رحلة في جحيم -1984- حيث الحبر دم والحرية وهم.

حامد الضبياني

الحوار المتمدن-العدد: 8356 - 2025 / 5 / 28 - 00:40
المحور: قضايا ثقافية
    

حين تغوص في رواية "1984" لجورج أورويل، تجد نفسك كأنك تغرق في لجة سوداء من الكلمات التي تشكل عالماً خانقاً، عالماً لا يرحم، يلتهم البشر كما يلتهم الجوع بطون الجياع، ولا يترك للروح إلا فتات الذكرى ووهج الخوف. كأن الرواية ليست كلمات على ورق، بل قيد من حديد يلتف حول عنقك وأنت تمضي في سطورها، تشعر أن أنفاسك تتباطأ، وكأن جدران الغرفة تضيق عليك، وأن عينيك تُخطفان إلى شاشة ضخمة تحمل صورة الأخ الأكبر، يحدق فيك، يعبر من بين السطور، ليقول لك: "أنا أراك... أنا أعلم بما تفكر".كلمات أورويل ليست مجرد قصة عن مدينة خيالية أو زمن مستقبلي بعيد، بل هي وشم عميق على جدار الزمن، توقظك لتدرك أنك، من حيث لا تدري، كنت تعيش في قلب هذا الجحيم، في صميم هذا النظام الذي لا يرحم. كلما تقدمت في القراءة، شعرت كأنك تمشي فوق سلك شائك، وأن كل خطوة تنزف من قدميك، وكل صفحة تمر عليك تنزع منك جزءًا من براءتك، من أوهامك الجميلة عن الحرية والكرامة والحق.
تقرأ عن "وزارة الحقيقة" فتشعر أن كل نشرات الأخبار التي تسمعها في وطنك، كل الخطب التي تُلقى فوق المنابر، كل الشعارات التي تُلصق على الجدران، ليست إلا طبعات معدلة من الحقيقة، صيغتها السلطة، وألبستها كما تشاء. تقول لك الرواية إن التاريخ يُكتب من جديد كل يوم، وإن الماضي يُعاد تشكيله ليناسب الحاضر الذي يريده الحزب، فتتذكر كيف تُطمس الحقائق في بلدك، وكيف تُمحى الجرائم، وتُرفع رايات التمجيد فوق أيدي القتلة، وتُصنع من الخراب أغنية تُرددها الجماهير في طابور الانتظار الطويل نحو المجهول.تقرأ عن "شرطة الفكر"، فتشعر أن كل كلمة تقولها قد تكون مرصودة، كل تعليق، كل مشاركة، كل صورة، قد تكون بداية لحكاية اعتقال، أو قصة اختفاء لا يُعرف لها أثر. تشعر أن هناك ألف عين تراقبك، وأن الهواء مشحون بالوشايات، وأن المارة غرباء عنك، وأصدقاؤك غرباء عنك، وأنك غريب حتى عن نفسك، لأنك صرت تخاف أن تفكر.وإذا ما نظرت إلى "وزارة الوفرة"، تضحك بسخرية مرة، لأنك تعرف جيداً أن القهر لا يحتاج إلى خيال أورويل، إنه يسكن الأسواق الفارغة، والمستشفيات التي تنزف المرضى، والمدارس التي تئن فوق مقاعدها المحطمة، والبيوت التي تخلو من الطعام والكهرباء والماء، في حين تردد الحكومة، كما الحزب، أن البلاد تنعم بالخير والرخاء.
كل ما في الرواية يصرخ فيك: هذه ليست مجرد قصة، هذه حياتك. هذه ليست شخصيات من ورق، بل وجوه تعرفها، تشبهك، تشبه جارك، تشبه المسؤول الذي يجلس خلف مكتبه الفخم، يشرب قهوته على مهل، بينما يوقع على أوراق القتل والاختطاف والإذلال.الرواية ليست مجرد مرآة تعكس واقعك، بل هي مشهد مستقبلي متحقق، جاءك أورويل به من رحم كوابيسه ليقول لك: احذر، فإنك إن لم تر، وإن لم تقاوم، ستصبح أنت أيضاً رقماً في قائمة طويلة، وجملة في تقرير، وجثة في حفرة لا يُعرف لها مكان.لكنك، وأنت تمضي في صفحات الرواية، تدرك أن لا أحد يقاوم. لا أحد يصرخ. لا أحد يرفض. حتى الحب يُمسخ، حتى التمرد يُسحق، حتى الأمل يُسرق من بين يديك. تشعر أن أورويل، وهو يكتب عن "أوشينيا"، كان يكتب عنك، عن مدنك المحطمة، عن بغداد والموصل والبصرة، عن الطرق المليئة بالحفر، والبيوت التي تتآكلها الرطوبة، والمآذن التي تصرخ في الصمت، والناس الذين يسيرون كالأشباح، يبتسمون للكاميرات وهم في داخلهم يموتون.رواية أورويل ليست رواية، بل صرخة متأخرة. ليست خيالاً، بل واقعاً كنت تأمل ألا تراه، فإذا بك تراه ماثلاً في شوارعك، في سجونك، في شاشات الأخبار التي تبث الموت مبتسماً، وفي عيون المارة الذين يخافون حتى النظر إلى بعضهم البعض."1984" ليست مجرد كتاب، بل هي نشيد مرثية، عزف حزين على أوتار القلب، يحملك من يأس إلى يأس، ومن خوف إلى خوف، حتى تتيقن أنك، منذ زمن بعيد، قد دخلت إلى عالم أورويل... وأنك لا تملك خيار الهروب، لأن الأبواب كلها قد أُغلقت.الرواية لا تمنحك أملاً، لكنها تمنحك وعياً. تقول لك، بوضوح موجع: إن كنت تنتظر الثورة، فهي لن تأتي. إن كنت تنتظر المخلص، فلن يأتي. إن كنت تنتظر الخلاص، فهو وهم.وأنت، يا من تقرأ، يا من تمضي بين السطور، لا تظنن أنك بعيد، أو أن أورويل يكتب عن زمن غير زمانك... بل اعلم أنك، بكل وجعك، وكل صمتك، وكل خضوعك، بطل الرواية الحقيقي، وأن الأخ الأكبر يراك، الآن، وأنت تقرأ، وهو يبتسم ابتسامته المخيفة، ويقول لك:
"الحب هو الكراهية... الحرب هي السلام... الحرية هي العبودية".هكذا يغلق أورويل عليك قفصه الحديدي، ويتركك هناك، تنظر إلى نفسك، تتأمل سلاسل أفكارك، وتدرك، متأخراً جداً، أنك كنت طوال الوقت تعيش في الرواية، دون أن تدري.

#حامد_الضبياني (هاشتاغ)      

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل