|
ياسين الحافظ ينتقد قصور وعي الماركسيين والقوميين في العالم العربي /3 - 3/
عبدالله تركماني
الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 22:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ياسين الحافظ ينتقد قصور الوعي لدى الماركسيين والقوميين في العالم العربي /3 – 3/ ثالثاً - نقد التجربة الناصرية كانت قراءة الحافظ للناصرية في كل مراحل نجاحاتها وإخفاقاتها، وهذا ما يفسّر حديثه في سيرته الذاتية " موقفي من الناصرية: دعم ونقد، تَرَجٍّ ويأس ". فمن جهة، اعتبر النظام الناصري يلعب دوراً تقدمياً أساسياً في الكفاح العربي العام، حين فتح أمام تطور العرب آفاقاً واسعة جديدة، وحوّل القومية العربية إلى قوة تاريخية، وفتح إمكانية عملية لتحقيق الوحدة العربية. ومن جهة ثانية، فإنّ التجربة الناصرية ليست رائدة، فالنظام الناصري ليس النظام الثوري النموذجي، بسبب فقره الأيديولوجي، وافتقاد أهدافه الاشتراكية لدقة الوضوح والتحديد، وبسبب إغراقه في البيروقراطية، وانعدام النفحة الشعبية في أساليب نضاله وأدواته22. لقد كان للتجربة الناصرية حضور متميّز في كتابات ياسين الحافظ لعدة اعتبارات من أهمها: أنها شكلت ممكناً نهضوياً عربياَ، باعتبار أنّ وعي عبد الناصر كان أكثر انطباقاً على حاجات المجتمع العربي من المواقف الأخرى. ففي حين أنّ النزعة القومية العربية المشرقية قد حوّلت الوحدة العربية إلى " أسطورة سلفية " مقطوعة أو ضيقة الصلة بسياستها التحررية، فإنّ السلفية لم يكن لها وزن هام في نزوع عبد الناصر الوحدوي، فهو وريث حركة وطنية مصرية انشغلت بالتجديد والتحديث والتحرر من الاستعمار، ومن هنا فقد استنتج الحافظ " أنّ النزعة القومية العربية أصبحت أكثر عصرية وأكثر راديكالية عندما صبّت من جديد في المقال الناصري"23. إنّ التقاط الحافظ للمهمة التاريخية التي كانت مناطة بالناصرية على مستوى المشروع القومي العربي، هو الذي يفسّر لنا وعيه وشعوره بأنّ الناصرية فرصة تاريخية استثنائية ضاعت على الأمة العربية، وذلك بالرغم من نقده لتناقضاتها، خاصة التناقض بين الثورة السياسية والمحافظة الأيديولوجية المجتمعية " إذ في الوقت الذي كان فيه النظام الناصري يحصد الإخوان المسلمين (ونرمز بهم هنا إلى التيار السلفي كله) سياسياً كان يزرعهم ثقافياً وأيديولوجياً، الأمر الذي ألقى به في سلسلة اختناقات انتهت بضربة 5 حزيران/يونيو القاصمة "24. ومن خلال واقعيته الثورية، التي تذهب من الواقع إلى الهدف، كان الحافظ سبّاقاً في إدراك رغبة الإمبريالية الأميركية وإسرائيل أن تقضيا على الناصرية، رغم ما كان يراه من قصورها. لذلك فإنه، إبان الحملة الإعلامية المركّزة، بعد الانفصال في العام 1961، على موقف عبد الناصر من القضية الفلسطينية، كان سبّاقاً إلى معرفة أنّ المقصود لم يكن تحرير فلسطين، بل رأس عبد الناصر ومشروعه الثوري، فكانـت هزيمة العام 1967 تحقيقاً لما كان يستشعره في أنّ رأس عبد الناصر هـو المطلوب25. ولكنّ الحافظ وجّه نقداً عميقاً لأزمة علاقة الناصرية بالديمقراطية، فعندما أعلنت الثورة المصرية الميثاق الوطني في العام 1962 وصّفه الحافظ قائلاً " جاء على شكل أبوي، فكانت علاقة الثورة مع الجماهير علاقة وصاية، أي التزام مصلحة الجماهير والوصاية عليها في نفس الوقت، لم يتح خلق الجماهير الواعية لمصالحها الطبقية، بل خلق الجماهير المتحمسة السديمية ... "26. وفي الوقت نفسه انتقد ما يسمى بـ " الاشتراكية العربية "، اذ أنها افتقدت إلى قاعدة ديمقراطية، وبالتالي أصبحت " تأخراكية "، ذلك لأنّ الاشتراكية عندما تُبنى على أرضية وسطوية لا يعود يجمعها نسب بالاشتراكية في صورتها الأصلية، باعتبارها فرع من الديمقراطية والتحقيق الأمثل لها. وفي هذا السياق فإنّ الحافظ انتقد " المنظور التنموي " عندما مسخ مفهوم النهضة إلى " التنمية الاقتصادية " التي طمست كل أبعاد مسألة التأخر العربي. فالمشكلة، حسب ياسين الحافظ، هي مشكلة (تأخر/حداثة)، لا مشكلة " اقتصادوية " (تخلف/تنمية)، مشكلة حضارية (فوات/معاصرة) وليست إشكالية تراثية (أصالة /معاصرة). وهو يعيد جذور المنظور التنموي إلى قصور وعي دعاته، الذين اعتقدوا بممكنات تجاوز مشكلة التأخر عبر الخيار " الاقتصادوي " والتقني، ولكن من خلال الحفاظ على البنى التقليدية ومنظومة القيم المرافقة لها. رابعاً - نقد التيار القومي التقليدي رأى ياسين الحافظ أنّ هذا التيار لا تاريخي، حين لم يرَ الجذور التاريخية، السابقة للاحتلال الاستعماري، لبعض الكيانات الإقليمية العربية المميّزة، ولا مفاعيل الهيمنة الإمبريالية وقوانين عملها في العالم العربي. وقد وصّف رؤية هذا التيار على النحو التالي " نحن العرب نشكّل أمة واحدة، يجمعنا تاريخ طويل، تربطنا لغة واحدة، نعاني آلاماً واحدة، تحرّكنا آمال واحدة، ينتظرنا مصير مشترك، وما التجزئة سوى صنيع الاستعمار. مادام الأمر كذلك، فمن الطبيعي، بل من الحتمي، مهما راوغ القدر، أن يؤطِّرنا، بعد زوال الاستعمار ورواسبه، كيان سياسي واحد ". وبعد أن أقرَّ بصحة مقدمة هذه الأطروحة، قال " إنّ بناء دولة تؤطِّر أمة واحدة يتوقف، مع جملة عوامل أخرى، على وعي هذه الأمة ضرورة وحدتها. فالحتمية الوحدوية إنما تنبع، إذا لم تواجَه بعرقلات أخرى، من وعي أجزاء الأمة ضرورة وفائدة الوحدة، فضلاً عن الإرادة "27. وبسبب قصور وعي التيار القومي التقليدي فقد انتقل العديد من أنصاره إلى " مواقع إقليمية "، لأنه عاجز عن تصوّر المسار الوحدوي كصعود شاق " يتواكب مع الوعي السياسي السائد ومع الأيديولوجيا السائدة، وبالتالي اعتبار الوعي الوحـدوي خلاصة وزبدة الوعي العام لمجتمع يعاني شقاء قومياً من جهة، ويواجه ضغوطاً ساحقة من قبل الإمبريالية من جهة أخرى "28. ومن منظور تنويري، انتقد الحافظ التيار القومي التقليدي، كما ظهر واضحاً في كتابات ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، حيث " أدانت بلا تحفظ الثورة الفرنسية ورأت بذور التفكيـر الفرنسي، الدخيل على العرب والمشوِّه لتفكيرهم، قد سمّم النهضة العربية الحديثة منذ ولادتها، بدخوله مصر مع حملة نابليون بونابرت ". كما أشار إلى أنّ هذه الأيديولوجيا القومية رفضـــــت الماركسية وأدانتها، انطلاقاً من النظر إليها بوصفها " ذات أصول أوروبية صرفة تمثّل نزعة إنسانية "29. والقومية، بالنسبة لياسين الحافظ، ليست أيديولوجيا، كما حاول الفكر القومي التقليدي أن يصوغ أصالتها من خلال ترجمة هذه الأصالة عن الفكر الألماني " الروح الأزلي الخالد ". وهي ليست تجميعاً كمياً لوحدات وكيانات مجزأة، بل هي عملية تخترق الفرد لتجعل منه مواطناً، وتخترق المجتمع المُكسَّر عمودياً في أنساق سوسيولوجية تعود به إلى نظام القرابة الدموية البدوية، لِتُنَضِّدَهُ في أنساق اجتماعية حديثة. والقومية، أخيراً، تحقيق لذات الأمة، بالدرجة نفسها كتحقيق لذاتية الفرد الحر المسؤول أمام القوانين، إنها تحقيق لمفهوم سيادة الفرد على مصيره، وسيادة الأمة على مصائرها. وعلى هذا فـ " الأمّويّة "، في فكر الحافظ، ليست شعوراً متمحوراً حول السيادة القومية إزاء الخارج فقط بل إنها " شعور ووعي متمحوران حول سيادة الأمة في الداخل، سيادتها على نفسها "30. إن " الأمّويّة " ليست، كما يتداولها الخطاب القومي " رابطة سلبية أو تضامن سلبي تتخذه جماعة بشرية إزاء جماعة بشرية أخرى مغايرة أو معادية، أي ليست شيئاً من قبيل نزعة كره الأجنبي، التي لازمت وتلازم الجماعات البشرية التي تعيش مرحلة ما قبل الأموّيّة ". فإذا كانت " رابطة الدم " أو" نظام القرابة " تسود قبل مرحلة " الأمّويّة "، فإنّ الأمم الحديثة تكونت تاريخياً وحلّت تدريجياً محل نظام القرابة، وأنشأت الدول القومية الحديثة. وهذا النمط من الأمم الحديثة يفرز روح المواطنية، التي تتبدى في صيغة " الدولة الأمّويّة الديمقراطية العقلانية ومؤسساتها ممثلة للأمة ومصالحها العامة ". فهي إذن " وعي المرء وشعوره بأنه عضو في جسد جماعة إنسانية معينة.. بأنه ندّ للآخرين.. متساوٍ في الحقوق والواجبات أمام القانون الذي يعبّر عن إرادة الأمة "31. لقد قام الحافظ بتقصّي سير تطور الأمة العربية، للتعرف على الخصوصية التاريخية التي ميّزت خط تطورها المميَّز في إطار المقارنة التاريخية بين خطوط السيرورة الكونية، فوجد أنّ العامل الذاتي الثقافي (الإسلام) هو عامل التفاعل والصهر. ففي ظله، كتراث حضاري وثقافة مشتركة وتكوين نفسي مشترك، تبلورت الثقافة المشتركة والتكوين النفسي الحضاري. لكنّ الحركة القومية العربية استيقظت تحت تأثير الفكر الأوروبي، ثم اكتسبت زخماً أشد ضـد محاولات التتريك أولاً ثم ضد اضطهاد السيطرة الاستعمارية ثانياً. وعلى هذا، فإنّ الحركة القومية العربية لم تستيقظ في " غمار نضال طبقي حاد " كما جرى في أوروبا. والبرجوازية العربية لم تتطور إلى الحد الذي تجعل مقتضيات السوق الواحدة تتحول إلى أداة هدم بين الأقطار العربية، ليخلص من ذلك إلى مغايرة أخرى لسياق التطور الأوروبي هي " أنّ القومية العربية لم تولد في السوق "، وبالتالي فإنّ الوعي القومي العربي سبق التطور الاقتصادي العربي32. إنّ الخصوصية الثقافية التي مهرت شكل تكوّن الأمة ووعيها القومي، المتمثلة بالدور الإيجابي للإسلام، غدت، في المنظور القومي الديمقراطي العلماني لياسين الحافظ، الجذر الأساسي للفوات التاريخي، بمثابتها: " تعبيراً عن وعي سكوني لمجتمع تقليدي، وعي رؤية دورانية لحركة التاريخ "33. لقد ربط الحافظ صلة وثيقة بين التقدم والوحدة العربية، فـ" العالم يغذُّ الخُطى نحو تكوين كتل كبرى من الشعوب، وستبقى" الشعيبات "على هامش التاريخ ". فلا يمكن تصوّر تنمية ناجحة إلا في تجمعات كبرى " إنّ الأقطار العربية، الكبيرة منها بخاصة، قد تستطيع، في أحسن الأحوال، تطوير صناعتها القائمة إلى هذا المدى أو ذاك، إلا أنه سيصعب عليها، في ظل التجزئة، أن تتعدى حدود الصناعات التي قامت في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين. أما الصناعة العصرية التي جاءت نتيجة الثورة الصناعية الثالثة، فمن الصعب جداً، إن لم أقل من المستحيل، أن تقوم في ظل التجزئة ". إنّ الأقطار العربية، عندما توضع ضمن مقاييس عالمية، مخالفة لوجهة العصر، لذا فـ " إنّ على أولئك الذين يحبّون الصناعة الثقيلة والتصنيع الثقيل أن يحبّوا الوحدة العربية التي تعتبر الشرط الأولي واللازم لقيام هذه الصناعة "34. إنّ المنظور الوحدوي لياسين الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، ويستشرف كل سبل الخلاص العربي، أي تلافي التأخر التاريخي المتراكم للشعوب العربية. وفي هـــذا السياق حدّد الميول الجاذبة في السيرورة الوحدوية بثلاثة ميول: أولها، شعور هؤلاء البشر المنتشرين من الخليج إلى المحيط بأنهم ينتمون إلى أمة واحدة ويجمعهم مصير مشترك، ولا شك أنّ هذا الشعور يتفاوت من حيث عمقه ووضوحه بين قطر وآخر، أو إقليم عربي وآخر، فمثلاً ليس من المناسب تجاهل الفجوة التاريخية بين المشرق والمغرب العربيين، التي قامت منذ القرن الثامن الميلادي حين أُنشئت الدول المغاربية المستقلة عن الدولة العباسية (الأغالبة، الرستميون، الأدارسة، بنو مدرار). إلى أن جاء الاستعمار الفرنسي فعمل على " تعميق وتوسيع هذه الفجوة وصياغة غطاء أيديولوجي لها، مارس تأثيراً راضّاً عميقاً على صعيد الثقافة في صفوف الأنتلجنسيا المغاربية، كما قام بعملية بتر كامل على صعيد الاقتصاد عبر إمكانية إلحاق الطرف المستعمَر بالمركز المستعمِر"، وفي الوقت نفسه من المغالطة إنكار وزن الرابطة العربية في المنطقة المغاربية. وثانيهما، يتمثل في العامل الخارجي، أي مفاعيل الهيمنة الإمبريالية وضغوطها ونهبها للشعوب العربية، بما يشحذ النوازع الوحدوية، ويوجه حدها ضد سائر أشكال نفوذها " إنّ الإمبريالية قد جزّأت الوطن العربي وولّدت وحدته من جديد ". وثالثها، يتمثل في النزوع العربي إلى التقدم، إلى دخول العصر، إلى تأكيد الذات35. أما الميول النابذة للسيرورة الوحدوية فقد حددها الحافظ بخمسة: أولها، التأخر العربي العام. وثانيها، الهيمنة الإمبريالية ومحاولتها ممارسة ضرب من التجميد للاحتمالات الوحدوية السياسية، فالعداء للوحدة لا يحرّك سياسات الدول الإمبريالية وحدها، بل " يحرّك أيضاً، وبعداء أشد، سياسات الدول المجاورة للوطن العـربـي: إسرائيل، إيران، تركيا، الحبشة... ولعلَّ موقف إسرائيل يشكل الحالة القصوى ". وثالثها، واقع التجزئة والمقاومة التي يبديها والذي " لا يتمثل فقط بمصالح الأشخاص والفئات الراكبة على بنية سياسية ما قائمة، بل يتمثل أيضاً، وفي كيفية أوزن وأشد تأثيراً، في الأيديولوجيا الإقليمية ". ولأنّ الحافظ يزن كل تناقضات الواقع العربي، فقد قال " إنّ العمل في سبيل تصفية الواقع الموضوعي للتجزئة إنما يتطلب منّا أن نأخذ بعين الاعتبار الوزن والجذور التاريخية والجغرافية المتجزئة. وهذا يعني أنّ المشروع الوحدوي، فضلاً عن ضرورة مرونته، لكي يمكنه استيعاب تضاريس التجزئة، لا ينبغي أن ينفي على المدى القريب والمتوسط، وبعد توفير الإطار السياسي لوحدة حقة، الأخذ بالاعتبار المصالح الإقليمية التي لا تعرقل سيرورة التذويب الوحدوية... وأن تتوفر هذه السيرورة على ضمان توازن ما في مصالح الأقطار، بحيث تتدرج عملية التذويب مع نمو وعي الشعب بسلامة تخطّي ما هو إقليمي لصالح ما هو قومي، توازن يشكل التحقيق الأسلم والأبعد نظراً حتى للمصالح القطرية المفهومة فهماً صحيحاً ". ورابعها، يتمثل في الأيديولوجيات الضمنية أو الصريحة للأقليات الدينية والقومية في العالم العربي، وهي مسألة غير ممتنعة، وبخاصة موقف المواطنين العرب المسيحيين أو موقف الفرق الإسلامية غير السنّية " إنّ التأكيد على علمانية الحركة القومية العربية ودولة الوحدة العربية والنضال لتطبيقها سيفتح أرحب السبل لحلها بدون تأخير وبجدية ". أما مشكل الأقوام غير العربية " فينبغي أن يُحلَّ على أساس مصلحة الوحدة العربية والاندماج القومي العربي. وهذه الحلول تصبح ممكنة بقدر ما يدمقرط المجتمع العربي ". وخامسها، يتمثل في شخصنة السلطة، التي " أصبحت تظاهرة غالبة في الميدان السياسي العربي "، وهذه الشخصنة في البنية السياسية العربية عززت وتعزز إلى أقصى حد العوامل النابذة الأخرى للسيرورة الوحدوية، ذلك لأنّ السلطة المشخصنة " لا بدَّ أن تستخدم سائر العوامل والعناصر المؤاتية للتجزئة في سبيل تدعيم مواقعها، بحيث يصبح الوضع أو البنيان الإقليمي مرتكزاً وسياجاً و" مجالاً حيوياً " لها ". وعليه، بدا لياسين الحافظ أنّ الديمقراطية، التي تشكل نقيضاً مطلقاً لشخصنة السلطة، تشكل الطريق الأكثر مؤاتاة وملاءمة إلى الوحدة العربية36. كما رصد الحافظ عاملين آخرين يشكلان نقطتي ضعف وثغرتين تجعلان السيرورة الوحدوية أكثر صعوبة: أولهما، افتقار العالم العربي إلى تطور بورجوازي حق. وثانيهما، ضعف دور القطر العربي - المركز، أو القائد للعملية الوحدوية. خاتمة سيرة ياسين الحافظ الفكرية مثال على الشجاعة والنزاهة والواقعية، فهو غادر الشيوعية الستالينية من دون أن يغادر الماركسية، وانتمى إلى القومية العربية من دون أن يرجم الدولة القطرية.. لقد تكثّف منهج ياسين الحافظ في تحليل أوضاع المجتمع العربي، وفي كشفه تجليات التأخر التاريخي العربي، في المستوى الأيديولوجي السياسي. ولعل ميّزته كانت ولا تزال تتجلى في تجسيد أفكاره ومنهجه في تحليلات عينية للواقع العربي، وفي كشفه عن جذور الهزيمة التاريخية الطويلة، وكشفه حقيقة أنّ التجزئة العربية القائمة، التي وضعت الأمة على منحدر السقوط والانحطاط، هي نتاج التأخر التاريخي للشعوب العربية والأوضاع الإمبريالية الناجمة عنه. لقد كان الحافظ رائداً في التقاط عوامل هزيمة المشروع العربي، حين استعاد الإشكالية المركزية للنهضة عبر سؤال " التأخر "، باعتباره ليس تخلفاً اقتصادياً يمكن تجاوزه عبر التنمية، وليس مسألة فقدان أصالة الذات التاريخية، بل المسألة تكمن في التأخر كفوات حضاري يشمل كل بنى المجتمع العربي. وإذا كانت التظاهرات والأوضاع التي نقدها ياسين الحافظ وجسَّد فيها منهجه النقدي ورؤيته لمشروع النهضة القومية قد تغيّرت وتطورت، وهذا أمر بديهي، فإنّ نقده ورؤيته لا يزالان راهنين، فضلاً عن منهجه الجدلي المفتوح على النمو والتطور. وبذلك لم يكن ياسين الحافظ مفكر وسياسي سبعينيات القرن العشرين بامتياز في المشرق العربي، إنه أيضاً رجل لفكره راهنية تجعله مفتوحاً على ممكنات الفكر واحتمالات الواقع، اليوم وإلى زمن طويل قادم.
الهوامش: 22 - ياسين الحافظ: حول بعض...، المرجع السابق، ص ص 145 و146. 23 - ياسين الحافظ: الهزيمة والأيديولوجيا ...، المرجع السابق، ص ص 83 - 85. 24 - ياسين الحافظ: الهزيمة والأيديولوجيا...، المرجع السابق، ص 32. 25 - ياسين الحافظ: حول بعض...، المرجع السابق، ص 233. 26 - ياسين الحافظ: حول بعض...، المرجع السابق، ص 142. 27 - ياسين الحافظ: في المسألة القومية...، المرجع السابق، ص 74. 28 - ياسين الحافظ: التجربة التاريخية ...، المرجع السابق، ص 165. 29 - ياسين الحافظ: اللاعقلانية في ...، المرجع السابق، ص 168. 30 - ياسين الحافظ: الهزيمة والأيديولوجيا ...، المرجع السابق، ص ص 242 و243. 31 - ياسين الحافظ: الهزيمة والأيديولوجيا ...، المرجع السابق، ص 243. 32 - د. عبد الرزاق عيد: ياسين الحافظ ...، المرجع السابق، ص ص 195 و196. 33 - ياسين الحافظ: الهزيمة والأيديولوجيا ...، المرجع السابق، ص 24. 34 - ياسين الحافظ: في المسألة القومية...، المرجع السابق، ص ص 18 و19. 35 - ياسين الحافظ: في المسألة القومية...، المرجع السابق، ص ص 26 - 30 __. 36 - ياسين الحافظ: في المسألة القومية...، المرجع السابق، ص 30.
#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مكانة سوريا الجديدة في تحوّلات الشرق الأوسط
-
ياسين الحافظ ينتقد قصور وعي الماركسيين والقوميين في العالم ا
...
-
ياسين الحافظ ينتقد قصور الوعي لدى الماركسيين والقوميين /1 -
...
-
محددات المصالحة التاريخية بين العلمانيين والإسلاميين في سوري
...
-
تحديات التغيير في سورية الجديدة
-
أهمية اللامركزية الإدارية الموسّعة لسوريا الجديدة
-
مخاطر تفكك الدول الهشة متعددة المكونات /*/
-
كيفية معالجة الحقوق القومية والطائفية في سوريا الجديدة؟
-
الحياة السياسية المنتظرة في سورية الجديدة
-
التحديات البنيوية للحكومة الانتقالية في سوريا
-
حول الإسلام والحداثة في التجربة التركية (3 - 3)
-
محدودية مخرجات مؤتمر بروكسل للمانحين
-
حول الإسلام والحداثة في التجربة التركية : 2 - 3
-
حول الإسلام والحداثة في التجربة التركية ( 1 - 3)
-
مقوّمات السلم الأهلي والعيش المشترك بين المكوّنات السورية
-
نحو عدالة انتقالية ليست انتقامية
-
الدولة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (3 - 3)
-
الدولة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (2 - 3)
-
الدولة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (1 - 3)
-
أهمية الحياة السياسية لضمان الحريات في سورية
المزيد.....
-
مصادر في الخليج توضح لـCNN موقفها بشأن وقف إطلاق النار بين إ
...
-
الحرب الكورية التي لم تنتهِ، كيف بدأت؟
-
ثماني طرق تساعدك على التخلص من -المماطلة-
-
هل تستفيد غزة من نهاية الحرب بين إسرائيل وإيران؟
-
الموت بحثا عن الطعام في غزة.. استخدام الغذاء سلاحا في غزة جر
...
-
سوريا: توقيف عدد من المتورطين بتفجير كنيسة مار إلياس بدمشق ا
...
-
مسلسل موبلاند: حين تحاصر المخاطر أكبر عائلة مافيا في لندن
-
عبر الخريطة التفاعلية نتعرف على أبرز الهجمات الإيرانية على إ
...
-
رئيس الوزراء القطري: نؤثر دوما الدبلوماسية والحكمة على أي شي
...
-
دراسة: التفاؤل يقلل من فقدان الذاكرة
المزيد.....
-
كذبة الناسخ والمنسوخ _حبر الامة وبداية التحريف
/ اكرم طربوش
-
كذبة الناسخ والمنسوخ
/ اكرم طربوش
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|