عبدالله تركماني
الحوار المتمدن-العدد: 8345 - 2025 / 5 / 17 - 16:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لأسباب تاريخية وسياسية وجغرافية عديدة، أصبحت سوريا موطناً لعدد كبير من المكوّنات القومية والطائفية والمذهبية. وقد كشفت السنوات الأربع عشرة للثورة حالة من التفكك والانغلاق على الهويات الفرعية ما قبل الوطنية، فبقي الشعور الوطني السوري الجامع ضعيفاً. وبعد التغيير في 8 كانون الأول/ديسمبر يجري الحديث، لدى بعض هذه المكوّنات، عن رغبتها في نظام فدرالي، متجاوزة العوامل الموضوعية للعوائق التي أبرزها التداخلات السكانية، من حيث توزع الانتماءات القومية والدينية والطائفية على غالبية المحافظات السورية، وكذلك الروابط والمشتركات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتداخلة للسوريين.
ولكن، في ظلّ صراع الهُويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة التي عصفت بسوريا خلال سنوات الثورة، أصبح السوريون في حاجة ملحّة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الجامعة. وبطبيعة الحال ليس المدخل إلى ذلك مشروع الفدرالية، التي يمكن أن يؤدي إلى تقسيم سياسي يؤسس لكيانات جديدة. ولكن قد يكون خيار اللامركزية الإدارية الموسّعة على أساس جغرافي وليس قومياً متاحاً، في حال حصل التوافق بين السوريين، خلافاً لخيار التقسيم الذي تقف دونه كثير من العوامل السياسية والميدانية والجغرافية والاقتصادية.
إنّ الأمر يتطلب بلورة عقد وطني جديد، من خلال انخراط جميع المكوّنات في عملية صياغة هذا العقد، مع توفير الضمانات لإنجاحه وتثبيت نتائجه وحماية هذه النتائج. مما يستوجب الانخراط في إنتاج نظرة سورية راهنة إلى سائر القضايا السورية، وما يعنيه هذا من ضرورة الانتقال إلى الحوار الوطني الشامل، الهادف إلى بناء دولة الحق والقانون، دولة كل مواطنيها المتساوون في الحقوق والواجبات. وهكذا، يخطئ من يعتقد بأنّ الرفض والإدانة للفدرالية والعودة للتهديد بأساليب القهر والقسر يمكنها حماية وحدة البلاد، فالطريق المجربة للحفاظ على اللحمة الوطنية هي حين تنظم حياة السوريين قوانين لا تميّز بينهم ويتلمسون بأنهم بشر متساوون في الحقوق والواجبات، طريق لا يمكن أن تنهض إلا بنقد الماضي المكتظ بكل أنواع الظلم والاضطهاد، والاعتراف بأنّ النظام المركزي بنسخته الشمولية ذهب إلى غير رجعة. ما يعني ضرورة إعادة النظر بأفكارنا القديمة، وبشعاراتنا عن التعايش والتعددية، استناداً إلى أنّ وحدة الوطن ومعالجة تنوعه القومي والديني، لا يمكنهما أن تتحققا بصيغة عادلة إلا على قاعدة دولة المواطنة المتساوية.
إنّ الخيار ليس بين المركزية الطاغية، أو التقسيم، أو الفدراليات الطائفية والقومية، بل هو بين هذا كله وبين نظام ديمقراطي حقيقي، تُضمَن فيه صلاحيات الحكومة المركزية، في المجالات الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة وإدارة الموارد الاقتصادية الرئيسية، حكومة قادرة على حل القضايا المعلقة والشائكة. إنه أيضاً النظام الذي يضمن، في الوقت نفسه، أوسع الصلاحيات للمحافظات والمناطق والنواحي والبلدات.
إنّ الخيار ليس بين المركزية الطاغية، أو التقسيم، أو الفدراليات الطائفية والقومية، بل هو بين هذا كله وبين نظام ديمقراطي حقيقي، تُضمَن فيه صلاحيات الحكومة المركزية، في المجالات الكبرى كالخارجية والدفاع والعملة وإدارة الموارد الاقتصادية الرئيسية، حكومة قادرة على حل القضايا المعلقة والشائكة. إنه أيضاً النظام الذي يضمن، في الوقت نفسه، أوسع الصلاحيات للمحافظات والمناطق والنواحي والبلدات.
وفي الواقع، تتطلب العقلانية التعامل مع الجدل السوري الجاري بشأن حدود النظام اللامركزي من زاويتين مهمتين: أولاهما، على أنه يقدم الحل لمشكلة مزمنة هي مشكلة المكوّنات القومية والدينية ضمن الدولة السورية الواحدة. وثانيتهما، أنه يقدم الحل لإشكالية الحكم في دولة يصعب قيادتها مركزياً. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: إذا كان نظام اللامركزية الإدارية الموسّعة الجغرافية يقدم الحل لهاتين المشكلتين المزمنتين سورياً فألا يستحق من الجميع التوقف عنده وإعطاء الفرصة له بعيداً عن الشعارات الجاهزة والتي تساويه بالتقسيم والخيانة؟
مع العلم أنّ هناك اتفاقاً عاماً، بين علماء السياسة، على أنه لا يمكن الاعتراف بأنّ نظاماً سياسياً عادلاً إذا لم يتوفر فيه شكل من أشكال الحكم المحلي، باعتباره مدرسة لتعلّم الديمقراطية، بما يؤهل الفرد لممارسة السياسة على المستوى الوطني. ذلك أنّ العمل المحلي يحتاج إلى قدر كبير من المشاركة، سواء في انتخاب أعضاء المجالس المحلية أو المساهمة في المشاريع التنموية، التي يتم إنشاؤها داخل الوحدة المحلية، أو الرقابة على الأعضاء ومحاسبتهم على أدائهم ومطالبتهم بتقديم كشف حساب إلى هيئة يكوّنها الناخبون، تناقشهم في الأعمال المزمع القيام بها وتراجعهم في أوجه القصور، وتساعدهم على تلافيها، وقيمة المشاركة تتطلب وجود قدر مرتفع من قيمة الحرية. والحرية والمشاركة يضمنان قدرًا من العدالة في توزيع الموارد والأعباء المحلية، ويحفظان للمواطنين حقهم في المساواة أمام المجالس والنظم المحلية.
وإذا كان النظام المحلي له هذا الدور الهام في تحقيق الوحدة الوطنية الطوعية، فإنّ القيم السياسية الحديثة هي بيت القصيد في هذه العملية، فالمشاركة السياسية تقوّي الوحدة الوطنية السورية، والمشاركة عن طريق اللامركزية تسمح للولاءات الفرعية بأن تعبّر عن نفسها من دون كبت، ما يؤدي إلى التخفيف من وطأتها فلا تصبح معضلة في سبيل تحقيق الوحدة الوطنية. وهنا لا بدّ من التنويه إلى أن اللامركزية الإدارية، من حيث المبدأ، هي أحد الأشكال المضافة إلى مفهوم الدولة، وقد جاءت تلبية للحاجات التي يقتضيها تطور المجتمعات البشرية، في تاريخها الحديث والمعاصر، وبهذا المعنى، هي معطى حداثي بامتياز.
وهكذا، بإعادة رسم الخريطة الإدارية السورية نستطيع أن نتحاشى اشتراط بعضهم لنصوص دستورية أو قانونية تشكل ألغاماً يمكنها أن تنفجر بأي لحظة، وأن نتجنب تحكّم ظلال الماضي بمستقبل سوريا. فعندما تضمن المكوّنات المتنوعة تمثيلها في مناطقها، فإنها ستقوم من خلال الممارسة الديمقراطية بانتخاب ممثلين لها وفقاً لأسس المصلحة العامة والكفاءة والفاعلية والمردودية، وهذا هو مفهوم النظام الديمقراطي الذي تقوم عليه الدول.
وهكذا، يتحدد فهمنا للامركزية الإدارية الموسّعة على الأسس التالية:
- قيامها على وحدة سوريا وطناً لكل السوريين، من خلال تنظيم الإدارة المحلية، وتنظيم تقاسم الموارد، لمنع تسلّط المركز، واستحواذه على معظم موارد البلد، وضمان توسيع المشاركة في الحكم وصياغة القرارات المصيرية.
- لا تعني قيام كل محافظة بإقامة علاقات خارجية أو تشكيل جيش أو عملة أو علم خاصين بها، وإنما تعني إدارة شؤونها في قضايا التعليم والصحة والخدمات والأمن الداخلي، أما الشؤون السيادية، وضمنها الخارجية والدفاع وإدارة الاقتصاد، فتبقى في يد السلطة المركزية.
- تقوم على أساس جغرافي، وليس على أساس قومي أو طائفي، لأنّ ذلك يتناقض مع دولة المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات.
- لا يتم تعريف المواطن بقوميته أو دينه أو مذهبه، فالمكانة الحقوقية متساوية لكل المواطنين.
وبذلك يتوفر التنوّع في الممارسة الإدارية بين الوحدات المحلية، وهو ما قد يقدم نماذج أكثر فاعلية لخدمة المواطنين، ويترك لهذه الوحدات الفرصة لتحديد الأنسب لبيئتها المحلية في مجال الخدمات والضرائب والإطار العام للحياة، مع مراعاة خصوصيات السكان في كل منطقة.
فإذا كان للامركزية الإدارية أن تكون صيغة مناسبة لاتحاد سوري، يطوي صفحة التصورات القومية والمركزية لسوريا، يقتضي الأمر أن تكون النخب السياسية جادة في شأنها، وأن تقوم على تفاهم سياسي عريض، وتُراعى مقتضيات قيامها من استشارة السكان وتوفير تمثيل فعّال لهم، ومن توفير بيئة أكثر ملاءمة للاتحاد في البلد ككل، وفي المحافظات والمناطق والنواحي والبلدات.
#عبدالله_تركماني (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟