|
التقنية التعليمية، الاستعمار الجديد، والفجوة الرقمية
جو كولمان
الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 18:17
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
في الأيام الأولى لجائحة كوفيد-19، انتشرت صورة بهدوء على الإنترنت. صورة أصبحت، ولو للحظة قصيرة، رمزًا لواقع قاسٍ. تُظهر فتاة مراهقة تجلس خارج مطعم تاكو بيل في كاليفورنيا، توازن جهاز كرومبوك على ساقيها، باحثة عن شبكة واي فاي مجانية فقط لتتمكن من حضور صفها الافتراضي. رآها البعض صورةً للإصرار، لكن في جوهرها، كانت شيئًا آخر: دليلاً على التخلي، متنكرًا في هيئة صمود.
في السنوات الأخيرة، رُوّج للتقنية التعليمية كقوة ديمقراطية شاملة. تحدث السياسيون ومديرو شركات التقنية عن مستقبل رقمي يُتاح فيه التعليم للجميع، في كل مكان، وعلى مدار الساعة. لكن في الواقع، هذه "الثورة" المزعومة لم تساهم إلا في تكريس التفاوت بدل تفكيكه. فأجهزة كرومبوك ومنصات التعلم لا تزيل الفوارق، بل ترقمنها وتخفيها خلف واجهات براقة وبوابات دخول إلكترونية.
ولكل نقرة، هناك ثمن. منصات مثل Google Classroom وCanvas تربح من بيانات الطلاب، وتحول التفاعل إلى تحليلات، والتحليلات إلى أرباح. الفصل الدراسي، الذي كان يُتصور يومًا كفضاء مدني مشترك، أصبح خاضعًا لأكواد غامضة، وعقود تجارية، ونماذج اقتصادية استنزافية.
الحداثة هنا ليست إلا تعبيرًا مخادعًا، وسيلة لتطبيع الخصخصة الهادئة للتعليم العام.
الفجوة الرقمية: بنيوية وليست تقنية
لا يزال الخطاب العام حول الفجوة الرقمية يتعامل معها كمجرد خلل لوجستي، مسألة توزيع أجهزة أو تحسين سرعة الإنترنت. لكن هذا التصور ضيق وخادع. الفجوة الرقمية لا تتعلق فقط بسرعات الاتصال أو توفر الشاشات، بل تنبع من بنى أعمق: الفقر، نقص التمويل الممنهج للمجتمعات المهمشة، وتراجع الاستثمار العام لعقود.
وفقًا لتقرير مركز بيو للأبحاث عام 2022، نحو طالب واحد من كل خمسة في الأسر منخفضة الدخل يفتقر إلى إنترنت موثوق في المنزل. لكن هذه الإحصائية لا تُظهر سوى قمة الجبل الجليدي. هؤلاء الطلاب غالبًا ما يتعلمون في مدارس محرومة، ويعيشون في مجتمعات بلا بنية رقمية أساسية، وتُشكّل تجاربهم التعليمية ضمن سياق هشاشة اقتصادية واجتماعية أوسع.
التكنولوجيا لا تُغير هذه الظروف، بل تعكسها، وغالبًا ما تعززها. ومع ذلك، تقدّم صناعة التقنية التعليمية حلولها على أنها قابلة للتوسع. تُستبدل المكتبات والمستشارون بأجهزة لوحية ولوحات تحكم رقمية. ويصبح الراوتر بديلاً لإصلاح البنية التحتية طويلة الأمد. إنها خدعة ذكية: تُعاد صياغة المشكلات العامة كإزعاجات خاصة، ويُلقى عبء التكيف على كاهل الطلاب والأسر.
هذه ليست قصة "وصول"، بل حكاية "تخلٍّ" تتخفى تحت اسم الابتكار.
الاستيلاء التجاري على الفصل الدراسي
منذ الموجة الأولى من الإغلاقات، رسخت المنصات الرقمية وجودها في المدارس بثبات لافت. ما بدأ كحل طارئ، أصبح قاعدة. تُقدَّم أدوات مثل Google Classroom وMicrosoft Teams كأنها تقنيات محايدة. لكنها، كأي بنية تحتية، تُعيد تشكيل المؤسسات التي تعتمدها.
هذه الأدوات لا تستبدل الورق بالبكسلات فقط، بل تعيد تعريف كيفية تقديم التعليم، ولمن يخضع هذا التعليم في نهاية المطاف. تقوم نماذج أعمالها على جمع البيانات على نطاق واسع: درجات التفاعل، الزمن المقضي على كل نشاط، والأنماط السلوكية. في هذا النظام، يتحول الطالب إلى حزمة مؤشرات رقمية، ويُصفّى التعلم عبر لوحات تحكم مصممة ليس من أجل التربية، بل من أجل تتبع الأداء.
ومع ذلك، فإن الأنظمة المدرسية العامة، التي تعاني من نقص الموارد، لا تملك الكثير من خيارات التفاوض. تواجه هذه الإدارات تخفيضات في الميزانية ونقصًا في الموظفين، فتلجأ إلى "حلول" جاهزة من عمالقة التقنية، منصات تعمل كمزارع بيانات. ما يُفقد في هذا التنازل ليس شيئًا ملموسًا، بل عناصر يصعب قياسها: الثقة، المشاركة المجتمعية، والحرية الإنسانية في تشكيل التعليم ديمقراطيًا. المنطق هنا ليس تربويًا، بل استغلالي.
المراقبة والسلوكية والتحكم الخوارزمي
باسم "المشاركة" و"المساءلة"، حوّلت برمجيات الفصل الحديثة المدارس إلى أبراج مراقبة رقمية. أدوات مثل ClassDojo تكافئ الطلاب بنقاط على "السلوكيات الإيجابية" – الانصياع، الهدوء، الالتزام بالمواعيد – بينما تُجمّع بصمت ملفات سلوكية يطّلع عليها المعلمون وأولياء الأمور. أما أدوات المراقبة عن بُعد مثل Proctorio فتذهب أبعد من ذلك، باستخدام الكاميرات والذكاء الاصطناعي لمراقبة "السلوكيات المريبة" أثناء الامتحانات.
هذه الأنظمة لا تراقب فقط، بل تشكّل. إنها تبرمج رؤية للتعليم باعتباره أداة ضبط، حيث يُعاد تشكيل الطلاب بواسطة الخوارزميات إلى أفراد قابلين للقياس والطاعة. يُبلّغ عن الانحراف. يُعاقب الغموض. وتُثبَّط المخاطرة – سواء فكرية أو غير ذلك – بشكل خفي.
إنها بيداغوجيا المراقبة، لا تقوم على الفضول، بل على الامتثال.
مفهوم الفيلسوف ميشيل فوكو عن "البانوبتيكون" – حيث يصبح التلصص داخليًا – يعبّر بدقة عن هذه اللحظة. طلاب اليوم لا يتعلمون فقط المحتوى، بل يتعلمون كيف يكونون تحت المراقبة. كل نقرة وكل توقف تسجل. كل تسجيل دخول هو فعل خضوع صامت لمراقبة غير مرئية.
وحتى المعلمون أنفسهم لم يسلموا. إذ تحوّل هذه الأدوات السلطة بعيدًا عن الحكم التربوي نحو منطق المنصة. يصبح التعليم أداءً. والتقييم يصبح أوتوماتيكيًا.
التعليم، الذي كان يُتخيل ذات يوم كتحرر، بدأ يشبه هندسة سلوكية.
الجنوب العالمي والسيناريو المكرر: استعمار تقني تعليمي
في الجنوب العالمي، لا يقل سحر لغة التحول الرقمي جاذبية، لكن آثاره غير متكافئة على الإطلاق. يتم الترويج للمنصات التقنية التعليمية الغربية كحل سحري للتنمية، وتُستخدم في مدارس أمريكا اللاتينية وأفريقيا وجنوب آسيا – غالبًا ضمن حزم مساعدات، أو مبادرات "خيرية رأسمالية"، أو شراكات بين القطاعين العام والخاص.
لكن هذه ليست أدوات محايدة. إنها تحمل في طياتها افتراضات ضمنية حول ماهية "المعرفة"، ومن يقرر ما يستحق التعلم، وبأي لغة يجب أن يُقدَّم. يتم تهميش الثقافة المحلية، والتقاليد الشفوية، والمعارف الأصلية لصالح محتوى جاهز باللغة الإنجليزية، متوافق مع مؤشرات النجاح الأوروبية الأميركية.
وفي الوقت ذاته، تتجه البيانات شمالًا. يتم التقاط وتحليل أداء الطلاب، ومؤشراتهم البيومترية، وأنماط استخدامهم، من قبل شركات مقرها وادي السيليكون أو لندن – فتتحول مسارات التعليم إلى مادة خام لنماذج تعلم الآلة وتحسين المنتجات.
بدأت مجموعات مثل EdTech Hub بمواجهة هذا الواقع مباشرة، داعية إلى مقاربات تقنية أكثر مشاركة ورفضًا للاستعمار. تُبرز أبحاثهم كيف أن النماذج السائدة غالبًا ما تعيد إنتاج اختلالات القوة التاريخية، وأن البدائل المستدامة يجب أن تنبع من المجتمعات المحلية، لا أن تُفرض من الممولين العالميين.
خذ، على سبيل المثال، مشاريع البنك الدولي للتقنية التعليمية في أفريقيا جنوب الصحراء، التي تعطي الأولوية للتوسع على حساب الملاءمة الثقافية. أو مدارس Bridge International Academies، التي تستخدم دروسًا مكتوبة مسبقًا وأنظمة تعليمية عبر الأجهزة اللوحية، وتواجه انتقادات حادة من المعلمين والمجتمعات المحلية.
المقاومة والبدائل واستعادة التعليم العام
ورغم هذا المد، تنمو المقاومة.
في مدن مثل شيكاغو ولوس أنجلوس، رسمت نقابات المعلمين خطوطًا واضحة ضد زحف التقنية التعليمية المؤدلجة. على سبيل المثال، تحدت نقابة معلمي شيكاغو صراحة مبادرات "التعلم المخصص" القائم على البيانات، بسبب مخاوف تتعلق بخصوصية الطلاب، وانحياز الخوارزميات، وتقليص حرية المعلم.
وفي أماكن أخرى، تبني شبكات المساعدة المتبادلة والتعاونيات المحلية بنى تحتية بديلة – من مبادرات الإنترنت المجتمعي، إلى تطوير مناهج قاعدية. يعد مشروع "تقنية المجتمع في ديترويت" نموذجًا رائدًا، يعرض رؤية للنفاذ الرقمي قائمة على الاستقلال لا التبعية.
يتجه بعض المربين نحو المصادر التعليمية المفتوحة (OER)، رافضين المنصات الربحية لصالح محتوى مرن ومرتبط بالثقافة المحلية. ورغم أن هذه الجهود غالبًا ما تُهمّش وتُحرم من التمويل، إلا أنها تمثل تمردًا هادئًا ضد هيمنة المنصات.
ما يوحد هذه المبادرات ليس مجرد الرفض، بل رؤية استباقية للتعليم كمنفعة عامة. تعليم تُحاسب فيه التقنية أمام الناس لا أمام المساهمين. تعليم يقوم على العلاقات لا المعاملات. تعليم تُقاس فيه السيادة، لا الحجم.
الخاتمة: نحو ممارسة تقنية تحررية
إن دمج التقنية التعليمية في المدارس العامة لم يكن حياديًا، ولا مفيدًا للجميع. بل بدلاً من سد الفجوات، زاد من حدة الانقسامات. وبدلًا من ديمقراطية المعرفة، ثبّت هيمنة رأس المال.
لكن هناك طريق آخر – ضروري وممكن.
ممارسة تقنية تحررية تبدأ من فهم أن التعليم لا يُصلَح بالكود وحده. بل يتطلب إعادة تصور الملكية، ومقاومة منطق الاستغلال، والإصرار على أن تخدم التكنولوجيا أهداف العدالة لا الكفاءة فقط.
علينا أن نسأل: من يصمم هذه الأنظمة؟ من يستفيد منها؟ ومن يتم استبعاده أو إسكات صوته عبر مقاييسها؟
حان وقت تجاوز أوهام "الحلول التقنية". وبدلاً من ذلك، علينا بناء تقنيات تعليمية من القاعدة، خاضعة لحكم المجتمع، مصممة بوعي نقدي، ومتجذرة في التضامن، لا في التوسع.
كما قال باولو فريري:
"إما أن يكون التعليم أداة لفرض الامتثال… أو يكون ممارسةً للحرية".
وهذا الزمن يفرض علينا أن نختار الخيار الثاني – وننظم أنفسنا من أجله.
نرجم من الانكليزية. https://znetwork.org/znetarticle/edtech-neocolonialism-and-the-digital-divide/
#جو_كولمان (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التقنية التعليمية، الاستعمار الجديد، والفجوة الرقمية
المزيد.....
-
سموتريتش لنتنياهو: لن أسمح باتفاق جزئي.. ومن الحماقة تخفيف ا
...
-
الدفاع الألمانية: كييف ستسلم أولى أنظمة الصواريخ البعيدة الم
...
-
-ابتعد أيها الخاسر-.. قراءة شفاه تكشف ما دار بين ماكرون وزوج
...
-
الخارجية الإيرانية تنفي مزاعم لـ-رويترز- حول احتمال تعليق ال
...
-
وزير الخارجية الإيطالي: على أوكرانيا استخدام أسلحتنا داخل أر
...
-
مراسلنا في لبنان: قوة إسرائيلية تتوغل جنوبي البلاد والجيش ال
...
-
السنغال.. طرد السفير الإسرائيلي من حرم جامعة في دكار وسط هتا
...
-
هل باتت تسوية النزاع الأوكراني قريبة؟
-
حماس: توصلنا لاتفاق مع ويتكوف على اتفاق لوقف إطلاق النار
-
فيديو.. السقا يؤكد انفصاله عن زوجته
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|