أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - سعيد العليمى - اشتراكيون ديموقراطيون ام ماركسيون















المزيد.....



اشتراكيون ديموقراطيون ام ماركسيون


سعيد العليمى

الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 02:11
المحور: القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
    


ماركسيون أم اشتراكيون ديموقراطيون
ا - بير بوروخوف
هناك نزعة لها تنويعات متعددة ستعرض هنا من زاوية توافقها جميعا على بعض التصورات والمفاهيم مبينا أثر بعضها على نظرات د . جيرفازيو بدون الدخول فى جدال تفصيلى معها ، وهى تمتد من بير بوروخوف الروسي (الصهيوني الماركسى !) (1881 – 1917) مرورًا بتوني كليف (1917 – 2000) وهنري كورييل (1914 – 1978) وصولًا إلى جويل بينين (أستاذ التاريخ في جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة)، ويوسي أميتاي (مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة 1997 – 2001)، وقد غشت هذه النزعة التى هيمنت فيما يبدو تصورات ومفاهيم د. جينارو جيرفازيو سواء في أطروحة الدكتوراة، أو في الفصل الثامن من اليسار العربي المشار إليهما عاليه. وهذه النزعة تهيمن عمومًا في أوساط اليسار الأوروبي وخاصة الفرنسى – الإيطالى الخاضع لمؤثرات تاريخية قروسطية ، ولفظائع النازية ، والدعاية الصهيونية وهي تكرس ضمنيًا أو ظاهريًا "قومية يهودية" لها "حق تقرير المصير" في أرض فلسطين العربية، بوصفها "الوطن القومي" وتدعو إلى "تآخى الكادحين الأممي" من اليهود والعرب في مواجهة الحكومات الرجعية العربية والإمبريالية البريطانية في مرحلة الأربعينات، وبعدها في الستينات والسبعينات وماتلاها اعتبروا النضال ضد البورجوازيات العربية هو النضال الطبقي الحقيقي، والتخلي عن الصراع القومي أو الوطني ضد دولة الاستيطان الصهيوني صراعًا "غير طبقي" أو "غير اجتماعي" و"شوفيني" وقد أدى ذلك إلى "فقدان الهوية" للماركسيين المصريين حتى الآن (والعياذ بالله!) كما رأى ذلك باحثنا الإيطالي د. جيرفازيو، ومن ثم لم يكن ذلك سوى دعوة للعدمية القومية من ناحية، وتهوينًا من شأن التطورات الخطيرة التي أحاطت بشعوب الدول العربية وخاصة طبقاتها الكادحة من ناحية أخرى، وشمل ذلك بالطبع القومية العربية، والوحدة العربية، ومن المنطقي أن ينتهي ذلك ضمنيا بطلب الاعتراف الصريح أو المستتر بدولة الاحتلال الصهيوني، وبحدودها الآمنة وإقامة العلاقات الاقتصادية والسياسية معها ... باختصار إقامة علاقات طبيعية معها بوصفها دولة عادية من دول "الشرق الأوسط" وما يترتب على ذلك من تصفية القضية الفلسطينية، والاندماج الكامل في عالم الغرب الرأسمالي الإمبريالي المعولم بديلًا عن الشعار الذي رفعه الماركسيون المصريون الراديكاليون آنذاك وهو إقامة جمهورية ديموقراطية علمانية على كامل التراب الفلسطيني تضم العرب واليهود في دولة مواطنة هي النقيض لدولة الاحتلال الصهيوني، والتي لا يمكن أن تقوم إلا على أنقاضها بعد الإطاحة الثورية بها.
وربما كان داف بير بوروخوف الذي ولد في زالاتونشا بأوكرانيا في ظل الإمبراطورية الروسية هو أول "ماركسي صهيوني" حاول أن يقدم مفهومًا "ماركسيًا" عن القومية اليهودية حيث عرضه في كتابه المسألة القومية والصراع الطبقي في 1905، وقد كان بوروخوف من مؤسسي اتحاد العمال الاشتراكي الصهيوني، وقد تسبب ذلك في طرده من حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي الذي كان عضوًا فيه ... وقد قام ميتشيل أبيدور بعرض موجز لأفكاره "الماركسية الصهيونية الاشتراكية" فلم تكن الدولة التي تخيلها دولة قومية فقط، وإنما ذات أساس طبقي وفق تعبيره، ومن ثم تختلف عن "الصهيونية البورجوازية"، كما رأى أن اليهود لا يمكن أن يتحرروا إلا من خلال الاشتراكية. ولكن لا ينبغي على اليهود أن ينتظروا حتى يكنس الاشتراكيون الرأسمالية من العالم وإنما عليهم أن يبنوا اشتراكية يهودية تخصهم في مجتمع يخصهم، خالٍ من القمع ومعاداة السامية. وسيكون تأسيس هذه الاشتراكية اليهودية ثمرة صراع طبقي يخوضه العمال اليهود ضد البورجوازية اليهودية، ومجتمع كهذا لا يمكن تأسيسه في الشتات. وعلى ذلك لابد أن تكون هناك أمة يهودية حيث يمكن أن تتطور بروليتاريا يهودية جنبًا إلى جنب بورجوازية يهودية، وسوف يؤدي ذلك إلى إحتدام الصراع الطبقي بينهما الذي سينتهي إلى الاشتراكية بشكل حتمي. أما الأرض التي سيقام عليها هذا المجتمع الاشتراكي اليهودي فلن تكون غير أرض فلسطين. وبالنسبة للصهيونية البروليتارية فهذا خطوة نحو الاشتراكية. وهي اشتراكية لن تستبعد العرب المقيمين في فلسطين مادامت هناك مصالح طبقية مشتركة( ).
وقد تصدى إبراهام ليون القائد الماركسي (اليهودي) البلجيكي عام 1942 في كتابه المفهوم المادي للمسألة اليهودية لنظرية بوروخوف واعتبرها "مادية ماورائية" ودعا للإنهزامية الثورية، واستلهم من دراسة ماركس حول المسألة اليهودية نظرية "الشعب - الطبقة" بتركيزه على الدور الاقتصادي الذي قام به اليهود عبر التاريخ. وقد عرى طابع المثال الأعلى الصهيوني البورجوازي الصغير، ورأى أنه كان محكومًا بسبب الوضع الإمبريالي إلى أن يكون أداة بيد الرأسمالية العالمية. وفضح الصهيونية ككابح للنشاط الثوري لدى العمال اليهود في العالم وكعائق لتحرر فلسطين من الإمبريالية الإنجليزية، وعقبة على طريق الوحدة الكاملة بين اليهود والعمال العرب في تلك البلاد .
وكان لينين قبلها قد اتخذ موقفًا حازمًا من الصهيونية التي اعتبرها رجعية كليًا، ليس فقط عندما دعا لها دعاتها "الصرحاء"، ولكن كذلك حين عبر عنها هؤلاء الذين حاولوا أن يخلطوها بأفكار الاشتراكية الديموقراطية مثل البوند. وكان يرى أن فكرة القومية اليهودية ضد مصالح البروليتاريا اليهودية، لأنها تروج في صفوفها، مباشرة أو بشكل غير مباشر روحًا معادية للتمثل والإنصهار ، إنها روح الجيتو أى الخصوصية والإنعزال .
وقد تجلى الموقف اللينينى بداية عام 1903 عند تأسيس حزب العمال الإشتراكى الديموقراطى الروسى حين أصر البوند ( الحزب القومى للبروليتاريا اليهودية ) الذى كان قد تأسس على أساس دينى أو ( قومى ) يهودى قبل ذلك بسنوات على مبدأ الإتحادية والإنفصالية فى التنظيم الحزبى ورفضه لمبدأ المركزية اللينينى، وتبنيه لفكرة الإستقلال الذاتى الثقافى القومى ضد فكرة حق تقرير المصير ، وتبنى فكرة وجود أمة يهودية وهى أساس المطالبة بمبدأ الإتحادية القومية . وإنحصرت مناظرة لينين مع البونديين فقط فى الأسباب التنظيمية المذكورة أعلاه مع وجود الحزب الصهيونى الإشتراكى ، والحزب العمالى الإشتراكى اليهودى .
ب - توني كليف
أما توني كليف (1917 – 2000) المولود في فلسطين والذي نشأ صهيونيًا في بيئة صهيونية عريقة محاطًا في طفولته بمؤسسي الكيان العنصري – الاستيطاني أمثال بن جوريون وغيره من "الرواد"، والذي تحول فيما بعد إلى الماركسية ثم هاجر إلى بريطانيا، وأسس حزب العمال الاشتراكي البريطاني ، وهو ممن يتبنون فكرة وجود "قومية يهودية" فقد كتب في مقال استفزاز بريطاني جديد في فلسطين عام 1946: "لقد حاولت الإمبريالية البريطانية أن توجه سخط الجماهير العربية بلا انقطاع ضد سكان البلاد اليهود. ولهذا السبب فقد دعمت سياسة التوسع الصهيوني، وهي سياسة تمخضت عن طرد الحائزين العرب من الأرض، وتسريح العمال العرب من وظائفهم، وتقوية الحصن الصهيوني المصمم على تأسيس دولة يهودية في فلسطين. والدعم الإمبريالي للصهيونية محسوب على أساس أن يحقق هدفين: الأول، هو أن يؤسس قوة تدعمه مباشرة، التي سوف تؤلف حليفًا مخلصًا ضد العرب في حال حدوث أي انتفاضة مناهضة للإمبريالية لعرب الشرق الأوسط، والآخر لجعل الصهيونية تخدم كوسيلة لتحويل سخط الجماهير العربية إلى موضوع جانبي وهو الصدام مع اليهود (الاستعمار الاستيطاني موضوع جانبي - مسألة محلية عند د. جيرفازيو - لا ينبغي إعارته اهتمامًا بخلاف الوجود الإمبريالي البريطاني س.ع.) ... بمعنى آخر هناك بين السيد الإمبريالي وخادمه الصهيوني مصالح مشتركة ومتعادية. تريد الصهيونية تأسيس دولة رأسمالية قوية"( ). والإمبريالية البريطانية هي التي تستهدف "إثارة الصدامات بين العرب واليهود"، بما يتضمنه ذلك من "بذر الكراهية المجتمعية" و"التناحرات القومية"، حيث يكون الضحايا بالفعل هم "الجماهير العربية واليهودية" ويتضافر مع البريطانيين "القيادة العربية الإقطاعية شبه البورجوازية" و"القوى الشوفينية الكهنوتية". واعتبر انتفاضة الجماهير العربية ضد البريطانيين والصهاينة فى فلسطين "مذبحة ضد اليهود"، وانتقد المظاهرة الوطنية التي نظمت في 2 نوفمبر 1945 في مصر ضد وعد بلفور ورأى فيها فاشية قادمة وبدلًا من رؤية كراهية الجماهير العربية الموجهة ضد الصهيونية بوصفها شكلًا لمقاومة الإمبريالية، إعتبرها شوفينية أسئ توجيهها تلاعب بها الإمبرياليون (وهو بالمناسبة ذات موقف كورييل وحلقته المصرية وبصفة أخص تلميذه النجيب رفعت السعيد؛ كما سيأتي بيانه في موضعه) التي احتضن فيها الشعب المصري القضية الفلسطينية لأن بعض أنصار جماعة الإخوان المسلمين، وحزب مصر الفتاة قد هتفوا ضد اليهود (الصهاينة) كما انتقد بعض الشيوعيين العرب ممن تبنوا ذات الموقف حيث "تجلت عادة الستالينيين بالانجرار خلف "القوميين" في أقبح صورها خلال الأيام الماضية" وفق تعبيره. وزعم أن هناك أساسًا متينًا "للوحدة بين الكادحين الفلسطينيين دفاعًا عن مصالحهم الحيوية"( ) لذا أيد الهجرة اليهودية بوصفها عاملًا أساسيًا في تسريع التطور الرأسمالي ونمو طبقة عاملة يهودية تمثل قوة جادة مناهضة للإمبريالية. ولا يرى توني كليف مشكلة سوى في الاستفزازات الإمبريالية التي تتسبب في "معاناة كبرى للجماهير العربية واليهودية معًا" لذا لابد من "صراع من أجل الوحدة الشاملة للاتحادات النقابية في بلدان الشرق العربي بغض النظر عن الاختلافات القومية والطائفية ... يجب اقتلاع الإمبريالية، وهي مصدر الاستفزازات الطائفية، ويخاض الصراع لتحرير الشرق، بحيث تنال كل الأقليات - اليهودية، الكردية، الخ - استقلالًا ذاتيًا واسعًا في الأقاليم التي يقطنونها، ضمن الإطار الشامل لجمهورية عمال وفلاحين في المشرق العربي"( ).
وفي مقالة عنوانها الصراع في الشرق الأوسط (1967 – 1990) يكتب "إن التراجيديا الإنسانية هي التي أتت باليهود إلى فلسطين" ويستعرض اضطهادهم في أوروبا، ويشير إلى أنه في فلسطين لم يكن بمستطاع العامل اليهودي أن ينافس العامل أو الفلاح العربي لأنه كان يبيع قوة عمله أو منتجه بسعر زهيد، لذا ينوه إلى أنه لم تكن هناك طريقة غير حجب العمل عنه، أو منعه من بيع منتجاته في السوق، وإلى أنه ما من حزب صهيوني، حتى الأكثر تطرفًا ناحية "اليسار" في هاشومير هاتزائير، المابام وقتها، قد عارض مقاطعة العمال والفلاحين العرب. والمقاطعة مباطنة للصهيونية وكامنة فيها، بدونها لم يكن من الممكن أن يبقى عامل أو فلاح أوروبي على قيد الحياة اقتصاديًا.
ويتساءل: "هل شعب إسرائيل يمثل أمة استعمارية؟" ويجيب: الاقتصاد الإسرائيلي ليس اقتصادًا متخلفًا يعاني من استغلال الإمبريالية الغربية، ويرصد مصادر تمويله في التعويضات الألمانية، والمساعدات الاقتصادية من الولايات المتحدة الأمريكية، ومن دعم يهود أمريكا وبلدان غيرها. ويذكر أن إسرائيل تعادي أي إصلاح زراعي جذري وخاصة بعد أن تخلصت من الفلاح العربي أصلًا. ويطرح سؤالًا مهمًا في موضوعنا: هل يهم إسرائيل أن تتوحد البلدان العربية في دولة واحدة ؟ ويجيب: بالطبع لا. إسرائيل ليست دولة مقهورة من الإمبريالية، وإنما مستعمرة، حصن استيطان، منصة إطلاق للإمبريالية. ثم يتحدث مرة أخرى عن "تراجيديا" ذات الشعب الذي تعرض للاضطهاد والمذابح بطريقة وحشية كيف يتم دفعه بحماسة شوفينية وعسكرية إلى أن يكون الأداة العمياء للإمبريالية لإخضاع الجماهير العربية.
وإذ يرى توني كليف الوضع من منظور أقدار "تراجيديات المسرح الإغريقي" مثله مثل الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر( 21 يونيو 1905 – 15 أبريل 1980 ) فى تأملاته فى المسألة اليهودية عام 1944 يفصل بين البشر ونظامهم الاجتماعي بوصفه قوة قدرية عاتية، بين عقيدتهم الصهيونية المسيطرة وأفعالهم ومواقفهم، ولا يخطر بباله مجرد خاطر ما ورد في التراث الماركسي عن "الشعوب الرجعية" أو حتى الطبقة العاملة الرجعية حين تتبنى الصهيونية وتصبح مرتشية بواقع الإحتلال ، والموقف منها. فيقول: "بنفس الطريقة التي يلام بها النظام الاجتماعي القائم على مصائب اليهود، فهو يلام أيضًا على استغلال كوارثهم لأهداف قمعية ورجعية. فالصهيونية لم تنقذ اليهود من معاناتهم. على النقيض فهي تعرضهم لخطر جديد وهو أن يكونوا حاجزًا بين الإمبريالية والنضال التحرري القومي والاجتماعي للجماهير العربية". ورغم أن السكان اليهود منقسمون طبقيًا إلا أن العمال اليهود لن ينضموا للعرب في نضالهم ضد الإمبريالية، ربما باستثناء حفنة ضئيلة، ويلوم العمال العرب على عدم قدرتهم على إقناع العمال اليهود بضرورة التضامن البروليتاري. وهو ذات موقف هنري كورييل، ويؤكد بالنسبة للعرب على ضرورة الضفر بين الثورة القومية والثورة الاجتماعية، وينتقد محقًا الأحزاب الشيوعية العربية التقليدية التي اتبعت خط "الوحدة الوطنية" مع البورجوازية فاصلة النضال ضد الإمبريالية عن النضال من أجل التحرر الاجتماعي.
وينتهي في مقاله بطرح يراه الحل الوحيد الممكن لاحتياجات الشرق الأوسط وهو إنجاز ثورة عمالية – فلاحية تهدف لإقامة جمهورية اشتراكية، تمنح اليهود والأكراد والأقليات القومية عامة حقوقًا متساوية( ).
وفي مقال آخر كان قد كتبه عقب الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982 تحت عنوان جذور العنف الإسرائيلي حاول تقديم تفسير للمجازر التي ارتكبت ضد اللبنانيين والفلسطينيين، ووجد جذور هذا العنف في البدايات الأولى الصغيرة، حين كان موجودًا في فلسطين، فالسبب هو أن "الصهيونية، والنزعة الانفصالية اليهودية، والإيمان بوطن قومي لليهود، قد تطورت إلى أن أصبحت عنف دولة". لكن "الصهيونية لم يكن لها ذات الوجه القبيح الذي باتت عليه اليوم" وكأن تاريخها لم يكن سوى تاريخ مجازر متصلة منذ البدايات الأولى ضد الشعب الفلسطيني خاصة، ثم يعيد علينا رواية "تراجيديا" الاضطهاد في روسيا القيصرية، والأوضاع الانفصالية التي وسمت واقعهم وحبذوها. ثم يضيف "إن منطق الصهيونية هو، الانفصال عن السكان غير اليهود (الأغيار) سواء في روسيا أو بولندا أو فلسطين، وقد أدى ذلك إلى اعتمادها على الإمبريالية". وفي ألمانيا النازية حين هزمت الطبقة العاملة "وإذ لم يكن بمستطاع اليهود أن يثقوا في الألمان فقد كان من الطبيعي بالنسبة لهم أن يروا الدولة اليهودية بوصفها الإجابة الوحيدة" (لا أن يناضلوا بشكل مشترك مع الألمان المعادين للنازية ضد صعود هتلر ، وبعد صعوده إلى السلطة مثلا– س.ع.).
ورغم الراديكالية اللفظية أحيانًا إلا أن نمط القول يتخذ لدى توني كليف شكل اللغة الوصفية، المحايدة، "الموضوعية" - مثل حكام المباريات - التي تبرر ما هو قائم وتفسره دون بيان موقف إزاءه، وعدم التطرق لمواقفه القديمة ونقدها كما عبر عنها في مقال استفزاز بريطاني المشار إليه أعلاه. وينتهي إلى أن الطبقة العاملة العربية في الشرق الأوسط هي القوة الوحيدة التي تستطيع إيقاف الصهيونية وتحطيم الإمبريالية لأن الدول القائمة حاليًا لن تفعل ذلك وضمنيًا كما يفهم من السياق، فالطبقة العاملة اليهودية عنده ليست مدعوة لشيء!( ). رغم أنها لن تتحرر إلا إذا وقفت ضد دولتها بالذات فى كل مايخص الشأن الفلسطينى .
ج - يوسي شوارتز ونقده الصريح للأممية الرابعة والضمني لغيرهم
وقد وجه يوسي شوارتز عضو التيار الشيوعي الأممي، والإسرائيلي –اليهودي – الماركسي – الترتسكوي، نقدًا شديدًا لـلأممية الرابعة ولعدد من المفكرين التروتسكيين منهم هال درابر، وتوني كليف في مقال له بعنوان حرب إسرائيل عام 1948 وانحلال الأممية الرابعة (وهو نقد ينطبق أيضًا على هنري كورييل وحلقته وتلامذته المصريين والأجانب ومنهم بالطبع جويل بينين ويوسي أميتاي وتابعيهم ومن سار على نهجهم، ويتكامل مع النقد الذي وجهه المفكر الماركسي إبراهيم فتحي في كتابه المعروف عن هنرى كورييل). ويعتبر سيرًا على نهج المفهوم المادي للمسألة اليهودية لإبراهام ليون، وكذلك لكراس الطبيعة الطبقية للمجتمع الإسرائيلي لحاييم حانجبي وموشى ماشوفر وآكيفا أور.
يحاول يوسي شوارتز في مقاله الهام (وهو فصل من كتاب) أن يحدد الموقف الماركسي من دولة الاستعمار الاستيطاني إسرائيل، ظهورها وحروبها الرجعية، وينتقد الأممية الرابعة في موقفها من الصهيونية ومن النضال التحرري القومي الفلسطيني، ويعتبر أن القوى التروتسكية الصغيرة بقيادة تونى كليف لم تفهم أبدًا المسألة القومية في فلسطين، وكان يتعين عليها أن تتخذ موقفًا انهزاميًا ثوريًا ضد إسرائيل عام 1948، وموقفًا دفاعيًا ثوريًا مع البلدان العربية. كما ينتقد من أسماهم الستالينين الذين توهموا أن إسرائيل ستشكل مجتمعًا تقدميًا ديموقراطيًا داخل المحيط العربي الرجعي، وأنها حاربت حربًا ثورية ضد الإمبريالية بينما الحاصل النهائي الذي تمخض عنها هو تعزيز الأخيرة وركائزها في كامل المنطقة.
ويعتبر أن إسرائيل باتت دولة إمبريالية في سيرورتها وإن لم تكن كذلك في بدايتها، وهي لم تمر بثورة ديموقراطية، ولا يمكن لها أن تمنح الفلسطينيين حقوقًا متساوية لأنها بذلك لن تصبح دولة ذات أغلبية يهودية فتفقد شرعية الوجود ويتعرض جهاز دولتها للخطر، وينوه إلى أنه يكفي أن تقرأ المقالات، واليوميات، وأحاديث القادة الصهاينة، لتدرك أن الهدف الصهيوني من حرب 1948 كان تحطيم وإجبار الفلسطينيين على ترك وطنهم. ويظهر أيضًا أن الصهاينة قد صيغوا على شاكلة أفريكان جنوب أفريقيا.
وشوارتز يدين مواقف الأممية الرابعة كما يدين من أسماهم الستالينيين لأنهم لم يتناولوا حرب 1948 من منظور الطبقة العاملة العالمية وأيدوا "حق تقرير المصير لليهود" في واقع جديد زعموا أنه تطورت فيه "أمة يهودية".
"من المستحيل في العالم الحقيقي أن تؤيد حق تقرير المصير للإسرائيليين والفلسطينيين معًا. وعلينا أن نختار جانبًا إما المستوطِنون المستعمِرون أو الفلسطينيون المستعمَرون والمضطهَدون. أن تؤيد حق تقرير المصير يعني أن تؤيد الحق في إقامة دولة. والدولة الصهيونية إن أقيمت حتى على أقسام من فلسطين لن تتحقق إلا بسرقة أراضي الفلسطينيين. ليس هذا فحسب بل وعنت أي دولة صهيونية ذات أغلبية يهودية طرد الفلسطينيين. وهو لا يري أن لليهود الحق في أن ينالوا دولة على حساب الحقوق القومية للشعب الفلسطيني "هذا ليس حق تقرير المصير، وإنما غزو لإقليم شعب آخر"؛ حسب تعبيره( ).
ويجادل هال درابر: "من أين تستمد المبدأ المطلق الرفيع لحق تقرير المصير لكل الأمم ؟ هل يمكن أن تجده عند ماركس؟ بالقطع لا. لقد سجل ماركس موقفه بمعارضة مطلب حق تقرير المصير لملاك العبيد في الجنوب خلال الحرب الأهلية الأمريكية. ورفض ماركس وإنجلز في عام 1848 أن يؤيدا حق تقرير المصير للسلاف الجنوبيين لأنه كان سيخدم مصالح القيصر الروسي، وقد كان مع الإمبريالية البريطانية يمثل عماد الرجعية. هل أخذته من لينين؟ بالقطع لا. كان لينين مع سحق استقلال بولندا في ظل هيمنة القوميين من الجناح اليميني الذين شاركوا فى الهجوم الإمبريالي على الثورة الروسية عام 1920. لا يدافع الماركسيون عن حق تقرير المصير للإمبرياليين الذين يضطهدون الأمم وإنما عن الأمم المضطهدة فقط .." إذا ما أزلنا الهراء عن المبدأ النبيل ونظرنا لكل مسألة من منظور أي سياسة هي التي تدفع قدمًا مصالح الطبقة العاملة فلابد أن نستخلص أن الموقف الصائب في حرب 1948 كان هو الانهزامية الثورية لإسرائيل والدفاع الثوري للدول العربية. "تأييدهم في المواجهة العسكرية بدون تأييد سياسي لأننا لا نستطيع أن نثق فيهم بشأن قيادة الصراع ضد الإمبريالية وضد الصهاينة" كان هذا سيكون الشعار الصائب "الطبقة العاملة فقط هي التي يمكن أن تكون موضع ثقة في تنفيذ تلك المهمة"( ).
ويرد جابرييل باير من العصبة الشيوعية الثورية والأممية الرابعة على هال درابر أيضًا: "... من الوهم الظن (1) أن الإمبريالية قد هزمت بخلق دولة مستقلة جديدة في صراع مناهض للإمبريالية أو (2) أن وجود دولة يهودية له تأثير تقدمي على الطبقة العاملة والحركة العمالية في البلدان العربية في الشرق الأوسط، و(3) أنه من المهم أن نوضح لكل اشتراكي في العالم أنه لم يكن من الممكن تأسيس دولة إسرائيل بدون دعم الإمبريالية الأنجلو-أمريكية. ويكتب لولا أن وفد الولايات المتحدة للأمم المتحدة أثر في / ورشا عددًا معينًا من وفود الدول الصغيرة، هاييتي، الفلبين وبلدانًا أخرى، ولو لم تسمح الولايات المتحدة لإسرائيل بالمال والعتاد وهو ما مكنها من أن تدفع مقابل الأسلحة التشيكية بالدولار، ولو لم تعترف بالدولة الجديدة خلال بضع ساعات من إنشاءها، ولو لم يتسامح الجيش البريطاني وفتح الطريق إلى القدس بالغزو وإخلاء القرى العربية على طول هذا الطريق (في 2 مارس 1948 التحقت القوات البريطانية بقوات الهاجاناه لاقتحام حاجز عربي عند باب الوادي، وفشلت في بواكير شهر أبريل في أن تتدخل حينما بدأت الأعمال العسكرية على طول الطريق، وبعد ذلك في 6 أبريل أتى البريطانيون ببعض قطارات للتموين داخل المدينة، الخ) لو لم يأتِ الجيش البريطاني لإنقاذ المستوطنات اليهودية: دان وكفار زولد في الجليل الأعلى في التاسع من يناير وأخيرًا وليس آخرًا، لو لم تنقذ الهدنة الأولى التي فرضتها الأمم المتحدة في يونيو 1948 القدس اليهودية من المجاعة والانهيار العسكري؛ لو لم يحدث كل هذا ما قامت لدولة إسرائيل قائمة"( ).
وبعد، بدلًا من أن ينوه توني كليف بالدور العسكري للصهيونية التي سعت لإرهاب الجماهير العربية لإجبارها على الخضوع للإمبريالية، ورؤية كراهية الجماهير العربية الموجهة ضد الصهيونية بوصفها شكلًا لمقاومة الإمبريالية حتى وإن كانت إرهابًا مضادًا، فقد رآها بوصفها شوفينية أسيء توجيهها تلاعب بها الإمبرياليون؛ "كان هدف الإمبريالية الأنجلو-أمريكية خلق قوة تلعب نفس الدور في إطار الشرق الأوسط ككل وهو الدور الذي لعبته الصهيونية لمدة 30 عامًا في فلسطين. بوصفها بؤرة للكراهية الشوفينية حيث تخدم في تحويل النضالات الثورية للجماهير العربية في الشرق الأوسط من كونها مناهضة للإمبريالية إلى مسارات دينية أو عرقية"( ).
في مقالة لقائد العصبة الشيوعية الثورية توني كليف في نوفمبر 1938، في فصل معنون النزاع العربي الإسرائيلي، كتب:
"ماهي أسباب هذا النزاع؟ هناك إجابتان تطرحان في فلسطين. تقول المجموعات الصهيونية أن النزاع هو ببساطة تصادم الإقطاع والرجعية مع القوى التقدمية للرأسمالية. ويزعم القوميون العرب ومؤيديهم الستالينيين بأن هذا التصادم بين حركة التحرر العربي والصهيونية ولكن التفسير الأول خاطئ لأن حقيقة النزاع بين الإقطاع والرأسمالية لا يفسر الحركة القومية التحررية في فلسطين. وهناك مظاهر مماثلة للقومية في البلدان المتاخمة (سوريا ومصر). أضف إلى ذلك فهو لا يفسر كيف أن عصبة من الأفنديات نجحت في السيطرة على حركة قومية قوامها مئات الآلاف. من الواضح أن سبب التناحر بين الجماهير العربية والسكان اليهود لا ينشأ من حقيقة أن الأخيرين ينعمون بمستوى أعلى من المعيشة وقد خلقوا حركة عمالية متصلة. إن معارضتهم الرئيسية تنبع من حقيقة أنهم يرون في السكان اليهود حملة الصهيونية، وهي كنظام سياسي قائمة على الإقصاء القومي، والعداوة لمطامح الجماهير العربية في الاستقلال ومقرطة النظام السياسي.
وجهة النظر الثانية، أى دعوى القوميين العرب، هي بالمثل خاطئة. فهي لا تأخذ في الاعتبار أن هناك نزاعًا فعلًا بين الإقطاع والتطور الرأسمالي، ثانيًا، أنه داخل الحركة القومية هناك بورجوازية عربية تتناقض مع الاقتصاد اليهودي المغلق مما يطور اتجاهات عربية إقصائية، وثالثًا، أن السكان اليهود ليسوا جزءً من المعسكر الإمبريالي. يترتب على ذلك أن التصادم في النزاع العربي اليهودي هو بين حركتين إقصائيتين (بين الصهيونية وبين القيادة العربية البورجوازية شبه الإقطاعية من ناحية، ومن ناحية أخرى نضال الجماهير العربية ضد الصهيونية). إن الصراع الدائم من أجل تلطيف هذا النزاع ممكن فقط على أساس النضال ضد الصهيونية، ضد النزعة القومية العربية الإقصائية والأعمال المعادية لليهود، ضد الإمبريالية ومن أجل مقرطة البلاد واستقلالها السياسي".
وهكذا نرى قائد العصبة الشيوعية الثورية يتبنى منهجًا مثاليًا، غير مادي ولا دياليكتيكي، وهو يساوي بين القوميتين الصهيونية والعربية أو "الإقصائية القومية" بدون إدراك الاختلاف بين أمة مضطهَدة وأمة مستعمِرة مستوطِنة مضطهِدة( ).
على أية حال كان لابد لنا أن نتوقع من كليف أن يعرف مدى أهمية الكفاح داخل الطبقة العاملة الإسرائيلية اليهودية للانفصال عن الصهيونية والالتحام بالمقاومة الفلسطينية. وليست هناك فرصة أخرى لتحرير الطبقة العاملة في إسرائيل سوى طريق القطيعة مع روابط الصهيونية والدولة الإسرائيلية نفسها. كان يمكن لنا أن نتوقع من كليف، بوصفه اشتراكيًا يُعتقد أنه تروتسكوي أن رؤاه السياسية في فلسطين كان لابد أن تكون مختلفة. إلا أنه قد ساوى بين المستوطِنين المستعمِرين الذين تساندهم الإمبريالية البريطانية والمقاومة العربية للإمبريالية والصهيونية. ويبدو أنه لم يكن خلال نشاطه السياسي في فلسطين، قادرًا أبدًا ولا مستعدًا لينفصل بشكل متسق عن التأثير الصهيوني. وذلك واحد من الأدلة الأشد أهمية على افتقاد الطرائق الثورية اللاحقة.
وحتى في سيرته التي كتبها بعد ذلك بسنوات بعد أن غادر فلسطين لام العمال العرب. وكم يبلغ بك السخف حين تلوم الجماهير المضطهَدة وتتهمها بأن ذنبها أنها لم تؤثر في العمال الإسرائيليين وتدفعهم لموقف إيجابي!( )
وينتهي شوارتز في مقاله إلى أن المهمة الأساسية لكل الشيوعيين في إسرائيل والعالم العربي بالطبع هي بناء حزب ثوري متعدد الجنسيات منقوش على رايته: فلتسقط إسرائيل دولة التمييز العنصري! ومن أجل جمهورية عمالية فلاحية من النهر إلى البحر! من أجل فلسطين حرة حمراء! بدون حزب كهذا، بدون النضال من أجل توجه ثوري لحركة العمال، فإن قوى رجعية مثل القوميين والإسلاميين سوف تظهر بوصفها الإمكان الوحيد لقتال المعتدين الإسرائيليين! ومن ثم فإن مطلب إقامة جمهورية ديموقراطية واحدة من النهر إلى البحر لا يمكن أن يتحقق دون ثورة اشتراكية.
د - هنري كورييل تاجر الثورة ومرابيها
لقد ترك لنا المفكر الماركسي إبراهيم فتحي أثرًا هامًا لندرة موضوعه فما كتب عن هنري كورييل من حلقته ومريديه وضعه في موضع "رجل من طراز فريد" و"نسيج وحده" كما كتب الفرنسي جيل بيرو، وكادت حقيقته أن تطمس تحت ركام الأساطير التي يروجها شيعته ويجري ترديدها دون تمحيص أو مراجعة، ويتم تزييف الوقائع التاريخية ولا تجد من ينقضها، ولكن الأخطر هي الأفكار التي سرت في جسم الحركة الشيوعية المصرية، ومازالت تجد لها موطئًا في بقايا حدتو التي تعضنت في موقعين حزبيين رسميين في حياتنا السياسية الراهنة، وفي أدمغة الفاقدين للفكر النقدي. فضلًا عن الأثر الذي تركه فيى إيطاليا (وخاصة علاقته بـ الحزب الشيوعي الإيطالي راعي أحد مؤتمراته الداعية للسلام الإسرائيلي) وفرنسا وبعض البلدان العربية من خلال حلقة روما الشهيرة.
لقد ترك لنا إبراهيم فتحي جملة من المقالات تمثل ثروة فكرية صدرت في مجلة طريق الانتصار لسان حال الحزب الشيوعي الفلسطيني تحت عنوان حلقة هنري كورييل ومستقبل الحركة الشيوعية في مصر( )وقد تناول فيها فكر الحلقة النظري والسياسي والتنظيمي والجماهيري، ورغم أنه تناول فيها موقفها من القضية الفلسطينية إلا أنه عاد للموضوع باستفاضة في كتاب خصصه لذلك وهو كتاب هنري كورييل ضد الحركة الشيوعية العربية في القضية الفلسطينية( ).
وما يعنيني في هذا السياق هو ما يتعلق بالقضايا التي طرحها د. جينارو جيرفازيو صراحة أو ضمنًا وكشف الصلة التي تربط بينها وبين تصورات هنري كورييل التي تأثر بها.
وأعيد هنا الخلاصة التي انتهى إليها د. جيرفازيو:
"وهكذا إذا كانت بداية العقد الجديد قد شهدت وجودًا ماركسيًا نشيطًا في مصر رغم أن الاعتقال والنفي كانا يحدان منه بقوة (المقصود اعتقال كورييل ونفيه – س.ع.)، فإنه يبدو أن الحركة فقدت قدرتها على أن تضع نفسها في طليعة المجتمع المدني المصري كأداة نقل الحداثة والتحرير الاجتماعي كما كانت في منتصف الأربعينات، ومن المحتمل جدًا أن "الانعطاف القومي"، وإن كانت الظروف التاريخية والمحلية قد دفعت إليه، كان مبنيًا على هذا التراجع الذي يمكن قراءته بشكل معين باعتباره "فقدان الهوية" للماركسيين المصريين من أجل الانضمام للمحيط الواسع للفكر القومي. وهكذا، كما كانت الحركة في سنوات الأربعينيات تمثل للعديد من المناضلين قمة النشاط الشيوعي في مصر فقد مثل تراجعها سواء الأيديولوجي أو التنظيمي عبئًا على أجيال المستقبل من المناضلين حتى اليوم"( ).
عرضت آراء هنري كورييل ودوره في مصادر عديدة أبرزها ما أورده بالطبع تلميذه رفعت السعيد في تأريخه للحركة الشيوعية المصرية، وكتاب صديقه جيل بيرو رجل من طراز فريد وقد صدرت للكتاب الأخير عدة ترجمات مصرية وعربية، كما تضمن كتاب وثائق الحركة الشيوعية المصرية 1944 – 1952 والأجزاء التالية عليه، الصادر عن مركز البحوث العربية والأفريقية وثائق كتبها كورييل أو كتبت عنه في الفترة المعنية، كما أشرف د. رءوف عباس على نشر كتاب أوراق هنري كورييل، وقد نشر الراحل محمد يوسف الجندي، وهو من أتباع هنري كورييل المخلصين، آراءه وأفكاره بالنسبة للقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي في كتاب من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط( ) بوصفها ذات وزن وكان لها دور هام في تطور هذا الصراع وفي البحث عن تسوية سلمية حسب تعبيره في مقدمة الكتاب المذكور.
وبالطبع ليس من شأن المقال الراهن أن يتناول تأريخ حياة كورييل أو تصوراته السياسية الكلية أو دوره ونوعية ارتباطه التاريخي بالحركة الشيوعية المصرية، وأسبابها، إلا بالقدر الذي يرتبط بموضوعنا وخاصة بمقولات د. جينارو جيرفازيو بوصفها مؤثرًا أساسيًا في تشكيل تصوراته.
ويكفي في البداية أن أشير لباحث من المتعاطفين مع كورييل ومع خطه في الصراع العربي الإسرائيلي ويوافقه على أن إسرائيل هي تعبير مشروع عن"حق الشعب اليهودي في تقرير مصيره" وهو جويل بينين الذي يصفه بأنه كان يهوديًا كوزموبوليتانيًا مثله مثل كثيرين في تنظيمه الحزبي ، وفي بلد يسيطر عليه الأوروبيون اقتصاديًا، ويعاني من الاحتلال ويعتبر من غير المألوف أن تصبح أقلية تعليمها فرنسي كوزموبوليتانية بورجوازية منفصلة عن نسيج الحياة الشعبية، بارزة على هذا النحو في حركة تدعي تمثيل الجماهير الشعبية. فضلًا عن طرح المسألة اليهودية على الشعب المصرى بوصفها مشكلة في التاريخ الأوروبي. ونقد بينين ينصب على نفس الشئ الذى إمتدحه من أجله د. جيرفازيو بشغف شديد .
ويتداعى إلى ذهني بهذا الصدد موقف إنجلز من الاشتراكيين الديموقراطيين الألمان الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ففي رسالة وجهها إنجلز إلى فريدريش أدولف زورجه بتاريخ 2 ديسمبر 1893يقول أن الأوضاع رهيبة، والشباب الذين يأتونك من ألمانيا ليسوا هم الأفضل، وليسوا بأي حال عينة نموذجية للحزب الاشتراكي فهم مثلما يحدث في كل مكان يريدون أن يدمروا ما هو موجود بالفعل ويعيدوا إنشاء كل شيء من جديد حتى يبدو وكأن عهدًا جديدًا قد بدأ معهم. ونظرًا لفيض المهاجرين الجدد الذين يتحدثون لغتهم فهم لا يشعرون بضرورة تعلم لغة البلاد، أو اكتساب معرفة بأوضاعها. وكل هذا يسبب قدرًا كبيرًا من الضرر بلا شك، ولكن من ناحية أخرى لا يمكن إنكار أنه في أمريكا في الوقت الراهن هناك كثير من الصعوبات بشأن النمو المتسق لحزب عمالي، وأنه حين تنضج الشروط لوجوده فلن يعوقه عن ذلك حفنة من العقائديين الاشتراكيين الألمان. وفي رسالة أخرى لذات الشخص بتاريخ 12 مايو 1894، ينتقد الاشتراكيين الألمان الأمريكيين لأنهم اختزلوا نظرية ماركس عن التطور إلى أرثوذكسية فظة حيث لا يتوقعون أن يبلغها العامل بوعيه الطبقي وإنما وبدون إعداد يريدون أن يدفعونها فورًا في حلقه وكأنها مادة إيمان، وفي رسائل أخرى ينتقد طابعهم الحلقي وانعزالهم. وكانت أول نصيحة لهم هي تعلموا الإنجليزية. (الأعمال الكاملة، المجلد 50، بالإنجليزية، ص 299 - 328، 329، طبعة الناشرون العالميون، نيويورك 2004).
وإرتباطا بشئ مماثل رفض ليون تروتسكى منصب وزير الداخلية بعد نجاح ثورة أكتوبر لقمع الثورة المضادة رغم إصرار لينين على ذلك بسبب "يهوديته " التى قدر أنها قد تسئ إلى الثورة البلشفية، وإعتبر ذلك تنازلا صغيرا لصالح البلاهة .
ونعود إلى كورييل (اليساري بسبب صعود النازية في ألمانيا) الذي تتقوم تصوراته في أن هناك "حق لليهود في وطن قومي في فلسطين" وهو حق مقدس وغير قابل للتقادم للجماعات القومية، لذا لهم مثل أي أمة "الحق في تقرير المصير" وأن الإمبريالية البريطانية ومعها الرجعية العربية - وقتها - توظف النزاعات بين اليهود والعرب لحرف الحركة الوطنية لكل شعوب المنطقة عن المهمة الأساسية وهي إنجاز الاستقلال الوطني، وجلاء القوات الأجنبية. وأنه كان على اليهود والعرب أن يتحدوا في جبهة معادية للإمبريالية وينشئوا معًا دولة واحدة ديموقراطية. ومثل توني كليف فقد اعتبر مظاهرات 2 نوفمبر 1945 في مصر في ذكرى وعد بلفور بمثابة مؤامرة إنجليزية وحكومية لحرف الأنظار عن مطالب الحركة الوطنية المصرية، رغم أنها عبرت من الناحية الأساسية عن احتضان الشعب المصري للقضية الفلسطينية، وإفشاله محاولات الإخوان المسلمين ومصر الفتاة للسيطرة عليها وتحويلها لمظاهرة معادية لليهود. وفي عام 1947 ركزت الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني وحلقة كورييل بقيادته على المطالب الوطنية المصرية حصرًا، وأيدت بعد ذلك قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة بشأن فلسطين بذريعة أنه كان حلًا عمليًا رغم أنه لم يكن مثاليًا، بينما عارضته الأحزاب الشيوعية العربية والقوى السياسية المصرية. وفى أول مايو 1948 صدر بيان المكتب السياسي لـحدتو يندد بالحرب الرجعية التي كان يعد لها. ويلقى اللوم على سياسة موالاة الاستعمار التي تنتهجها البلدان العربية، بينما الضمان الوحيد لوحدة فلسطين هو العمل على إيجاد جو من الألفة والثقة المتبادلة بين الجماهير الكادحة العربية واليهودية. وفي أحد بيانات حدتو المنشورة تعقيبا على أحد قرارات الجامعة العربية ينص على أن :
"أمام هذه الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية يرى الاستعمار والرجعية ألا مخرج لهما سوى إشعال حرب العنصرية في الشرق العربي، تلهي الشعوب عن أهدافها الوطنية ومطالبها الاقتصادية والاجتماعية وتحول أنظارها عن العهود الحاضرة المعادية للديموقراطية، وقد وجدوا في فلسطين نقطة البدء لتحقيق هذه السياسة الإجرامية"( ).
ويفخر هنري كورييل بأن حدتو كانت في هذا الوقت "بطلة الأممية البروليتارية" التي ساندت الاتحاد السوفييتي وناضلت داخلها "ضد الانحرافات القومية"، وخارجها "ضد الشوفينية" لدى الأحزاب الأخرى بلا استثناء، صدورًا عن ثقتها في الشعبين العربي واليهودي، ونتاجًا لرفضها التبعية تجاه الطبقات الحاكمة وإصرارها على اتخاذ موقف بروليتاري مستقل وغير ذيلي. وإذا كانت إسرائيل التي طالب لها بحق الاعتراف بالوجود كدولة مستقلة قد لعبت دور الشرطي للإمبريالية والتفت حول القيادة الصهيونية، فذلك فيما يبدو نتاج خطيئة الشعوب العربية "ولكن إذا اقتنع الشعب الإسرائيلي أن الشعوب العربية لا تهدد وجوده وأن الحركة الوطنية والديموقراطية تتخذ موقفًا وتناضل من أجل حل عادل للنزاع، فإن المشاريع الإمبريالية ستفشل مرة أخرى"( ). وإذا كانت هناك سياسة استفزازية للحكومة الإسرائيلية فهي لا تختلف في شيء عن السياسة الاستفزازية للحكومات العربية وإذا كانت أكثر عدوانية من الأخيرة فأحد الأسباب "غياب مواقف وأعمال من جانب القوى الديموقراطية العربية" ويدعو للتشديد الفعال على النضال ضد شوفينيتنا الخاصة( ) حيث لاحظ فيما بعد "أن الشيوعيين في مصر تركوا أنفسهم ينجذبون في هذا المجال إلى التيارات القومية البورجوازية"( ) بل وبلغ الأمر داخل حزبه حد الكشف عن "انحراف قومي"( ). ويعلق في موضع آخر على برنامج الحزب الشيوعي المصري الموحد حيث يقرر أن تحقيق السلام مع إسرائيل يساوي دخول حلف بغداد الاستعماري ويصف ذلك تهكمًا بأنه "الماركسية الخلاقة".
وفي كتاباته ومذكراته ورسائله يشدد كورييل على أهمية السلام وما يتضمنه من تنازلات حتمية ويتصور الأمور بعقلية المرابي والسمسار بين الطرفين مع الانحياز للغاصبين "ففي إسرائيل يمثل السلام التوطيد النهائي للدولة الناشئة"( ) ويعتبر أنه لا يمكن أن يفرض أي شيء على دولة إسرائيل لا تقبله، وأن الشعب هناك قد عاش وسواس الإبادة ومن ثم فلابد من سلام حقيقي وأمن حقيقي. وأنه من غير المعقول مطالبة إسرائيل بالعودة إلى خطوط ما قبل يونيو 1967.
وحسب تعابيره ( وهو أمر ينتقده . س ع ) يجرى تصوير السلام للبلاد العربية باعتباره تكريسًا للهزيمة، وخيانة لفلسطين كبلد عربي موجود في قلب الشرق الأوسط العربي، وقبولا لبلد يفصل البلدان العربية الموجودة في الغرب عن تلك الموجودة في الشرق، بلد خلق بنهب السكان العرب الأصليين، مرتبط بالإمبرياليين الغربيين، ويعتبر الكفاح ضد إسرائيل هو كفاح ضد الإمبريالية، ويعقب كورييل على هذا العرض الذى قام به لوجهة نظر مغايرة بالقول "نحن لا نشترك بالطبع في فهم الأمور بهذه الطريقة"( ).
ويكتب بشكل غاية في التحدد: "يجب أن نقول أولًا بوضوح أننا ننطلق ... من الحقيقة الإسرائيلية باعتبارها شرعية"، ويعتبر شيئًا مسلمًا به "أن اليهود في إسرائيل يكونون كيانًا قوميًا له مثل كل المجموعات القومية الحق في تقرير مصيره وتكوين دولة قومية. "يبقى ذلك صحيحًا حتى إذا أعلننا أن إسرائيل هي واقع استعماري لأن كثيرًا من الدول القومية أصلها وقائع استعمارية، وقد تأكد ذلك بشكل خاص سواء في أفريقيا أو الشرق الأوسط ). ونعتبر أيضًا أن الجماهير اليهودية الإسرائيلية لها مثل كل شعوب العالم الحق في الأمن من ناحية وأن تتطلع إلى ذلك من ناحية أخرى"( ).
ه - إبراهيم فتحي ونقد أسطورة كورييل
يبدد المفكر الماركسي إبراهيم فتحي أسطورة الصحافة الرجعية في العهد الملكي عن هنري كورييل بوصفه مؤسسًا للشيوعية المصرية في حلقتها الثانية. وهو مليونير يهودي لا يجيد العربية وينتمي ثقافة وفكرًا وطريقة حياة للرأسمالية الفرنسية التي يحمى امتيازاتها الاحتلال البريطاني، ويرتبط ثقافيًا وعاطفيًا بفرنسا التي تستعمر بلدانًا في المشرق والمغرب العربي. ويبين عدم التطابق بين أفكار كورييل وتنظيمه حدتو الذي كان تنظيمًا فئويًا تعددت فيه المراكز والتيارات الفكرية التي منحت بعض المناضلين إمكان الاستقلال عن الخط الرسمي المعلن، وأساليب العمل المعتمدة. ويشيد بمناضلي حدتو ذوي الاستقلال الفكري، والابتكارات الثورية في المجالات العمالية والطلابية والفلاحية فهم الذين خلقوا خطًا جماهيريًا داخل الحركة العمالية، وأسهموا في بلورة مطالب محددة للحركة وتأسيس أشكال للتنظيم مستقلة عن توجيهات كورييل بل وعلى النقيض منها في كثير من الأحيان مثلما هو الحال بصدد القضية الفلسطينية. ومنهم أسماء لامعة مثل محمد على عامر، وأحمد طه، وعطية الصيرفي، وعيسى مصطفى واستلهمت هذه الكوكبة العمالية نضالاتها من خبرتها الواقعية ولم تستمد الوحي من "دافيد ناحوم" رجل الأعمال الذي عينه كورييل ممثلًا للطبقة العاملة المصرية، وبعث به إلى المؤتمر التأسيسي للاتحاد العالمي للنقابات بفرنسا عام 1945 وأشاد به باحثنا د. جيرفازيو.
ويشدد إبراهيم فتحي على أن المثقفين الماركسيين المصريين عمومًا وباستقلال عن كورييل قد خلقوا تيارًا أيديولوجيًا يناوئ فكر البورجوازية في مجالات مختلفة وحاولوا ربط الماركسية بالواقع المصري في المسألة الوطنية والزراعية والتركيب الاجتماعي بل وفي قضايا الفلسفة والتاريخ وعلم النفس والأدب والدين. وبرز مناضلون ضاربي الجذور في الأرض المصرية أمثال يوسف المدرك، طه سعد عثمان، محمود العسكري، وشعبان حافظ الرباط من الطبقة العاملة، ومن المثقفين عصام الدين حفني ناصف، د. عبد الفتاح القاضي، د. حسونة حسين إسماعيل (من مناضلي حزب 1922) وشهدي عطية، أسعد حليم، أنور كامل، عبد الرحمن ناصر وفوزي جرجس وعبد العظيم أنيس وغيرهم.
وبعكس ما يتوهمه د. جينارو جيرفازيو عن ذات الفترة ناسبًا انجازاتها إلى كورييل وأمثاله يؤكد إبراهيم فتحي:
"إن الماركسيين المصريين في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات كانوا يناضلون على المستوى الاقتصادي والسياسي والفكري نضالًا شديد القسوة والصعوبة، وقد حفروا الأرض الصخرية بأظافرهم حينما كان "كورييل" كما يقول أخلص مؤرخ له "جيل بيرو" في الفترة الماخورية. وبطبيعة الحال لا يعرف جيل بيرو شيئًا عن نضال الماركسيين المصريين في ذلك الوقت وهو يتوهم أن كورييل حينما كان يناضل في ملهى الكيت كات لم يكن هناك نضال يخوضه اليسار المصري، وأن مصر كانت تنتظر الخواجة المخلص المؤسس مرتديًا بنطلونه القصير. هل يمكن الحديث عن اشتراكية طفيلية مثل الحديث عن رأسمالية طفيلية؟"( ).
ويواصل إبراهيم فتحي بيان الطبيعة الاجتماعية لكورييل وحلقته وهو يميز تمييزًا قاطعًا بينها وبين حدتو ومناضليها؛ فهذه الحلقة احتوت على رجال أعمال (وقتها وفيما بعد) ينتمون فكريًا للثقافة البورجوازية الفرنسية العقلانية. ويساريتهم نشأت على أرض أخرى غير أرض الصراع الطبقي والوطني في مصر والعالم العربي الذي كان موجهًا ضد الاستعمار العالمي والصهيونية وركائزهما الداخلية. لقد وجدت جذورها في معاداة الفاشية والاشتراكية الديموقراطية الفرنسية في خضم العدوان النازي على فرنسا ومعاداة السامية ( هناك تطابق سياسى بين تأملات سارتر فى المسألة اليهودية ورؤى كورييل بعد نزع غلاف الأولى الوجودى عنها ) . وهم لا ينتمون إلى الحركة الشيوعية العالمية ولا للتراث النضالي للشعب المصري. ونقطة الانطلاق عندهم ليست حركة التحرر القومي العربية ذات الأفق الاشتراكي بقيادة الطبقة العاملة حيث القضية الفلسطينية والدولة الفلسطينية جزءً لا يتجزأ من هذا المحيط الثوري بل جزيرة مجردة معزولة يتنازعها حقان قوميان مقدسان.
وقد رأى الحزب الشيوعي الفرنسي في كورييل شخصًا مشبوهًا لا ينبغي التعامل معه، واعتبره السوفييت عميلًا للموساد. وقد أدين بصراحة من قبل الشيوعيين الكوبيين( ). ويكشف إبراهيم فتحي الترجمات العربية التي أخفت أو زورت مقاطع من كتاب جيل بيرو وتدين هنري كورييل، معتمدًا على النص الفرنسي الأصلي، وخاصة دعوته الشيوعيين المصريين للقفز في طائرة السادات الذاهبة في الزيارة المشئومة إلى القدس في نوفمبر 1977.الزيارة التى حياه عليها سارتر أيضا .
ويندد إبراهيم فتحي بفهم كورييل وبطانته للمسألة الوطنية في مصر "فقضية الاستقلال والجلاء عندهم قضية مجردة معزولة عن أي فهم شامل للمعركة العربية ضد الإمبريالية العالمية باعتبارها كلاً مترابطًا، بالإضافة إلى أن ما يسمى بخط القوات الوطنية والديموقراطية عندهم كان يعجز عجزًا شائنًا عن رؤية خصوصية المعركة ضد الصهيونية وعن فهم الدور الجديد الذي أصبح على الصهيونية بعد الحرب العالمية الثانية أن تلعبه.
لقد انفردت حلقة كورييل بالنظر إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تضامن ثانوية بين الشعبين المصري والفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني، كما انفردت باعتبار الصهيونية جزءً ثانويًا يتبع المسألة الرئيسية مسألة وجود قوات احتلال إنجليزية، حتى أن كورييل لم يستشعر الحاجة إلى إهدار أي جهد لإثبات عدائه للصهيونية، فهي مسألة بديهية تتعلق بتسجيل موقف وليست مسألة نضال طويل الأمد. وليت الأمر وقف هنا، بل أن هنري كورييل ذهب إلى حد"تحريم" إبداء العداء للصهيونية، واتخذ موقفاً مناهضًا لجميع الأحزاب الشيوعية العربية حينئذ على نحو سافر"( ).
وقد عرض إبراهيم فتحي - وهو المفكر النظري الأبرز لـحزب العمال الشيوعي المصري - في مقدمة كتابه لبعض الأسس النظرية للمسألة القومية لدى رواد الماركسية، وتناول مسألة الشعوب الرجعية (بعد افتراضه جدلًا أنه كانت هناك قومية يهودية)، وكون المسألة القومية لأي شعب من الشعوب لا ينبغي النظر إليها بشكل مجرد بمعزل عن احتياجات العملية الثورية وآفاقها. من ناحية أخرى أشار إلى الموقف المبدئي الماركسي الأممي الذي ينبغي اتخاذه من الماركسيين المصريين إزاء يهود فلسطين مما يتناقض مع أي نزعة قومية بورجوازية أو "قومية يسارية" على حد وصف د. جيرفازيو، فيقول:
"ولن نصل من ذلك إلى أن مسألة الحقوق القومية لبعض يهود فلسطين يمكن تجاهلها بالنفي، أو تحويلها إلى مسألة أقلية دينية استنادًا إلى رعب خرافي وتبجيل مبالغ فيه لكلمة قومية. وهذا الموقف الخاطئ امتداد للفكر البورجوازي في مسألة القومية العربية نفسها والذي يتعامل مع"القومية" كما لو كنا في القرن السابع عشر وقيادة البورجوازية للحركات القومية، و"الحقوق الطبيعية" لقومية مجردة من أي مضمون طبقي أو علاقة بالحركات الثورية العالمية، إيجابًا أو سلبًا.
والحديث لا يدور عن كل سكان إسرائيل، أي عن عشرات الآلاف من المرشحين المحتملين للهجرة المضادة، إذا ساءت الأحوال في إسرائيل، والذين يحتفظون بوشائج غير مقطوعة مع بلاد أصلية أو مختارة، ولا يتكلمون اللغة العبرية أو يتكلمونها كلغة ثانية. ولكن ما من سبيل لإنكار حقائق واقعية منها أن نصف قرن أو يزيد من أوسع هجرة يهودية أو "غزوة صهيونية" قد نجم عنها ميلاد جيل أو أكثر من اليهود لا يعرفون لهم وطنًا آخر، ولا لغة غير اللغة العبرية ويحيون حياة اقتصادية فيها بعض السمات المشتركة، وبدأت تتكون لديهم على نحو تدريجي وبطريقة متعثرة حافلة بالتناقضات والاتجاهات العكسية بعض الملامح الثقافية المشتركة، إن بذور قومية يهودية فلسطينية في طريقها إلى التكوين بين جيل أو أجيال ما بعد الصهيونية هي بذور تواصل النمو، ولابد من ملاحظة أن هذه الملامح القومية التي ما تزال في طريق التكوين تحمل طابعًا رجعيًا ويغلب عليها النفوذ الصهيوني طالما ظلت دولة إسرائيل تحقق انتصارها، وظل "المواطن" الإسرائيلي يجتني أرباحًا من الدور الاستعماري التوسعي لدولته. وقد تعلمنا من لينين أن حق تقرير المصير ليس أمرًا مطلقًا بل هو جزء من الحركة الاشتراكية العامة، وفي حالات مفردة بعينها قد يتناقض هذا الجزء مع الكل، فإذا كان الأمر كذلك يجب رفض الجزء. إن حق تقرير المصير لا يتم تقييمه من وجهة النظر الشكلية والحقوق المجردة بل من زاوية مصالح الحركة الثورية.
ويوضح الماركسيون أن الصهيونية تؤسس مجتمعًا على تضامن مصطنع وتواصل موقف الصدام مع العرب وتبرير الحرب بإدعاء التهديد وخطر الإبادة لجذب يهود الشتات، كما أن ضرورة السلام أقل إلحاحًا بالنسبة للمواطن الإسرائيلي. ويجعل الطابع النوعي الشاذ للتطور الاقتصادي والسياسي في إسرائيل من المحتم أن يظل العدوان المستمر مكونًا أساسيًا للدولة الصهيونية، "فالمواطنون" الإسرائيليون يعيشون داخل دوائر متشابكة للمؤسسة الصهيونية في حلقة مفرغة.
ولا يقول أحد بأن إسرائيل بلا تناقضات، أو أن جميع اليهود صهاينة وأعداء للسلام.
ولكن إسرائيل ليست إطارًا يضمن الوجود المستقل والنمو المستمر للعناصر والسمات القومية اليهودية الديموقراطية، بل أن هياكل الدولة الصهيونية عائق حاسم أمام نمو هذه العناصر والسمات القومية الديموقراطية وتؤكد الدولة الصهيونية عزلة أي قومية يهودية في طور التكوين وتخليد ارتباطها العضوي بالإمبريالية.
ولن تزدهر الحقوق القومية لليهود، إلا بالصراع ضد هياكل الدولة الصهيونية، وليس بتدعيم هذه الهياكل والزعم بتطابق دولة إسرائيل مع الحقوق القومية الديموقراطية لليهود كما تزعم حلقة كورييل.
ويتعلق ذلك بالموقف النظري المبدئي وبالأهداف الثورية. وليس معنى ذلك أن تتحول الخطوات العملية في الساحة الدولية، ومحاولات استغلال التناقضات والاستفادة منها لصالح الأهداف الثورية إلى مجرد تكرار نقي للأسس النظرية والأهداف النهائية. فالأسس النظرية ليست قيودًا تعوق انطلاق الحركة الثورية، وهي تفترض المنعرجات والتنازلات المرتكزة على المبادئ بشرط أن يكون ذلك كله لصالح تحقيق الأهداف"( ).
و - هل اختلف الدرب مع جويل بينين ؟
هل تغيرت رؤى جويل بينين (أستاذ التاريخ في جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة)، ويوسي أميتاي (مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة 1997 – 2001) فيما كتبا بعد توفر أعمال ومؤلفات "المؤرخون الجدد" التصحيحيون الذين أعادوا تدقيق التاريخ الإسرائيلي الرسمي وكشفوا تزويره، بمعنى آخر هل غيرت مؤلفات هؤلاء في النتائج التي انتهوا إليها بخلاف السابقين أمثال بوروخوف أو كليف أو كورييل، وهل اقتربوا من الموقف الماركسي الذي دعا إليه مفكرنا إبراهيم فتحي أو يوسي شوارتز؟
قبل أن أتناول بإيجاز آراء جويل بينين أشير لمقدمة كتابه التي كتبها أحد رجال كورييل المقربين وناشر مؤلفه من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط، الراحل محمد يوسف الجندي حيث يفخر فيها بموقف كورييل وبطانته الذي ينسبه زورًا لا إلى حدتو ومناضليها فقط، وإنما إلى الشيوعيين المصريين كافة، فالكتاب حسب قوله "يتعرض لمرحلة هامة من تاريخ الشيوعيين المصريين ويتحدث بالتفصيل عن موقف تميزوا به وانفردوا بين كل القوى السياسية في البلاد العربية ... وذلك أنهم وقفوا ضد حرب فلسطين وأيدوا قرار التقسيم الذي صدر عن هيئة الأمم المتحدة ... وظلوا بعد ذلك يدعون للسلام العادل بين البلاد العربية وإسرائيل"( )، ثم يكرر ذات الأسباب التي أبداها هنري كورييل في كتاباته ومراسلاته وليس هناك من داعٍ لتكرارها.
موضوع كتاب جويل بينين هو دراسة العملية التي تحققت بها "هيمنة السياسات القومية" وكيفية اشتداد ساعد "الخطاب السياسي القومي الداعي للهيمنة" في أوساط الحركة الشيوعية في مصر باتجاهاتها الكبيرة الثلاثة، والحزب الشيوعي الإسرائيلي (ماكي)، وحزب العمال الموحد (المابام) منذ منتصف الخمسينات، بعد أن كانت هذه التشكيلات قد نادت قبل حرب 1948 وبعدها "... بحل سلمي للقضية الفلسطينية وللنزاع العربي الإسرائيلي على الأساس الذي استهدفه مشروع الأمم المتحدة للتقسيم في نوفمبر 1947: الاعتراف بحق تقرير المصير لكل من الشعبين العربي والإسرائيلي، وتكوين دولة عربية ودولة فلسطينية في فلسطين / أرض إسرائيل (آرتس يسرائيل) وإقامة سلام يقوم على الاعتراف المتبادل بين إسرائيل والدول العربية"( )لكن فشلت "الأممية" وانتصرت "القومية". فبحلول منتصف الخمسينات" ... لم يكن اليسار في الشرق الأوسط ... يسارًا قوميًا فحسب، بل كان ذا نزعة قومية متطرفة جدًا."( ) ومن ناحية أخري "لم يكن لدى الأحزاب الماركسية فهم كافٍ للنزعة القومية وقوتها السياسية ... فقد اعتنقت وجهة نظر نفعية إزاء نضال التحرر الوطني باعتباره أداة، ومرحلة أولية وضرورية من المحتم أن تحل محلها سياسات الصراع الطبقي. ومن ثم فقد شارك الماركسيون في، وأضفوا مشروعية على، الخطاب السياسي الوطني بدون أن يدركوا أنهم إذ يفعلون ذلك، فإنهم يشتركون في خلق الظروف اللازمة لنزع المشروعية عن مشروعهم السياسي الأحمر المستند لطبقة"( ). ويتحدث الكاتب عن السياسات الماركسية والمنهج الماركسي في النزاع العربي الإسرائيلي الذي جرى التخلي عنه، وهو لا يتجاوز موقف هنري كورييل وبطانته الذي تم عرضه أعلاه ويساوي من الناحية الفعلية بين القومية العربية بمضمونها الناصري والصهيونية رغم تمييزه اللفظي بينهما. ويعتبر أن المكونات الأساسية لحل النزاع الفلسطيني العربي هي مبادئ تقرير المصير والاعتراف المتبادل، والتعايش السلمي. ولم يستطع جويل بينين أن يستخلص النتائج الضرورية من الحقائق التي ذكرها حول "... أن الصهيونية والقومية العربية الناصرية كانتا تقومان على تحالفات طبقية غير متماثلة، مع ما لذلك من آثار ضمنية متعارضة بالنسبة للاتجاه الدولي للحركتين. وينبغي وضع العلاقات المصرية في الخمسينيات والستينيات في سياق علاقتهما المتباينة مع الإمبريالية الغربية؛ والتي لا تعني السيطرة السياسية الغربية في الشرق الأوسط فحسب، بل تعني أيضًا وهو الأهم، دور رأس المال الغربي في الهياكل الاجتماعية الداخلية واقتصاديات مختلف دول الشرق الأوسط. ولم يكن الاتجاهان الدوليان لمصر وإسرائيل ونهجهما إزاء النزاع العربي الإسرائيلي، مجرد تعبيرين مستقلين عن تفضيلات مجموعات حاكمة معينة، بل كانا يضربان بجذورهما في الطبيعة الاجتماعية للمشروعين القوميين لهذين البلدين"( ).
إذا كان المصدر الذي اعتمدت عليه في عرض آراء جويل بينين العلم الأحمر... قد توقف عند نهاية الحلقة الثانية للحركة الشيوعية المصرية وموقفها من النزاع العربي الإسرائيلي، ولم يتعرض للحلقة الثالثة و"اليسار الجديد" الراديكالي في هذا الصدد، إلا أنه قد أثبت موقفه منه أثناء تعرضه في مقال عن انتفاضة يناير 1977 ودون أي تمييز بين مرحلتين مختلفتين كليًا أي مرحلة صعود البورجوازية ومناهضة الإمبريالية، ثم مرحلة هبوطها وإعادة توثيق روابط التبعية بالغرب الإمبريالي وفقدان الاستقلال النسبي الذي كان قد تحقق في مراحل سابقة، وأهداف حرب يونيو 1967 التي تحققت بعد حرب أكتوبر بإعادة تشكيل النظام المصري طبقًا لمطالب خارجية التقت بركائزها الطبقية في الداخل. وجويل بينين يتبنى نقد الراحل أحمد صادق سعد للإنتليجنسيا المصرية حيث يعتبر أن الطبقة العاملة قد قاومت سياسة الانفتاح وأن قادة اليسار المنظم قد انعزلت عن العمال والشرائح الشعبية التي تتحدث باسمها ومصالحها "وبالرغم من عدم افتقار اليسار المنظم للمؤيدين من الطبقة العاملة والفلاحين إلا أن قيادتها الوطنية وحسها بالأولويات السياسية سيطر عليها لمدة طويلة حلقة منقسمة داخليًا ومحدودة من المثقفين القاهريين ذوي التعليم الغربي تنتمي بنسبة كبيرة منهم لخلفيات نخبوية"( ) وقد انتهت إلى أنها "قد فرضت أيضًا أولوياتها على الطبقة العاملة ودأبت على إخضاع الصراع الطبقي للنضال ضد الإمبريالية والخيانة. ولم يكن هذا مترتبًا على الانتهازية أو الخيانة ( ). وإنما كان وفقا لما أورده نتاجا لهيمنة الماركسية السوفيتية ، والنظرية الصينية حول الديموقراطية الجديدة الماوية .
‌أ. يوسي أميتاي والمركز الأكاديمي الإسرائيلي
شغل يوسي أميتاي منصب مدير المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة 1997– 2001. وهو عضو كيبوتس جفولوت، ومحاضر في قسم دراسات الشرق الأوسط بـ جامعة بن جوريون في النقب، وقام بتأليف العديد من الكتب منها اليسار المصري والصراع العربي الإسرائيلي 1947 – 1978( ). ورغم ما ذكر في عنوانه من أن الكتاب يغطى فترة زمنية معينة تقع في إطارها الحلقة الثالثة من الحركة الشيوعية المصرية خاصة ما اصطلح البعض على تسميته بمنظمات "اليسار الجديد"، إلا أن الكتاب لا يتناول سوى مواقف الحلقة الثانية بصفة أساسية وممثليها البارزين حتى الاتفاقيات الأولى بين مصر وإسرائيل عقب زيارة السادات إلى القدس في نوفمبر 1977.
وهو يستخدم عبارة "اليسار المصري" بشكل تعميمي ساحبًا مواقف حدتو وكورييل عليه رغم تعدد منظماته الحزبية ورغم عرضه لمواقفها المغايرة في مواضع أخرى. وهو لا يخفي تعاطفه مع كورييل ومفاهيمه "حول السلام العادل في الشرق الأوسط" وآراء حوارييه أمثال ألبير آرييه وغيره.
ويعلن المؤلف منذ الصفحات الأولى "قانون إيمانه" فقد تبنى "النظرية الماركسية غير الدوغمائية"، ومن ثم يقبل بشكل بديهي "بحق جميع شعوب العالم في تقرير المصير" وبالطبع "بحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته الحرة إلى جانب دولة إسرائيل". وقد هاله التناقض الذي وجده بين قبول معظم اليساريين المصريين للتقسيم عام 1947 وبين انخراط حزب التجمع سليل حدتو في معارضة مبادرة السادات، واتفاقيات كامب ديفيد. وهو ينتمي لمن تحمسوا للسلام الإسرائيلي المصري، واعتزوا باعتبار "مصر" هذا السلام "خيارًا استراتيجيًا"(58) وهو ينظر بتعاطف شديد لآراء ومواقف كورييل ومجموعة روما. ويكرر مثل سابقيه ممن عرضنا آرائهم فيما سبق خاصة جويل بينين وجينارو جيرفازيو، تعميمًا لا تاريخيًا يفتقر إلى رؤية الاختلافات الطبقية العميقة بين مراحل تطور البورجوازية المصرية وروابطها الإقليمية والعالمية ومراحل تطور الشيوعية المصرية فيقول أن هناك "... إشكالية حقيقية حساسة صاحبت حركات اليسار المصرية على مدى تاريخها أي التناقض بين إعطاء الأولوية للصراع الاجتماعي الطبقي من جهة وإعطاء الأولوية للتحرير الوطني للمجتمع الخاضع للاحتلال الأجنبي من جهة أخرى"( ).
وإذ يكرر ما أورده كورييل في كتابه من أجل سلام عادل من آراء ومواقف حيث كان يراقب من منفاه الباريسي بقلق شديد عملية التطرف التي تجتاح الشيوعية المصرية يأسف أميتاي لأنه "على الرغم من تأملات كورييل تلك، التي ارتكزت على مبادئ ماركسية تقليدية واعتمدت على التحليل العقلاني إلا أنها لم يكن بها ما يحول دون مد التوجه القومي الراديكالي الذي ترسخ في صفوف اليسار المصري ..."( ).
والخلاصة أن رؤية كورييل التي يحبذها تتناقض تمامًا مع رؤية جميع اليساريين المصريين بكل تلاوينهم المتصلبون والمرنون منهم "فعلى عكس هؤلاء وهؤلاء فإن كورييل لا يعتبر إسرائيل "حقيقة استعمارية" و"أداة إمبريالية" بل كيان قومي شرعي له الحق في الوجود والأمن بدون شك كما لا يعتبر السلام العربي الإسرائيلي "استسلامًا" من الجانب العربي أو "إملاءً إمبرياليًا" ... وفي الحقيقة هذه هي الفرصة الوحيدة من أجل إضعاف سيطرة الإمبريالية على الشرق الأوسط وتحقيق التطلعات العادلة والشرعية للعرب وخاصة الفلسطينيين"( ). هل تحقق أي شيء من ذلك ؟! الواقع أن السلام الإسرائيلي عمق النفوذ الإمبريالي، وعزز الوجود الاستيطاني الصهيوني، وحقق ما لم تحققه أي حروب سابقة هزم العرب فيها عسكريًا.
ويطرى "الماركسي غير الدوغمائي" أميتاي نتائج حرب أكتوبر 1973 التي غيرت جدول "الأولويات القومية" وتأثيرها خاصة على الصراع العربي الإسرائيلي:
"لقد نجح السادات في استغلال الإنجازات العسكرية والسياسية لحرب أكتوبر... لكي يضع أسس وتغيرات جذرية واسعة النطاق بدأها في مصر منذ توليه الحكم. كان الانفتاح الاقتصادي يمثل نواة هذه التغيرات والتي استلزمت في المقابل، تغيرات أيضًا في علاقات مصر الخارجية على النطاق العربي ... وعلى الصعيد الدولي ... كما استلزمت تغيرات في الشكل التنظيمي للنظام. وقد استلزم كل ذلك التعامل بشكل واقعي مع مشكلة الصراع العربي الإسرائيلي لاستغلال ثمار الإنجازات السياسية والعسكرية لحرب أكتوبر وإعطاء دفعة للواقع الجديد والتي من شأنها إضعاف التداعيات المؤلمة للصراع على التطور الاقتصادي والاجتماعي في مصر."( )
تجاهل الباحث الإسرائيلي يوسي أميتاي تمامًا مواقف المنظمات الشيوعية المصرية في السبعينات، - كما لم يورد سوى عبارات موجزة عن الحركة الطلابية المصرية - وشعاراتها ومواقفها التي تجاوزت الأفق البورجوازي، وناهضت النظام القائم وطرحت ضرورة الإطاحة به، وتجاهل كتابات هامة مثل كتابات إبراهيم فتحي ونقده لهنري كورييل بوصفه النقد الأشد راديكالية، وكان من المنطقي ومما يتسق مع مواقفه أن يتجاهل كتاب عبد القادر ياسين عن القضية الفلسطينية في فكر اليسار المصري. والحال أنه لم يقدم جديدًا يفوق ما قدمه صاحب من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط فيما يخص موضوعنا. وهو يدعو بالطبع إلى حوار يساري - يساري في مصر، ويروج مثله مثل من سبقوه وراء لافتة يسارية أو حتى ماركسية للتطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني التوسعية – العنصرية – المخفر الأمامي للرأسمالية الإمبريالية المناهضة للشعوب العربية وطبقاتها الكادحة المتطلعة للاشتراكية. إن من يريد أن يكون ماركسيًا عليه أن يثور ضد احتلاله، واستعماره الاستيطاني واضطهاده واستغلاله، ويقف ضد الهجرة اليهودية واستئصال الشعب الفلسطيني والتوسع العدواني، وأن يعمل على الإطاحة بدولة إسرائيل وهياكلها السياسية من أجل إقامة جمهورية ديموقراطية علمانية لكل سكانها من يهود وعرب. أي تصفية الامتياز الاستعماري العرقي بتصفية النظام الرأسمالي الذي يقوم عليه هذا الامتياز.
أتى الأكاديمي يوسي أميتاي ممثلًا لدولة إسرائيل في مصر وليس مندوبًا "أمميًا" عن اليسار الإسرائيلي، وربما لم تكن هناك حاجة لذكر أن المركز الأكاديمي الإسرائيلي نشأ استنادًا لبنود معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل التي حتمت التبادل الثقافي بين البلدين. وعلى هذا الأساس، أقيم المركز بالقاهرة، عام 1982.
لقد شاعت الآراء السابقة فى أوساط اليسار الأوروبى بأشكال مختلفة وربما كان واحدا من مصادرها الأصلية هو الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر ( 21 يونيو 1905 – 15 أبريل 1980 ) حيث أصدر كتابه تأملات فى المسألة اليهودية " عام 1944 . وقد عبر عن أفكاره السياسية بلغة الفلسفة الوجودية ورأى أن محاولات اليهود التحرر من الإضطهاد تتجلى فيها فكرة المسؤولية والإختيار والموقف الوجودى الحر ، ولم يعدوا العنف والمجازر التى إرتكبوها بإزاحة شعب بكامله عن موطنه فى نظره سوى أداة للتحرر وخلق الذات اليهودية التى كانت موضع إضطهاد نمطى عبر التاريخ بلغ ذروته مع الإبادة العرقية التى حاولتها النازية . وقد إعتبر الصهيونية حركة تحرر يهودية لتجاوز معاداة السامية والإضطهاد، ونفى صورة اليهودى التى ليست سوى فكرة عند الآخرين أضفوها عليه . فلا مشكلة فى اليهودى فى حد ذاته وإنما المشكلة فى تصور المجتمعات التى عاش فيها عنه ، حيث الفكرة عن اليهودى هى الشئ الجوهرى وهى منبع الإشمئزاز الإقتصادى أو الدينى . ومن هنا لابد من تعويضهم عما عانوه تاريخيا منذ العصور القديمة مرورا بالعصور الوسطى وحتى النازية فى العصور الحديثة وإعتبر إستيطان فلسطين " إختيارا شرعيا " لحل هذ " المشكل الإنسانى " وأيد الهجرة اليهودية إليها . وهناك تشابه عميق بين أفكار الروسى بوروخوف ممثل الصهيونية الماركسية وبين هذه الوجودية الصهيونية التى نظر لها سارتر . مع ذلك ورغم تعاطف سارتر مع اليهود وإنشاء دولة إسرائيل كرد فعل على إضطهادهم العنصرى وإبادتهم العرقية فى أوروبا فلم ينتبه بل وتجاهل حقيقة أن الشعب الفلسطينى شعب مضطهد إقتلع من أرضه تعويضا عن مشكلة أوروبية لم يكن طرفا فيها – " مشكل إنسانى " أيضا . وإضطر سارتر بعد الأحداث اللاحقة على حرب يونيو 1967 ألا يتجاهل الحقوق التاريخية للشعب الفلسطينى على أرضه وحاول التوفيق بين وجود إسرائيل وتلبية مطالب الشعب الفلسطينى بالعودة وإنشاء دويلة فلسطينية . وسعى لإجراء مصالحة من خلال مفاوضات مباشرة تنتهى بالإعتراف المتبادل بين الطرفين . وكان من دعاة حوار اليسار العربى والإسرائيلى وقد خصص عددا من أعداد مجلة الأزمنة الحديثة عام 1965 لهذا الحوار .*
هذه هي الصحبة التي بات في معيتها الباحث الإيطالي د. جينارو جيرفازيو والتي استلهم فكرته الأساسية منها.

-----------------------------------------------------------* تأملات فى المسألة اليهودية ، جان بول سارتر ، ترجمة د . حاتم الجوهرى ، دار روافد ، القاهرة ، 2016 .
وكذلك ، سارتر والصراع العربى الإسرائيلى – نور الدين اللموشى ضمن كتاب سارتر والفكر العربى المعاصر أحمد عبد الحليم عطية ، دار الفارابى ، الطبعة الأولى ، 2011، بيروت .



#سعيد_العليمى (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حول الاصطفاف والنزعة الذيلية تجاه السلطة
- بيان ح ع ش م حول اغتيال الشيخ الذهبى يوليو 1977
- الدعوة.. واحياء الإخوان المسلمين
- السلطة والاستغلال السياسى للدين
- الثورات بين الماضى والحاضر كارل كاوتسكى
- شعرية سيد حجاب ومآساة دستورنا المصرى الراهن
- الدوافع السيكولوجية الذاتية للثورة - ا. شتينبرج
- حول الطبيعة الطبقية لسلطة يوليو 1952
- حزب العمال الشيوعى المصرى وقضية التحالف الطبقى ( وثيقة حزبية ...
- ليون تروتسكى فى المسألة اليهودية والوطن القومى
- مقالات نظرية حول سمات الوضع الثورى - ف. لينين ، ل . تروتسكى
- اللينينية والفوضوية فى التنظيم الحزبى - جدال مع العفيف الأخض ...
- كارينا ، باولو كويهلو ، وسانتياجو دى كومبوستلا
- المذاهب المسيحية والصراع الطبقى فى العصور الوسطى الأوروبية - ...
- فى ذكرى ثورة 25 يناير المصرية - بعض اليوميات
- المئات السود وتنظيم الانتفاضة - لينين
- حزب العمال الشيوعى المصرى : حقيقية موقف الأخوان المسلمين من ...
- الجماعات الاسلامية وأحداث -أسيوط-- من خبرات حزبنا عام-1978
- ماقبل فض إعتصام رابعة العدوية الإخوانى ( من روزنامة الثورة )
- لن أختار بين الجلادين ( من روزنامة الثورة )


المزيد.....




- مصدر لـCNN: أي عمل عسكري إسرائيلي ضد إيران سيعتمد على رد فعل ...
- غوتيريش: الضربة الأميركية على إيران تصعيد خطير
- نتنياهو: قرار ترامب -الجريء- بضرب إيران -سيُغير التاريخ-
- أول تعليق رسمي من إيران بشأن الضربة الأمريكية على المنشآت ال ...
- ما هي القاذفات الشبحية -بي-2- التي نقلتها الولايات المتحدة إ ...
- ترامب يعلن تنفيذ -هجمات ناجحة جدا- على 3 مواقع نووية إيرانية ...
- القناة 14 الإسرائيلية: ترامب أبلغ نتنياهو بتوقيت الهجوم على ...
- من بينها فوردو.. ترامب يعلن قصف 3 مواقع نووية في إيران
- مسؤول إسرائيلي: إدارة ترامب أخطرتنا مسبقا بضرب إيران
- ترامب: موقع فوردو -انتهى-


المزيد.....

- اشتراكيون ديموقراطيون ام ماركسيون / سعيد العليمى
- الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية / نجم الدين فارس
- ايزيدية شنكال-سنجار / ممتاز حسين سليمان خلو
- في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية / عبد الحسين شعبان
- موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية / سعيد العليمى
- كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق / كاظم حبيب
- التطبيع يسري في دمك / د. عادل سمارة
- كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟ / تاج السر عثمان
- كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان / تاج السر عثمان
- تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و ... / المنصور جعفر


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير - سعيد العليمى - اشتراكيون ديموقراطيون ام ماركسيون