|
ياسين الحافظ ينتقد قصور الوعي لدى الماركسيين والقوميين /1 - 3/
عبدالله تركماني
الحوار المتمدن-العدد: 8364 - 2025 / 6 / 5 - 15:58
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ياسين الحافظ ينتقد قصور الوعي لدى الماركسيين والقوميين /1 – 3/ يبدو واضحاً اليوم أنّ العالم العربي يعيش حالة من التأخر التاريخي، فما زلنا نطرح السؤال المقلق لماذا تأخر العرب وتقدم غيرهم؟ وهو سؤال شغل أجيالاً من النهضويين الرواد، واليوم في سياق التأصيل لنقد التأخر التاريخي العربي، يجدر بنا الانتباه إلى الدور الريادي الكبير الذي لعبه فكر ياسين الحافظ المشرقي، باعتباره الوجه الآخر لمساهمة عبدالله العروي المغربي، حيث يتجه المشروعان معاً، كل من زاوية رؤيته، لبناء ممكنات ركوب درب الحداثة والتحديث. لقد كانت تجربة الحافظ الفكرية والسياسية استمراراً لأرقى التقاليد الراديكالية لأبرز المفكرين الحداثيين وتتويجاً لها، بعد أن قام بأكبر عملية نقدية مع أشكال الوعي التحرري العربي الحديث، خاصة تياريه الرئيسيين الماركسي والقومي، من خلال أداته النظرية الناجعة " الوعي المطابق " التي عنت إنتاج وعي عقلاني بالواقع العربي، ومن ثم إنتاج وعي مناسب لحاجات هذا الواقع للتقدم 1. ولأنّ ساحة السياسة كانت تجربة قدر الرجل، فكانت مأساته في مجتمع " لا يعرف من تقاليد السياسة سوى السلطة، سلطة الدولة، الحاكم والزعيم والقائد، ولا تملك مفردة السياسة في بنيته اللاشعورية سوى دلالة فعل (ساسَ) الذي يصبح للبشر والبهائم لغوياً (ساسَ القوم، وساسَ الحصان)، بعد اختزال المجتمع وألوانه في صورة الرعية "2. والحق أنّ خطاب الحافظ قد اكتسب أقصى نضجه وطلاقة تفكيره في سبعينيات القرن الماضي، بعد أن أكملت التجربة الناصرية دورتها على نفسها، وآلت إلى مصيرها المعروف بعد وفاة جمال عبد الناصر من جهة. وبعد تجربته في باريس التي عمّقت لديه الوعي بمسألة التأخر، والوعي بأهمية النهضة من جهة ثانية. فراح ينتقد السياسة، بوصفها تكثيفاً للبنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ولو أنه بدأ يستخدم أداته النظرية " الوعي المطابق " منذ أواخر الخمسينيات. ففي سنة 1958 كتب عدة مقالات تحت عنوان " خصائص الحركة القومية العربية "، حيث بدأ تحليله لهذه الخصائص من خلال تناولها في المستوى الكوني، انطلاقاً من " أنّ الإنسانية تسير في خط تطوري صاعد ومتوازٍ "، وفي المستوى التاريخي " أنّ مجرى تطور الأمم ليست متماثلة ". لقد أنتج الحافظ خطاباً نابضاً بالحياة مُشْبَعاً بالدلالات السوسيولوجية والثقافية والسياسية والنظرية، فمنح الخطاب السياسي العربي بعداً نهضوياً. وبذلك، حرّر الخطاب العربي من البلاغية المترهلة، وأنقذ الماركسية العربية من ضيق العبارة والأفق وتكلّس الصيغ، حين استعاد روحها النقدية، بوصفها سؤالاً مُشرَعاً ضد الثبات والسكون والامتثال والعقائدية المنغلقة على نفسها. فمع ياسين الحافظ اكتسب الخطاب العربي مفهوماً يتجاوز التبسيطات اليمينية واليسارية، يتجاوز المفهوم اليميني الذي يقوم بعملية تدليس بين الوعي الحديث والوعي التقليدي المفوَّت، والذي أنتج مفهوماً فيزيقيًا عن " الروح الأزلي الخالد "، والذي بدوره غدا أيديولوجيا للتمايز ومعاداة الآخر. ويتجاوز المفهوم الامتثالي الاقتصادوي الذي يغيّب الخصوصية التاريخية لأشكال الانتقال إلى الدولة الحديثة. ومن خلال نقده المزدوج هذا، قدم وعياً جديداً بالمسألة القومية، بوصفها عملية تاريخية تخترق الفرد والمجتمع والثقافة، وليست تجميعاً كمياً لوحدات مُجزّأة. وعلى أساس هذا الوعي فـ " القومية هي الحركة التاريخية التي ترفع سديماً بشرياً إلى كتلة متجانسة، متلاحمة، مندمجة، تستحق اسم الأمة "3. ولعلَّ مصدر إشعاع خطاب الحافظ أنه لم يقارب السياسة والمجتمع في العالم العربي إلا من خلال إشكاليته المركزية " التأخر " وبالتالي وعي " النهضة في وجه التأخر". وفي هذا السياق انتقد الأيديولوجيا المهزومة " التقليدوية الجديدة " التي توهمت إمكانية دخول العصر بتجنب الثورة القومية الديمقراطية " المنظور النهضوي " والقفز إلى تبنّي " المنظور التنموي "، فقال: " ما من شعب حقق تقدماً اقتصادياً دون أن يكون قد حقق تقدماً مجتمعياً وثقافياً وسياسياً ". وبسبب هذه الريادة، التي لم تكن مقصورة عليه وحده بالتأكيد، سوف نقارب توصيفاته ومقولاته وتحليلاته حول: نقد التيار الماركسي، نقد الحركة الناصرية، نقد التيار القومي. أولاً - توصيف المجتمع العربي خلافاً للمنطقين الماركسي والقومي العربيين، ينطلق الحافظ من أنّ الأقطار العربية متفاوتة، لا من حيث حجمها ومستوى تطورها الاجتماعي والاقتصادي والحضاري فحسب، بل متباينة أيضاً من حيث مكوّناتها التاريخية، ومن حيث بنية المجتمع ومدى تلاحمه، وبالتالي من حيث إمكانات التقدم ومدى نضوج النزوع الوحدوي. فالعالم العربي فيه ما يمايز وما يماثل، ما ينبذ وما يحفّز، فيه المتأخر جداً والمتأخر والأقل تأخراً (ولكن ليس فيه ما هو متقدم البتة، فالعالم العربي كله عالم مفوّت) وفيه الفقر الذي يقترب من التسوّل والغنى الذي يذكّر بالأسطورة القارونية " إنّ هذا الوطن - العالم سيجد في الوحدة العربية، لا طرق الحفاظ على وجوده فحسب، بل الأرضية الملائمة لتقدمه "4. ومن جهة أخرى، فإننا عندما نتحدث عن طبقات في المجتمع العربي إنما نفعل ذلك على سبيل التقريب، فلم " يشهد مجتمعنا لا الإقطاعية ولا الرأسمالية في صيغتيهما الأوروبية، والبنى التقليدية ما قبل البورجوازية والتطور الرأسمالي المحدود والمشوَّه مازالت تحجز الاستقطاب الطبقي. لذا فإنّ ما نسميه طبقات هو، في الواقع، بالأحرى فئات اجتماعية متشابكة ومتفاوتة في السُلَّمِ الاجتماعي، تتصارع فيما بينها وتمارس الواحدة إزاء الأخرى اضطهاداً ما أو استغلالاً ما "5. ومن الخصوصيات العربية التي ركّز عليها الحافظ السياق التاريخي الذي تشكلت فيه الهوية العربية، إذ قال: إنّ العنصر الحاسم كان ثقافياً " دور الإسلام كحاضنٍ ورحَمٍ لتكوّن الأمة ". إضافة إلى خصوصية أخرى هي نمط " الاستبداد الشرقي " الذي يشكل امتداداً للمخزون الثقافي الجمعي، الذي يحكم اللاشعور المعرفي للمجتمعات التي تحكم الأيديولوجيا سيرورة تَشَكُّلِها وتطورها، وحيث أنّ الأيديولوجي والسياسي في المجتمعات المحيطية كالمجتمع العربي، ما يزال يلعب دوراً وازناً تارة وحاسماً تارة أخرى. ولم يكن الحافظ يهدف إلى تأييد هذه الخصوصيات، بوصفها خاصيات لاصقة بهوية الأمة، بل بوصفها ظواهر لابدَّ من استقرائها، ليكون من الممكن بناء تصوّر قادر على استنباط البدائل الضرورية التي تفرضها حاجات الواقع العربي إلى التقدم. إنّ هذه الخصوصيات الثقافية التي كانت امتيازاً تاريخياً؛ ساعد الأمة في الحفاظ على كينونة وجودها رغم كل التحديات التي واجهتها؛ فإنها غدت، من منظور تاريخي، عقبة أمام انتقال المجتمع من مرحلة " الملّة الدينية " إلى مرحلة " القومية الحديثة "6. لقد اعتبر الحافظ التأخر هو المسألة المركزية في الواقع العربي المعاصر، لذلك انتقد " المنظور التنموي " الذي توهَّم بإمكانية دخول العصر و" تَجَنُّبِ الثورة القومية الديمقراطية "، التي دشنت العصر الحديث من خلال قلبها وتصفيتها المجتمع التقليدي القديم، وعبر هذه التصفية أمكنها أن ترسي بنى المجتمع الحديث المجتمعية والأيديولوجية والسياسية وإطلاق قواه الإنتاجية. إنّ هذه المنظورات التنموية هي " ضرب من محاولة عمل زركشة تحديثية على سطح مجتمع قديم مفوّت "، وقد استنتج من تجارب الشعوب المتقدمة أنه " ما من شعب حقق تقدماً اقتصادياً دون أن يكون قد حقق تقدماً مجتمعياً وثقافياً وسياسياً "7. واستناداً إلى استقرائه لتاريخ الفكر السياسي العربي الحديث وجد أنّ جماع السياسة العربية متأخر، فالتأخر كامن في البنية السياسية العربية، ليس في المنطق اليميني فحسب، ولا يقتصر على الأقليات العربية الحاكمة " لسنا إزاء أخطاء فحسب بل إزاء تأخر، لسنا إزاء سياسات يمينية فقط بل سياسات لا عقلانية، لسنا إزاء تأخر الأقليات المهيمنة فقط، بل إزاء تأخر البنية السياسية العربية بجماعها. وبكلمة: إنها سياسات قرية في عالم المدن "8. ومن هنا ألحَّ على الحاجة إلى الثورة القومية الديمقراطية التي لا تستدعيها نظرية المراحل، بل تستدعيها لا عقلانية السياسة العربية بجماعها، يمينها ويسارها. إنّ التأخر العربي العام جعل العقل العربي، حسب ياسين الحافظ، وكأنه " برميل بلا قعر، لا يجمع ولا يراكم، مع كل صباح نبدأ تجربة جديدة، وننسى تجربة البارحة، كما لا نفكر باحتمالات الغد. على الدوام نبدأ من جديد وكأننا ولدنا اليوم، أشبه بفئران عاجزة عن اكتشاف أنّ المصيدة تصيد "9. الهوامش: 1 - ترك ياسين الحافظ كتابات عديدة من أهمها: دراستان نقديتان " حول تجربة حزب البعث " و" نظام عبد الناصر" نشرهما في كتاب " في الفكر السياسي " في العام 1963، والذي صدر بجزأين مع جمال الأتاسي وعبد الكريم زهور والياس مرقص، وكتابه الأول " حول بعض قضايا الثورة العربية " في العام 1965، وكتابه الثاني " اللاعقلانية في السياسة العربية/ نقد السياسة العربية في المرحلة ما بعد الناصرية " في العام 1975، وكتابه الثالث " التجربة التاريخية الفيتنامية/ تقييم نقدي مقارن مع التجربة التاريخية العربية " ثم كتابه الرابع " الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة " في العــام 1976، وأخيرًا كتابه الخامس " في المسألة القومية الديمقراطية " بعد وفاته في العام 1978. 2– د. عبد الرزاق عيد: ياسين الحافظ/نقد حداثة التأخر، دار الصداقة – حلب 1996، ط1، ص 22. 3 - ياسين الحافظ: الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة، دار الطليعة – بيروت 1979، ط 2، ص 203. 4 - ياسين الحافظ: في المسألة القومية، معهد الإنماء العربي – بيروت 1990، لا توجد رقم الطبعة، ص 20. 5 - ياسين الحافظ: في المسألة القومية، المرجع السابق، ص 71. 6 - ياسين الحافظ: في المسألة القومية، المرجع السابق، ص 71. 7 - د. عبد الرزاق عيد: ياسين الحافظ ...، المرجع السابق، ص121. 8 - ياسين الحافظ: اللاعقلانية في السياسة العربية/نقد السياسات العربية في المرحلة ما بعد الناصرية، دار الحصاد – دمشق 1997، ط2، ص 5. 9 - ياسين الحافظ: الهزيمة والأيديولوجيا ...، المرجع السابق، ص 264.
#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
محددات المصالحة التاريخية بين العلمانيين والإسلاميين في سوري
...
-
تحديات التغيير في سورية الجديدة
-
أهمية اللامركزية الإدارية الموسّعة لسوريا الجديدة
-
مخاطر تفكك الدول الهشة متعددة المكونات /*/
-
كيفية معالجة الحقوق القومية والطائفية في سوريا الجديدة؟
-
الحياة السياسية المنتظرة في سورية الجديدة
-
التحديات البنيوية للحكومة الانتقالية في سوريا
-
حول الإسلام والحداثة في التجربة التركية (3 - 3)
-
محدودية مخرجات مؤتمر بروكسل للمانحين
-
حول الإسلام والحداثة في التجربة التركية : 2 - 3
-
حول الإسلام والحداثة في التجربة التركية ( 1 - 3)
-
مقوّمات السلم الأهلي والعيش المشترك بين المكوّنات السورية
-
نحو عدالة انتقالية ليست انتقامية
-
الدولة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (3 - 3)
-
الدولة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (2 - 3)
-
الدولة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر (1 - 3)
-
أهمية الحياة السياسية لضمان الحريات في سورية
-
هل بدأ الانفتاح المصري على القيادة السورية الجديدة؟
-
مرتكزات انتقال الدولة السورية الجديدة إلى دولة تنموية (2 - 2
...
-
الأبعاد الاستراتيجية لزيارة الرئيس الشرع إلى السعودية
المزيد.....
-
دخل منطقة محظورة.. سائق توصيل طلبات ينتهي به المطاف على مدرج
...
-
-تصميم- فرنسي على الاعتراف بدولة فلسطينية... وشكوى ضدّ إسرائ
...
-
الشركات الأمريكية تتمسك بالصين رغم الرسوم الجمركية المرتفعة
...
-
بنعبد الله يستقبل وفدا عن عن الجمعية المغربية لحماية المال ا
...
-
مودي يفتتح أعلى جسر سكة حديد في العالم يربط كشمير بباقي الأر
...
-
لحظة رعب في السماء.. طفلان ينجوان بأعجوبة من قلعة مطاطية طائ
...
-
ترامب: وفد أمريكي يجري في لندن يوم 9 يونيو مفاوضات تجارية مع
...
-
-إنجاز طبي في مكة-.. استخدام روبوت في عملية جراحية دقيقة بال
...
-
رغم شهداء المساعدات.. واشنطن تدعو العالم لدعم -مؤسسة غزة الإ
...
-
الى الامام العدد 248
المزيد.....
-
الازدواجية والإغتراب الذاتي أزمة الهوية السياسية عند المهاجر
...
/ عبدو اللهبي
-
في فوضى العالم، ما اليقينيات، وما الشكوك
/ عبد الرحمان النوضة
-
الشباب في سوريا.. حين تنعدم الحلول
/ رسلان جادالله عامر
-
أرض النفاق الكتاب الثاني من ثلاثية ورقات من دفاتر ناظم العرب
...
/ بشير الحامدي
-
الحرب الأهليةحرب على الدولة
/ محمد علي مقلد
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
المزيد.....
|