حيوي، مما يتطلب إدخال قطارات خفيفة (ترام مثلا) وباصات كهربائية لتقليل الزحام والانبعاثات، هذا علي الاقل في الاعتبارات المستقللية، مما يستدعي أخذ ذلك في الاعتبار عند تصميم خطط أعادة الأعمار بنظرة طويلة الأجل.
من الضروري بمكان ايضا استخدام الرقمنة في اعادة الأعمار لمواكبة الحداثة ومتطلبات الاستدامة، مما يتطلب انشاء أنظمة ذكية لتنظيم المرور وتوفير الوقت حسب المتطلبات القياسية الحديثة.
خامساً: التصميم العمراني وإعادة إنتاج الحياة في الأحياء السكنية:
لاستيفاء هذه المتطلبات تحتاج خطط اعادة الأعمار اتباع مجموعة من الاسس منها:
1. تخطيط الأحياء حسب الكثافة السكانية:
يجب هنا تحديد أولويات الإعمار حسب المناطق الأكثر كثافة، مع توفير مرافق متكاملة تشمل المدارس، المستشفيات، الأسواق، والمساحات الخضراء. المساجد ودور العبادة الاخرى، الميادين وغيرعا حسب طبيعة المجتمع واامكان.
2. توفير أنماط إسكان مرنة ومستدامة:
يمكن تصميم وحدات سكنية تناسب طبيعة الأسرة السودانية من حيث العدد، العادات، والمناخ، مع استخدام مواد بناء عازلة للحرارة، ولا يستثني ذلك مناطق مهمة من الخرطوم. ويمكن تشحبع هذه الانماط وترخيصها علي مستوى الاسكان الشعبي والمجمعات السكنية.
3. لضرورات التنمية المتكاملة، يمكن بناء أحياء توفر فرص العمل، والتعليم، والترفيه، والخدمات في نطاق المشي أو الدراجات لتقليل التنقل واقتصاد الوقت وزيادة الإنتاجية، وهذا نمط معتمد في العديد من دول العالم مثل فيتنام علي سبيل المثال، كدولة لها تجربة حرب ضروس.
سادساً: الهوية المعمارية والثقافية:
1. نحو نمط معماري سوداني معاصر:
لبناء نمط عمارة ىيستلهم عناصر من التراث النوبي، السناري، الصحراوي، وعمارة الأنهار وغيرها، يمكن العمل علي خلق نمط يجمع بين الأصالة والحداثة برؤى الداهية مبتكرة.
2. ضرورة إبراز التنوع الثقافي؛
من المهم تصميم المباني العامة والثقافية لتعكس تنوع السودان اللغوي والإثني، كالمراكز الثقافية والمساجد والكنائس؛ والمؤسسات العامة والميادين العامة، يمكن اتباع نمط معماري يتم تصميمه من مختصين في العمارة والثقافة والاثار والتراث والفلكلور.
3. الاستدامة البيئية:
من الضروري اتباع اساليب التشجير الحضري، واستخدام أساليب التهوية الطبيعية، وتصميم الأسطح لتقليل درجة الحرارة وتحسين جودة الهواء والحد من اثار التصحر والتخلص من التلوث البصري الذي كان سائدا قبل الحرب.
ختاما تعتبر إعادة إعمار الخرطوم مهمة كبرى وليست مجرد مشروع هندسي، بل هي فرصة لإعادة بناء الروح الوطنية، والتأسيس لنمط معماري جديد يتفق مع الأرث الحضاري والثقافي المتنوع في السودان. ولترسيخ مفاهيم العدالة الاجتماعية، وتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي. ولتحقيق هذه الرؤية، يجب أن تكون عملية أعادة الأعمار شاملة، تشاركية، ومستندة إلى تجارب عالمية ناجحة، ولكن بنكهة سودانية خالصة تحفظ الموروث وتعانق المستقبل وتتصالح معه. وهذا يحتاج لرؤية المختصين في كافة المجالات لوضع رؤية قومية شاملة لأعادة الأعمار، تتضمن أعادة أعمار الخرطوم بموقعها الفريد كمدينة حديثة تضاهي أجمل مدن العالم، ضمن مشروع قومي متكامل لأعمار السودان بمختلف اماكنه، بالتزامن مع استراتيحية شاملة التنمية علي المدى الطويل، عندما تجد الازمة القومية الشاملة، وعلي رأسها الازمة السياسية والامنية فرصة للحل، لتوفير الشروط الموضوعية لأعادة الأعمار والتعافي والسير قدما في مسار التنمية والنمو والازدهار.
#حسن_بشير_محمد_نور (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟