|
تهجيري الخامس!
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 10:02
المحور:
سيرة ذاتية
سأظل أتذكر مقالا كتبه الصحفيُ الإسرائيلي، سيفر بلوتسكر المحلل الاقتصادي لصحيفة يديعوت أحرونوت منذ سنوات بمناسبة إعلان قيام إسرائيل، أثارني هذا المقال، لأنه يتعلق بمعاناة أسرته اللاجئة في بلدان العالم! سرد الصحفي، سيفر بلوتسكر في مقاله حالة اللجوء التي تعرضتْ لها أسرتُه اليهودية منذ ولادته وحتى وصوله إلى أرض الميعاد، قال: "ولدتُ في بولندا، ثم هاجرتْ أسرتي إلى روسيا ثم عادت الأسرة مرة ثانية في هجرة ثالثة إلى بولندا، ثم أخيرا في إسرائيل"! أما أنا يا سيد بلوتسكر في الذكرى السابعة والسبعين لإعلان دولتكم، أنا صاحبُ البيت الذي بناه جدي في أرضي بيديه، هو اليوم أصبح مِلكا حصريا لمهاجرٍ يهودي يمني، ولدتُ قبل إعلان تأسيس دولتكم بتسعة شهور في قريتي، بيت طيما، إليك مسلسل تهجيري: بدأ تهجيرينا الأول يوم تأسيس دولتكم في الخامس عشر من شهر مايو 1948 حين احتضنتني والدتي من سرير نومي المصنوع من خشب زيتوننا وبرتقالنا، هُجِّرنا في اتجاه الغرب إلى حيث البحر هروبا من قصف كتائب جيشكم المسلحة ومن قنابل الطائرات، خرجت عائلتي كلها من بيت جدي المملوء بحبوب الذرة والقمح والشعير، كنا نسير جوعى، رفض جدي التهجير وقال اعتزازا بحقله وبيته: "سأبقى في أرضي، جذوري هنا؟" حاول والدي إجباره على الخروج، ولكنه تشبث بفرشة نومه المملوءة بصوف خرافه، إلى جوار بكرج القهوة المملوء بقهوته المطحونة بمصحان صنعه من فرعٍ من شجرة الليمون! كنا نظنَّ أن هذا التهجير مؤقتٌ، وأننا سنعود بعده إلى بيتنا وحقولنا بعد وقت وجيز، كانتْ حياتنا في غزة تعتمد على ما تقدمه وكالة الأونروا لنا من غذاء بسيط ومسكنٍ في خيمة صغيرة، ولكنَّنا لم نتمكن من العودة إلى بيت جدي مرة أخرى، عاد والدي متسللا لبيت جدي، كان ما يزال آملا أن يجد والده حيا، ولكنه وجد جدي المزارع البريء مقتولا برصاصة في الرأس، فاضطر لأن يحفر له قبرا ويدفنه في بيته! كنا في غزة نجاور البحر، نوقد من بقايا قطرات نفط السفن المتجمدة، التي تلقيها الأمواج على الشاطئ لنصنع الطعام، كانت مياه شربنا تَضخ من حفرة عميقة صنعتها وكالة الأونروا بمضخة يدوية صغيرة لكل المهجرين من بيوتهم، كانت مياهها مالحة، كنا ما نزال مقتنعين بأن حالنا سيتغير وسنعود من جديد لشرب شهد ماء بئرنا الحلوة في قريتنا الأصلية، كنتُ أنا يا سيد بلوتسكر أسيرُ أكثر من أربعة كيلو مترات على قدمي الحافيتين لأصل إلى المدرسة الابتدائية البعيدة عن بيتنا، ولم أكن أملك حذاء مناسبا أو حقيبة مدرسية، كانت حقيبة مدرستي قطعتين من فستانٍ بالٍ صنعته أمي لأضع فيها كتبي ودفاتري وقلم الرصاص! كنتُ أحملُ في الصباح في هذه الحقيبة رغيفا واحدا مقسوما نصفين، أشتري بنصف الرغيف قرصين من الفلافل، لأمضغها مع النصف الثاني! كان معظمنا يعاني من عدة أمراضٍ أهمها، مرض الأنيميا ومرض الإصابة بدودة الإنكلستوما التي تتغذى على الدم! أما التهجير الثاني فقد كان عندما التحقت بجامعة القاهرة لأكمل دراستي الجامعية، حين اشتعلت حرب عام 1967م وكنتُ قد أنهيت دراستي في القاهرة، فقد حُرمت من العودة حتى إلى مركز لجوئي الأول في غزة، صرتُ مُهجَّرا في القاهرة، بدلا من بيت جدي الأول في قريتي، وبدلا من خيمتي وغرفة القرميد في غزة مركز تهجيري الأول! بعد جهدٍ تمكنت من الحصول على عقد عمل في الجزائر، لتكون الجزائر مقرا لتهجيري الثالث، كانت المشكلة يا سيد بلوتسكر كيف أتمكن من جمع ثمن تذكرة الطائرة من القاهرة إلى الجزائر، أخيرا تمكنت من اقتراض مبلغ من صديقين، وصلتُ الجزائر وتمكنتُ من الحصول على وظيفة، بقيتُ في الجزائر ست سنوات! قررتُ أن أتزوج من فناة فلسطينية، حتى يظل بيت جدي يسكنني في تهجيري الرابع إلى دولة أخرى وهي ليبيا، حيث مكثت مهجرا فيها سبع سنوات كاملة، أنجبتُ فيها بنتا وولدا، قضيتُ عطلتي في قبرص لأتمكن من تسجيلهما في سفارتكم هناك، لأن غزة كانت محتلة من جيشكم، ظللتُ أنا مشردا لا أملك هوية المواطن، فانا محتاجٌ إلى جمع الشمل بأسرتي! وفي تهجيري الرابع قررتُ أن أستغل فرصة وجودي في العطلة الصيفية في الأردن، وأتقدم بطلب عمل في المملكة العربية السعودية، لذلك غيرتُ مركز إقامتي لأصبح مهجرا للمرة الرابعة في السعودية، حيث قضيتُ فيها عشر سنوات كاملة، إلى أن قررتُ أن أعيد أسرتي إلى مقر تهجيري الثاني في غزة، لعل زوجتي وابنيَّ يتمكنون من الحصول على جمع شملي في غزة، بالقرب من بيت جدي الذي لا يبعد عن غزة سوى أقل من عشرين كيلومترٍ! بقيتُ في السعودية وحيدا مدة عام كامل، إلى أن وصلني الخبرُ السعيد وهو أنني لم أعد مهجَّرا بل سأعود إلى مهجري الأول في غزة، حيث تمكنت بكل ما جمعته من نقود أن أشتري ثلاث شقق بالتقسيط، واحدة لي وثانية لابنتي وثالثة لأبني، عشتُ في حلم سعيد، وهو أنني قريب من بيت جدي، ومن سرير ولادتي، وأنني لم أعد مهجرا ولم أعد مطالبا بالخضوع لإجراءات الحصول على إقامة، وضرورة حمل هذه الإقامة في جيبي في كل مكان أدخله! أنا اليوم يا سيد بروكر خسرت في مهاجري كل ممتلكاتي، فقد تركتها بكامل أثاثها، لم أكن أتوقع يوما أن كلَّ ما جمعتُه من حصيلة التهجير سوف يتقوض من جديد في حرب الإبادة يوم السابع من أكتوبر عام 2023م، وأنني لن أحظى حتى بقبرٍ قريب من بيت جدي يضم رفاتي، فقد دمرت طائراتكم شقتي وشقة ابنتي وشقة ابني، حتى كتبي وملابسي سُرقت وكل ما أملكه، بصعوبة تمكنتُ من جمع بقايا ما أملكه من مال لأتمكن من أن أعود مهجرا ومعذَّبا جديدا في تهجيرٍ خامس قاسٍ في هذا العمر المتأخر لأدفن بعيدا عن بيت جدي! هذا هو الفرق بيني وبينك أيها الصحفي، سيفر بلوتسكر، فأنت قد أنهيتَ هجرتك برجوعك إلى أرضي، أما أنا فقد هُجِّرتُ من بيت جدي وأرضي وحقلي لأموت مهجرا في بلاد الغربة، فمن هو المهجَّر الأكثر تعذيبا؟!
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماذا تريد إسرائيل من غزة؟!
-
تشرشل وشكسبيرّ
-
صحغيو فلسطين آهداف عسكرية!
-
في ذكرى المبدع جمال حمدان!
-
أين اختفى اليساريون الإسرائيليون؟!
-
قصتان عالميتان عن مرض الحزبية!
-
مخطط إسرائيل للسلطة!
-
ماذا بعد اغتصاب الضفة العربية؟
-
ما مخططهم لغزة؟
-
احتفالاتهم، واحتفالاتنا!
-
غزة وفندق الكمبردور!
-
مباحثات نتنياهو وترامب!
-
حزب الذبابة!
-
نحلة طالبان اليهودية!
-
نزوح بسبب قنبلة!
-
من هي جان دارك دونالد ترامب؟!
-
قصة جاري الحمار!
-
شمال إسرائيل، أم جنوب لبنان؟
-
طاحونة والدي!
-
لماذا اختارت الحكومة العميقة ترامب؟
المزيد.....
-
رئيس جنوب إفريقيا يعلق لـCNN على لقائه مع ترامب الذي شهد -مو
...
-
بوتين من كورسك: روسيا ستحقق كل أهدافها
-
بهية مارديني: لا خلافات أساسية بين موسكو ودمشق وتجربة بغداد
...
-
نائبان أمريكيان ينقلان موقف الشرع من اتفاقات إبراهام وشروطه
...
-
الدفاعات الجوية الروسية تسقط 77 مسيرة أوكرانية في الأراضي ال
...
-
-أكسيوس-: البيت الأبيض في ولاية ترامب الثانية بات خطرا وفخا
...
-
روبيو: الولايات المتحدة منفتحة على أي اتفاق سلام بين روسيا و
...
-
نائبة أيرلندية تدعو لوقف الاستثمارات مع إسرائيل ومعاقبتها
-
الاحتلال ينذر بإخلاء مخيم جباليا و13 حيا شمال قطاع غزة
-
أوروبا تحذر إسرائيل من تجويع الفلسطينيين بعد 20 شهرا من الحر
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|