محمد تومة
الحوار المتمدن-العدد: 8370 - 2025 / 6 / 11 - 05:59
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
___________________________________________________________________
طريق الحقيقة رقم 34
الفيدرالية: هل تُشتق من الداخل أم تُبنى من الخارج؟ وخطورتها في الوضع السوري.
مقدمة:
في ظل الحديث المتكرر عن مستقبل سوريا ما بعد الحرب، برزت فكرة "الفيدرالية" كمطلب سياسي لدى بعض المكوّنات، وعلى رأسها بعض القوى الكردية التي تطالب بإقرار شكل من الفيدرالية في شمال شرقي البلاد. لكن، هل هذا المطلب قابل للتطبيق ضمن السياق التاريخي والسياسي لنشوء الفيدراليات؟ وهل يمكن فعلاً أن تتأسس الفيدرالية داخل دولة موحدة؟
سنبحث هذه التساؤلات من خلال استعراض أهم التجارب التاريخية للفيدرالية، ثم نقارنها بمحاولات تفكيك الدولة المركزية لتشكيل "فيدراليات داخلية"، مع التركيز على نماذج مثل الولايات المتحدة، سويسرا، إسبانيا، روسيا، والبلقان، وأخيرًا سوريا.
بصورة عامة، هل هناك فيدرالية نشأت داخل دولة موحدة؟
بصورة عامة ونادرة جدًا، لا توجد سوابق في التاريخ السياسي لدولة موحدة مركزية أصبحت فيدرالية بناءً على مطالب فئة محلية داخلية ظهرت لاحقًا، ما لم تكن الدولة على وشك الانهيار أو تعاني من صراعات أهلية. والأمثلة القليلة لذلك تكون إما:
نتيجة اتفاق تسوية بعد حرب أهلية (مثل السودان سابقاً الذي انتهى بانفصال الجنوب بعد شكل من الفيدرالية المؤقتة).
أو تحت ضغط خارجي شديد كما في البوسنة بعد اتفاقية دايتون التي فرضت عمليًا شكلًا من "الفيدرالية" القسرية بين الكيان الصربي والكرواتي والبوشناقي، رغم أن الدولة كانت موحدة يوغسلافياً.
أولاً: الفيدرالية في أصلها التاريخي
الفيدرالية ظهرت في أغلب النماذج المعروفة كحل لتوحيد كيانات كانت مستقلة أو شبه مستقلة، وشعرت بالحاجة إلى التنسيق أو الاتحاد مع الاحتفاظ ببعض الخصوصية.
1. الولايات المتحدة الأمريكية: تأسست فيدرالية بعد أن كانت 13 مستعمرة مستقلة قررت عام 1787 الدخول في اتحاد طوعي ضمن دستور فيدرالي واضح. لم تكن هناك "دولة أمريكية" سابقة، بل تأسست الدولة كنتيجة للفيدرالية، لا العكس.
2. سويسرا: الكَنتونات السويسرية كانت كيانات مستقلة تحالفت لأغراض أمنية واقتصادية منذ القرن الثالث عشر. الدستور الفيدرالي جاء عام 1848 بعد توافق تاريخي على تحويل التحالف إلى دولة موحدة ذات طابع فيدرالي، دون وجود سلطة مركزية مسبقة.
3. ألمانيا: الدولة الألمانية الموحدة ظهرت متأخرة (1871)، بعد أن توحدت إمارات وممالك متعددة تحت راية واحدة. وبعد الحرب العالمية الثانية، تبنّت ألمانيا الغربية النموذج الفيدرالي لإعادة توزيع السلطة ضمن دولة حديثة.
نخلص إلى أن:
كل هذه النماذج جاءت من الخارج إلى الداخل، أي من كيانات مستقلة توحدت طوعًا، لا من دولة موحدة تفككت.
ثانياً: هل ظهرت فيدراليات من داخل دول موحدة؟ (نماذج فاشلة أو هشّة)
1. إسبانيا: تجربة الكاتالان والباسك
إسبانيا دولة موحدة قديمة، لكن بعد الديكتاتورية الفرنكية، تم منح الأقاليم نوعًا من الحكم الذاتي ضمن "دستور لا مركزي" عام 1978.
المطالبات بالفيدرالية ظهرت لاحقًا من قبل الكاتالونيين، ثم تحولت إلى مطالب بالانفصال (2017).
النتيجة: صدام سياسي ودستوري، ورفض مطلق من الدولة المركزية.
2. البوسنة والهرسك: فيدرالية بالإكراه
بعد حرب أهلية دموية، فرض اتفاق دايتون عام 1995 تقسيمًا داخليًا للبوسنة إلى "كيانين": فدرالية البوشناق والكروات، وجمهورية صرب البوسنة.
النتيجة: التجربة لم تُنتج استقرارًا، بل دولة شبه مشلولة سياسيًا، بسلطات مزدوجة ومتنازعة.
3. روسيا الفيدرالية:
رغم أنها دولة فيدرالية نظريًا، إلا أن معظم الكيانات فيها لا تملك سلطة حقيقية، وهي في الواقع دولة مركزية صارمة. المطالبات بالاستقلال (الشيشان مثالًا) أدت إلى حروب كارثية.
نخلص إلى أنه:
في كل هذه الحالات، كانت الفيدرالية أو الحكم الذاتي محاولة للسيطرة على النزاعات الداخلية، لكنها أدت إما إلى انفصال تدريجي أو إلى شلل سياسي، ولم تُبنَ على توافق شامل أو شرعية دستورية جامعة.
ثالثاً: سوريا والمطلب الكردي: فيدرالية أم انقسام مقنّع؟
المكون الكردي السوري، رغم كونه جزءاً أصيلاً من النسيج الوطني، لم يُعرف تاريخيًا ككيان مستقل عن الدولة السورية، ولم تكن له حدود إدارية أو سلطة محلية مستقلة، بل كانت العلاقة قائمة على التهميش في بعض العهود، ثم على الإدماج القسري في عهود أخرى.
المطلب الفيدرالي الذي تطرحه بعض القوى الكردية حالياً، يأتي في لحظة ضعف الدولة المركزية، وغياب السلطة، وبدعم دولي مباشر.
من الناحية السياسية: لا توجد في الأدبيات الدستورية حالة مشابهة نجحت على المدى الطويل.
من الناحية التاريخية: لم تكن "روج آفا" كيانًا إداريًا قبل الثورة السوريّة أبداً، لم تكن أصلاً "روج آفا" ولا في أي مرحلة تاريخية.
من الناحية الاجتماعية: أغلب مناطق الشمال الشرقي مختلطة عرقيًا، ولا يشكّل الأكراد فيها أغلبية صافية.
ماذا يعني هذا؟ يعني بالحقيقة هو محاولة فرض واقع بحكم امتلاك القوة (مؤقتا) وليس من طلب شعبي أو طبيعة مكانية ولا من رؤية تاريخية أو حتى مستقبليه، وإن دل على شيء فهو يدل على محاولة السيطرة على ما يعتبره بعضهم غنائم.
رابعاً: كيف يمكن تسوية المسألة دون تفكيك الدولة؟
الخيارات الواقعية:
1- لا مركزية إدارية موسعة:
منح المجالس المحلية صلاحيات موسعة دون مسمى فيدرالي.
إعادة توزيع الموارد بعدالة ضمن النظام المركزي.
2- قانون حكم ذاتي خاص:
ضمن الدستور: صيغة مشابهة للنموذج الإسباني، بضمانات سيادية واضحة.
3- مؤتمر وطني جامع:
ترسيخ الحل ضمن حوار وطني لا يتم فرضه بالسلاح أو بدعم خارجي.
4- دعم التعددية الثقافية واللغوية:
إعطاء حق استخدام اللغة الكردية ثقافيًا وتعليميًا دون تسييسها.
خامساً: خطورة الفيدرالية في الوضع السوري:
1- لا يوجد أصلاً شيء مقسم لتوحده، لا ديموغرافيا ولا تاريخ! إذا طرحها الآن هو مشروع للانفصال سواء حسنت النيّة أم ساءت.
2- في الحالة الكردية بالذات، وفي سوريّة بعد سقوط النظام المجرم، سوف تتحول هذه المطالبات إلى سلاح ضد كم بسبب التوافقات الدولية والدعم التركي المباشر وكف اليد الأمريكية (ببساطة تم بيعكم كقوة مسلحة). وأخيراً فإن الغالبية السورية تبحث عن الأمان والاقتصاد لا عن دعم انفصاليات (أي أن الشعب لن يقف معكم).
وطالما أن حقوق المواطنة محفوظة في الدستور المؤقت، فيجب أن تبحثوا عمن يبقى معكم ويدعمكم في الدستور الجديد، يجب أن تكونوا موجودين ويجب أن يدعمكم شركاءكم بالمواطنة من العرب بالدرجة الأولى، هم من سوف ينقلون للعالم من هو الكردي، في الفن، في السياسة، في العمل في الاقتصاد الخ... هنا سوف يعرفكم العالم كجزء طبيعي منه، بتعايشكم مع الشركاء ودمج أعمالكم معهم.
وهنا لا أدعو إلى الانصهار، ولا إلى التخلّي عن اللغة أو الهوية الثقافية، بل إلى استثمار ما هو قائم لتعزيز حضوركم. كونوا هذه المرة فاعلين على الصعيد الثقافي، الاقتصادي، والإعلامي، بعيدًا عن الصور النمطية التي رافقتكم في السنوات الماضية من حركات مسلحة وندوات احتجاجية وخطاب مظلومية، والتي — شئنا أم أبينا — أثارت استياءً متزايدًا في الرأي العام الدولي.
لا يمكن لأي مكوّن أن ينجح في الوصول إلى العالم وحده. ومن المؤسف أن الفرص المتاحة لكم تقلّصت بسبب التركيز على خطاب واحد ومقاربة أحادية. وإن لم تصدقوا هذا التقييم، فاسألوا أنفسكم: كم من العرب — وهم شركاؤكم في الوطن — يعلم أن صلاح الدين الأيوبي كان كرديًا؟
خاتمة:
تجارب الفيدرالية الناجحة نشأت غالبًا من وحدات مستقلة توحدت، لا من دول موحدة تفككت. الفيدرالية ليست وصفة سحرية تُفرض وقت الضعف، بل نتيجة لعقد اجتماعي راسخ. وفي الحالة السورية، أي محاولة لاشتقاق فيدرالية من داخل الدولة المركزية ستُعتبر سياسيًا تفكيكًا مغلفًا، لا إصلاحًا.
ودائما أؤكد على التزامي بشعارات الحرية الثلات:
١ـ لا أحد يملك الحقيقة
٢أنا أبحث عن الحقيقة
٣ـ أنا أملك جزءاً من الحقيقة ومن حقي أن أعبر عنها.
محمد تومة -ابو الياس
حلب في ٢٠٢٥/٦/١١
المراجع
1. Hamilton, Alexander, Madison, James, and Jay, John. *The Federalist Papers*. 1788.
2. Watts, Ronald L. *Comparing Federal Systems*. McGill-Queen s University Press, 2008.
3. Anderson, George. *Federalism: An Introduction*. Oxford University Press, 2008.
4. Zürcher, Erik. *Turkey: A Modern History*. I.B. Tauris, 2004.
5. International Crisis Group. *The PKK s Fateful Choice in Northern Syria*, 2020.
6. Constitution of the United States of America, 1787.
7. Constitution of the Swiss Confederation, 1848.
8. - اتفاقية دايتون، 1995
__________
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟