هويدا صالح
روائية ومترجمة وأكاديمية مصرية
(Howaida Saleh)
الحوار المتمدن-العدد: 8349 - 2025 / 5 / 21 - 08:08
المحور:
الادب والفن
أصبحت التكنولوجيا نفسها موضوعًا رئيسيًا في القصة القصيرة المعاصرة، حيث يستكشف الكتّاب قضايا مثل الواقع الافتراضي، والمراقبة الرقمية، والعلاقات عبر الإنترنت، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي على السلوك الإنساني، حيث يوظف مؤلفون مثل الأمريكيان تيد تشيانغ وكارمن ماريا ماتشادو عناصر خيالية وتأملات فلسفية لدراسة التداعيات الأخلاقية والنفسية للتطور التكنولوجي، مما يمزج بين الأدب الواقعي والخيال العلمي والرؤى المستقبلية، وهذا ما فعله أيضا عاطف عبيد في المجموعة القصصية التي صدرت مؤخرا (2025)عن مؤسسة بتانة الثقافية بعنوان" راوتر شيخ البلد" ، صحيح أن ثمة عتبات قرائية كثيرة تصلح لقراءة هذه المجموعة إلا أن التكنولوجيا وتمثلاتها في الواقع المعاصر هو الخط الدرامي الأبرز الذي يربط نصوص المجموعة بدءا من العتبة القرائية الأولى "العنوان" مرورا بتمثلاته المختلفة في النصوص كلها.
يرصد عاطف عبيد في نصوص المجموعة كيف غيّر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي الطريقة التي يدرك بها الأفراد هوياتهم ويشكلونها. فعالج في كثير من النصوص فكرة أن الهوية التي لم تعد ثابتة أو موحدة، بل أصبحت مجزأة عبر منصات رقمية مختلفة. وكشف أيضا كيف عانت شخصيات المجموعة من صعوبة في الحفاظ على هوية متماسكة أثناء تنقلهم بين هويات متعددة عبر الإنترنت. وأصبح التناقض بين التمثيل الرقمي والهوية الواقعية مصدرًا للصراع الداخلي، مما أدّى إلى الشعور بالاغتراب أو الشك الذاتي أو حتى التدمير الذاتي.
في النص الذي منح المجموعة القصصية اسمها" راوتر شيخ البلد" نرى كيف تحوّل الراوتر الذي وهبه أبناء شيخ البلد لسكان القرية صدقة جارية عن روح الأب رابطا يجمع الناس، وفي مفارقة تكشف عن المحاكاة الساخرة التي كانت نسغا آخر يجمع النصوص نكتشف أن الراوتر كان وسيلة السلطة للتجسس على الناس" التف الناس حول الراوتر المجاني. بدأ الزحام حول الدار، صبابا وشباب ، طلبة وموظفون ..واللي ماشي في الطريق تثقل خطاه عند الراوتر، يمشي على مهله، وأصبح سماع تنبيهات واتساب وماسنجر وفيسبوك بكثرة حول الدار أمرا طبيعيا جدا"(ص27).
المكان السردي والمحاكاة الساخرة
حين يختار الكاتب موضوعا مثل تمثلات التكنولوجيا لتدور أحداث نصوصه في القرية فهو وجه من أوجه المفارقة وتتابع للمحاكاة الساخرة، فالقرية التي من المفترض أن الحياة فيها تقليدية محافظة تلتحق بركب التكنولوجيا مثلها مثل المدينة تماما، لا فارق زمني بين استهلاك التكنولوجيا في القرية والمدينة، فالتكنولوجيا استشرت في القرية حتى أن موت أحدهم يتم إعلانه على صفحة القرية على الفيس بوك، بل يغالي الناس حتى أن الرجل يرتب لجمع أنفاره الذين يعملون في حقله عبر تطبيق الواتس آب، يقول في نص" مفرمة الموبايلات القديمة" لا يرصد فيها تطورات التكنولوجيا بقدر ما يرصد الآثار النفسية التي تتركها التكنولوجيا على الأفراد" توضع كل الموبايلات في طاحونة ضخمة ترمي مخلفات الطحن في المصرف الخاص بمحطة الصرف الصحي فتطفو على مياه المجاري في المصرف كل أحاديث الأنبوكس والصور المعدلة بالفلاتر وتلقيح الناس على بعضهم البعض في الفيسبوك"(57).
كانت القرية هي المكان السردي المفضل في مجموعته القصصية الأولى" السيدة كاف" التي صدرت عام 2015 عن دار روافد، حيث تدور معظم قصص" السيدة كاف"، سواء القصص القصيرة جدا أو القصص القصيرة في أجواء الريف المصري، شخصياتها قد تكون تعثرت فيها في قريتك في زمن ما أو مكان ما، زاوية الرؤية التي يرى فيها الكاتب العالم هي الانتصار لكل ما هو مهمش ومقصى، تنتصر لمن هم على يسار العالم/ المركز أو المدينة، لكن قرية 2025 في " راوتر شيخ البلد" حيث تتسابق القرية مع المدينة في الاستفادة من معطيات التكنولوجيا التي وزعها الكاتب في نصوصه بمهارة شديدة لتكشف عن هذا الوعي بهذه التكنولوجيا، في نص" جلابية فلاحي" يغبط السارد ابن عمه على ارتدائه لهذا الرداء الريفي المريح، لكنه يكتشف أن ابن العم يتابع حياة المدينة ويهتم بتفاصيل عالمه وعالم المدينة" باغتني بسؤال:
ـ أنت شغال إيه في القاهرة يا عاطف يا بان عمي؟
ـ شغال استشاري نظم معلومات يا خضير
ـ ما تعرفش الماوس الاستعمال عامل كام دلوقتي في مول البستان؟"(ص17).
وفي نص "ورد" يكشف ارتباط أهل القرية بمواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت، يقول:"
أول منشور على صفحة بلدنا على فيسبوك كان تهنئة بعيد الحب الفلانتين.. تعليقات كثيرة مع وضد.. غير أن هناك تعليقا لفت نظري من الحاج " مسعد الغلبان" كتب في تعليقه" رغم كل الغيطان اللي في بلدنا بس معندناش ولا مشتل ورد"(ص23).
الحمولات الثقافية في النصوص:
لا يراهن عاطف عبيد على الحكاية فقط، بل يسعي لأن تحمل حكاياته حمولات ثقافية وأسئلة كبرى تكشف عن رؤيته للعالم، رؤية منحازة للهوية الوطنية والبحث عن أسئلتها الكبرى، في نص" 4 دراجات" يقسمه إلى أربع محطات سردية يرصد فيها تحولات الوعي بالهوية الوطنية، تحولات ثقافية كبرى انتقل فيها السارد بوعي فلاحي القرية من أكتوبر 73 حيث استيقظت القرية على صوت انفجار كبير في مدينة " سخا" فخرجت القرية عن بكره أبيها تركب الدراجات باتجاه سخا لرؤية الطيار الإسرائيلي الذي سقطت طائرته في أرض الأرز في مدخل سخا، وكانت تروس الدراجات تلتف على أذيال جلاليب الفلاحين، وقد اختلفت الروايات حول الواقعة، لكن" اتفقت جميع الحكايات أن الطيار الصهيوني خرج من غيط الأرز بأعين مكسورة"(ص35).
ثم ينتقل بالوعي القروي في محطة سردية تالية، المقطع رقم (2)، فخرجت أيضا القرية باتجاه المحطة راكبة دراجات، حيث ثمة حدث آخر نال اهتمام القرويين، حدث بسيط لكنه يشير إلى الانفتاح الاقتصادي وما أحدثه في المجتمع من تغيرات ديموغرافية " في يوليو 1978، قبيل عصر يوم حر، رأيت على باب الشارع 80 دراجة متجهة كلها ناحية المحطة. سألت عطوان ابن عمتي قال لي: توحة صاحبة المقهى اللي على المحطة جابت عصير جديد اسمه" بست" بطعم التفاح. الناس كلها رايحة تجرب الطعم الجديد"(ص36).
في المحطة السردية الثالثة، في مقطع رقم (3)، حيث ينتقل الوعي إلى محطة استهلاكية جديدة تبعده عن أجواء الانتصار في أكتوبر 73، تجعله ينسى الانكسار في عيني الطيار الصهيوني، تجعله ينشغل بالاستهلاك أكثر، فبعض الناس القرية خرجوا أيضا ليشاهدوا حدثا رأوه مهما، وهو فوز ابن شوكت العمروسي بدراجة في مسابقة "بم بم"، وينتهي الكاتب في المقطع الرابع الذي أرخه بـ (2024) حيث تتابع صفحة البلدة على الفيس بوك في بث مباشر مسابقة الدراجات التي أقامها شباب القرية. وهكذا يستمر عاطف عبيد في تسريب إشاراته الثقافية التي تكشف التغير في الوعي والرؤية لدى سكان هذه القرية.
خطاب العتبات النصية:
يفيد الكاتب من الجماليات المرتبطة باستخدام العتبات النصية—مثل الإهداءات، المقدمات، والعناوين—دورًا حاسمًا في تشكيل تفاعل القارئ مع النص السردي وتفسيره وتجربته. حيث تعمل هذه العناصر كـ"عتبات" توجه القارئ إلى العالم السردي، حيث تحدد التوقعات، وتوفر السياق، وتؤطر النص بطرق معينة.
حيث تكمن جماليات العتبات النصية في قدرتها على "تأطير النص، وتوجيه القراءة، وإثراء تجربة القارئ. فبعيدًا عن كونها مجرد عناصر شكلية، تلعب العناوين والإهداءات والمقدمات دورًا فنيًا وهيكليًا في تشكيل كيفية تلقي النص السردي وفهمه.
وقد أفاد عاطف عبيد من تلك العتبات، بداية من العنوان الذي سرّب للقارئ أن سردية التكنولوجيا ستكون سردية رئيسية في النصوص، مرورا بالإهداء إلى أخيه، ليمنح النص مساحة حميمية من الذاتية التي ترتبط بشخصية الكاتب" إلى أخي أحمد.. رحلت يا صديقي وتركت كل الحكايات في صدري وحيدة"، وصولا إلى تصديرين في صفحتين متتاليتين يكشف في أولهما عن رهان المجموعة التي يعد القارئ بأن تقدم له جرعة من الدهشة" اللي أوله شرط آخره دهشة.. كل هذه القصص من خيال المؤلف". وأخيرا إلى التصدير الأخير الذي يربك القارئ ويقنعه أن هذه القرية التي تدور فيها الأحداث قرية خيالية، رغم أنها معينة في السرد بإطار مكاني محدد" لا تبحث عن هذه القرية على خرائط جوجل، فكل الحكايات خرابيش مبعثرة على جدار روحي البحري، ولا تسأل عن طريقة ترتيب القصص في الكتاب، فلا توجد خرابيش مرتبة".
#هويدا_صالح (هاشتاغ)
Howaida_Saleh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟