ناقوس المهدي
الحوار المتمدن-العدد: 8367 - 2025 / 6 / 8 - 23:16
المحور:
الادب والفن
في البداية أتقدم بموفور الشكر والامتنان للأديب الأريب السي محمد محضار على هذا التشريف، والثقة التي وضعها في شخصي المتواضع، وأجدني بحالة حرج وتهيب كبيرة لأن أصعب شيء هو كتابة مقدمة لديوان شعري، لأن الشعر من الأجناس الأدبية التي تقدم نفسها للقارئ من دون وسائط، فنبضه مستوحى من أعماق ذات الشاعر، وإيقاعه من صدق المشاعر، ورهافة الاحاسيس، والشاعر وحده المتحكم بزمام النص وأجوائه ومضمونه، وهو وحده الكفيل بتفسير نصوصه وتأويلها.
الأديب الشاعر السي محمد محضار مبدع أخذ من كل شيء بطرف، مما أكسبه تجربة أدبية عميقة تجسدت في العديد من أعماله الابداعية المنشورة، فهو كاتب قصة قصيرة، وشاعر، وكاتب مقالات سياسية واجتماعية وبورتريهات، وناشط جمعوي، وله مشاركات فاعلة في مختلف المحافل الأدبية والثقافية الوطنية، دخل عالم النشر منذ يفاعته، ونشر في كافة الصحف والمجلات الوطنية، والعربية على امتداد خريطة الوطن العربي
عرف السي محمد محضار بإحساسه الوطني، ودفاعه عن هموم المواطنين، وانحيازه لمعاناة ومكابدات الطبقات الشعبية المسحوقة تحت وطأة الجور والاستبداد والظلم، وجشع البورجوازية الجنينية والكمبرادور العالمي الذي يتحكم في مصير وقوت الشعب، فانعكس ذلك المناخ بغشاوته القاتمة على كتاباته الابداعية، يسقط عليها تصوراته، يلونها برفضه، وأشجانه، وأحاسيسه مما منحها نوعا من العمق والصدق
ولعل الديوان الذي بين أيدينا يقدم لنا نموذجا حقيقيا من خلال باقة من النصوص الشعرية الطاعنة في الحزن، المكتنزة بتلاوين الغدر، المفعمة بالمرارة، والأوجاع والانكسارات والهزائم المبطنة، والمحملة بأنواع المناجاة، والذكريات والحنين لحياة (تشبه ابتسامة على شفة عذراء)، لهذا نجد أن تيمة الغدر والخذلان والإحباط سمة من سمات الحياة، وصفة ملازمة لكل النصوص، فكبوات القدر غدر، والكذب غدر، والخيانة غدر، وجور الوطن غدر، والحلم المطمور غدر، والفجر الكاذب غدر، وتحولات السلوكيات البشرية غدر، والتيه والفرح المنفلت غدر، ووجع السنين، والضياع، والوطن الذي يبيعنا الاوهام غدر، وفقد الأحباب غدر، إنه الغدر تحت مختلف تلاوينه التي لا يجدي معها الاعتذار والمبررات، وليس بغريب أن نلاحظ بان الشعراء هم الاكثر حزنا وأسى وكمدا بين سائر المخلوقات، لأنهم يتحملون جحيم الآخرين، ويتعذبون بلظى حبهم وجلدهم في نفس الآن، "لأن كل ما نكتبه هو ترجمة" بحسب تعريف جاك دريدا
هذه التيمة ذات الحمولة الفلسفية المتسمة بالحربائية والتحول الفجائي هي ما يشكل الجو العام لهذا العمل الابداعي المخفور بهيبة الشعر، هذا الشعري الحرون الذي يمكن تعريفه بأنه نظم مموسق لصورة مكتوبة، تتحد خلاله اللغة والصور الشعرية لخلق نسق جمالي، يتفنن الشاعر في سبكه في قالب فني، يعبر عنها الفيلسوف الشهير مارتن هايدغر بقوله: "لا يتحدث الشاعر حول القصيدة ولا ..عنها. إنه يكتب"
هكذا يتسلح الشاعر محمد محضار بثقافة موسوعية وشمولية تتناسق في سياقاتها مع إيقاعات ورتابة وعسف الحياة.. وتتقاطع في دلالاتها مع فضائل وروح الكتابة الإبداعية التي يتحلى بها، والكفيلة بتشكيل عالمه الشعري الخاص، وبهذا المعنى أيضا يظل النص الشعري لديه مختبرا لشتى المعارف، ومشتلا للتجريب والرؤى باختلاف تطلعاتها.. وليس غريبا في شيء أيضا وأيضا ما دام السياق شعرا أن نردد مع الشاعر الألماني نوفاليس: «الشعر هو الدين الأصيل للإنسانية». انه حالة ملتبسة بين توجه تصويري جمالي تتجاوز الوصف العرضي، والتغلغل في وجدان المتلقي، ف (الشعراء اقوى نقاد الواقع) بحسب تعبير ديريك والكوت، ولا غرابة في ان نجد بأن الأديب السي محمد محضار إنسان مهووس بالحرف وبهموم الوطن، عرف بغيرته ووطنيته المفرطة، استمد نسغها من نشأته بمدينة من أغنى مناطق المغرب، حوله فقر اهاليها وصراعها الطبقي الى شاعر مرهف الإحساس يكتب بحبر الالم والحزن وغصة في الفؤاد
هذا الارتباط بالمدينة الأم والمنطقة والوطن، وهذا الإحساس العميق والمؤلم بفقدان الأم والاب والشقيق، خلق لدى الأديب السي محمد محضار حسا قويا بالألم، وأكسب نصوصه عمقا وصدقا، يجد القارئ صداها في عدة محطات من الديوان
أوقفني السي محمد محضار على الملحق الذي خصه لشقيقه المغفور له الشرقي محضار الذي تخرمته يد المنون وهو في أوج عطائه الابداعي، وعمره الغض، فرددت مع أبي العلاء:
إن حزنا في ساعة الموت / أضعاف سرور في ساعة الميلاد
وقد جسد مكابداته في قصيدة (عريس الألم)، إحساس بالغبن تضاعفت حدته مع أشكال الاهمال والتناسي واللامبالاة التي يتعرض لها المبدع بالعالم العربي
الشرقي محضار مبدع قضى ضحية غربتين، بين المنفى القسري في المهجر، والاغتراب الجسدي في الوطن الأم، مزيج من الاحساس بالضياع والتشظي، والألينة الروحية، وهي لعمري أشد وطأة وعنفا، لأن التعلق بالوطن، والاحساس بالإهمال والتناسي الاقصاء فيه أشدّ مرارة، عكستها النصوص المرفقة في الملحق، خاصة قصيدة (النورس الحزين)، بما تحمله من دلالات واضحة عن حالات التيه، وأحوال الضياع، وتحولات الروح رصدها السي محمد محضار عبر بحثه الأحفوري في إبداعات ومسار شقيقه الراحل الشرقي محضار، وخفرها بشغاف القلب، لان الشعر والإبداع عموما لا منفى له مهما شطت الديار، وتغربت الأرواح، ومهما طوحت في أرض الله. وقد كتب فيودور دوستويفسكي في رسالة مؤرخة في 22 ديسمبر 1856 إلى أخيه قائلا: (كن واثقاً أن إسمي في الأدب لن يضيع)، وحده يبقى (فقد الاحبة فقد) كما قال الإمام علي بن أبي طالب
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟