محمد إنفي
الحوار المتمدن-العدد: 8376 - 2025 / 6 / 17 - 04:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يبدو أن عبد الإله بنكيران قد فقد البوصلة أو أنه يعمل بمقولة "اهْبلْ ترْبَحْ" لإثارة الانتباه بهدف العودة إلى الواجهة الإعلامية والسياسية بأي ثمن وبأية طريقة أو أسلوب. وهو، في هذا الباب حتى لا أقول في هذا الهبل، يشبه إلى حد كبير عبد المجيد تبون، رئيس الجمهورية الجزائرية، سواء في البهلوانيات والهرطقات أو في إطلاق الكلام على عواهنه أو في الكذب الصُّراح (لقد سبق لي أن كتبت عدة مقالات في موضوع كذب بنكيران لما كان رئيسا للحكومة، وأكدت في بعضها أنه أكذب من عرقوب ومن مسيلمة)؛ ناهيك عن إطلاقهما للوعود وإخلافها دون وخزة ضمير أو ذرة حياء. ولا شك أن السبب يعود إلى كونهما لا يتوفران على مواصفات رجال الدولة، وليس لكونهما رُفع عنهما القلم، كما قد يعتقد البعض.
في الديمقراطيات الناشئة التي تعاني من الهشاشة نظريا وعمليا (ولا أدخل الجزائر في الديمقراطيات الناشئة لكون نظامها عسكري، وهو الحاكم الفعلي لكنه يستعمل الواجهة المدنية للتغطية على هذا الواقع)، غالبا ما تتحول فيها الانتخابات إلى سوق عشوائي حتى لا أقول سوق نخاسة، لا تُحترم فيه لا قواعد اللعبة الديمقراطية ولا القوانين المنظِّمة للانتخابات؛ مما يعطي مؤسسات تمثيلية فاشلة بسبب ضعف مكوناتها. وفي هذا إساءة للعملية الديمقراطية، وبالتالي إساءة للبناء الديمقراطي الذي لا تزيده المهازل السياسية التي تعرفها الانتخابات، إلا هشاشة وضعفا.
وهذه الهشاشة لا تقتصر على مؤسسة دون أخرى. فاليوم تعاني المؤسسات التمثيلية عندنا من الضعف بدءاً من أعلى الهرم إلى أسفله؛ وذلك بسبب "التغول" الثلاثي الذي انبثق عن انتخابات 8 شتنبر 2021. ويظهر هذا الضعف، وإن بدرجات متفاوتة، في الحكومة والبرلمان والمجالس الجهوية ومجالس العمالات والأقاليم والجماعات المحلية. ويعود السبب في ذلك إلى كون أحزاب الأغلبية (الأول والثاني والثالث) اتفقوا على توزيع هذه المؤسسات بينهم، ولم يتركوا لباقي الأحزاب الممثلة في البرلمان (الرابع والخامس والسادس والسابع والثامن) إلا بعض الفتات. وفي هذا إساءة للديمقراطية وللتعددية الحزبية. وعلى كل، فهذا ليس موضوعنا الآن؛ ولكن مناسبة الحديث عن المؤسسات التمثيلية (والمناسبة شرط كما يقول الفقهاء والأدباء)، جعلتني أفتح هذا القوس.
قد يقول قائل: وما علاقة هذا بالعنوان؟ نعلم جميعا أن الأستاذ عبد الإله بنكيران قد تولى منصب رئيس الحكومة (الرجل الثاني في الدولة) طبقا لمقتضيات الدستور الجديد (دستور 1 يوليوز 2011)؛ وذلك عقب انتخابات تشريعية جرت خلال شهر نونبر من نفس السنة. لكن بنكيران، الذي لم يثبت يوما لا بالقول ولا بالفعل أنه رجل دولة، كان قد دشن ولايته بالتخلي عن العديد من اختصاصاته الدستورية؛ ولو كان رجل دولة ما فعل ذلك. وبنفس المعيار، فإني أرى أنه ليس رجل سياسة. وهنا، أختلف في الرأي مع بعض الأساتذة الأجلاء المتخصصين في العلوم السياسية والعلاقات الدولية والذين أكن لهم كل الاحترام. ففي رأيي المتواضع، بنكيران مجرد مُهرِّج وبهلوان يستعمل الدَّجَلَ والشعبوية لدغدغة عواطف البسطاء من حيث الوعي والفكر والثقافة؛ ويفعل نفس الشيء مع الفئات الهشة اجتماعيا؛ وفي كل هذا، يركب على الشعور الديني للمغاربة ليجعل من هذه الفئات "جيشا" احتياطيا يوظفه في الانتخابات أو في ابتزاز الدولة ومساومتها. وقد نجح في استغفال واستقطاب الكثير من المغاربة من كل الفئات بمناسبة انتخابات 2011 و2016. لكن في انتخابات 2021، عاقب الناخبون حزب العدالة والتنمية، فجعلوه يتذيل الترتيب في البرلمان المغربي، بعدما كان في الصدارة خلال الولايتين السابقتين.
قد يلومني البعض على الطريقة التي أتحدث بها، في هذا المقال، عن رئيس الحكومة الأسبق ويتهمني بعدم الاحترام واللياقة في الحديث. شخصيا، لم أشعر يوما بأن بنكيران يستحق الاحترام سواء كرئيس حكومة أو كأمين عام لحزب العدالة والتنمية. ولم يكن هذا حكما مسبقا ولا رغبة في التجني على الرجل؛ بل هو تسجيل لواقع تؤكده تصرفاته وأقواله التي تنم عن خلل في شخصيته واهتزاز في نفسيته وسيكولوجيته؛ كما تدل عن نقص حاد في تكوينه السياسي ومستواه الثقافي؛ ويحاول أن يعوض هذا النقص بالتهريج والخطاب الشعبوي والكلام السوقي. وحتى لا يعتقد القارئ بأن هذا الموقف من بنكيران وليد خرجاته الأخيرة، أحيله على مقال لي بعنوان "رئيس حكومة غير جدير بالاحترام" (نشر في "صحراء بريس" بتاريخ 6 ماي 2015).
لم يحترم بنكيران وضعه المؤسساتي والبروتوكولي يوم كان رئيسا للحكومة، ولا يحترم وضعه الحالي كرئيس حكومة سابق يحظى بعناية ملكية خاصة، حيث وضع جلالة الملك محمد السادس رهن إشارته سيارة فارهة وحارسين مداومين على حراسته في حله وترحاله؛ ناهيك عن التقاعد السمين الذي ناله بادعاء الفقر والعوز؛ وهو كاذب في ذلك، ولم يستحِ لا من الله ولا من الملك. ولذلك، فهو غير جدير بالاحترام.
ودون الرجوع إلى فضائح خرجاته الإعلامية السابقة، يكفي الوقوف عند خرجتين من خرجاته خلال الأسابيع الماضية؛ الأولى هي التي وصف فيها، بكل وقاحة وسفالة، مغاربة بالحمير والميكروبات، ووصف فيها رئيس الجمهورية الفرنسية بالمذلول ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية بالمغرور. وفي كلا الوصفين إهانة للرئيسين؛ وفي ظروف مغايرة، كان بإمكان هذا المتهور المتصابي أن يتسبب في أزمة ديبلوماسية بين المغرب والدولتين المعنيتين بالإهانة. فهل بمثل هذه الحماقات وهذه القذارة السلوكية واللغوية، يمكن لبنكيران أن ينال احترام المغاربة من جديد؟ وهل يعي بأن متاجرته بالقضية الفلسطينية، قد أُصيبت بالبوار والكساد، ومتاجرته بالدين الإسلامي الحنيف قد صارت مذمومة ومذلة لصاحبها؟ وهل ما زال يعتقد بأنه قادر على تمرير أكاذيبه على المغاربة لكسب أصواتهم من أجل العودة إلى السلطة؟ وتفاعلا مع هذه القذارة والسفالة، كتبت مقالا بعنوان "عبد الإله بنكيران في حالة هستيرية قريبة من السعار" (نشر في "أخبارنا" يوم 7 مايو 2025). وبالفعل، فإن الرجل فقد صوابه وأصبح كالمسعور يعض كل من يجد في طريقه من المخالفين لرأيه، وإن كان رأيه سفيها ولا يمكن أن يُعتدَّ به.
وفي الخرجة الثانية المقدمة كمثال عن تهوره وخروجه عن السطر، فإنه قد تجاوز كل الحدود وتخطى كل الخطوط الحمراء. لقد تطاول، وبوقاحة كبيرة، على اختصاصات الملك باعتباره أمير المؤمنين ورئيس المجلس العلمي الأعلى، وباعتباره كذلك القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية. لقد أعطى بنكيران لنفسه الحق في أن يُحرِّم ويُحلِّل؛ وبالتالي بوأ نفسه مقام المفتي. فمن أين لبنكيران بكل هذه الجرأة والوقاحة وهو يعلم، أو من المفروض أن يعلم، أن الإفتاء في المغرب من اختصاص المجلس العلمي الأعلى الذي يرأسه أمير المؤمنين، طبقا للدستور؟
وليس هذا فقط؛ فقد حشر أنفه حتى في أمور القوات المسلحة الملكية التي قائدها الأعلى هو اللك، والذي يتمتع بسلطة عليا عليها. وبمعنى آخر، فكل ما يهم القوات المسلحة الملكية، هو من اختصاص الملك؛ وبالتالي، ظلت القوات المسلحة الملكية بعيدة عن النقاش السياسي والمزايدات الحزبية. لكن بنكيران أصر على حشر أنفه فيما لا يعنيه، فزعم بأن مشاركة بعض العناصر من الجيش الإسرائيلي في مناورات الأسد الأفريقي ("أفريكوم")، التي تقام ببلادنا سنويا بين القوات المسلحة الملكية والجيش الأمريكي، والتي تشارك فيها عدة بلدان من أفريقيا ومن خارجها، زعم أن هذه المشاركة لا تجوز شرعا. وبهذا، فهو يحرم مشاركة عناصر إسرائيلية في المناورات المذكورة، وربما أن القصد هو تحريم هذه المناورات في حد ذاتها. وهذا تدخل سافر في اختصاصات الملك وفي شؤون القوات المسلحة الملكية وفي أمور تخص الدولة وعلاقاتها الخارجية.
خلاصة القول، لقد تجاوز بنكيران كل الحدود وتخطى كل الخطوط الحمراء بتطاوله على اختصاصات رئيس المجلس العلمي الأعلى واختصاصات القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية. أليس في هذا ما يؤهله أو يهيئه لأن يكون مستقبلا مع محمد زيان أو في مكانه؟ ففي عدم احترام الاختصاصات والمقامات، وفي تجاوز الأحكام الدستورية والنصوص القانونية ما يؤهل لمثل هذا المصير بكل استحقاق. فالقاعدة العامة تقول: لا أحد فوق القانون.
مكناس في 17 يونيو 2025
#محمد_إنفي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟