|
ضوء على الذكاء الإصطناعي الرأسمالي ل- رزكار عقراوي
فواز فرحان
الحوار المتمدن-العدد: 8355 - 2025 / 5 / 27 - 03:51
المحور:
العولمة وتطورات العالم المعاصر
قرأت كتاب الذكاء الإصطناعي الرأسمالي للعزيز رزكار عقراوي أكثر من مرة ، والحقيقة أن شهادتي بخصوص الكتاب ستكون مجروحة لأنني أعتبر العزيز رزكار رفيق درب وصديق وفي ، عندما إنتهيت من قراءة الكتاب شعرت أننا نعيش في عالم ربما نشعر بنفس القدر من الحرص على التحديات التي تواجه قوى اليسار في عصر العالم الرقمي والعولمة الرقمية .. في البداية لا بُد من القول أن رزكار عقراوي يعتبر بمثابة موسوعة جامعة في مجال الإعلام الرقمي وبالتالي الرأي الذي يطرحهُ يمثل تنظيراً دقيقاً يجب التوقف عندهُ طويلاً والتعلم منه لا سيما وأنه مع هيئة التحرير يتعاملون يومياً مع مئات المقالات التي تصل الحوار المتمدّن والتي تحوي إتجاهات فكرية وإجتماعية وإقتصادية مختلفة يتم التعامل معها جميعاً بروح واسعة ورحابة صدر فتحت المجال أمام الكثيرين للتعبير عن آرائهم بمنتهى الحرية والوصول الى القارئ بسهولة من خلال منبر الحوار المتمدّن .. والنقاط التي ركز عليها كتاب رزكار عقراوي جميعها جعلتني أقف طويلاً أمام وحدة الأفكار التي جمعتني به ففي نفس الوقت بدأت بنشر كتاب ( ديمقراطية البريكاريا ) بأجزاءه العشرة ، طبع حتى الآن ثلاثة أجزاء وستطبع الأجزاء الأخرى في دار نشر الدراويش حتى نهاية العام ولا أخفي أننا ركزنا على نفس المواضيع لكن من زوايا تبدو مختلفة بعض الشيء لكنها تتحد في التحذير من خطورة تجاهل الذكاء الصناعي من قبل اليسار وعدم التعامل معه بمطق يسوده الجدية والتعامل الرصين .. وأتفق تماماً مع أغلب الطروحات التي ذهب اليها كتاب العزيز رزكار وأذهلتني السعة العلمية الرصينة لهُ في تلخيص أفكار الكتاب في جداول وخوارزميات رائعة سهلت على القارئ فهم الأفكار المطروحة في الكتاب لا سيما الذهاب لموضوع الأسئلة والأجوبة التي تلخص الفكرة للقارئ بشكل سليم .. لا أختلف مع الكتاب في أن اليسار التقليدي في المجتمعات العربية متأخر كثيراً عن مواكبة العولمة الرقمية وتحدياتها ، وأن هذا اليسار سيفقد البوصلة إن لم يتمكن من الوصول لعقل وفكر القارئ في العصر الحديث من خلال التقنيات الرقمية المتاحة أمامها والمتوفرة بحكم إنتشار المنصات الرقمية في كل مجالات الحياة على نطاق واسع ، فقد تحول مفهوم الاقتصاد السياسي التقليدي الى مفهوم رقمي بحت بسبب التطور حتى أن تقييم فكرة تقييم السلعة عند كارل ماركس بدأ يتلاشى بسبب هذا التقدم ، وهذا ما يجب التركيز عليه في تعاملنا مع عصر الرأسمالية الرقمية أو مجتمع الخدمات الرقمي الذي بدأ يتحول تدريجياً الى تنين رعب يهدد الحياة البشرية إن لم نتمكن من التعامل معها بشكل سليم وإيجابي .. ويبقى السؤال الحاسم في دراسة الموضوع هو .. الى أين ستقودنا العولمة الرقمية والذكاء الإصطناعي ؟ وضع رزكار عقراوي اليد على التحديات الفعلية التي تواجهاليسار والطبقة العاملة من وجهة نظر ماركسية بحتة أعتبرها صائبة ودقيقة وتجعلنا ندرك أننا أمام عالم ليس من السهل التعامل معه قبل تسليح هذه الطبقة بالأدوات اللازمة التي تمكنها من إكتساب حقوقها .. ولا أختلف مع العزيز رزكار في أن العولمة الرقمية ساهمت في الهيمنة وتسطيح الوعي لا سيما وأن أغلبية ساحقة تستخدم هذه التقنيات هي أمية ولا تجيد التعامل معها بمنطق تقدمي للغاية ، في الانتخابات الألمانية الأخيرة حقق حزب اليسار الألماني نسبة تقترب من الـ 10% من مقاعد البرلمان وهي نسبة عالية لم يكن يحلم بها أكبر المتفائلين بحزب اليسار ، لكن عندما نلقي الضوء على الأسباب سندرك أن اليسار الألماني للمرة الأولى إستخدم المنصات الرقمية ومنصات التواصل الاجتماعي لنشر أفكاره وأهدافه هذه من جهة ، ومن جهة أخرى إقترب الى الجماهير من خلال أوجاعها التي تسببت بها العولمة الرقمية والأسواق الحرة . وأولى الأوجاع كانت التضخم والركود الاقتصادي ، ارتفاع الأسعار وغلاء الإيجارات وتمايز المجتمع تدريجياً بين فقراء وأغنياء وتدمير الطبقة الوسطى ، هجرة أغلب الألمان من بلادهم بسبب الهيمنة الإستبداية الرقابية للدولة على أرصدتهم المالية ومنصات تواصلهم الاجتماعية وغيرها .. لهذا وضع اليسار الألماني حلولاً ومقترحات تناغمت مع مطالب الجماهير في كبح جماح الهيمنة الرقمية الإستبداية للحكومة والأمن الاقتصادي اللذان كبلا حياة المواطن الألماني بعقب حديدية لا يمكن فكها إلاّ بالهجرة ومغادرة البلاد ، وحقق اليسار نسبته الكبرى في التصويت من خلال الإستفادة من منصات تك توك وأنستغرام والفيسبوك ومنصة إكس ، لذلك تبدو إجادة التعامل مع التقنيات الحديثة مهمة للغاية بالنسبة لليسار حتى يتمكن من الوصول الى قلب وعقل الجماهير في كل مكان من عالمنا .. هذا النموذج ربما يبدو الأقرب الى الأفكار التي أرادها العزيز رزكار ترسيخها على أرض الواقع في عقل الجماهير وتسليحها بالفكرة التقدمية للإستفادة من التقنيات الرقمية ، إن العالم الذي نعيش فيه ليس سهلاً للغاية لا سيما وأن نسبة مستخدمي خدمة الأنترنت تجاوزت الثلاثة مليارات إنسان أي نصف سكان كوكبنا ، وأن أغلبية المستخدمين يجهلون طبيعة السياسات التي تقف خلف تأسيس الإعلام الرقمي والإقتصاد الرقمي ومؤسسات الرقابة الرقمية على مستوى العالم .. بإختصار حوّلت العولمة الرقمية عالمنا الى عالم إفتراضي لكنه أكثر واقعية في تسطيح الوعي وتحقيره الى درجة جعلت عالم الطبخ والرياضة والدعارة الرقمية وإستخدام الإنثى السيء للغاية أسس رئيسية في مفهوم تقدمها بينما جعلت الأفكار العلمية والتقدمية متراجعة الى الخلف أمان تأنيث سلبي للعالم الرقمي .. إن تحقيق الأرباح في ظل النظام الرقمي يقترب تدريجياً من إقتصاد أطلقت عليه إسم الداروينية الجديدة في عالم الاقتصاد ( البقاء للأقوى والأصلح ) وهذا الأمر لا يختلف عليه إثنان ، فمنذ إنهيار الرأسمالية التقليدية عام 1971 تحول مجتمع الرأسمالية الى مجتمع خدمات بعد أن فقد الدولار قيمته الفعلية وأصبحنا نتعامل مع أوراق فاقدة للقيمة الذهبية لكنها مفروضة علينا بقوة السلاح وسطوة إمبريالية لا يمكن رفضها أو الوقوف بوجهها .. إن التحولات العميقة التي تشهدها ساحات الدول المتقدمة في مجال التقنيات الحديثة أصبحت تصبّ في التغيير السويسولوجي للمجتمعات في ظل ظهور اللبرالية الجديدة بقوة في الأسواق العالمية والمجتمعات ، ولا بُد من القول أن المرحلة التي تلت التحولات في الصين نحو الإنفتاح لعبت دوراً كبيراً في تنامي دور هذه الطبقة الرقمية في العالم بأسرهِ ، فبدءاً من عام 1978 بدأت الصين تخرج للعلن وتعلن عن إنفتاح واسع أمام الشركات الغربية ونقل السوق الصيني من سوق مغلق الى سوق عابر للقارات ، أي أن الصين أصبحت ساحة مفتوحة للديناميكية الرأسمالية ، كما ساهمت في خلق نظام مجتمع الخدمات في أوربا ربما قبل آوانه بكثير .. وحققت الصين معدلات نمو قياسية خلال العقدين الماضيين جعلها سيدة على مسرح السوق العالمية ، والشيء الذي ساهم في هذا التغيير في الصين هو التقدم التكنولوجي الكبير الذي شهده العالم وعمل على أن يكون النموذج الصيني نموذجاً متقدماً في عالمنا لا سيما وأن رخص الأيدي العاملة الصينية جعل البلاد تغزو الأسواق العالمية بقوة من حيث رخص البضائع الصينية قياساً للبضائع التي تنتجها البلدان المتقدمة الأخرى .. تحولت الصين من دولة متخلفة منغلقة يحكمها الشكل الحديدي لرأسمالية الدولة الى دولة منفتحة بحذر حتى وصلت مرحلة الإنفتاح الكلي أمام الشركات الغربية التي نقلت قسماً كبيراً من مراكزها الى هذا البلد ، وفي نفس الوقت وبعد سنة واحدة من إتخاذ دينغ شياو بينغ قرار الإنفتاح على العالم الخارجي وصل الى رئاسة الصندوق الفدرالي الأمريكي في يوليو 1979 بول فولكر هو الشخص الذي ساهمت سياساته البنكية في تصدير الدولار الفاقد القيمة لأسواق العالم ( الدولار الذي لا تعادله القيمة الذهبية ) فأحدث تغييراً دراماتيكياً في السياسة النقدية الأمريكية ساهم في إطالة أمد التمدّد الأمريكي في الأسواق العالمية عبر سياسة القضاء على التضخم دون النظر لنسبة البطالة في المجتمع .. والمعروف أن سياسة بول فولكر ساهمت في القضاء التضخم الجنوني في الولايات المتحدة لكن هذا القضاء كان مؤقتاً وجزئياً وعلى حساب لجم قوة العمل وكذلك تحرير قطاع الزراعة والصناعة وإستخراج الموارد والثروات من القانونية التي كانت مفروضة عليها ، هاتين الخطوتين ساهمتا في إطلاق العنان لسلطة المال في الداخل وكذلك على المسرح العالمي في آن واحد معاً ، وساهمت هذه السياسة في خلق مراكز زلالزل إقتصادية عالمياً لم ينتبه لها حتى خيرة خبراء الاقتصاد الأوربي وكذلك في كل من اليابان والصين .. هذه الخطوات جعلت الإندفاعات الثورية عند العمال في العالم تأخذ شكلاً مختلفاً الى حد كبير وحققت إنتشاراً كبيراً بنوعية جديدة شكلت إرتداداتها تشكيل العالم من حولنا بصورة مختلفة كلياً ، فرخص البضائع الصينية ودخولها السوق العالمي أدى الى تغييرات واسعة حتى في الشكل الكلاسيكي للطبقات في المجتمعات وخلقت بقوة شكلاً من أشكال البريكاريا البدائية في ذلك العصر .. إن التحولات الاقتصادية العميقة التي حدثت منذ مطلع الثمانينات قامت على أربعة أعمدة أساسية في السياسة الدولية هم بول فولكر ورونالد ريغان ودينغ شياو بينغ ومارغريت تاتشر وساهموا بشكل مباشر في نشر هذه التحولات الاقتصادية من مستوى ضيق الى مستوى واسع وشامل عبر القوانين التاريخية والوضعية التي ساهمت بشكل مباشر في تغيير شكل العالم من حولنا وكذلك من خلال القرارات السياسية الجرئية التي أقدموا عليها .. وعندما نبحث في التركيبة الاقتصادية الجديدة التي طلت على المجتمعات كثيراً ما نجد تسميات إعلامية لها مقترنة بالعولمة ، لكن الاقتصادي الذي يفهم سيرورة التطور في مراحل التقدم الاجتماعي من جانبه الاقتصادي يفهم أنه مجتمع الخدمات الذي أفرزه التقدم الرأسمالي نفسه من خلال سير تطوره وتقدمه .. وعندما نسلط الضوء على الشخصيات الأربعة التي ساهمت في هذا التغيير نجد أن الأسباب الرئيسية لخطواتهم كانت تصب في عملية البحث الجدي في الخلاص من الأزمات أو لجمها مؤقتاً على أقل تقدير ، فدينغ شياو بينغ درس بجدية وضعية الاقتصاد الصيني القائم على الإقتصاد المركزي المؤّجه بقوة من الحزب الشيوعي وما يسميه بالإقتصاد المركزي الموّجه من الدولة ، كما درس تغلغل الشركات الغربية ورؤوس الأموال في الساحة الآسيوية وخاصة في اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة وهونغ كونغ وخرج بنتيجة مفادها أن تعزيز القوة الصينية لا يمر عبر عسكرة الاقتصاد بل عبر تحريره وفتح الأسواق أمام رؤوس الأموال الغربية وكذلك شركاتها ، هذا الأمر أطلق عليه إشتراكية السوق كنموذج صيني في الاقتصاد .. أما رونالد ريغان فقد أخذ أفكاره في تحرير قطاعي الزراعة والصناعة وإستخراج الثروات من القيود القانونية التي كانت تقيّدها من السياسي الأمريكي السابق في الحزب الجمهوري باري غولدواتر ( مرشح الرئاسة الأمريكية عام 1964 ) ورغم أن طروحات الأخير لم تكن تحظى بالأغلبية داخل الكونغرس الأمريكي إلاّ أن رونالد ريغان جعلها رؤية للأغلبية تبناها مع بول فولكر لتجد طريقها في خلق نمط إقتصادي عالمي جديد .. كما ساهم فولكر ومعه مارغريت تاتشر في إخراج الطبقة الأكثر سيطرة على الأسواق الى العلن وهي طبقة اللبرالية الجديدة وحوّلوها من طبقة عادية الى مبدأ مركزي يوجه الإدارة والإقتصاد على مستوى العالم ، وهذا الظهور لطبقة اللبرالية الجديدة خلق نمطاً إقتصادياً عابراً للقارات ويشمل كل أسواق العالم الاقتصادية دون حدود ، وإنتشار التقنيات الحديثة ساهم بشكل كبير في نشر الفكرة الجوهرية لهذا النمط الاقتصادي الذي تسيّد العالم .. في نفس الوقت ساهمت اللبرالية الجديدة في خلق بؤر توتر في إقتصاديات العالم عملت خلق حركة إحتجاجات واسعة على نطاق العالم سأتوقف عندها بشكل مفصل في هذا الكتاب ، بؤر التوتر أرجعها البعض الى السياسات النقدية لصندوق النقد الدولي والتي كان يفرضها على أغلب البلدان التي كانت تقترض الأموال وزجها في الإقتصاديات المحلية ، وربما ثورات الربيع العربي التي بدأت في تونس خير مثال على هذه المقاربة البسيطة .. إن وجود النظام الجديد لمجتمع الخدمات أو العولمة وطبقتها القائدة اللبرالية الجديدة جعل من أنماط الحياة الاجتماعية يتغيّر بدرجة كبيرة حتى أن هذا النمط نفسهُ أصبح سلعة في مجتمع اللبرالية الجديدة وعصرها .. وحتى نفهم الإطار العام لسياسة اللبرالية الجديدة في عالمنا وأسسها يجب أن نفهم أنها تقوم على أسس إطلاق الحريات الفردية وكذلك تشجيع المهارات التجارية الإبداعية للفرد عبر إستخدام التقنيات الحديثة ضمن إطار مؤسساتي قانوني يتصف بحمايته الشديدة لحقوق الملكية الخاصة ، فحرية التجارة لا يمكن أن تكون متاحة بين الدول دون نظم قانونية وإتفاقيات دولية تساهم في تسهيل هذه الإجراءات وجعل العالم بأسره أشبه ما يكون بقرية صغيرة .. وحرية الأسواق الاقتصادية في عالمنا الحديث خلقت بالفعل نمطاً جديداً للحياة لا يمكن لأحد أن يتجاهله لا سيما وأنه خلق طموحات وأفكار عند الغالبية العظمى من شباب العالم بتحسين نمط حياتهم ومواكبة التطورات التي تحدث في عالمنا في مختلف المجالات ، قبل سنوات طويلة كنا نطرح سؤالاً حاسماً يعكس عملية فهمنا للمنظومة الرأسمالية التقليدية التي تحكمت بالعالم بشكل مباشر في العقود السبعة ن الحرب الباردة التي اشتعلت في مطلع القرن الماضي لا تزال تفرض قوتها لكن بشكل مختلف يلائم وتطور ما وصله العقل لبشري تحت ظل العولمة وهذا السؤال هو تطور هذه المنظومة الى أين ستقودنا الرأسمالية ؟ أو بطريقة أخرى يمكن طرح السؤال بشكل مختصر لكل ما يتعلق بحياتنا وليس جانبها الاقتصادي السياسي لوحده وهو .. الى أين نحن سائرون ؟ الى أن تشير بنا هذه العولمة لا سيما وأنها أصبحت تحكم بكل تفصيل من تفاصيل حياتنا عبر تكنولوجية رقمية لا يستطيع أغلبنا فهم جوهر حركتها ومسيرتها وتأثيرها على العقل البشري وعلى مجمل تطوّر منظومة الوعي البشري .. من المعروف لدى أغلبنا من الذين فهموا ماركس فهماً جيداً أن إحدى خصائص الانتاج الرأسمالي أنه لا يمكن له إطلاقاً أن يتوقف لمدة طويلة عند نقطة معيّنة بل هو دائماً في وضع متطوّر يواكب العصر ليس حباً في الحضارة بل حباً في الربح ، وهذه العملية كما نعلم مشروطة وتبدأ دائماً بتبدل القوى المنتجة وتطورها ( أي تغيير مستوى الوعي لديها بما يتلائم مع ما يُطرح من تقنيات حديثة ) وهذا الشيء يحدث بالفعل بتغيير أدوات العمل وتطورها الى مستويات كبيرة ، لكن ما يجب ان نركز عليه هو ان الجانب القانوني الذي يواكب تطور التقنية هذه يبقى دائماً بيد الأقلية التي تشرّع القوانين من أجل ضمان ديمومة قدرتها على خلق الجديد الدائم ولا يمكن للبشر فهمه قبل مضي عقد أو عقدين على تشريع القوانين هذه حتى تتمكن من وضع اللمسات الواقعية للتعامل معها على أرض الواقع سواء من خلال النقابات العمالية أو من خلال النضال الذي تشنه البريكاريا لتغيير هذه التشريعات بطريقة تخدمها ، إن أدوات العمل أو التقنيات التي تدخل في صلب الإنتاج الرأسمالي في تطور مستمر ليس اليوم فحسب بل على امتداد التاريخ البشري ، وهذه الأدوات تقوم بدور لا نشعر به دائماً بل نلتمسه في حياتنا وهذا الدور يتمثل في تطوير المجتمع البشري ومنظومة الوعي فيه ، ودرجة تطور هذه الأدوات دليل سيطرة الانسان على قوى الطبيعة وتسخيرها لمصلحته ، ربما يبقى هذا الأمر واضحاً في حدود تصورنا للموضوع بشكله الجزئي ، لكن الصورة الأشمل تعني أن الآلة بقدر توفر العمل على نطاق واسع في المجتمعات فإنها في نفس الوقت تطرد أعداد واسعة من الأيدي العاملة المتمكنة الى الساحات ليلاقون مصير جديد من البطالة قائم على تأثير الآلة على مجرى حياته دون أن يدرك أن للتقدم عواقب يجب أن يتعامل معها من خلال شن نضال لا يتوقف عند حدود من أجل إخراج هذه الآلة من يد الأقلية التي تتحكم بمصير العامل البسيط في كل بقعة من بقاع الأرض وجعلها منصفىة إجتماعياً وإقتصادياً من خلال رفع الأجور وتخفيض الضرائب على العامل البسيط لذلك .. تستخدم الآلات والتقنيات الحديثة في النظام الللبرالي الرقمي الحديث لا في هدف توفير فرض العمل وتسهيلها بل كوسيلة لإستنزاف العمل المجاني بشكل متزايد ، فمن المعروف أن الرأسمالي لا يدفع ثمن عمل العامل بل قيمة قوة العمل التي يستخدمها فقط ، لهذا فالرأسمالي لا يلجأ الى الآلة إلاّ عندما تصبح قيمتها دون قيمة قوة العمل التي تستبدل بها ، لهذا تعمل المنظومة الرأسمالية على إبقاء الأيدي العاملة في حاوية عملاقة تسير بحسب رغبتها لا بحسب رغبة الايدي العاملة ومن ضمن هذا الإطار الذي تموضع بقوة في عصرنا الحديث عبر العولمة والتقنيات الرقمية التي تشكل عناوين جديدة لرداء اللبرالية الجديدة التي تسير الى التلوّن مع كل أزمة خانقة من أزماتها .. إن التأثير الكبير الذي أحدثته العولمة لم يقود البشرية الى التقدم روحياً وفكرياً بل ساهمت في تسطيح الوعي البشري بشكل أعمق من السابق بحيث أن كل تقدم في الآلة يقابلهُ تسطيح لهذا العقل وليس تقدماً كما تفترض دورة النظام الرأسمالي التي تحدث عنها كارل ماركس في رأس المال ، فنمط حياتنا أصبح يتلوّن بهذا النظام دون أن نشعر بتأثيراته السلبية العميقة على نمط تفكيرنا إلاّ في الأزمات السياسية والدينية والاجتماعية ، لكن كيف حدث هذا التغيير الذي لم يطرأ على بالنا في دراسة مسيرة تطور هذا النظام وأسباب أزماته وطرقه في التخلص منها ؟ الجواب بكل تأكيد أن التطور التقني ساهم بشكل مباشر في تحويل نمط حياتنا كبشر الى نمط رأسمالي مكمل لدورته الإنتاجية ، هذا الأمر يبدو مضحكاً لكننا نعيش تفاصيله ، فلكل منا نمط حياته الذي أصبح يشكل عالمه الخاص دون أن يشاركه أحد به ، ربما هنا ندخل في إطار دراسة أخرى تتعلق بالمنظومة النفسية للبشر والتي تحاول الرأسمالية إبقائها في إطار تلك الحاوية الكبرى على أن لا تخرج عن السيطرة الفعلية لأدواتها وتقنياتها .. ورغم أن نظام اللبرالية الجديدة شجعت حرية التجارة بمختلف السلع والبضائع وفق نظام نقدي يعتمد على معدلات صرف ثابتة تقوم أساساً على قابلية تحويل الدولار الأمريكي الى ذهب بأسعار ثابتة ، ولأن معدلات الصرف الثابتة لا تتوافق مع تدفق رأس المال التي بدأت ظاهرة أن لا مفر من إبقاءها تحت السيطرة .. هنا يجب أن نركز على تدفق رأس المال الى الأسواق العالمية وهي تدفق الدولار الى خارج الحدود الأميركية كعملة إحتياط أساسية للإحتياط النقدي العالمي ، وهذا التدفق لا يمكن أن يكون دون حماية القوة العسكرية الأمريكية منذ سبعينات القرن الماضي وحتى اليوم ، هذا التدفق جعل الدولار يفقد قيمته الفعلية من خلال فصله عن القيمة المقابلة لهُ من الذهب .. تحول الاقتصاد الأمريكي ومعه أجزاء واسعة من الأسواق العالمية الواقعة تحت التأثير الأمريكي المباشر ، فمنذ السبعينات من القرن الماضي انتقل النظام الاقتصادي من الرأسمالية الى مجتمع الخدمات وهو عالم نقيض الى الرأسمالية لذلك إرتفعت الديون العالمية الى أكثر من 200 تريليون دولار تم إقتراضها من مخزون العالم الرأسمالي المنهار مع إنهيار القيمة الفعلية للدولار الأمريكي ، وأولى الحقائق التي لا يمكن التغافل عنها هي أن الخدمة لا قيمة تبادلية لها حيث تتم مبادلتها على أساس يأخذ في الحسبان قوة العمل وليس الوقت الضروري لإنتاج الخدمة او البضاعة وبالتالي تنعدم هنا المقاييس الثابتة لقوة العمل على إعتبار أنه يتم تحديدها إعتباطياً بعيداً عن أي أثر لقانون القيمة ودون أن تكتسي صنمية السلعة .. إن عالم الصناعة اليوم يختلف نوعاً عن عالم الخدمات حيث لكل منهما علاقات إنتاج خاصه به ، فتغريب المنتوج عن المنتج شرط أساسي في النظام الرأسمالي لكن ذلك مستحيل في مجتمع الخدمات ، فالخدمة تُستهلك تماماً في حالة إنتاجها ولا يعود لها قيمة تبادلية ودورة الإنتاج الرأسمالي كما نعلم متكررة ومكتملة ( نقد ـ بضاعة ـ نقد ) بينما إنتاج الخدمات لا يتحقق بدورة مكتملة ( نقد ـ بضاعة ـ صفر ) وبناءاً عليه لا يمكن للرأسمالي أن يتاجر بإنتاج الخدمات .. فعمال الخدمات لا ينتجون فائضاً للقيمة وهم لذلك حسب ماركس غير منتجين ويلقون بأثقال معاشهم على العمال في الزراعة والصناعة ولو أخذنا النموذج الأمريكي في نظر الإعتبار سنجد أن 80% من القوى العاملة تعمل في مجال الخدمات ، والـ 20% الباقية لا يمكنها أن تغطي تكاليف الـ 80% لهذا تلجأ الحكومة الأمريكية لتحمل النفقات هذه ورفد السوق بأموال إضافية من خلال الإستدانة ، وهذا الأمر جعل من الاقتصاد الأمريكي نفسه إقتصاد فقاعة من خلال زج الدولار الفاقد للقيمة في الأسواق العالمية مما ينذر بحدوث كارثة إقتصادية ستهز العالم قريباً .. وتحولت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها الى طريق اللبرالية الجديدة وتبنت إقتصاد الخدمات بعيداً عن دراسة الأفق البعيد الذي قد يؤدي إليه هذا الطريق ، وتأثرت حتى الدول التي وقعت تحت التأثير الأمريكي بهذا الطريق كاليابان وألمانيا وغيرهم من الدول الصناعية التي تجمعها مع الولايات المتحدة وحدة سوقية .. وكلما تقدم عصر العولمة الرقمية شهدت عملية إحتكار الأرباح تمركزاً رهيباً وصلت عند سيطرة شركتين فعلاً على العالم هما بلاك روك وعلاء الدين وهما اليوم من يتحكم في العوالمة الرقمية بكل تشعباتها الاقتصادية والإجتماعية والسياسية والرياضية والفنية والجنسية وغيرها وتتحكم في مفاصل إقتصاديات الدول العشرة الأولى في عالمنا .. لذلك نحن أمام تحديات ليست بالسهلة لا سيما وأن أغلب الذين يتعاملون إقتصادياً وإجتماعياً عبر المنصات الرقمية أميّون بكل معنى الكلمة أمام الخوارزميات الواسعة للذكاء الإصطناعي الذي يسلبهم نمط حياتهم ويدخلهم في نمط حياة هو من يقرر شكلهُ ومضمونه .. أشد على يد العزيز رزكار عقراوي وأعتبر كتابه بمثابة بيان يساري شيوعي بديل للعصر الحديث ولا يمكن تجاخل كل فصل وسؤال طرح فيه لأنه يقودنا الى التعامل بوعي تقدمي مع مخاطر العولمة الرقمية ، ويجعل القوى اليسارية على مفترق طرق لإحتيار أساليب التعامل والوصول الى أهدافها عبر الفهم الدقيق لمتطلبات التسلح بالوعي الرقمي وتسخيره لخدمة العدالة الاجتماعية ..
#فواز_فرحان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسلمة النظام الرأسمالي ... 3
-
أسلمة النظام الرأسمالي ... 2
-
أسلمة النظام الرأسمالي ... 1
-
نمط الحياة كسلعة في النظام الرأسمالي الحديث ..
-
سرّ الملكية ..17
-
سرّ الملكية .. 16
-
الحوار المتمدّن في منتدى الاعلام العالمي في بون ..
-
خفايا سقوط الموصل .. بطولة المالكي
-
الاقتصاد والماركسية .. 15
-
الاقتصاد والماركسية .. 14
-
الاقتصاد والماركسية ..13
-
الاقتصاد والماركسية .. 12
-
الاقتصاد والماركسية .. 11
-
الاقتصاد والماركسية .. 10
-
الاقتصاد والماركسية .. 9
-
الاقتصاد والماركسية ..8
-
الاقتصاد والماركسية ..7
-
الاقتصاد والماركسية .. 6
-
الاقتصاد والماركسية .. 5
-
الاقتصاد والماركسية .. 4
المزيد.....
-
فيديو لحظة انفجار غامض أدى لمقتل ضابط روسي بارز داخل روسيا..
...
-
الحكومة الإسرائيلية تعلن عن مشروع استيطاني ضخم يضم 22 مستوطن
...
-
12 عسكريا روسيا يحصلون على 15 مليون روبل مكافأة إسقاطهم مقات
...
-
الولايات المتحدة ترفع العقوبات عن الغابون
-
هزم القذافي وهتف لسقوط فرنسا.. قصة زعيم حكم بلاده بالحديد وا
...
-
لبنان.. مداهمة منزل صحافي للتحقيق في اتصالات عاملته المنزلية
...
-
-أتلانتيك-: واشنطن تغيب عن جولة مفاوضات التسوية الأوكرانية ا
...
-
مقتل 13 شخصا في قصف إسرائيلي شمال وجنوب غزة
-
- أسطول الحرية- سيبحر في رحلة إنسانية لكسر الحصار عن قطاع غز
...
-
هجوم صاروخي على خاركيف وزيلينسكي يتهم روسيا بالخداع
المزيد.....
-
Express To Impress عبر لتؤثر
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف
...
/ زهير الخويلدي
-
قضايا جيوستراتيجية
/ مرزوق الحلالي
-
ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال
...
/ حسين عجيب
-
الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر )
/ حسين عجيب
-
التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي
...
/ محمود الصباغ
-
هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل
/ حسين عجيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
المزيد.....
|