|
في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية
الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
الحوار المتمدن-العدد: 8347 - 2025 / 5 / 19 - 18:44
المحور:
القضية الفلسطينية
في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية
الكتاب: في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية الكاتب: الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين- اللجنة المركزية الطبعة الأولى: أيار/ حزيران 2025 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جميــــــــــع الحقـــــــــــــوق محفوظــــــــــــة ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الناشر: المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات (مـلف) / دمشق، ص.ب. 11488 هاتف: 6315740 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ التوزيع: شركة دار التقدم العربي للصحافة والطباعة والنشر/ بيروت ص.ب 6047/14، هاتف: 305596 والدار الوطنية الجديدة / دمشق، ص.ب 5953 هاتف: 4418202 ــــ 2248560 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الإخراج الفني: زكريا شريف تصميم الغلاف الخارجي: جمال الأبطح موافقة وزارة الإعلام: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سلسلة «من الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر»- 21
في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
هذا الكتاب.. ■ ربما لو قُدرتْ قيمة البلدان بكم الدم المبذول فداءً لها، والأرواح التي زُهقت من أجلها، لكانت فلسطين - بمساحتها الصغيرة - أثمنها على الإطلاق. مواكب من المناضلين الفلسطينيين والعرب ومن أربع جهات الأرض قضوا من أجلها على امتداد مئة وخمسة وعشرين عاماً، وماتزال أرتال الشهداء تسلك الطريق نحوها حتى اليوم. وإذا كان معظم الفلسطينيين يتحدرون من صلب اللاجئين المكتوين مباشرة بمأساة النكبة الكبرى وما سبقها من مجازر، فإنهم جميعاً بلا استثناء ذاقوا، في آن معاً، فخر ومرارة وداع واحد على الأقل من أقربائهم على طريق الشهادة. وعلى الرغم من أن مواكب الشهداء تحتل صدارة المشهد الفلسطيني، إلا أن هذا لا يعني على الإطلاق أن الفلسطيني بات متعايشاً مع الموت. بل على العكس تماماً، فهو يؤكد مع فجر كل يوم جديد أنه يعشق الحياة «إذا ما وكلما استطاع إليها سبيلاً»، لكنه يريدها كما يجب أن تكون: حرة، كريمة، على هيئة وطن متحرر من الإحتلال. ■ الكتابة عن الشهداء، لا تتصل بـ «أدب الرثاء» المتعارف عليه في التصنيفات الأدبية، لأن لوعة الفقد تنزوي أمام عظمة التضحية ونبل الهدف؛ وهو ما سنلحظه بين دفتي هذا الكتاب بدءاً من عنوانه؛ «في ذكرى الرحيل .. بأقلام من الجبهة الديمقراطية»، وصولاً إلى النصوص الواردة فيه، والتي نُشرت في أوقات متفاوتة وعلى منابر وطنية مختلفة، وقد أمكن جمعها بفعل جهد حثيث بذله عدد من مناضلي الجبهة الديمقراطية، ومعهم صف من المثقفين والكتاب والباحثين ممن نشطوا في أطر الجبهة ومؤسساتها، بدافع الحرص على استعادة القيم العظيمة التي مثلها فكراً وسلوكاً، من سبق على درب الشهادة. ■ وبما أن معظم مساهمات هذا الكتاب نهلت، في جزء مهم منها، من الذاكرة الشفهية الفلسطينية، عندما أصَّلَت لتضحيات الشهداء ووضعتها في امتداد مسار من سبقهم في مقارعة الإستعمار الغربي والمشروع الصهيوني، فإنها تكون بذلك قد أغنت هذه الذاكرة وعملت على توثيقها، وقامت بالتالي، بوضع المثل السامية، التي يعبق بها الكتاب، أمام الأجيال الفلسطينية اليافعة، لتقرأ فيها صفحات مشرقة من تاريخ النضال الوطني الفلسطيني بمداد التضحية والإقدام، ولعبت، بالتالي، دوراً حيوياً في صون الهوية الوطنية الفلسطينية من خلال تمليك هذه الأجيال مكونات الرواية الفلسطينية بشقيها.. الشفهي والمكتوب، وبالسمات الأساسية للهوية الوطنية الفلسطينية المنبثقة من الإنتماء العضوي، التاريخي والجغرافي، لفلسطين■ ■■■
تتوزع مقالات الكتاب على سبعة فصول: ■ الفصل الأول بعنوان «قادة من فلسطين»، وفيه شهادات كتبت في السير النضالية لـ 9 من القادة الفلسطينيين ممن لعبوا دوراً هاماً ومفصلياً في قيادة حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وتركوا بصماتهم على مسارها اللاحق: 1- ياسر عرفات - 1929/2004، الشخصية القيادية الفلسطينية الأكثر تأثيراً في مسار العمل الوطني الفلسطيني الائتلافي. ترأس، إلى جانب حركة «فتح»، اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بين عامي 1969 و2004. 2- د. جورج حبش - 1926/2008، مؤسس حركة القوميين العرب والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو من الشخصيات البارزة في مسار الثورة الفلسطينية المعاصرة. 3- إسماعيل هنية - 1963/2024، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية – حماس. طالته يد الغدر الصهيونية في العاصمة الإيرانية، طهران - 31/7/2024. 4- فتحي الشقاقي - 1951/1995، مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، إغتالته يد الغدر الصهيوني في مدينة سليما بجزيرة مالطا – 26/10/1995. 5- بشير البرغوثي – 1931/2000، القائد الوطني والتقدمي الفلسطيني البارز، شغل موقع الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني، ومن ثم لحزب الشعب الفلسطيني، له مساهمات مهمة في البحث والكتابة والترجمة. 6- أبو علي مصطفى - 1938/2001، أحد قادة العمل الوطني البارزين، تولى موقع الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. إغتالته يد الغدر الصهيونية في رام الله - 27/8/2001. 7- بسام الشكعة - 1930/2019، من أبرز قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية في الضفة الغربية، ساهم إلى جانب صف من القيادات الوطنية في الضفة الغربية بتكريس وحدانية تمثيل م.ت.ف للشعب الفلسطيني بمواجهة المشاريع الإسرائيلية لخلق بدائل عن المنظمة. 8- خليل الوزير/أبو جهاد– 1935/1988، أحد أبرز مؤسسي حركة التحرير الوطني الفلسطيني، «فتح»، تولى الإشراف على العمليات العسكرية للحركة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. إغتاله الـ«موساد» الإسرائيلي بتونس – 19/4/1988. 9- محمد الضيف- 1965/2024، القائد العسكري لكتائب عز الدين القسام والعقل المدبر والموجه لمسار المواجهات العسكرية مع قوات الإحتلال في محطات فاصلة، آخرها «طوفان الأقصى»- 7/10/2023. ■ وتحت عنوان «قادة من حركة التحرر الوطني»، يتوقف الفصل الثاني أمام محطات من حياة ستة من قادة حركة التحرر الوطني العربية: 1- كمال جنبلاط - 1917/1977، من أبرز أعمدة الحركة الوطنية اللبنانية، ورئيسها حتى تاريخ إستشهاده غيلة – 16/3/1977. لعب دوراً مؤثراً في مسار النضال الوطني والديمقراطي على الصعيدين اللبناني والعربي، وكان حليفاً مسانداً للنضال الوطني الفلسطيني وللشعب الفلسطيني عموماً. 2- محمد بنسعيد - 1925/2024، أحد قادة حرب التحرير الوطني المغربية ضد الإستعمار الفرنسي. ربطته علاقة كفاحية متينة بالشعب الفلسطيني وقيادته وخاصة الرفيق نايف حواتمة، الأمين العام المؤسس للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. 3- أنطون سعادة - 1904/1949، مفكر لبناني أسس «الحزب السوري القومي الإجتماعي». كان سعادة من أوائل الذين دعوا إلى مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين قبل استفحاله. وهو القائد السياسي الأهم في مشرقنا العربي، الذي استشهد بحكم إعدام جائر صدر عن النظام الرسمي الحاكم في لبنان – 8/7/1949. 4- فرحات حشّاد - 1914/1952، مناضل سياسي ونقابي تونسي شكل بدوره الداعم للنضال الوطني الفلسطيني عنواناً للعلاقة الأخوية والكفاحية بين الشعبين التونسي والفلسطيني. في 5/12/1952 تم إغتياله بعملية دنيئة على يد صنائع الإستعمار الفرنسي. 5 - معروف سعد – 1910/1975، مناضل نقابي وسياسي لبناني، كان في مقدمة من حملوا السلاح دفاعاً عن فلسطين. حمل هموم الفقراء وطالب بحقوقهم في الشارع وتحت قبة البرلمان. إغتالته الأيدي السوداء، خلال تظاهرة لصيادي السمك في مدينة صيدا – 6/3/1975. 6- أحمد نبيل الهلالي - 1922/2006، مناضل يساري مصري من أبرز مؤسسي «حزب الشعب الإشتراكي» - 1987. يعتبر الهلالي أن الموقف من القضية الفلسطينية يشكل معياراً للفرز بين الأصدقاء والأعداء. ■ الفصل الثالث جاء تحت عنوان: «قادة من الحركة النسائية»، ونقرأ فيه المساهمات الكفاحية السخية لــ 6 مناضلات لعبن دوراً بارزاً في قيادة الحركة النسائية الفلسطينية وأطرها السياسية والنقابية: 1- عصام عبد الهادي - 1928/2013، إحدى رموز العمل الوطني والنقابي الفلسطيني. لعبت دوراً هاماً في تظهير الحقوق الوطنية في المحافل العربية والدولية من موقعها كرئيسة للإتحاد العام للمرأة الفلسطينية بين عامي 1965 و2009. 2- نهاية محمد - 1948/2015، نائب رئيسة الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية وعضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، قادت مفاصل عمل سياسية ونقابية عدة في الجبهة والإتحاد العام، في كل من سورية والضفة الغربية وقطاع غزة. 3- سميحة خليل- 1923/1999، من أبرز المناضلات الفلسطينيات تحت الإحتلال. نشطت في الحركة النسائية منذ خمسينيات ق 20، وساهمت في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية - 1964، والإتحاد العام للمرأة الفلسطينية - 1965. 4- آمنة الريماوي- 1957/2021، مناضلة فلسطينية جمعت مابين الدور السياسي في إطار مسئولياتها في اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والدور النقابي القيادي في إتحاد نقابات عمال فلسطين. رُشحت لجائزة نوبل للسلام - 2005. 5- شادية أبو غزالة- 1949/1968، من طليعة المناضلات الفلسطينيات اللواتي إنخرطن في الكفاح المسلح. شكلت أول خلية نسائية مسلحة في الضفة الغربية، واستشهدت خلال الإعداد لتنفيذ عملية فدائية في نابلس - 28/11/1968. 6- نجلاء ياسين/ أم ناصر- 1937/2015، المناضلة السورية التي عشقت فلسطين ونذرت حياتها من أجلهاـ لعبت دوراً وطنياً وحدوياً كمناضلة في حركة فتح، وكعضو في الأمانة العامة للإتحاد العام للمرأة الفلسطينية. ■ «أُدباء في دروب العمل الوطني» هو عنوان الفصل الرابع، ويتناول دور 4 أدباء وشعراء فلسطينيين وعرب، لعب إنتاجهم الإبداعي دوراً هاماً في مسار النضال الوطني الفلسطيني: 1- محمود درويش – 1941/2008، الشاعر الفلسطيني الأكثر تأثيراً على حركة الشعر العربي، ساهم منذ بداياته في حماية الثقافة الوطنية الفلسطينية في مواجهة محاولات طمسها على يد المؤسسة الصهيونية عقب النكبة. 2- سالم النحاس - 1940/2011، مناضل سياسي وأديب أردني بارز. لعب دوراً مهماً في النضال الوطني الديمقراطي في الأردن، مؤسساً لمنظمة الجبهة الديمقراطية في الأردن- «مجد»، وفي إمتدادها لحزب الشعب الديمقراطي الأردني- «حشد»، وفي تعزيز العلاقة الكفاحية والأخوية بين الشعبين الفلسطيني والأردني. 3- إلياس خوري - 1948/2024، روائي لبناني إختار الانتماء للقضية الفلسطينية، مناضلاً في صفوف حركة «فتح»، مكرساً مؤلفاته ونشاطه الثقافي في خدمة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. 4- جبرا إبراهيم جبرا – 1919/1994، أديب وناقد فلسطيني بارز كتب القصة، والرواية، والشعر، والمقالة، والمسرحية، وانشغل بالنقد الأدبي والترجمة عن الإنكليزية. ■ ونقرأ في الفصل الخامس تحت عنوان «بالدم .. رسموا لفلسطين»، إضاءات على إبداعات 3 فنانين تشكيليين، شكلت فلسطين بوصلة إبداعهم: 1- إسماعيل شموط – 1930/2006،أبرز مؤسسي الحركة الفنية التشكيلية في فلسطين، وأحد روادها المبدعين. شغل منصبي: الأمين عام لاتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطيني، والأمين عام لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب. 2- توفيق عبد العال - 1938/2002، الفنان التشكيلي الفلسطيني الذي ولد في عكا وعاش وتوفي في لبنان. يعتبر عبد العال من أهم الفنانين الفلسطينيين وأكثرهم إنتاجاً وطليعية. 3- ناجي العلي - 1937/1987، وهو من أشهر الفنانين التشكيليين الفلسطينيين من خلال رسوم الكاريكاتير السياسي التي نشرها في الصحف، ولاقت إنتشاراً وتفاعلاً واسعين على الصعيدين الشعبي والسياسي. طالته يد الغدر غيلة في لندن – 29/8/1987. ■ ويأتي الفصل السادس بعنوان «قادة من الجبهة الديمقراطية»، وفيه نقرأ مقتطفات من السير النضالية لسبعة من قادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين: 1- عمر القاسم - 1941/1989، صاحب أطول فترة يمضيها معتقل فلسطيني في سجون الإحتلال في ذلك الوقت - 1968/1989، وقد أطلق عليه لقب «مانديلا فلسطين». شكل عمر القاسم نموذجاً كفاحياً تعتز به الحركة الفلسطينية الأسيرة بكل مكوناتها حتى اليوم. إنتخب عضواً في اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين منذ تأسيسها. 2- عبد الكريم حمد قيس/ أبو عدنان - 1927/1992، عضو المجلس الوطني والمكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. يُعتبر من أعمدة العمل الوطني الفلسطيني في لبنان، دافع بقوة عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين الإجتماعية والإنسانية على قاعدة التمسك بحق العودة إلى الديار والممتلكات. 3- عبد الحميد /هشام أبو غوش - 1947/2014، عضو المجلس الوطني والمكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. تولى مهمات نضالية قيادية عدة في لبنان وسورية وفروع الخارج قبل عودته إلى الضفة الغربية متابعاً دوره القيادي على الصعيدين، الوطني والحزبي. 4- عبد الغني هللو/ أبو خلدون - 1947/2017، عضو المجلس الوطني والمكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. من الرعيل المؤسس للجبهة، وتولى فيها مسؤوليات نضالية عدة، آخرها أميناً للجنة إقليم سورية للجبهة الديمقراطية. 5- سامي أبو غوش/الحاج سامي - 1945/1981، عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ومسؤول إدارتها المركزية. تم اغتياله وزوجته مها أبو غوش بتفجير سيارة مفخخة في بيروت، على يد «الموساد» الإسرائيلي - 1/10/1981. 6– سليمان الرياشي/سعيد عبد الهادي – 1943/2019،المفكر والمثقف العضوي الذي انفتح وعيه في وقت مبكر على الفكر القومي؛ فالتزم قائداً في أطره القيادية قبل أن ينخرط في صفوف المقاومة الفلسطينية بتيارها اليساري المتجدد. 7- طلال أبو ظريفة- 1960/2024، عضو المجلس الوطني والمكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وأحد قادتها في قطاع غزة. لعب دوراً حيوياً في مواجهة تداعيات حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة. إستشهد بغارة إسرائيلية إستهدفت مكان إقامته شمال القطاع - 16/5/2024. ■ ويختم الكتاب بالفصل السابع وعنوانه «من قادة العمل المسلح»، وفيه مقالات عن خمسة من قادة العمل المسلح في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين: 1- خالد عبد الرحيم - 1945/2018، عضو المجلس العسكري لـ م.ت.ف، سكرتير اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. إعتقل خلال تنفيذ عملية فدائية في الأراضي الفلسطينية المحتلة- 1968/1979، وتولى مسؤوليات عدة منها قيادة العمل المسلح للجبهة الديمقراطية. 2- خالد نزال - 1948/1986، سكرتير اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، تولى قيادة وتدريب الخلايا المسلحة التابعة للجبهة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأشرف على تنفيذ عدد من العميات الفدائية الناجحة ضد الإحتلال. تم اغتياله في العاصمة اليونانية، أثينا، على يد «الموساد» الإسرائيلي - 9/6/1986. 3- بهيج مجذوب/ مراد – 1950/1976، عضو اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، جمع بين جذره اللبناني وانتمائه للقضية الفلسطينية، قاتل دفاعاً الثورة الفلسطينية في الأردن ولبنان، تولى قيادة القوات اللبنانية - الفلسطينية المشتركة في صيدا والنبطية، واستشهد دفاعاً عن مدينة صيدا - 4/6/1976. 4- محمد شاكر خزعل/ فايز أبو حميد - 1949/1978، عضو القيادة العسكرية للقوات المسلحة الثورية، التابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وأحد أبطال التصدي للغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان - حملة الليطاني، حيث استشهد على رأس قواته في الميدان – 16/3/1978. 5- بشير زقوت - 1950/1978، مسؤول قوات التعبئة الطلابية الفلسطينية في الجامعات والمدارس الثانوية في سورية، شارك على رأس هذه التشكيلات في الدفاع عن الجنوب اللبناني ومخيماته في مواجهة الغزو الإسرائيلي للبنان - حملة الليطاني، واستشهد في 4/4/1978. ■■■ ■ «في ذكرى الرحيل .. بأقلام من الجبهة الديمقراطية»، هو الكتاب الرقم 21 من سلسلة «من الفكر السياسي الفلسطيني المعاصر»، وهو يشكل بالحديث عن كوكبة الشهداء التي يستعيد ذكراها في شهاداته، إحياءً للذاكرة الفلسطينية، إستعادة لبهاء التاريخ الفلسطيني المعاصر في بعده الوطني .. وفي عمقه القومي■ محمد السهلي مدير «ملف» المركز الفلسطيني للتوثيق المعلومات 16/4/2025
لهم المجد والرايات
معتصم حمادة ■ يذهب الشهيد إلى هجعته الأخيرة، فتفرد الأرض ذراعيها واسعتين لاستقبال وليد جديد، يجعل عبق ترابها أكثر عذوبة. وحين يذهب الشهيد إلى هجعته الأخيرة، تتهيأ الجدران لاستقبال أجمل اللوحات المزدانة بألوان الوداع الأخير. حين يذهب الشهيد إلى هجعته الأخيرة، تنسج عذروات فلسطين من الأزهار عقوداً، تزين عنق المسافر في رحلته الأخيرة، وينشدن مواويل الزفاف، والفرح، مشوبة بألم الفراق في دمعة صامتة خجولة لا تدري كيف تواري نفسها عن الأعين. ■ وفي السماء تتلألأ نجوم جديدة، تضيء على أرض ملؤها الزعتر وشقائق النعمان، إسمها: فلسطين. ويسارع التاريخ ليفرد صفحة جديدة، يحل فيها ذكر الشهيد أبداً، ويصبح تاريخ فلسطين أكثر غنى. يفرد التاريخ صفحة لقادم رسم خارطة فلسطين على جدران قلبه. ■ يستشهد الشهيد ليشهد العالم على: أن هذه الأرض لي ... وأن هذا البحر لي ... وأن هذه السماء لي ... وأن الماضي والحاضر والمستقبل لي ... وأن التاريخ ومعها الرواية لي... وأن كل ما عداه هباء تذروه الرياح ... فالحقيقة الوحيدة هي فلسطين ... والعشق الوحيد هو عشق فلسطين ... والحب الوحيد هو حب فلسطين ... لذلك يذهب الفلسطيني إلى الشهادة، لا يرى فيها فناءً، بل حياة تتجدد، يغادر الحياة إلى الوجدان، وإلى الذاكرة، فيصبح شيئاً من الأبد، الذي لا نهاية لنهايته، دائم الوجود في الذاكرة، وفي العيون، وفي القلوب، معلقاً في جيد العذراوات والأمهات أيقونة، جعلت من فلسطين أسطورة الأساطير. ■ لا شيء يكافيء الشهيد، وحدها الشهادة والإنغراس في تراب الوطن، هي المكافأة الأعظم. يرسم المؤرخون كتابات التاريخ باليراع والمداد. يحفر الشهيد آثاره بدمه، وما زالت علاماته شاهدة في القدس، ومرغنيت، ومعالوت، وبيسان، وعين زيف وطبريا، ترسم معالم مسار شعب نحو شمس الحرية، وما زالت حجارة الإنتفاضة، الملونة بدماء الأطفال والرجال، ترسم واحدة من أكثر محطات تاريخ فلسطين إشراقاً، فالشهيد يصنع التاريخ، ودم الشهيد يصنع للتاريخ مجداً. أما الكسالى الواقفون في طابور الإنتظار الطويل المذل، والشامتون بالشهداء، فلا مكان لهم في زوايا التاريخ، فقد إمتلأت الصفحات، ولا شيء إلا ما انتمى لشعب عشق الأرض فقدم أعز ما يملك. ■ شهداؤنا، ليسوا أبناء فلسطين وحدها. هم أبناء الحرية التي تقرع طبولها في طول الأرض وعرضها، وهم أبناء الشمس التي تشع بنورها في أرجاء الكون. قرعوا بوابات المدن الكبرى، ودخلوها آمنين، يحملون رسالة إلى شعوب الأرض وساكنيها. دخلوا القلوب والأفئدة، إحتلوا الوجدان والذاكرة، صاروا هتافاً في تظاهرات الإزدحام العظيم، صاروا راية ترفرف فوق صواري الساحات والجامعات، ومظلة لمن إقتحموا كهوف الظلم، فأحرقوها، وشيدوا بدلاً منها عقيدة للحياة. وعبر خيط الدم الفلسطيني، إمتدت الرواية الفلسطينية، والأغنية الفلسطينية، والأهزوجة الفلسطينية. لم يكن عجباً أن يرى الفلسطيني في شهداء الشعوب شهداء لوطنه، صارت فلسطين في إعتبارات الشعوب عنواناً للحرية، وصار شهداء الشعوب أبناء لفلسطين، تحضنهم كما تحضن أبناءها. ■ سار في موكب الشهداء رجال ونساء، شباب وشابات، مقاتلون وقادة، عسكريون وسياسيون، مثقفون وأدباء، عمال وفلاحون، كبار سن ويافعون، حفل بهم التاريخ والوجدان، وصار عصياً على الذاكرة أن تنساهم، فهم والخلود سَيَّان، وهم والمجد صنوان، إحتشدوا على شرفات التاريخ، وفي قاعاته المذهبة، كثير منهم ما زالوا يرتدون ملابس لوّنها الدم، فانتشر عطره وأريجه، وكثيرون منهم رُسمت على صدورهم محطات كبرى، كانوا من أبرز صانعيها. كل الشهداء أبناء للتاريخ، وإن كانوا يتمايزون في الأعمار، والأعمال، ومواعيد الوداع واللقاء، والطريق إلى الشهادة. ■ تاريخ فلسطين، تاريخ ثورات وإنتفاضات، وهو كذلك تاريخ نكبات، نهض منها الفلسطينيون في كل مرة أقوياء، فالوجه الآخر لتاريخ فلسطين، أنه تاريخ شهداء، لكل مرحلة شهداؤها الذين رسموا وخطوا وقائعها بأغلى ما يملكون، توطد رباطهم المقدس بالأرض أكثر فأكثر، ما يوضح لماذا بقي الفلسطيني صامداً في أرضه، راسخ الجذور في ترابها، ملتصقاً بها، بينما كل من قصدها غازياً، لم يكن في حقيقته إلا عابراً في زمن عابر. وفي العصر الحديث، تعملقت فلسطين وصارت من أبرز عناوين الكون، حماها شهداؤها من الغزو، والتهميش، والتزوير والإندثار، غرقت الأرض، وتبعثر الأبناء، لكن الأم باقية تستمد من تاريخها قوة تجدد وجه الحاضر، وتستمد من وجهها الحاضر، ما يعزز قوة الوجود. ■ شق الفلسطيني طريقه، إمتشق سلاحه، بتنوعه، وجعل من البؤس ملحمة أذهلت العالم، وأغنى قيم الإنسانية، بالقيم الفلسطينية، إحتلت مكانتها في أعلى درجات الوعي الإنساني، ويحق، والحال هكذا، لكل عائلة شهيد ولكل قرية شهيد أن تفخر بشهيدها، كما بات حقاً لكل حزب أو فصيل أو حركة، أن يفخر بشهدائه، الذين لولاهم، ولولا ما حملوا من رؤى وقيم، لما بقي على قيد الحياة، ولما بقي في مجال الفعل والفتح على المستقبل. ويحق للجبهة الديمقراطية أن تستعيد من خزانتها، بضع صفحات من تاريخها المعاصر وحاضرها، صفحات من سير مناضلين قادة، مبادرين ملهمين، بقوا على الوفاء حتى آخر قطرة دم، حتى الرمق الأخير. ■ من رعيلها الأول المؤسس، إلى رفاق تسلموا الراية، فبقيت ترفرف في سماء القول والفعل، وصناعة التاريخ. شهادات كتبت بأقلام الرفاق، لمجد الرفاق، صيغَت بمداد الشوق وألم الفراق، تتجلى فيها أسمى معاني التبجيل والإحترام والتقدير، إستمدت من المشاعر مسارات ما كان أن تلد لولا ذلك الخيط الذي يربط بين المناضلين، شهداء وأحياء، شهداء ذهبوا إلى النوم راضين، تملؤهم الثقة بأن الأمانة أودعت حيث يجب أن تكون، وأحياء بذلوا الغالي والنفيس من أجل الوفاء وصون الوديعة، التي ما زالت معلقة بالأعناق، مرفوعة الرأس.، نظراتها دوماً إلى الأمام، وقبضاتها لا ترتخي، وهاماتها لا تنحني. شهداء في ميادين القتال. شهداء أنجبهم المخيم فعشقوه إلى أن التحموا بأرضه. وفي قيادة الحركة النسائية. كتاب وصحفيون، وفنانون تشكيليون رسموا فلسطين برواياتهم ومشاعرهم وبألوانهم الزاهية. قادة من حركات التحرر، كانوا أقرب إلى فلسطين، حفظت سيرهم، محبة ووفاء. الشجعان وحدهم يمشون في طريق التحرير، ليرتقوا إلى صفحات التاريخ، أحياء دوماً. وحدهم الجبناء يعيشون في الظل، يغرقون في لُجة الظلام، مجرد تماثيل ثلج سرعان ما تذوب تحت أشعة الشمس■ 1/1/2025
الفصل الأول
قادة من فلسطين
■ ياسر عرفات ■ جورج حبش ■ إسماعيل هنية ■ فتحي الشقاقي ■ بشير البرغوثي ■ مصطفى الزبري/ أبو علي مصطفى ■ بسام الشكعة ■ خليل الوزير/ أبو جهاد ■ محمد الضيف
ياسر عرفات.. في علاقة الحق بالقوة 1929-2004 • لكم أن تعتزوا، يا أبناء وبنات حركة فتح، بالإنتماء إلى حركة لعبت ومازالت تلعب دوراً مهماً في إطلاق وإدامة المسار الصاعد للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة؛ • ولكم أن ترفعوا الرأس عالياً بإنتمائكم إلى حركة قدمت الآلاف والآلاف من الشهداء، من بينهم كوكبة من القادة المتميّزين الذين إفتدوا فلسطين بأرواحهم؛ • ولكم أن تفخروا بالكبير ياسر عرفات قائداً لحركتكم وزعيماً للحركة الوطنية الفلسطينية، التي لم تختلف عليه، حتى عندما كانت تختلف معه. • وفي هذه المناسبة الوطنية الجامعة، التي بتنا نحييها سنوياً في مخيم اليرموك، قلب الوطنية الفلسطينية النابض في الشتات، في دمشق العروبة حاملة راية فلسطين؛ • في هذه المناسبة نستحضر ما احتل موقعاً متقدماً في فكر ياسر عرفات وانعكس على عمله طيلة عقود نضاله، وهو علاقة الحق بالقوة، أي تلك المعادلة التي ترسم مصير الشعوب. ■■■ • لقد كان الرجل- كما هو حالنا جميعاً- يؤمن بأن القوة الغاشمة للمشروع الصهيوني الغاصب، لا تقيم له حقاً في فلسطين؛ • لكنه كان يؤمن أيضاً – وبنفس القدر- أن انتصار الحق الفلسطيني لا يكون إلا باستنفار عناصر القوة الذاتية، فالحق المشروع الذي لا يقوم على القوة يتآكل مع الزمن. هذا ما تثبته وقائع الحاضر، فضلاً عن دروس التاريخ. • لقد قرأ ياسر عرفات علاقة الحق بالقوة قراءة جدلية صحيحة، فإذا كانت القوة الغاشمة لا تقيم حقاً غاصباً، فإن الحق الشرعي لا ينتصر، إلا بإعداد صاحب الحق كل المستطاع من عناصر القوة؛ • فالحق الشرعي بلا قوة يَتَبدَد، والحق الغاصب بالقوة الغاشمة يَتَثبَّت، وهذه معادلة موضوعية لا انفكاك من أحكامها. ■■■ • لقد إنطلق ياسر عرفات وإخوانه في حركة فتح من هذه القراءة، لِيعُمِلوها على معادلات الصراع. وفي هذا كان الصواب، وهو وفير، كما كان الخطأ، وهو خطير. • وإذا كان الصحيح لا يحتاج إلى تبرير، فإن منشأ الخطأ، كثيراً ما انحكم إلى تقدير مبالغ به لقدرة الحركة الوطنية على تجاوز سلبيات ناجمة عن تنازلات كانت تقدم، مقابل ما كان يُقدر أنه يندرج في خانة مكاسب، وبرهان أن تفتح هذه المكاسب بدورها على آفاق واعدة لتقدم حركة النضال. • وفي هذا خطأ في احتساب علاقات القوى، كان ياسر عرفات يستدركه، أو يسعى إلى ذلك كلما نشأ؛ وفي هذا أيضاً تكمن قدرة الرجل، وتتجلى قوة إرادته، بالإقدام على استدارات سياسية، لا بل إستدارات حادة في بعض الأحيان، كانت تنقل الحالة الفلسطينية إلى خيار استراتيجي بديل، كلما استبان له إنسداد الطريق أمام الخيار الأصيل. • ولعل قراره التاريخي بتفجير الإنتفاضة الثانية، بكل ما انطوى عليه هذا القرار من مخاطر، لم يكن أقلها -وهذا ما كان يدركه تمام الإدراك- ما قاد إلى استشهاده، هو من بين الأمثلة التي يمكن إدراجها في هذا السياق، والتي تسلط الضوء على القامة الحقيقية لهذا الكبير. ■■■ • في حضرة الشهادة التي نقف أمامها بخشوع في كل عام، ما الذي نستخلصه من «حقبة» ياسر عرفات؟ نستخلص أولاً، الأهمية التي لا تُضاهى لتجاوز الإنقسام وإعادة بناء الوحدة الداخلية الفلسطينية في إطار مؤسسات م.ت.ف التي لا بديل لها، ولا غنى عنها، وهي المؤسسات التي باتت تستوجب إعادة بناء شاملة لجهة إنفتاحها على تمثيل جميع القوى الفلسطينية تعزيزاً لمكانة م.ت.ف وموقعيتها في العملية الوطنية، بالإنتخابات إن أمكن، وعندما يتعذر ذلك بالتوافق الوطني الذي يقود إنتقالياً إلى الإنتخابات. • نستخلص ثانياً، الأهمية الفائقة لإعادة بناء الإجماع الوطني على البرنامج الوطني المرحلي، الممر الإجباري للشعب الفلسطيني على طريق إنتزاع حقه في تقرير مصيره بحرية على كامل ترابه الوطني، أي فلسطين الـ27 ألف وَنيِّف كم2. • نستخلص أخيراً، الضرورة القصوى لاعتماد إستراتيجية كفاحية تقوم على ركيزتي المقاومة الشاملة والتدويل: المقاومة بكل أشكالها، وفي القلب منها المقاومة الشعبية وصولاً إلى العصيان الوطني العام من جهة؛ ومن جهة أخرى مواصلة الجهد لتدويل القضية الفلسطينية على أوسع نطاق، إعترافاً بالحقوق الوطنية، ومطاردة إسرائيل في المحافل الدولية ومحاصرتها ومعاقبتها على إمعانها في إنتهاك المواثيق الدولية وقرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي. ■■■ • إن كل هذا يستوجب تعبئة طاقات الشعب الفلسطيني في كافة مناطق تواجده، وتعزيز صموده في الضفة الغربية بما فيه القدس، وقطاع غزة، وتوثيق العلاقة مع الحركة السياسية لأبناء شعبنا، بما فيه تحالفاتها في أراضي الـ48. وبهذا نستعيد عناصر القوة الفلسطينية التي استشهد الكبير ياسر عرفات وهو بصدد استحضار فعلها، لا بل وهجها المنير؛ وبهذا نكون أوفياء لوصيته، مخلصين لذكراه■ فهد سليمان 23/11/2021 جورج حبش.. قائد مؤسس لحركتين 1926-2008 ■ في حضرة الشهادة وفي مقام تكريم الرحيل لقامة تاريخية عُقدت لها القيادة على تقاطع الوطني مع القومي في منطقة لم تشفَ شعوبها بعد من الجرح الغائر لسايكس - بيكو الذي شلّعها إلى دول وشعوب.. وأمام تجربة نضالية وقفت، ومن موقع المسئولية، امام خيارات صعبة.. تجربة تعود إلى ستة عقود مضت.. يصعب الكلام عن د. جورج حبش بطموح الإحاطة بكل جوانب الموضوع شخصاً وتجربة.. فنحن أمام تجربة زاخرة.. الفرد فيها جزء من حركة التاريخ.. بمدها وجزرها.. فما بالك بقائد مؤسس لحركتين إحداهما لعبت دوراً مؤثراً في المدى القومي.. والثانية مازالت تضطلع بدورها المتقدم في المجال الفلسطيني.. وقد يعترض البعض على فصل يعتبره تعسفياً بين هذا المدى وذاك المجال، إنطلاقاً من صعوبة الفصل أو تعذره بين قضايا متداخلة في مشرق لم تلغِ التجزئة فيه الواقع الموضوعي لمشتركاته، هذا إن لم يكن لوحدته.. وهو ما ينطبق، من باب أولى، على الحالة الفلسطينية، شديدة التداخل بمحيطها، تؤثر فيه كما تتأثر به.. ولعل د. جورج حبش هو نموذج القائد الأكثر صفاءً في إنشداده إلى هذه المعادلة بانسجام حديها وتناقضهما معاً. ■ لقد كان فلسطينياً في قوميته وقومياً في فلسطينيته.. ليس بالمعنى الدارج منذ حرب الـ 67 الذي ينطلق من إستقلال النضال الوطني التحرري الفلسطيني ليثمر ما يواشجه مع محيطه.. بل بالمعنى العضوي والسياسي المباشر الذي يتعاطى مع ملف الصراع العربي – الاسرائيلي ببعده الشامل، لكن إنطلاقاً من بؤرته المركزية: فلسطين. ومن هنا شعار السهم المتجه إلى فلسطين الذي يرمز، على الأرجح، إلى هذا البعد في الفكر السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ■ وبما أنه يصعب في هذا المقام الكلام عن د. جورج حبش بالمستوى الذي يستحقه حقاً وتاريخاً.. سيتم الإكتفاء بإشارات سريعة إلى بعض جوانب فكره وتجربته التي تشكل إحدى عناوينها الرئيسية – بلا شك – موضوعة الجماهير المعبأة والمنظمة التي هي وحدها صانعة التاريخ، وهي الأساس في معركة التحرير.. وفي هذا إستعادة حرفية لما كان يتردد على لسانه وفي كتاباته دون كلل.. وفي ظني أن آخر أجمل هدية تلقاها فقيدنا الكبير، قبل أيام قليلة من رحيله، هي تلك التي تمثلت بالموجة الجماهيرية العاتية التي إجتاحت جدار معبر الحصار في رفح.. هذا العنوان شكل أحد المحاور الرئيسية للفكر السياسي وللممارسة النضالية لجورج حبش الذي استخلص في شبابه المبكر العبرة الرئيسية من ثاني تجاربه السياسية بعد تجربة نادي «العروة الوثقى» في مرحلة الدراسة الجامعية.. وأقصد بذلك تجربة «كتائب الفداء العربي» الفاشلة التي قامت على العمل الصدامي المباشر للفرد بمعزل عن حركة الجماهير المعبأة والمنظمة.. لقد بقي هذا العنوان، عنوان الجماهير المعبأة والمنظمة ملازماً لفكره وممارسته في مجرى تشكل حركة القوميين العرب، إن في مرحلتها القومية الصرف، أو في مرحلة تلمسها وتبنيها للبعد الإجتماعي في النضال القومي، الذي وضع الإشتراكية إلى جانب الوحدة والتحرير.. وكذلك في مرحلة الإلتحام بالناصرية التي إعتبرت حركة القوميين العرب نفسها بمثابة حركتها الجماهيرية المنظمة في المدى العربي، مشرقاً وخليجاً بالتحديد.. ■ وكان أن إنتقل هذا العنوان، عنوان الجماهير المعبأة والمنظمة بحكم الإرث والتواصل النضالي إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليكون أحد أبرز محاور عملها وليشكل مع الكفاح المسلح في إطار برنامج التمسك بالثوابت الوطنية، أحد العوامل الرئيسية لإقامة وإدامة النفوذ السياسي لهذا التنظيم الرئيسي في صفوف الحركة الفلسطينية.. وأيضاً في بعض جوانب فكر «الحكيم» وتجربته النضالية نشير إلى الموقع المحوري الذي إحتلته الوحدة الوطنية الفلسطينية في إطار م.ت.ف، التي لم يطعن أبداً بمكانتها التمثيلية حتى في أشد مراحل معارضته لخط قيادتها المتنفذة.. ■ وفي ظني ما يستحق التأمل هو جدلية التحالف والخلاف (وصولاً إلى الإفتراق المؤقت أحياناً) في الفكر السياسي لجورج حبش نظراً لما يمكن أن يستخلص منها من الزاوية التالية: إن معارضته السياسية الحازمة لما كان يعتبره خروجاً عن الثوابت أو مساساً بها كانت تمضي بعيداً، وبعيداً جداً، لكنها – في الوقت عينه – كانت تُحجم عن الإنقسام وإلحاق الأذى بالمؤسسة الأم أي منظمة التحرير، وكانت تربأ بنفسها اللجوء لاستخدام أسلوب الإنقلاب عليها.. لقد كانت معارضته قاسية ولم ترتدِ يوماً قفازات مخملية، لكنها في نقطة ما من مسارها كانت تستدير لملاقاة شروط تجديد الوحدة الوطنية في إطار منظمة التحرير وتحت رايتها.. في فكر فقيدنا الكبير إنحكمت جدلية اللقاء والإفتراق إلى سقف الوحدة، فهي المرجعية والإطار بقواسمها المشتركة وتسوياتها، نعم تسوياتها وتنازلاتها المتبادلة.. ولعل هذا ما نحن أحوج ما نكون إليه في الظرف الصعب الذي تجتازه مسيرتنا الوطنية.. فالخلاف على استئناف العملية التفاوضية التي إفتتحها مؤتمر أنابوليس – 27/11/2007، نضعه خلف الظهر، لأن الراهن والمباشر هو المسار الفعلي للمفاوضات التي كانت الحكومة الحادية عشرة، حكومة الإئتلاف الوطني برئاسة اسماعيل هنية، قد وافقت وبملء إرادتها، على إحالة مسئوليتها ومسئولية إدارتها إلى اللجنة التنفيذية ورئيسها.. وباعتقادنا، أن النقطة المفصلية المطروحة على هذا الصعيد ليست الموافقة على المفاوضات من عدمها، بل الإتفاق على شروط إستمرارها أو تعليقها، فقطعها.. فهل نقبل بمفاوضات يديرها العدو تحت النار، نار الاستيطان والتهويد والحصار والعدوان، أو.. نقطعها إلى أن ينقطع سيل العدوان والإستيطان.. وهل نقبل باستمرار مفاوضات يديرها العدو بشروطه التي تحدد مسبقاً نتائجها المتعاكسة تماماً مع حقوقنا الوطنية.. هذه هي المسألة التي تحتاج إلى رأي واحد وقبضة موحدة.. ■ وكذلك الخلاف على من تؤول إليه الولاية على معبر رفح نضعه خلف الظهر لصالح الإتفاق على تلك الصيغة التي تفتح أبواب القطاع المحاصر ليس على مدينتين شمال سيناء للتبضع، بل على العالم بأسره.. والتي تفتح أبواب غزة على الضفة وأبواب الضفة على غزة.. فمؤامرة فصل الضفة عن غزة لا تقل خطورة عن فصل القطاع عن العالم.. لا بل إنها، في واقع الحال تتجاوزها خطورة، لأنها تسعى إلى استبدال مخطط تطويع القطاع البطل الذي لم ولن يركع، بمخطط مصادرة الكيانية الوطنية المستقلة على عناوين تعيد عقارب الزمن إلى ما قبل حرب الـ 67، وهذا بدوره لن يقع بالإرادة الفلسطينية الملتقية مع الإرادة العربية.. ■ إن هذه المسائل وغيرها تندرج تحت عنوان واحد هو الإنقسام الفلسطيني الذي ينذر استمراره بانعكاسات شديدة السلبية على الحالة الفلسطينية والنضال الوطني عموماً.. من هنا الدعوة إلى الحوار الوطني الشامل، فمن ينشد الخلاص الوطني لا خيار أمامه سوى هذا الخيار.. وهو الخيار الذي بقى فقيدنا الكبير متمسكاً به، داعياً له.. وأمامه أحد جدران غزة ينهار بفعل ضغط الجماهير المعبأة والمنظمة.. وكله أمل وثقة بأن هذا سيكون مصير جميع الجدران والأسوار التي تحجب شمس الحرية والإستقلال عن الوطن..
فإلى شعبنا الفلسطيني نتقدم بأحر التعازي.. قبل أن نتقدم بها إلى رفاق الدرب في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وإلى منظمة التحرير.. فالقامة التاريخية السامقة وان رحلت، ستبقى حيّة بما قدمت، فهي باقية بما زرعت■
فهد سليمان 29/1/2008
إسماعيل هنية.. قائد لا تغيب ذكراه عن الشعب 1963-2024 [ في العاصمة القطرية، الدوحة، وتلبية لنداء الدم الزكي، في تشييع القائد الوطني الكبير، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية - حماس إسماعيل هنية، ورفيقه الوفي وسيم أبو شعبان، إجتمع قادة فصائل المقاومة والعمل الوطني الفلسطيني، تحت وطأة الحدث الجلل، الذي هزّ أركان العالم، وكانت له تداعياته الكبرى، وما زالت، في أكثر من مكان:] ■ بين لقائين، يفصل بينهما أكثر من ثلاثة عقود من الزمن الفلسطيني، أولهما في «مرج الزهور» - جنوب لبنان، وآخرهما في الدوحة، وبينهما لقاءات عدة، إمتدت من غزة إلى إيران، مروراً بلبنان، لم يكن يخطر ببالنا، أن الدوحة ستشهد مصابحتنا الأخيرة، بعد أن جمعنا لقاء عمل لبضعة أيام، لنعود ونلتقي، بعد أيام قليلة إلى جانب وفود غفيرة، ضمت قيادات ورجالات وشخصيات من أربع جهات الأرض، تجمعت تحت ظلال نعشه، وداعاً له إلى مثواه الأخير، شهيداً في عملية إغتيال جبانة، خططت لها ونفذتها حكومة العدو. في 31/7/2024، إغتالته يد الفاشية والغدر الإسرائيلية، يدفعها إلى ذلك حقد دفين، فقد اعتبرته هو، وما يمثل من موقع قيادي ومن قيم كفاحية، وكل من يمت إليه بصلة، عدواً لها، فاغتالت أبناءه وأحفاده وإخوانه وشقيقته، ثم إغتالته هو؛ غير أن ذلك لم يشفِ غليلها، فأصرت على تدمير منزله في مخيم الشاطيء، ثم استكملت حقدها باغتيال مرافقيه السابقين في قطاع غزة، وكأن إسرائيل تحاول أن تنتقم منه، بأكثر الأساليب وحشية وهمجية. ■ باستشهاد القائد الوطني الكبير إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية - حماس، نكون قد فقدنا أخاً وصديقاً ورفيقاً ومجاهداً صلباً، أفنى زهرة العمر في خدمة شعبه وقضيته وحقوقه الوطنية المشروعة، كما كَرَّسَها في خدمة حركته، وكان شديد الإخلاص والتواضع في أدائه السياسي النضالي، وصار رمزاً من أهم رموز شعبنا، وحركته الوطنية. إتسم بروح الحوار، والمرونة التكتيكية على خلفية صلابة مبدئية متأصلة، يضع مصالح شعبه في مقدمة إهتماماته، قدم فلذات أكباده وأقرباءه، شهداء في خضم النضال والصمود في قطاع غزة، في سياق حرب الإبادة الجماعية لدولة الإحتلال الفاشي، وما استهداف العدو الوقح للقائد البارز أبو العبد في مقره بالعاصمة الإيرانية طهران، إلا محاولة للنيل من معنويات شعبنا وصموده وصلابته، غير أن المباديء التي زرعها الراحل والشهيد الكبير، في صفوف أبناء شعبنا الفلسطيني، جعلت من استشهاده، رغم الخسارة التي لا تعوض، محفزاً تاريخياً للإرتقاء بأساليب النضال والمقاومة، وتصعيد الكفاح بكل أشكاله، لا من أجل أن يدفع العدو الثمن فحسب، وهو حتماً دفع وسيدفع الثمن غالياً، بل ولتحقيق ما كان يصبو القائد الراحل إليه: تعزيز الوحدة الوطنية، واستعادة الوحدة الداخلية، وتصعيد المقاومة، وطرد الإحتلال، وتحرير الأرض، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين إلى الديار والممتلكات. ■ إن استشهاد القائد الوطني الكبير أبو العبد، يؤكد مرة أخرى أن معركتنا مع العدو، هي حرب المصير، حرب الحاضر والمستقبل، يخوضها شعبنا، وقواه السياسية، ومقاومته الباسلة في كل مكان، وبكل الأشكال والأساليب، وأنَّ لا تراجع عن أهدافنا التي تغمست بالدم الطاهر لشهداء شعبنا، وأنَّ لا مساومة على أهداف شعبنا وحقوقه، وإذا كان العدو يريدها حرباً وجودية، فإن شعبنا الذي «نما وتطور على أرض الرسالات السماوية إلى البشر، عبر علاقة عضوية، لا انفصام فيها ولا انقطاع بينه وبين الأرض والتاريخ»؛ شعبنا على إستعداد كامل لأن يخوض هذه المعركة حتى فصلها الأخير، الذي تُكسَر فيه شوكة الاحتلال والعدوان، وشوكة المشروع الصهيوني، وتتحقق كامل أهدافنا في الحرية والإستقلال، وتنتصر فيها سرديتنا بحقيقتها العابرة للزمان. ■ إغتيال إسماعيل هنية، لم يشكل نصراً مطمئناً لإسرائيل، أو للولايات المتحدة، بل على العكس من ذلك، أنتج حالة من القلق العميق في أوساطهما، وتسبب لهما بإرباك شديد. أدركت إسرائيل كما الولايات المتحدة، حجم الزلزال الذي تسببت في إحداثه، وحجم الهزات الإرتدادية التي سوف تصارع ضدها. تُرى، أي رجل هذا، الذي تحسب حسابه واشنطن، كما تل أبيب، شهيداً، أكثر مما كانت تخافه حياً وقائداً. هذه واحدة من أهم سمات هذا الرجل، حيثما يمر، يترك بصماته واضحة المعالم، في النفوس، والقلوب، التي تدانت مفاعيلها، مهما تباعدت وقائعها. هذه سمات الرجال الذين تتحلى شخصياتهم بمظاهر الهدوء وعمق الثورة معاً، الشجاعة والإقدام، والعقل في آن. ■ عندما إلتقيناه في الدوحة، لم نكن ندري أنه لقاء ما بعده لقاء، عقدنا معه ثلاث جولات حوارية، إمتدت لساعات، تناولنا فيها بعمق العديد من القضايا التي تشغل بال الحالة الوطنية، كانت الصراحة والوضوح إحدى أهم علاماتها، ومع ذلك شعرنا أننا لم ننهِ ما يتوجب أن نعمله معاً، فانحكمنا لأولويات حالت دون تناول عديد القضايا التي كانت تجول في الذهن، فأجلنا بحثها لضيق الوقت، رغم أنه إمتد طويلاً. لقد كانت لفقيدنا الكبير القدرة، وكان لديه الإستعداد للإنفتاح على الحوار، والإستماع إلى وجهات النظر بهدوء مهما تخالفت، ومناقشتها بكل أريحية مهما تباعدت. ■ كنا قد عرفناه في محطات سابقة، فلاحظنا أن الرجل بقي على وفائه لتواضعه الذي اتسم به منذ أن أطل على الرأي العام في خدمة القضية الوطنية. وقبل أن نغادر قطر، أبى إلا أن يزورنا في مقر إقامتنا، بعد منتصف الليل، ليودعنا، وحمّلنا التحيات إلى الإخوة والرفاق، وبتجديد العهد على الوفاء، وبدعوات جديدة، للقاءات نستكمل فيها ما بقي في جعبتينا من هموم وطنية. الأخ القائد أبو العبد ... ودعناك إلى مثواك الأخير في الدوحة، لكنك، أيها الأخ الكريم، واحد من القادة الذين لا تغيب ذكراهم عن الشعب، مهما إمتدت الأيام■ فهد سليمان 25/8/2024
فتحي الشقاقي.. القائد المؤسس والمفكر التغييري 1951-1995 مقدمات التأسيس، فالإنطلاقة ■ عاش المناضل والمفكر فتحي الشقاقي 44 عاماً أمضاها بين الإنتاج النظري والنضال العملي ضد الإحتلال الإسرائيلي، سُجن في مصر وفلسطين وأُبعد إلى جنوب لبنان، ووضع اللبنة الأولى لحركة الجهاد الإسلامي وأساسها المتين، ورأى في الكفاح المسلح طريقاً للخلاص من الإحتلال الإسرائيلي وهزيمة المشروع الصهيوني. كان فتحي الشقاقي مفكراً وصاحب رؤية إستراتيجية، وعاش لفلسطين واستشهد من أجلها ونظر إلى قضيتها باعتبارها قضية مركزية تَشْغَل العالم وتَهُم الأمة بأسرها. ■ بدأ الشقاقي حياته السياسية منذ أن كان طالباً مهتماً بالأفكار القومية والناصرية، لكن هزيمة حرب حزيران/ يونيو 1967 جعلته يأخذ مسافة عن هذه المنظومة، ليتأثر لاحقاً بحركة الإخوان المسلمين أثناء دراسته الجامعية في مصر، ومن ثم بالثورة الإيرانية بعد إنتصارها عام 1979، وهنا بدأ البحث عن تنظيم عمل حركي مؤطر ومسلح للخلاص من الإحتلال الإسرائيلي، إلى أن إنتهى به المطاف لتأسيس وبناء إطار تنظيمي يحمل إسم «حركة الجهاد الإسلامي». ■ كانت رؤية الشقاقي قاطعة في إطلاق العنان للمواجهة المسلحة مع جيش الإحتلال الإسرائيلي، رافضاً في الوقت نفسه فكرة تأجيل الثورة لصالح قيام «دولة التمكين» وبناء مؤسسات الحركة، لاسيما أن المشروع الصهيوني ما إنفكَ يتجذر ويتوسع دون توقف بالاستيطان والعدوان على الشعب الفلسطيني، فقدم إستراتيجية أسماها «مشاغلة العدو» متجاوزاً نظرية إنتظار «بناء التوازن الإستراتيجي»، أو «إستكمال شروط التكافؤ العسكري»، أو «أخذ الزمن الكافي لإعداد القوة اللازمة»، وقدم فكرة العلاقة التبادلية/ التفاعلية بين تحرير فلسطين ونهضة الأمة متجاوزاً العقيدة القائمة على إنتظار إنعقاد شرط التقدم نحو حلول الخلافة، وغيرها من الأفكار الإرجائية. ■ كان الشقاقي يؤمن بالعمل المشترك والإقبال على الآخر، فكانت علاقته مع الإتجاه الإسلامي في حركة فتح متينة وتطورت إلى عمل تنظيمي وعمليات عسكرية مشتركة ضد الإحتلال الإسرائيلي، وكان منفتحاً على مكونات منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة عموماً، وسائر القوى الوطنية لجهة تشكيل أطر عمل جبهوية تُفعل العمل المشترك، وترقى بسويته. ■ آثر د. فتحي الشقاقي إنتهاج أسلوب الكفاح المسلح، الذي رأى فيه الطريق للخلاص من الإحتلال الإسرائيلي، وهذا ما نَصَّ عليه ميثاق حركة الجهاد الإسلامي بالتأكيد على استمرار هذا النهج حتى تحرير كامل التراب الوطني. وتنقل بين عدد من العواصم العربية والمسلمة مدافعاً عن القضية الفلسطينية وباحثًا عن الدعم لحركة الجهاد الإسلامي وللشعب الفلسطيني عموماً، حتى استشهاده. ■ آمن الشهيد الشقاقي بأهمية الوعي الموضوعي والإلمام العلمي بالتاريخ، لاستخلاص الدروس الآيلة إلى توجيه العمل النضالي، وتصويبه وترشيده كلما إقتضى الأمر؛ كما آمن بالدور الحاسم لوحدة القوى المكافحة بمواجهة العدو الصهيوني الذي يسعى بالقمع والإرهاب وكل الوسائل المتاحة إلى السيطرة والهيمنة على المنطقة وفرض وقائع جديدة لإقامة ما يعرف بـ«إسرائيل الكبرى» مستغلاً حالة التجزئة السائدة في الإقليم، التي تُشتت طاقات الأمة، وتبدد قدراتها. ■ إنطلاقاً من مفهوم الوعي التاريخي لدى الشهيد الشقاقي، حددت حركة الجهاد الإسلامي الأبعاد الثلاثة التي تجعل من القضية الفلسطينية القضية المركزية للأمة؛ وهي: البعد الديني، والبعد التاريخي والبعد الواقعي، الأمر الذي يتطلب من الجميع، حركات سياسية وفعاليات ومثقفين وغيرهم في العالم، النظر إلى خطورة المشروع الصهيوني في فلسطين وربط الأزمات الفعلية أو المفتعلة في بلدانهم بوجود الكيان الصهيوني على أرض فلسطين. لذلك، فإن الوحدة والمقاومة هما السبيل لإنهاء الإحتلال والإنتصار على المشروع الصهيوني. ■ لقد نادى الشقاقي بأن «فلسطين هي جوهر الصراع الكوني بين تمام الحق وتمام الباطل، ففلسطين هي القضية المركزية للأمة جمعاء». ويُعَدْ الشهيد الشقاقي أول من نادى بضرورة «الجهاد اللحظي» وعدم تأجيله تحت أي ظرف كان، وهو بادر إلى تأسيس وإنشاء أول تنظيم إسلامي مسلح بعد الإنطلاقة المعاصرة للثورة الفلسطينية، يقاتل على أرض فلسطين وينطلق من رؤية فكرية تتحرك ضمن مشروع حضاري إسلامي، ينأى بنفسه عن الصراعات المفتعلة، بما في ذلك التجاذب الفكري بين تياري الوطنية العلمانية والإسلام السياسي. وفي هذا السياق دعا إلى حل التمايز أو حتى التباين في الإجتهادات في ساحة العمل الإسلامي عبر الحوار والممارسة الصحيحة، وتوجيه كافة الجهود والطاقات للصراع والمواجهة مع العدو المركزي للأمة، «العدو الصهيوني»■ مولده ونشأته ■ ولد فتحي ابراهيم الشقاقي في مخيم الشاطيء للاجئين الفلسطينيين بمدينة غزة في 4/1/1951، وتنحدر عائلته من بلدة زرنوقة القريبة من مدينة يافا، كان والده كبير عائلة الشقاقي وشيخها وإمامها، هُجِّرَ وعائلته وأبناء بلدته قسراً إبَّان نكبة فلسطين عام 1948 نحو مدينة رفح أقصى جنوب قطاع غزة. كان عمره 16 عاماً، عندما وقعت حرب الـ 67، وتوفيت والدته بعد أقل من عام على الحرب، فذاق طعم الهزيمة والخسارة الشخصية، وهو شاب يافع، ما غيَّر مسار حياته التواقة إلى الحرية والعودة إلى الديار التي تثري تراب الوطن. في سن الثامنة عشرة، ترك عائلته ومخيم الشاطيء للتخصص بالرياضيات في جامعة بير زيت بالضفة الغربية، وجمع بين الدراسة والعمل في مجال تدريس الرياضيات في مدرسة القدس الرسمية، وترك الجامعة في فلسطين متوجهاً إلى جامعة الزقازيق في مصر في سن الـ23 لدراسة الطب■ تبلور فكره ونضاله ■ إفتتحت رحلته إلى مصر مرحلة نضالاته المُهَدَّفة، وتَعَرَّف على حركة «الإخوان المسلمين» عن قرب وتوصل إلى استنتاج مفاده أن هذه الحركة لا تستجيب تماماً لتطلعاته، لذلك بدأ أثناء دراسته الجامعية في مصر تشكيل مجموعة تدعى «الجهاد الإسلامي في فلسطين» مع بعض أصدقائه، منهم عبد العزيز عودة ورمضان عبد الله شَلَّح، الأمين العام اللاحق لحركة الجهاد الإسلامي، واضعين هدف واحد نصب الأعين هو « تحرير فلسطين». ■ تأثر فتحي الشقاقي – كما ذكرنا - بانتصار الثورة الإسلامية في إيران – 1979، فكتب مقالات وألف كتابًا في مصر بعنوان «الخميني: الحل الإسلامي والبديل»، الذي أحدث ضجة كبيرة إعتقل على أثرها في 20/7/1979، فأمضى أربعة شهور في سجن القلعة، ليغادر مصر بعد ذلك متوجهاً لقطاع غزة في 1/11/1981، وترافقت عودته ورفاقه إلى فلسطين، مع الإعلان الرسمي عن حركة «الجهاد الاسلامي في فلسطين». ■ مارس مهنته كطبيب في غزة والقدس، إلى جانب عمله السياسي، حيث عمل في مستشفى ڤيكتوريا- «المطلع» بمدينة القدس المحتلة، وجرى إعتقاله من المستشفى عام 1983 وسجنه 11 شهراً بتهمة تشكيل تنظيم فدائي، واعتقل مرة أخرى عام 1986 بتهمة التحريض ضد الإحتلال الإسرائيلي ونقل الأسلحة إلى قطاع غزة وحكم عليه بالسجن أربع سنوات، وخمس سنوات حبسًا تعليقيًا. ■ عندما إكتشفت سلطات الإحتلال الإسرائيلي أن الشقاقي كان له دور فَعَّال مع رفاقه في فصائل المقاومة في الإنتفاضة الشعبية الكبرى- 1987/1993 من داخل سجنه، الذي مع إكراهاته لم يلجم نشاطه السياسي من داخل زنزانته، قامت سلطات الإحتلال بإبعاده برفقة بعض أصدقائه إلى جنوب لبنان، قبل إنتهاء مدة محكوميته، وذلك في 1/8/1988 بعد ثمانية شهور على اندلاع الإنتفاضة، لينتقل بعد ذلك من لبنان إلى عدد من العواصم العربية والإسلامية■ رجل في أمة ■ يُعَدُ الشقاقي مجدد مؤثر في الحركة الإسلامية الفلسطينية وباعثها المبادر، ضمن وجهة تركيز الإهتمام على العمل الوطني الفلسطيني كأولوية، وإعادة تواصل هذه الحركة مع القضية الفلسطينية ببعدها الوطني المحدد، وفي السياق بلورة الهوية الوطنية عبر الكفاح المسلح. إقتدى د. فتحي الشقاقي بعبد القادر الجزائري، وجمال الدين الأفغاني، وعمر المختار، وعز الدين القسام وآخرين من القادة العرب والأمميين، واتخذ إسماً حركياً له وهو «عز الدين الفارس» إقتداءً بالقسام منهجاً، وباعتباره فارساً يُكرس حياته في خدمة تحرير الوطن. ضمن هذه الرؤية قرر الشيخ الشقاقي أن تشكل الحركة التي أسسها خميرة للنهضة وقاطرة لتغيير أوضاع البلاد بمشاركة الجماهير، وحلقة فاعلة من بين حلقات الكفاح الوطني المسلح، مدركاً الأهمية الكبيرة للقضية الفلسطينية باعتبارها تشكل البوابة الرئيسية للهيمنة الغربية على العالم العربي. في بداية تسعينيات ق 20، وجد الشقاقي أن الشعب الفلسطيني متعطش للكفاح المسلح فأخذ على عاتقه تلبية هذا النزوع، وقاد إلى جانب عدد من الفصائل الفلسطينية عشرات العمليات المسلحة ضد العدو الإسرائيلي، وعزز أساسات «حركة الجهاد الإسلامي» وقوَّى بنيتها، وفق معادلة «الإسلام- الجهاد- الجماهير»■ القائد الإنسان ■ لم يكن الشهيد «أبو ابراهيم» سياسياً فحسب، بل كان مفكراً وأديباً وشاعراً، فتعاطى الشعر من خلال أعمال محمود درويش، ونزار قباني، وكتابات صافيناز كاظم، وغيرهم .. وإمتلك ذائقة مميزة في الفن، فأُعجب بالشيخ إمام، وأحمد فؤاد نجم، وكان رقيق القلب ذو عاطفة جيّاشة، ينظم الشعر لوالدته المتوفاة منذ صباه، ويهديها في كل «عيد أم» قصيدة.عشق أطفاله الثلاثة، خولة، أسامة وإبراهيم؛ وعلى إنشغالاته، كان يخصص وقتاً كافياً لأبنائه، وتعلق كثيراً بإبنته خولة، وكان يزهو بها وهي تنشد أمام أصدقائه. ■ في أعقاب سلسلة عمليات قامت بها حركة الجهاد الإسلامي، وآخرها عملية «بيت ليد» المزدوجة، التي نفذها الشهيدان أنور سكر وصلاح شاكر وأدت إلى مقتل 22 إسرائيلياً وإصابة العشرات، صدر أمر من الحكومة الإسرائيلية بإعداد خطة محكمة لاغتيال الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي. ذهب إلى ليبيا ضمن وفد فلسطيني لإنهاء مأساة اللاجئين الفلسطينيين المحاصرين على الحدود المصرية - الليبية، وأثناء عودته مبحراً بالسفينة إلى جزيرة مالطا، إغتاله «الموساد» في 26/10/1995، فارتقى شهيداً وهو في ذروة العطاء، ليشيَّع بعد أيام في 1/11/1995 في موكب جنائزي مَهيب بالعاصمة السورية دمشق، ودفن جثمانه الطاهر في مقبرة الشهداء في مخيم اليرموك جنوبي دمشق، التي يرقد في مثاويها القائد بجانب المقاتل وبينهما الكادر الوسيط، يوحدهم الإستجابة لنداء الوطن، نداء الحرية لفلسطين. ■ من مقولاته الأصيلة «دم الشهداء هو الذي ينجب المزيد من المقاتلين ويصعّد المواجهة ضد الإحتلال»، وبالفعل فقد أسس إستشهاده لصعود متسارع للحركة التي كان ومازال لها الدور البارز في الكفاح الفلسطيني المسلح■ وسام زغبر شباط / فبراير 2025 بشير البرغوثي.. القائد الشيوعي صاحب الرؤية 1931-2000 ■ بشير عبدالكريم البرغوثي، القائد الوطني والتقدمي والشيوعي الكبير والشخصية السياسية البارزة، الأمين العام للحزب الشيوعي الفلسطيني، ومن ثم لحزب الشعب الفلسطيني، والكاتب السياسي المرموق، أمضى جل حياته في خدمة القضية الوطنية، وكان مدرسة ونموذجاً يُحتذى به لجيل عايشه على إمتداد سني نضاله. ولد بشير البرغوثي في قرية دير غسانة في محافظة رام الله عام 1931، حيث تفتحت عيناه على الحياة، وفي مدارسها تلقى تعليمه الإبتدائي والإعدادي، ومن ثم إنتقل إلى مدرسة البيرة الثانوية، حيث حصل على الثانوية من مدرسة الفرندز برام الله عام 1949؛ بعد ذلك إلتحق بالجامعة الأمريكية في القاهرة، لينالَ شهادة بكالوريوس في العلوم السياسية والإقتصاد عام 1956، أي في نفس عام العدوان الثلاثي البريطاني – الفرنسي - الإسرائيلي على مصر وقطاع غزة. ■ برز إسم بشير البرغوثي خلال دراسته الجامعية من خلال إطار رابطة الطلبة الفلسطينيين التي كان يرأسها ياسر عرفات، وفي خضم تلك البدايات التي شهدت تبلور معالم الكيانية الفلسطينية، ترسخت في وقت مبكر علاقات الصداقة والتعاون بينه وبين الرئيس الشهيد أبو عمار، هذه العلاقة التي إستمرت حتى وقت رحيله متجاوزة التباينات في السياسة وفي الرؤى التكتيكية، كلما نشأت في ظروف بعينها. ■ بعد تخرجه من الجامعة الأمريكية، عاد بشير البرغوثي إلى الأردن، ليستأنف نشاطه السياسي في صفوف الحزب الشيوعي الأردني، فترأس تحرير صحيفة الحزب العلنية الأولى «الجماهير»، وإضطلع بدور بارز في نضال الشيوعيين ضد مشاريع الأحلاف الإستعمارية، الذي تكلل بالنجاح في إفشال مشروع ضم الأردن إلى «حلف بغداد»، كانت الولايات المتحدة تعمل بدأب لإقامته في منطقة الشرق الأوسط بمواجهة الإتحاد السوڤييتي أثناء فترة رئاسة أيزنهاور– 1952/1960؛ كما وفي مقاومة مشروع التوطين؛ وفي تعريب الجيش الأردني تخلصاً من الوصاية البريطانية؛ وفي إيصال نائبين شيوعيين إلى البرلمان هما: يعقوب زيادين وفائق ورّاد خلال الإنتخابات النيابية في تشرين الأول/ أكتوبر 1956. ■ أثناء حملات مطاردة الشيوعيين إعتقل الرفيق بشير عام 1957 ومعه العشرات من كوادر ومناضلي الحزب والحركة الوطنية الأردنية وأودع ورفاقه سجن الجفر الصحراوي، حيث مكث فيه مدة ثماني سنوات، خرج بعدها ليعاود نشاطه السياسي متفرغاً في الحزب الشيوعي الأردني، وشارك في نضالات الحزب من أجل إشاعة الحريات العامة في البلاد، والدفاع عن مصالح الفئات الشعبية والكادحة. ■ عاد بشير البرغوثي إلى الضفة الغربية عام 1974 ليواصل دوره القيادي في مسيرته النضالية والحزبية ضد الإحتلال الإسرائيلي، مستأنفاً نشاطه السياسي من جديد في صفوف الحزب، وملتزماً بسياسته الوطنية التقدمية بمضمونها الإجتماعي والطبقي، دفاعاً عن مصالح الجماهير الكادحة وحقها في العيش الكريم، فتعرضَ للإعتقال أكثر من مرة، وفرضت عليه سلطات الإحتلال الإسرائيلي الإقامة الجبرية لمدة ثلاث سنوات متواصلة، كذلك منعته من مغادرة البلاد حتى عام 1988. ■ تبوأ بشير البرغوثي موقعاً متقدماً في قيادة الجبهة الوطنية الفلسطينية في الأراضي المحتلة، التي كانت قد تأسست في منتصف شهر آب/ أغسطس 1973، خلفاً للقائد الشيوعي سليمان النجاب الذي إعتقلته سلطات الإحتلال، ثم أبعدته خارج الوطن. ■ في أواخر تموز/ يوليو 1975، قرر فرع الحزب الشيوعي الأردني في الضفة الغربية تحويل إسمه إلى التنظيم الشيوعي الفلسطيني، تمهيداً لإقامة حزب شيوعي فلسطيني مستقل عن الحزب الشيوعي الأردني. ■ في تلك الفترة من تاريخ حياته، قام بشير البرغوثي بمهام عديدة، فكان رئيساَ لتحرير جريدة «الفجر» المقدسية، ومن ثم لصحيفة الحزب الشيوعي «الطليعة» في الفترة الواقعة ما بين 1978 و1994، إلى جانب تحمله مسؤولية قيادة الحزب من موقعه كأمين عام. ■ لعب بشير البرغوثي دوراً قيادياً بارزاً في قيادة التنظيم الشيوعي الفلسطيني خلال سبعينيات ق 20 بمساهمته بشكل فعَّال في إنجاح القوائم الوطنية في إنتخابات المجالس البلدية عام 1976، وكان مشهوداً له بدوره المناويء لمخططات الحكم الذاتي والقيادة البديلة لـ م.ت.ف، وساهم أيضاً في تشكيل الجبهة الوطنية داخل الأرض المحتلة، وكان عضواً فاعلاً في لجنة التوجيه الوطني التي تأسست عام 1978. ■ في 10 شباط/ فبراير 1982 إستقل الشيوعيون الفلسطينيون عن الحزب الشيوعي الأردني من خلال إعادة تأسيس حزبهم، الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي وحَّد الشيوعيين الفلسطينيين في الضفة والقطاع مع الشيوعيين الفلسطينيين في الشتات، وعقد الحزب مؤتمره الأول عام 1983، حيث تم إنتخاب بشير البرغوثي- أبو العبد أميناً عاماً للحزب، ليضطلع بدور قيادي فعّال من موقعه كأمين عام للحزب على رأس الإنتفاضة الشعبية إثر إندلاعها عام 1987، وفي تشكيل قيادتها الوطنية الموحدة. وكان من بين أبرز الداعين إلى تشكيل اللجان الشعبية وضمان مشاركة المواطنين في تقرير أمور حياتهم اليومية والتعبير الديمقراطي عن إرادتهم. وسعى إلى تجاوز التعقيدات التي شابت العلاقات بين قيادة الإنتفاضة في الداخل والمركز القيادي الرسمي في الخارج، معتبراً أن الأساليب التي تمارسها هذه القيادة لا تتلاءم مع أساليب وأشكال عمل الإنتفاضة، مبرزاً أهمية التوافق بين الأداء والعمل القيادي، كيلا يتحول النضال الشعبي إلى نضال بيروقراطي ممأسس. ■ ساهم بشير البرغوثي بفكره وخبرته في بلورة البرنامج السياسي الجديد لـ م.ت.ف والقائم على تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967، وضمان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم الذي يكفله القرار الرقم 194، هذا وقد جرى تجسيد هذا الموقف في برنامج الحزب الشيوعي الفلسطيني في العام 1982، وبعد ذلك – إثر تسميته الجديدة - في برنامج حزب الشعب الفلسطيني. ■ بعد إتفاق أوسلو وعودة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية إلى الضفة والقطاع وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية، عُيِّنَ بشير البرغوثي وزيراً للصناعة، ومن ثم وزير دولة في الحكومة إلى أن وافته المنيّة عام 2000. ■ لعب بشير البرغوثي دوراً بارزاً في تاريخ الحزب والحركة الوطنية الفلسطينية وفي النضال المثابر من أجل وحدتها، حيث كان مثالاً للمناضل المبدئي العنيد، والمثقف الحزبي الواعي الذي ساهم ببعد رؤيته ونظرته الثاقبة للأمور، وبما كان يحظى به من إحترام وتقدير شديدين في صفوف الحركة الوطنية، ومن خلال إنحيازه الواضح للخيار الإشتراكي والدفاع عن قضايا الفئات الكادحة والمحرومة، وتعزيز نهج الواقعية السياسية في التفكير، والكفاحية المبدئية في الميدان. ■ حمل بشير البرغوثي أفكاراً حول طبيعة التنظيم الحزبي، وحول الديمقراطية داخل الحزب ومدى تأثرها سلباً بالتطبيقات الخاطئة لمبدأ المركزية الديمقراطية، ما أسفر عن تغييرات في هيكلية التنظيم الحزبي وبنيته، وصولاً إلى تغيير إسم الحزب نفسه، كما طالت التغييرات جوانب في برنامج الحزب وفي نظامه الداخلي، وفي هذا الإطار تم التمسك بما هو جوهري في الماركسية، وهو منهجها العلمي، الذي لا غنى عنه لدى تحليل الظواهر الإجتماعية والإقتصادية. وبهذا فقد أنتجت هذه العملية مراجعة نقدية تُوِّجت باعتماد وثيقتي البرنامج السياسي والنظام الداخلي في المؤتمر الثاني للحزب الشيوعي الفلسطيني في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 1991، الذي تقرر فيه تغيير إسم الحزب، ليصبح حزب الشعب الفلسطيني. ■ رحل المناضل الكبير بشير البرغوثي في 9/9/2000 عن عمر ناهز التاسعة والستين، إثر رحلة حافلة بالعطاء بعد أن أمضى جُلَّ حياته في خدمة القضية والشعب والوطن، وتوقف قلبه الحاني عن الخفقان بعد صراع طويل مع المرض الذي أقعده لمدة ثلاث سنوات■ رباح جبر آذار/ مارس 2021
مصطفى الزبري/ أبو علي مصطفى.. عاد إلى الوطن مقاوماً 1938-2001 ■ عندما عبر الحدود إلى الضفة الفلسطينية تحت الإحتلال، لم يدخلها أبو علي مصطفى مساوماً، بل عاد إليها مقاوماً.. دخل مقاوماً من أجل الحقوق الوطنية، ولم يدخل مساوماً عليها.. دخل مقاوماً من أجل الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، ومن أجل حق العودة إلى الديار والممتلكات.. ولم يدخلها مساوماً على دولة منقوصة المساحة والسيادة، وبلا قدس عاصمة أبدية لهذه الدولة، وبلا عودة للاجئين.. القائد أبو علي مصطفى كان آخر من يجهل مخاطر إنتقاله من جغرافيا سياسية إلى أخرى.. كان يدرك في واقع الحال هذه المخاطر.. ولكنه لم يتراجع عن قراره، وكان كما عهدناه على إمتداد مسيرة نضالية تجاوزت أربعة عقود من زمن القضية الوطنية، صلباً، مبدئياً، ثابتاً وصاحب رؤية.. بقي متمسكاً برؤيته وبقراره، لأنه كان يدرك الضرورة الوطنية والكفاحية والحزبية لهذا القرار. ■ إنطلاقاً من الموقع الذي يحتله الرجل، لا بد من الإعتراف بكل واقعية، وبكل أسف، أن قوات الاحتلال بنجاحها في إغتيال زعيم الجبهة الشعبية، الرفيق أبو علي مصطفى في مكتبه في رام الله، تكون قد حققت فوزاً، ووجهت إلى الإنتفاضة والمقاومة وعموم الحركة الوطنية الفلسطينية ضربة موجعة؛ فالرفيق أبو علي مصطفى قائد مجرب وصاحب خبرة عميقة في العمل السياسي والعسكري والتنظيمي، وصاحب قدرة مميزة على التحليل واتخاذ القرارات وإدارة العمل بكل إتجاهاته، وعلى أكثر من جبهة. ■ هذه هي مواصفات القائد الناجح المشغول دوماً، في موقعه القيادي بكيفية أداء الواجبات بأنجح الطرق، وأفضل الأساليب، وأقلها كلفة وخسارة، وأكثرها قدرة على تحقيق الأهداف وتلبية طموحات الشارع الفلسطيني وأمانيه، والإستجابة لها أياً كانت تعقيدات الوضع، وأياً كانت الضغوطات والصعوبات والتحديات والمخاطر. ■ إن التيار السياسي المستهدف بعملية إغتيال الرفيق أبو علي مصطفى، مدعو لاستيعاب الدرس، وإعادة تنظيم صفوفه بما يتناسب مع النقلة النوعية للحالة العدوانية الإسرائيلية، حرصاً من هذا التيار على قواه الذاتية ودوره في الحركة الوطنية، وحتى يكون لتهديداته بالرد مصداقيتها وروافعها الضرورية■ ■■■ ■ واليوم، إذْ نستدعي ذكرى إستشهاد هذا القائد الوطني الكبير، لا بد وأن نقف أمام معنى الشهادة، لقائد بهذا المستوى تقدم الصفوف رمزاً وطنياً، ورمزاً يسارياً في زمن يسعى إلى إختزال الحركة الوطنية إلى يمين ويمين.. ومعنى الشهادة في هذا السياق هو قرن القول بالعمل ، والموقف المرسل بالممارسة المحققة، ودائماً تحت راية الإخلاص بلا حدود لقضية الشعب والوطن، لقضية الشعب الموحد في وطن موحد بقيادة حركة وطنية موحدة. وما نشهده في هذه الأيام يقف على النقيض من كل هذا، فالإنقسام القائم لم يَعُدْ يقتصر على تنافر الرؤى السياسية بعيداً عن الرؤية الوطنية المشتركة، كما بلورتها وثيقة الوفاق الوطني في حزيران/ يونيو 2006، بل بات يمتد إلى الجغرافيا والبنية المؤسسية معاً، أي السلطة الفلسطينية التي إنقسمت على نفسها بين الضفة والقطاع، حكومة ووزارات، أجهزة ومؤسسات.. هذا فضلاً عما يلوّح به البعض بأن يصل الإنقسام إلى مستوى رئاسة السلطة التي تضحى رئاستين، لا بل يمضي هذا البعض إلى أبعد من ذلك؛ لجهة التلويح باجتراح مرجعية أخرى بجانب م.ت.ف. ■ ليس ثمة مخرج من هذا المأزق الوطني العميق إلا بالحوار الوطني الشامل من ألفه إلى يائه، فالحوارات الثنائية والإتفاقات الثنائية، كما عَلَّمت التجربة الفاشلة لاتفاق مكة في 8 شباط/ فبراير 2007، هي إتفاقات محاصصة ثنائية، لأنها محكومة بمنطق الصراع على السلطة، ومؤسسات السلطة، وموازنات السلطة، ووظائف السلطة، وامتيازات السلطة… الحوار الثنائي وما يتمخض عنه من إتفاقات ينشيء إزدواج السلطة .. وهو حال صراع محتدم، حال إنتقالية رجراجة وقلقة، تقود – عاجلاً أم آجلاً – إلى حسم مسألة السلطة لصالح أحد طرفيها، فكان أن حُسِمت بالطريقة التي شهدناها بغزة في 14/6/2007. ■ هذا ما يُمكن أن تقود إليه صيغة الحوار الثنائي التي يتبناها البعض، وإن بأسلوب المرحلة الأولى التي تقود إلى الحوار الأوسع فيما بعد، بدعوى أن المشاكل قائمة بين التنظيمين اللذين يمسكان بمقاليد السلطة.. ونحن نقول، إن المشاكل الرئيسية قائمة بالفعل بين هذين التنظيمين، لكنها أيضاً قائمة بين كل منهما وسائر القوى السياسية، فكيف سيستقيم البحث – على سبيل المثال- بإعادة بناء الأجهزة الأمنية على أسس ومعايير وطنية ومهنية بعيداً عن التوظيف السياسي، ونحن نرى بأن من يرفع هذا الشعار، إنما يتصرف على غرار من سبقه. ■ إن هذا ما يجعلنا يجعلنا نتمسك بالحوار الوطني الشامل من ألفه الى يائه كما ذكرنا؛ وهو الحوار الذي لن يكون له مغزى، إذا لم يلزم نفسه بسقف زمني لا يتعدى الشهور من أجل إجراء إنتخابات رئاسية وتشريعية وكذلك للمجلس الوطني.. ومن هذا المنطلق رحبنا بدعوة القاهرة للشروع بالحوار، والأحرى باستكماله، إبتداءً من مطلع الأسبوع الثالث لشهر آب/ أغسطس 2008، ونرى بأن متطلبات إنجاح هذا الحوار تقوم على وقف فوري للحملات الإعلامية المتبادلة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين من الجانبين، وتحريم الإعتقال على خلفية سياسية، موقفاً وإنتماءً. ■ في هذا السياق، فإننا ندعو إلى موقف فلسطيني حاسم يضع واشنطن، والمجتمع الدولي بمكوناته كافة، أمام مسؤوليتهما من خلال وقف المفاوضات الجارية، وربط استئنافها بتجميد الاستيطان ووضع حد للعدوان والحصار المفروض على الشعب الفلسطيني، وبخاصة في قطاع غزة، وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين في سجون الإحتلال، وذلك كخطوة على طريق تصويب مسار العملية التفاوضية وإعادة إرسائها على قاعدة تنفيذ قرارات الشرعية الدولية، في إطار مؤتمر دولي كامل الصلاحيات، ينعقد تحت مظلة الأمم المتحدة وبرعاية دولية جماعية تؤمنها الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، بحضور كافة أطراف الصراع، بديلاً عن صيغة المفاوضات الثنائية التي تنفرد الولايات المتحدة برعايتها، إن لم يكن باحتكار مرجعيتها. ومن هنا أخيراً، نجدد التحذير من استمرار التفرد بالقرار التفاوضي والتعتيم على مجريات العملية التفاوضية. ونؤكد على ضرورة تشكيل لجنة وطنية عليا لإدارة المفاوضات وبمرجعية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، بديلاً من المطبخ الضيق الذي لا يخضع لأية رقابة أو مساءلة■ ■■■ ■ وبهذا نختم مجددين العهد أمام تلك القامة الوطنية الشامخة التي مثّلها أبو علي مصطفى في حياته الزاخرة بالعطاء النضالي المتواصل في قيادة العمل الوطني من منصة المسئوليات الشاملة، وصولاً إلى الأمانة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، من موقعها الوطني واليساري المتقدم في الحركة الفلسطينية وفي م.ت.ف، وفي حركة التحرر الوطني العربية عموماً؛ ونختم مجددين العهد بأن مسيرة شعبنا الكفاحية مستمرة حتى إنجاز كامل الحقوق الوطنية؛ وما زرعته أيها القائد الوطني الكبير على إمتداد عقود نضالك، تحول وسيتحول تباعاً حصاداً وطنياً وفيراً بعد إستشهادك؛ لقد عدت أخيراً إلى عرّابة، ليرتاح الجسد في هجعته الأخيرة، فيا تربة عرابة كوني حنونة على جسده المتعب، بقدر ما كان حنوناً على همومنا الوطنية■ معتصم حمادة 29/8/2008
بسام الشكعة.. رحل عنا، لكنه لم يغادرنا 1930-2019 ■ عندما تقاطرت عشرات الألوف من أبناء شعبنا، من أنحاء الضفة الفلسطينية إلى مدينة نابلس، لمرافقته، مكرماً، معززاً، جليلاً، مهيباً، إلى مثواه الأخير ... وعندما وقفت جماهير شعبنا في مخيمات الشتات، والمهاجر، وقفة وفاء، وصمت صارخ، في لحظات وداعه، كان التاريخ ينحني أمام هامته العملاقة، ويسجل اسمه، بأحرف الفخر والإعتزاز في سجل رجال فلسطين الكبار. بسام الشكعة، جبل نار من جبال بلادي، عاش قضية شعبه وهمومه في مراحلها ومحطاتها المختلفة. ■ واكب النهوض والمدّ القومي العربي العظيم، في زمن الكبير جمال عبد الناصر، وكان واحداً من صانعي هذا النهوض، ودفع ثمنه أحكاماً بالسجن قبل الإجتياح الإسرائيلي للضفة؛ فقد رفع لواء الوحدة العربية، ولواء القضية الفلسطينية وآمن إيماناً عميقاً بأن قضية فلسطين هي قضية الشعوب العربية كافة، وأن سلاح الوحدة القومية العربية هو الأكثر فعالية لفرض الحصار على الكيان الإسرائيلي واسترداد الأرض والحقوق القومية لشعب فلسطين، ووضع حد لسياسة الظلم والقهر التي يتعرض لها اللاجئون الفلسطينيون في أصقاع الأرض. ■ واكب النهوض الوطني الثوري الكبير، بعد هزيمة حزيران، وكان من صناع الرد الثوري على الهزيمة، ومن رجالات منظمة التحرير الفلسطينية، في المواجهة الميدانية للإحتلال في نابلس وفي أنحاء الضفة الفلسطينية. وسجل، إلى جانب إخوان كبار، إنتصاراً لمنظمة التحرير الفلسطينية والبرنامج الوطني المرحلي، الذي اجترحته العبقرية السياسية لشعبنا، وصاغته وتحملت المسؤولية التاريخية في إعلانه على الملأ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، حين فاز برئاسة بلدية نابلس عام 1976، إلى جانب إبراهيم الطويل (البيرة) وكريم خلف (رام الله) وفهد القواسمي (الخليل). كما كان من مؤسسي «لجنة التوجيه الوطني»، الذراع السياسي والوطني، لمنظمة التحرير الفلسطينية الإئتلافية في ظل الإحتلال. ■ لقد أدرك رفيق الدرب الطويل والصديق «أبو نضال» بحسه الوطني الصادق، وبواقعيته الثورية، أن الوحدة الوطنية لقوانا السياسية وجماهير شعبنا، في إطار م.ت.ف وبرنامجها السياسي المرحلي الثوري الواقعي، هي الطريق إلى الخلاص من الإحتلال، على طريق إنجاز الحل الديمقراطي الموحد الجديد للقضية الوطنية، ببناء دولة فلسطين على كامل التراب الوطني. ■ كان وجود مناضل صلب ومتماسك ونقي وطاهر اليد، كبسام الشكعة، عبئاً على الإحتلال، فلجأ عبر عصابات الإستعمار الإستيطاني إلى محاولة اغتياله، لكنه نجا، رغم أنه دفع ساقيه ثمناً لخلاصه. تلك الحادثة، زادته صلابة، وزادته قوة، إستهدفوا ساقيه، كما قال لنا، لكنهم عجزوا عن استهداف إرادته. ونسجل له عندما نقل إلى لندن لتلقي العلاج، رفض أن تقدم الحكومة البريطانية مصاريف علاجه، مشترطاً عليها الإعتذار أولاً لشعب فلسطين عن دورها في الجريمة النكراء التي ارتكبتها، في وعد بلفور، والإسهام في بناء الكيان الصهيوني إبان مرحلة الإنتداب وما بعده. وأصرَّ على العودة إلى عمان، حيث هناك تابع الأطباء علاجه. وعندما التقينا معاً، في مواجهة أوسلو، كان بليغاً حين قال إن الذين وقعوا أوسلو تخلوا عن حقوق شعبهم، مقابل الحفاظ على مصالحهم الذاتية. إستضفته في دارنا، بحضور الراحلين الكبيرين خالد الفاهوم، وجورج حبش، وكان لقاء ما زالت وقائعه التاريخية حاضرة في ذاكرتي، وفي أوراقي. إمتد اللقاء ساعات، كانت واحدة من أهم ساعات يومياتنا... طيف سيرة ومسيرة. ■ أبو نضال، علم من أعلام بلادي؛ وصوت صارخ في سماء الحرية والخلاص الوطني، والقومي وتقرير المصير؛ إبن بار لجبل النار، ولمدينة نابلس، مدينة الشهداء والثوار؛ رحل عنا في 22 تموز/ يوليو 2019، لكنه لم يغادرنا، فهو بيننا باقٍ ... ولن ننساه. هو واحد من العناوين الكبرى التي تزين تاريخنا الحافل بالنضالات والتضحيات، وحافل ببطولات الشهداء والمعارك الملحمية لشعبنا، إلى أن يحمل الإحتلال عصاه، ويرحل عن كل شبر من أرض دولة فلسطين، وعاصمتها القدس، ويشق أهلنا اللاجئون طريقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي هجروا منها منذ العام 1948■ نايف حواتمة 6/10/2019
بسام الشكعة.. ملهم جيلنا في التضحيه والنضال 1930-2019 • كنت في بيروت في الثاني من حزيران/ يونيو عام 1980، حين صُعقنا، أبناء الشعبين الفلسطيني واللبناني والأمة العربية بخبر إنفجار عبوة في سيارة رئيس بلدية نابلس المنتخب، المناضل الوطني والقومي المعروف بسام الشكعة، والتي أدت إلى بتر ساقيه؛ لا أدري كيف تداعى البشر لحظة سماع الخبر إلى منطقة الجامعة العربية في بيروت، وكانت مركز فعاليات الحركتين الوطنيتين الفلسطينية واللبنانية، في الوهلة الأولى خَيَّمَ الوجوم والحزن والصمت على التجمع البشري الهائل، إخترقه صوت المناضلة الراحلة عصام عبد الهادي، إبنة مدينة نابلس التي كانت في مهمة للإتحاد العام للمرأة الفلسطينية في لبنان من موقعها كرئيسة للاتحاد، إذ بدأت بصوتٍ جهوري قوي تنشد فينا «موطني ... موطني» ما لبث أن التحق بها الجمع الواجم والحزين ينشد معها النشيد الوطني والقومي للشاعر إبراهيم طوقان والذي نحفظه عن ظهر قلب «موطني ... موطني ... الجلال والجمال والسناء والبهاء في رباك ... في رباك...»، تحول بعدها المشهد الحزين إلى هتاف جماعي متواصل كان أقرب إلى الصراخ «بالروح بالدم نفديك يا بسام». • إرتبط اسم المناضل الكبير بسام الشكعة عند أبناء جيلنا، ذكوراً وإناثا، بنضاله المتواصل ضد الاستيطان، الذي نَمَّ عن وعي عميق ومبكر ورؤية واضحة لمخاطر الاستيطان، التي نشهدها اليوم، باعتباره الركيزة الأساس للمشروع الصهيوني الاستعماري، وعن سعيه وحرصه الشديد على التمسك بالأرض والدعوة لزراعتها وجلب الحياة لها حفاظاً عليها من المصادرة، الأمر الذي تشهد له فيها أراضي الأغوار ودير شرف وأراضي خلة السراويل في قرية حوسان وسكة الحجاز في نابلس، والمسيرة الجماهيرية الكبرى التي قادها عام 1979 ضد بناء مستوطنة «ألون موريه» شرق نابلس، المسيرة التي وصفها البعض بأنها «غطت الشمس» تعبيرا عن كبرها وهول رسالتها، رسالتها التي وصلت للعدو وأرعبته وابتدأ بموجبها يخطط ويعد لاغتيال رمز النضال ضد الاستيطان واستهداف ساقيه التي سارت به في مقدمة الجماهير الغاضبه ضد إقامة مستوطنة «ألون موريه». • بعد عودتي للوطن، وحين كنا نلتقي بالمناضل الكبير بسام الشكعة في بيته وبحضور أسرته المناضلة والرائعة، وفي مناسبات وطنية واجتماعية وإنسانية مختلفة، لم يغادر أبو نضال الحديث وبإسهاب عن الأرض ومخاطر الاستيطان، وعن سيرة التحدي والتصدي للحاكم العسكري وجنود الاحتلال، ورفض المهادنة أمام أي حدث من موقع التمسك الصارم بالحق والحرص على إشعار العدو بأنه معتدي ولا حق له عندنا، ولا تنازل أو مفاوضات معه حول أي قضية حقوقية، كان حديثه المتكرر معنا أقرب إلى الوصية لنا وللأجيال القادمة، وإلى مواصلة سرد درس في حكاية وطنية عن الصمود والمقاومة. • أخيراً... إن جاز لي الحديث عن ملهمين للنضال لأبناء جيلنا، بسام الشكعة في مقدمة الملهمين للنضال الجماهيري ضد الاستيطان وفي التمسك الثابت بالحق وعدم الرضوخ مهما كانت التضحيات. نعتز أبا نضال بأننا عايشناك وعرفناك واستمعنا إليك■ ماجدة المصري 6/10/2016
خليل الوزير/ أبو جهاد «العمل الصامت» صانع «المعادلات» 1935-1988 [■ ثمة شهداء لا تقتضي الكتابة عنهم أو استذكار سيرتهم، أية معرفة شخصية بهم، ولا تستلزم بالضرورة مواكبتهم في ميدان النضال، لأن أعمالهم رسمت خصالهم، ودَلَّ حصاد زرعهم على ما هم عليه من عزيمة وتصميم وإرادة. وعندما تكون الكتابة عن أحد الذين رسموا مسار العمل الوطني الفلسطيني منذ البدايات، فهي بمثابة قراءة جديدة في تاريخ الثورة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، منذ انطلاقتها وحتى تاريخ استشهاد كلِّ منهم. من بين هؤلاء، خليل الوزير/أبو جهاد، أحد أبرز مؤسسي حركة التحرير الوطني الفلسطيني، «فتح»:] جيل البدايات الصعبة ■ تأخر الإعلان عن إنطلاق الرد الكفاحي الفلسطيني المتكامل على النكبة نسبياً عن تاريخ وقوعها، لكن التحضير للأمر لم يتأخر على الإطلاق، وقد خطط له ونهض بأعبائه جيل فلسطيني غافلته النكبة مع أول براعم يفاعته. عشرات من الشباب المجبولين بتحدي الأمر الواقع والعازمين على تغييره، بدأوا بشق مجرى الطريق نحو التحرير والعودة. في تلك الفترة، نشأ الجيل الفلسطيني المؤسس في خضم زحمة من الأفكار والعقائد والأيديولوجيات، القائمة والوافدة. وعلى الرغم من توزع الدروب والطرق التي رأى هؤلاء في كل منها المسار الصحيح الواجب إتباعه لتحقيق الهدف، إلا أن القناعة عند معظمهم رست في النهاية نحو ضرورة إستجماع الطاقات الفلسطينية الذاتية وتنظيمها على طريق إعادة بناء الهوية والكيان. ■ ولد خليل الوزير في العام 1935 في مدينة الرملة، وهُجِّرَ مع أفراد عائلته إلى غزة إثر نكبة 1948. درس في جامعة الإسكندرية، ثم انتقل إلى السعودية فأقام فيها أقل من عام. عمل في خريف 1957، مع ياسر عرفات وآخرين على تأسيس تنظيم فلسطيني سري، أُعلن عنه في إجتماع عُقد بمنزل في الكويت- تشرين الثاني/ نوفمبر 1959، باسم حركة التحرير الوطني الفلسطيني- «فتح»، واختير خليل الوزير عضواً في اللجنة المركزية الأولى للحركة، واستمر عضواً فيها حتى استشهاده، ومن بين مؤسسي الحركة كلٌ من: صلاح خلف، محمود عباس، كمال عدوان، أبو يوسف النجار، سعيد المزين، عبد الفتاح الحمود، غالب الوزير، عبد الله صيام، محمد الإفرنجي وحمد العايدي■ مسؤولية العمل المسلح ■ منذ البدايات، كان خليل الوزير منحازاً للكفاح المسلح كطريق لاسترجاع فلسطين. لذلك، لم يستمر طويلاً في صفوف جماعة «الإخوان المسلمين» التي إنتسب إليها- 1952، لأن قيادتها رفضت تبني خطط وضعها للتنفيذ في هذا المجال، ليبدأ بمفرده بتنظيم خلايا عسكرية قامت بتنفيذ عديد عمليات التفجير وزرع الألغام في الأراضي الفلسطينية المحتلة المتاخمة لقطاع غزة، من أبرزها عملية تفجير خزان مياه «زوهر» قرب بيت حانون- 25/2/1955. وبعد إعتداء القوات الإسرائيلية على قطاع غزة- 28/2/1955، رداً على عملية «زوهر» الفدائية، قاد خليل الوزير مظاهرة حاشدة تنديداً بالعدوان، رفع فيها شعارات معبّرة بوضوح عن المزاج الشعبي السائد: «جندونا تنقذونا»، «دربونا تسعفونا»، الخ.. ■ تولى أبو جهاد مسؤولية القطاع الغربي في حركة فتح بعد استشهاد مسؤوله كمال عدوان، على يد وحدة خاصة إسرائيلية تسللت إلى بيروت– 10/4/1973. إغتالت أيضاً كمال ناصر وأبو يوسف النجار القياديين في الحركة. ويدير هذا القطاع ، العمليات العسكرية للحركة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد نفذت مجموعة فدائية من القطاع في ليلة 31/12/1964، أول عملية فدائية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، تم فيها تفجير شبكة مياه إسرائيلية وجرح جنديين إسرائيليين، واستشهد بنتيجتها أحد منفذي العملية وهو أحمد موسى سلامة. وخلال توليه قيادة القطاع الغربي– 1973/1982، أشرف أبو جهاد على تنفيذ عدد واسع ومهم من العمليات العسكرية لحركة فتح، من بينها: عملية فندق «ساڤوي» في تل أبيب- 1975، وعملية إنفجار الشاحنة المفخخة في القدس- 1975، وعملية تنفيذ قرار «القضاء الثوري» بتنفيذ حكم الإعدام بحق إلبرت ليڤي كبير خبراء المتفجرات الإسرائيلي ومساعده في نابلس- 1976، إضافة إلى «عملية دلال المغربي»- 1978، وعملية قصف ميناء إيلات- 1979، وقصف المستوطنات الإسرائيلية في شمال فلسطين بالكاتيوشا- 1981. كما حمَّلت إسرائيل أبو جهاد المسؤولية عن أسر 8 جنود إسرائيليين في لبنان ومبادلتهم بـ 5000 معتقل لبناني وفلسطيني- 1982، وكذلك ساهم بوضع خطة إقتحام وتفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور- 1982■ مهام قيادية ودور وحدوي ■ شارك أبو جهاد في المؤتمر الوطني الفلسطيني الذي عقد في مدينة القدس في أواخر أيار/ مايو 1964، وهو المؤتمر الذي أُعلن فيه تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وكان عضواً في اللجنة السياسية للمؤتمر، وتسلم مواقع قيادية عدة في المنظمة، فكان عضواً في المجلسين الوطني والمركزي خلال معظم دوراتهما، وفي المجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، وشغل موقع نائب القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية. وقد عُرف بهدوئه ودماثته، وكان مثالاً لنكران الذات والتواضع، ونجح في نسج علاقات صداقة وتضامن واسعة مع العديد من زعماء حركات التحرر الوطني في العالم، وهو من القيادات الوطنية الفلسطينية القليلة التي لم يختلف معها، أو عليها أحد على نحو جدي. ■ عصف الإنقسام بالحالة الفلسطينية بعد الانشقاق الذي وقع في حركة «فتح»- 1983، وتشكل «التحالف الوطني» كإطار مناويء للحركة ورئيسها ياسر عرفات، في حين توحدت الجهود التي عملت على رأب الصدع الفلسطيني الداخلي في إطار «التحالف الديمقراطي»، المشكل من الجبهة الديمقراطية + الجبهة الشعبية + الحزب الشيوعي الفلسطيني + وجبهة التحرير الفلسطينية، وقد نجح هذا التحالف خلال حواراته مع وفد حركة فتح في عدن- 27/6/1984، في التوصل إلى إتفاق حول استعادة الوحدة، مما مَهَّدَ لاجتماعات الفصائل الفلسطينية كافة في الجزائر توّجت بالإتفاق. وقد ترأس خليل الوزير وفد حركة فتح في جلسات الحوارات الوطنية في كل من عدن والجزائر، ولمس المشاركون منه دوراً إيجابياً وحرصاً على التوصل إلى إتفاق وطني ينهي إستفحال الإنقسام واستمراره. ■ مع إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الكبرى كان أبو جهاد من أبرز قادتها من خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقال في أكثر من مناسبة: «إن مصير الإحتلال يتحدد على أرض فلسطين وحدها وليس على طاولة المفاوضات»■ خطة الاغتيال كمرآة لدوره المؤثر ■ في المجال العسكري الذي كَرَّسَ له أبو جهاد معظم جهده، يكون «العمل الصامت» هو القيمة العليا التي يجب أن يتحلى بها كل من يعمل به؛ مشرفاً أو مخططاً أو منفذاً، وهو أخطر أنواع العمل الوطني الفلسطيني، وأكثرها إيلاماً للإحتلال، كونه يستهدف بنيته الصلبة ممثلة بالمؤسسة الأمنية والعسكرية الصهيونية صاحبة الذراع الأولى في وقوع النكبة وتمكين إسرائيل من الوجود. ومن يعمل في هذا المجال، يبقى خارج تأثير البراغماتية السياسية، وبعيداً في طباعه عن مراوغات العمل الديبلوماسي ومناوراته، أو هواجس سلامة المبنى والمعنى في خطابات المهرجانات والإحتفالات. فبالنسبة له، لا يوجد بين الهدف وساعة الصفر سوى خط مستقيم! ولذلك، كان هؤلاء على الدوام في مقدمة من تعمل إسرائيل على اغتيالهم، ولا توفر فرصة من أجل تحقيق ذلك، والأمثلة أكثر من أن تحصى عند استذكار القادة الفلسطينيين المشرفين مباشرة على هذا المجال النضالي، والذين تمكنت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية من الوصول إليهم واغتيالهم. ■ ينتمي الذين قاموا بتنفيذ عملية إغتيال أبو جهاد إلى وحدات كوماندوز خاصة تابعة لهيئة الأركان الإسرائيلية، وهى الأقوى في الجيش الإسرائيلي، وتم نقلهم على متن أربع سفن، من بينها إثنتان نقلت عليهما مروحيتين، لاستخدامهما في حالة الإضطرار لعملية إخلاء طارئة إذا حدث أي طاريء، أو خلل غير متوقع. وتم بناء مكان سكن في إسرائيل مماثل لذلك الذي يقيم فيه أبو جهاد، إعتماداً على إستطلاعات عملاء لجهاز الموساد في تونس، لتدريب كوماندوس الإغتيال؛ هذا بخلاف قيام عملاء الموساد بمراقبة مكان سكن أبو جهاد في تونس لمدة شهرين، وزرع أجهزة تنصت في حجرة نومه إضافة إلى التنصت على هاتفه، وتم نقل أسلحة العملية بواسطة باخرة سياحية، ظلت راسية قبالة الشواطيء التونسية أكثر من أسبوع، إلى أن تم نقل الأسلحة [صحيفة «معاريف» الإسرائيلية- 4/7/1997]. ■ وأقلع عدد من طائرات بوينج 707 من قاعدة عسكرية جنوبي تل أبيب، كانت واحدة تقل إسحاق رابين وعدداً من كبار الضباط الإسرائيليين، وكانت على اتصال دائم عبر لاسلكي بموجات سرية بفريق الإغتيال بقيادة عميل إسمه الرمزي «سورد»، كشفت إسرائيل عن اسمه فيما بعد وهو ناحوم يوڤال. وعند الساعة الثانية عشرة و17 دقيقة صباح 16 نيسان/ إبريل، أصدر رابين أوامره بتنفيذ العملية. وهذا ما كان. [غوردون طوماس: «إنحطاط الموساد»، ترجمة د. محمد معتوق]■ صوَّبَ العلاقات السورية - الفلسطينية .. شهيداً ■ إستشهد أبو جهاد في مرحلة إجتمعت فيها مؤشرات أفرزتها وقائع متعاكسة الإتجاهات والدلالات. فمن جهة، شهدت الفترة التي تلت الإجتياح الإسرائيلي لبيروت وخروج قيادة منظمة التحرير منها- 1982، إنتعاشاً لمشاريع إقليمية ودولية عملت على تهميش منظمة التحرير. ومع مرور الوقت، بدا للمراقبين أن هذا المسار يتقدم من خلال ما يُطرح من سيناريوهات تتصل بحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي باتجاه ترسيم مشروع الحكم الذاتي الإداري في الضفة والقطاع، في وقت بدأت تظهر مؤشرات تساوق أطراف عربية عدة مع هذا المشروع. ومن جهة أخرى، قلب إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الكبرى- أواخر العام 1987، هذه المعادلات، وبدأت الإنتفاضة- بفعل إستمراها وتصاعدها وانتشارها- تخلق تفاعلات وضعت الإقليم والمجتمع الدولي أمام واقع جديد، فرض على القمة العربية غير العادية- الجزائر، 7-9/6/1988، أن تعيد التأكيد على ضرورة« تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه الوطنية الثابتة، بما فيها حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته الوطنية المستقلة بعاصمتها القدس على ترابه الوطني بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ممثله الشرعي والوحيد، وذلك وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة». ■ جاء استشهاد أبو جهاد في وقت بدأت فيه العلاقات الرسمية العربية ـــــ الفلسطينية تستعيد طبيعتها السابقة، تحت تأثير زخم الإنتفاضة. لكن حتى ذلك الوقت، كانت أجواء التوتر والقطيعة تسود العلاقات الرسمية السورية ــــ الفلسطينية، لدرجة أن أعضاء قيادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين المقيمين في دمشق مُنعوا من العودة إليها عقب إنتهاء مشاركتهم في أعمال المجلس الوطني الثامن عشر- 1987، وبقي المنع قائماً لنحو عام، لتكسره المشاركة في تشييع الشهيد أبو جهاد، الذي جرى في مخيم اليرموك، جنوبي العاصمة السورية في 20/4/1988. وقد انعكست التفاعلات السياسية والشعبية العربية والدولية التي خلقتها عملية إغتيال أبو جهاد، إضافة إلى أصداء الإنتفاضة، على المناخ السياسي الرسمي في دمشق، وتُرجم هذا الإنعكاس بعدد من بوادر الإنفراج في العلاقات الثنائية، السورية - الفلسطينية. ■ شُيع الشهيد في مسيرة جماهيرية وسياسية حاشدة غصت بهم شوارع مخيم اليرموك، بمشاركة نحو نصف مليون شخص من أبناء الشعبين الفلسطيني والسوري بمشاركة وفود رسمية وحزبية عربية وصديقة. وكانت - إلى جانب التشييع - إستنهاضاً لدور الشارع السوري في دعم الإنتفاضة الفلسطينية، وتعبيراً عن إلتفاف الشعب السوري الشقيق حول حقوق الشعب الفلسطيني. وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، لم يمنع حظر التجول الذي فرضه الإحتلال من تنظيم مسيرات التشييع الرمزية في معظم مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة تقديراً لدور الشهيد الكبير. خلاصة القول، ما كان يخطط له العدو من إضعاف للإنتفاضة باغتيال أبو جهاد، تحوّل إلى تجدد زخمها على وهج شهادة أحد أبرز قادة فلسطين وحركتها الوطنية المعاصرة■ محمد السهلي 16/4/2025
محمد الضيف.. «ضيفاً» وطأتها، فاعلاً، قبل أن تسمو في عليائها، خالداً 1965-2024
(1) ■ ثمة قادة يلمع نجمهم في حياتهم، لكنه يأفل بعد المغيب، وآخرون لا يكافئون على دورهم إلا بعد الرحيل، وثمة فئة ثالثة من القادة، يشغلون العدو في حياتهم، وبعد رحيلهم، سواء بسواء، ومن هؤلاء محمد الضيف، الذي كان من أبرز صانعي معادلات المقاومة في فلسطين، أي تلك المعادلات المولّدة للحقائق الصلبة، التي ما زالت تداعياتها – حتى يومنا – تنداح في كل الإتجاهات، وأي إثبات على هذا أكثر مما شهدناه، من صمود لشعب، وثبات لمقاومة على وهج «طوفان الأقصى»، وما أدراك ما «الطوفان»، إن لم يكن محطة فاصلة على طريق الإجهاز على إحتلال تأبد، بناءً لمشروع الحرية والإستقلال؛ وأي تكريم للراحل الكبير في ذكرى إستشهاده، أبهى وأهم من تزامن هذه الذكرى مع تسارع وقائع حرب التحرير، مازالت رحاها تدور في أكثر من مكان على أرضنا الطاهرة■ (2) ■ ما عشناه على إمتداد عام ونيِّف هو حدث جلل، كانت حرباً تحررية بأبعاد إقليمية، هكذا كانت عندما اندلعت، واستمرت على هذا الحال بعد أن إتسعت، ولا أفق مرئياً حتى الآن، طالما القتال متواصل، يُنبيء بحدودها، قبل أن تدرك أهدافها. ■ هي الحرب الإقليمية الأولى، بعد حرب العبور إلى سيناء والجولان عام 1973، ما لا ينتقص البتة من أهمية أيٍ من غيرها من الحروب، التي إزدحمت بها العقود الخمسة الفاصلة ما بين تشريني 1973 و2023، وما أسفرَ عن بعضها من نتائج وتداعيات، كما هو حال حربي 1982 و2006؛ إنما يؤشر إلى ما يمكن أن تفتح عليه حرب «الطوفان» من آفاق، تُقرب الشعب الفلسطيني من إنجاز حقوقه الوطنية، وتعيد صياغة التوازنات وعلاقات القوى في أكثر من مكان، لجهة إحتواء العدوانية الإسرائيلية■ (3) ■ جدلية الحرب بتفاعلها مع فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة، وبالعبء الذي تلقيه على عاتق واشنطن، المثقلة أصلاً باستحقاقات خارجية – ليس أقلها – مواجهة صعود الصين من جهة، والخسارة الوشيكة للحرب في أوكرانيا من جهة أخرى. إن كل هذا يدفع بالأمور، نحو إحتدام حدة مواجهة لم يعد ميدانها – بعد الآن - يقتصر على الضفة والقطاع. ■ إن اتساع دائرة المناهضة للإحتلال وزيادة المنخرطين أو المساهمين فيها في العالم بأسره، إلى جانب الشعب الفلسطيني، توسع في الوقت عينه جبهة الصدام مع محور واشنطن – تل أبيب، المعادي بثبات لشعوب المنطقة وتطلعاتها التحررية. أليس هذا ما سعى إليه القائد محمد الضيف وأفنى زهرة العمر في سبيله ؟ أليس هذا ما ارتقى بمكانته إلى مصاف الهامات العالية، في حركة التحرر الوطني الفلسطيني■ (4) ■ نقف بكل إجلال وتقدير أمام ذكرى قائد تفاعلت مواصفاته الشخصية، فطرة وخبرة، وفكراً متقداً، مع الأهداف العليا لقضيتنا الوطنية، فجعلت منه رائداً مبادراً في إجتراح إستراتيجية للتحرر الوطني، على طريق النصر المؤزر، لا محالة. ■ هذا ما يؤكده مشهد عدو يودع صاغراً عاماً مترعاً بوقائع الخيبة والهزيمة، في الوقت الذي تستقبل فيه فلسطين، المثخنة بالجراح، إنما المفعمة بالإرادة الصلبة، وإشراقة الأمل، عاماً مقبلاً، ينبيء بانتصار الحق والحقيقة، الحقيقة التي تقول: في التحرر الوطني يكمن خلاص الشعوب. ■ في ذكرى إستشهادك أيها القائد المقدام، نقول: «ضيفاً» وطأتها تلك الأرض المقدسة، فاعلاً، قبل أن تسمو في عليائها خالداً■
فهد سليمان 3/2/2025
الفصل الثاني
قادة من حركة التحرر الوطني
■ كمال جنبلاط ■ محمد بنسعيد ■ أنطون سعادة ■ فرحات حشّاد ■ معروف سعد ■ أحمد نبيل الهلالي
كمال جنبلاط.. كان وطنياً عظيماً ... كان ديمقراطياً حقاً 1917-1977 ■ هذا الوطني الأصيل الذي تنغرس رجلاه عميقاً في تراب الوطن، وترتفع قامته إلى سحب سمائه. كان عميق الإيمان بقضية الديمقراطية. والإيمان الحق بالديمقراطية، يعني الإلتزام الثابت بقضايا الحرية والتحرر والتقدم، وبضرورة النضال المتواصل مع كل المكافحين، من أجل إنتصار كل ما هو تقدمي وديمقراطي. لقد كانت ثقافته وآراؤه الفلسفية التقدمية، هي التي تعينه على الإستجابة لجميع المضامين الثورية التي تتولد عن الإيمان بقضية الديمقراطية والنضال في سبيل سيادتها. لا شك أن الأصالة الوطنية والديمقراطية وجهان لقضية واحدة، لكن وحدتهما العظيمة هي في قوة وعظمة كل المناضلين من أجلها، شعوباً وأحزاباً وتجمعات وأفراداً، وهي سر تجدد قوتهم النضالية وإستمراريتها، ذلك لأنهم يضعون بذلك أنفسهم في سياق العملية التاريخية، ويلعبون دورهم الإيجابي الثوري في مسيرتها الصاعدة. ■ سليل عائلة عريقة حكمت الجبل، وزعيم إحدى أولى الطوائف التي استوطنته، عائلة ورثت، وواصلت التاريخ الوطني النضالي لإحدى المجموعات البشرية الرئيسية التي أسست وساهمت في صنع تاريخ لبنان الحديث. لقد ورث جنبلاط زعامة العائلة والطائفة، وتاريخهما، لكنه متسلحاً بوحدة الإيمان بالوطنية والديمقراطية الحقة، إنعطف بوعي، وبخيار حاسم، منسلخاً عن تقاليد حياة وحكم الأمراء، نحو حياة وتقاليد ومصالح عامية الطائفة وقاعدتها البشرية، ومن البديهي أنها هي ذاتها، حياة ومصالح عامية جماهير الطوائف الشقيقة الأخرى. لم ينسلخ جنبلاط عن الطائفة كفرد مثقف حالم، ليلعن الطائفية، ويتغنى بالعلمانية والديمقراطية والتقدم، بل سلك طريق النضال وبقوة لكي يمزق الأقمطة الطائفية التي كان يراد له أن يتلفح بها ويبقى سجينها، وولج طريق الديمقراطية الرحب والمنير. ■ لقد إنتقل بقاعدته الإجتماعية، نحو إنتماء وطني، نحو إنفتاح ديمقراطي، ونحو معانقة الآخر بدون إستثناء، من أجل التعايش الديمقراطي ووحدة لبنان الشعب والوطن، من أجل مصالح عاميات جميع الطوائف التي تعاني من التخلف والحرمان، وإن كان التخلف يتخذ له أشكالاً متباينة، ... ووضعها متعايشة على طريق الديمقراطية والتقدم. ولأنه وطني ديمقراطي، كان عليه أن يكسر أسوار دائرة العزلة اللبنانية وتجاوز حدودها، للبحث عن مصالح شعب لبنان وتقدمه في المحيط العربي وحركته القومية التحررية، وبدون الخضوع لدائرة أسوار هذا المحيط، أطل بعيداً، وعانق العالم الخارجي الواسع، عالم التحرر والتقدم والحضارة. ■ هكذا أصبحت ضرورات دوره الوطني اللبناني، تلزمه بأن يكون أحد أبرز رواد الديمقراطية والتقدم في المنطقة العربية، ومن مواقع دوره الأخير، إكتسب إحترام وصداقة كل قوى الحرية والتقدم في العالم، وتبوأ موقع المناضل من أجل قضاياها ذاتها، والتي هي قضايا كل الوطنيين والتقدميين اللبنانيين والعرب. إن إصالة وطنيته وعمق ديمقراطيته، فرضتا عليه التصدي لدوره العربي التقدمي والديمقراطي، وإنحيازه لقوى التحرر والتقدم في العالم، ومن خلال أبعاد هذا الدور، كان موقفه إتجاه قضية الشعب الفلسطيني العادلة ونضاله من أجل حقوقه المشروعة وتقرير المصير ثابتاً لا يتزعزع. ■ على إمتداد السنوات السبع الأخيرة، كان عليه أن يعمل لتكريس حقيقتين أساسيتين الأولى هي وحدة مصالح الشعب اللبناني الوطنية، بكل طوائفه وطبقاته وفئاته؛ وثانياً وحدتها مع قضية الشعب الفلسطيني، ونضاله العادل ضد إسرائيل العدو الغاصب، والإمبريالية. وعلى إمتداد محنة العامين الأخيرين – 1975/1976، كانت هذه الحقائق ماثلة وتتأكد في كل شوط من أشواط الصراع والمحنة، وفي كل حلقة من حلقاتهما، وحدة مصلحة كل اللبنانيين أولاً، وعلاقتها العضوية مع قضية الشعب الفلسطيني ونضاله. من هذه المنطلقات المبدئية، وقف بوجه المغريات والضغوط، وتصدى كالطود الشامخ لكل الترغيبات الرخيصة ولكل الترحيبات مهما كانت، لكن الحقائق البديهية هذه، كانت تزعج الكثيرين، ودونها الصعاب الجسام(!) وكان الجواب بديهياً وبسيطاً كالحقيقة، وهو جواب كل وطني أصيل، وديمقراطي حق، فلا خيار جديد، لقد إختار منذ زمن بعيد، وهو مستعد لتقديم الثمن مهما كان مرتفعاً. كل توازن سياسي لا يعترف بتأييد كفاح الشعب الفلسطيني ومصالحه، وبالتالي مصالح الشعب اللبناني، لا يمكن أن يدوم. ■ إن الدور الذي لعبه هذا الزعيم الوطني في تاريخ نضال الحركة الوطنية والتقدمية اللبنانية، خاصة في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، هو دور بارز ومميز، وقد إتخذ أبعاداً وتأثيرات غير عادية بالقياس إلى الزعامات الوطنية الكبيرة في تاريخ حركات تحرر الشعوب. صحيح أن قوى التحرر والتقدم ناضلت بثبات ونجاح، قبل إنخراط كمال جنبلاط في حركتها التاريخية، ومساهمته الفعالة فيها، وستبقى تواصل كفاحها بعده، لكن دور جنبلاط كان مميزاً ضمن هذه الصيرورة. لقد جعلها جنبلاط تزداد قوة وحجماً بدوره المميز، تماماً كما كبر هو ودوره من خلالها، وكان التأثير المتبادل غاية في الخصب والعطاء. وصحيح أيضاً أنه ابن مرحلته التاريخية ونتاجها، ومن طينتها، لكن ما هو ثابت أن دوره كمناضل يعيش قضيته الوطنية بكليتها، جعله يترك بصماته عميقة على مسار المرحلة برمتها، تلك البصمات والتأثيرات الإيجابية التي سيبقى فعلها مستمراً، ما دامت معضلات النضال ذاتها قائمة، وما دام طابع المرحلة التاريخية مستمراً. لقد كان مناضلاً صلباً، شديد الحساسية السياسية للتغيرات والتطورات الظاهرة والكامنة، التي تجري من حوله، عميق الوعي للتناقضات وأبعادها، كان قائداً قادراً على خوض النضال وقيادته وسط الأمواج العاتية المتلاطمة، كان علماً ... كان مناراً ... كان صارية المسيرة. ■ ... وسقط المناضل جنبلاط، وهو يحمل المشعل والسيف يحمي أحدهما بالآخر، من أجل لبنان، كل لبنان، الوطن والشعب. ألم يكتب صباح إستشهاده البيان «الوصية»، الذي يدعو فيه إلى وحدة اللبنانيين، كل اللبنانيين الوطنيين لتجاوز المحنة، ولوضع أسس الجبهة الوطنية العريضة، وفي سبيل القضية الوطنية الواحدة؟ لقد ترك القائد الوطني فراغاً، لكنه ترك أيضاً مباديء وتقاليد نضالية، وطنية ديمقراطية تاريخية، ترك وراءه حركة وطنية ديمقراطية تاريخية، ومناضليها لرفاق طريقه. وجاء الجواب بليغاً في أربعينيته، فهذا الحشد الوطني الكبير، هذا المعين المتدفق الذي لا ينضب من الوطنيين وجنود الديمقراطية والتقدم، جاء مجدداً العهد ومؤكداً البيعة لرفاق مسيرة جنبلاط لحركتهم الوطنية والتقدمية. هذا الواقع، هذا الرد الشعبي، هو الذي يعوّض كل فراغ مؤقت يمكن أن يحصل بغياب قائد وطني كبير، وهذا التضامن الواسع والفعّال من شعوب العالم، هو الذي يساعد على تجاوز بعض الصعاب. أما رد الوطنيين الديمقراطيين اللبنانيين على رحيل القائد جنبلاط، وتكريمهم له، وعهدهم إليه، فقد كان واضحاً ومحدداً تماماً: أن يقووا أحزابهم وحركتهم الديمقراطية، ويوسعوا جبهتهم الوطنية، ويعمقوا تحالفهم مع قوى التقدم والتحرر في العالم■ سعيد جواد 9/5/1977
كمال جنبلاط.. كان زعيماً وقائداً ومقاتلاً وفيلسوفاً 1917-1977 ■ في 16 آذار 1977، كانت سيارة مرسيدس سوداء تتسلق جبال الشوف، وقبل الوصول إلى مدينة بعقلين، وعند مفترق بلدة دير دوريت، قطعت عليها الطريق سيارة بونتياك أميركية زرقاء اللون، نزل منها مسلحون وأمطروا سيارة المرسيدس ومن فيها بالرصاص، ثم عادت البونتياك الزرقاء إلى مقر عملياتها في بيروت بفندق البوريڤاج ذائع الصيت آنذاك. بعد أن هُرع المواطنون لاستطلاع الأمر، تناقلت وكالات الأنباء برقية عاصفة: «إغتيال كمال جنبلاط»؛ خبر لم يزلزل لبنان فحسب، بل كانت له إرتداداته الصاخبة في أكثر من عاصمة عربية. في القاهرة، أوقف أعماله المجلس الوطني، الذي كان في دورة إنعقاده الثالثة عشرة، ووقف حداداً على زعيم لبناني عروبي، إحتضن المقاومة، ودافع عنها بصدره، وأبى أن يفك إرتباطه بها، وعقد المجلس الوطني جلسة خاصة تكريماً لذكرى الفقيد الكبير، كان فيها لكلمة إنعام رعد، القائد البارز في الحزب السوري القومي الإجتماعي، صداها العميق. الحركة الوطنية اللبنانية، التي بدت يتيمة، رأت في الإغتيال ضربة ستطال القوى الوطنية والديمقراطية واليسارية في لبنان. أما الحزب التقدمي الإشتراكي، الذي كان يتزعمه كمال جنبلاط، فقد سارع إلى ملء الفراغ بانتخاب وليد جنبلاط خلفاً له■ ■ رحل كمال جنبلاط شهيداً، وخلّف فراغاً لم يملأه من بعده أحد. كان الزعيم الأبرز في طائفة الموحدين الدروز، وهو الذي يمقت الطائفية السياسية وناضل لإلغائها من النظام السياسي في لبنان. كان الإقطاعي الذي يمتد سلطانه على مساحات واسعة في جبل لبنان، ويؤمن بالعدالة الإجتماعية، ويدعو للإشتراكية، كان زعيماً شعبياً، ويؤمن في الوقت نفسه بتنظيم الجماهير وتأطيرها، وأسَّس الحزب التقدمي الإشتراكي لهذا الغرض. كان يدرك نواقص النظام البرلماني اللبناني، وكان في الوقت نفسه وجهاً برلمانياً لامعاً. كان يزدري نظام المحاصصة الطائفية في تشكيل الحكومات وتوزيع الوزارات، وكان في الوقت نفسه وزيراً ناجحاً حين يتولى إحدى الحقائب الرئيسية. وكان يرى في الإقتصاد الليبرالي القائم إستغلالاً للفقراء والعمال والشغيلة. كان إنساناً هادئاً، بشوشاً، ليّن العريكة، لكنه كان في المنعطفات قائداً عسكرياً يقود رجاله بحزم وقوة؛ وإلى جانب هذا كله، كان مفكراً، بل كان فيلسوفاً له نهجه الخاص في الحياة، لا يخفي نزعته الروحانية، التي كان يفيها حقها حين يسافر بانتظام إلى بلاد الهند، يحاور الفلاسفة والمفكرين، يستزيد منهم، ويستزيدون منه. ولا نبالغ إذا ما قلنا إن جنبلاط أتى إلى السياسة في لبنان من خارج السياق الموروث، الذي كانت تنحكم له السياسة غالباً، في ذلك الوقت■ كمال «بِك» الإشتراكي ■ ولد كمال «بك» جنبلاط في قصر المختارة، مقر الزعامة الجنبلاطية في لبنان، ورعته والدته السيدة نظيرة ذات المكانة الرفيعة وسط النخبة السياسية والإجتماعية في لبنان، كان يكفي أن تطل السيدة نظيرة حتى يقف لها الجميع، وحرصت السيدة نظيرة على تنشئة كمال بك بما يليق بزعامته، فنشأ رجلاً مثقفاً يجيد لغات عدة، واسع الإطلاع بنى لنفسه شخصية متميِّزة عن زملائه السياسيين، إذ كان يلازم قصر المختارة، حين لا يكون منشغلاً في مجلس النواب وأعمال الحكومة، حتى أن البعض دعاه «ناسك المختارة»، نقل عنه المقربون أنه كان متقشفاً يكتفي بالبسيط من الطعام، يُقبل على نبات القمح الأخضر، الذي كان يزرعه في فناء داره، حتى أن تقشفه، ويقال أحياناً تصوفه، إنتقل إلى مريديه، إذ كان بعضهم - على سبيل المثال - يرفض النوم على الأسرّة، ويرى في ذلك - تمثلاً بقول كمال بك - تعالياً على الأرض التي سوف تحتضننا جميعاً يوماً من الأيام، ولم تجذبه حفلات الإستقبال في السفارات، وإن كان يلبي دعواتها أحياناً، في إطلالة رمزية تتضارب مع مزاجه الشخصي؛ وهكذا نشأ كمال بك جنبلاط نشأة طبعت حياته حتى لحظة وفاته■ الإقطاعي والقائد الإشتراكي ■ إمتدت أملاك آل جنبلاط على مساحات واسعة من جبل لبنان، في الشوف وغيره، كإقليم الشحار و إقليم الخروب، ومناطق في شرق صيدا، وبعض أنحاء الجنوب. جمعت العائلة بين صفتين، درجت الصحافة اللبنانية عليها: الإقطاع السياسي من جهة، وإقطاع ملكية أراضي الكادحين فيها من جهة أخرى، وهما صفتان حرص كمال جنبلاط على أخذ مسافة منهما، فبادر في خطوة أولى إلى توزيع أراضيه على الفلاحين، واكتفى منها لنفسه، ما يكفي حاجته واحتياجاته كزعيم سياسي. إلى جانب هذا، فقد دعا إلى تأسيس حزب أطلق عليه أسم «الحزب التقدمي الاشتراكي»، سلحه ببرنامج وطني تحرري ديمقراطي وإجتماعي، على عكس ما كان عليه حال أحزاب «الطبقة السياسية» بوظيفتها المحض إنتخابية على قاعدة محلية ومذهبية، أقصى ما ترمي إليه هو – مقابل ولائها - تقديم خدمات لجمهورها الإنتخاب المباشر. ■ كان وعي كمال جنبلاط متقدماً على أقرانه، فهو من جهة كان ينظر إلى النظام الطوائفي في لبنان على أنه نظام عاجز عن بناء وطن، وفي أحسن الأحوال لا يمكن إلا أن يقيم صيغة متناحرة متنافسة وأحياناً متناحرة على الحصص والمصالح، وبحيث يتحول الحكم في لبنان، كما وصفه الرئيس الأسبق اللواء فؤاد شهاب – 1958/1964 - إلى قالب جبنة يتصارع الزعماء على إقتسامه. من جهة أخرى، كان جنبلاط يرى في المحاصصة الطائفية إجحافاً بحق أبناء الطوائف الأقل عدداً، الذين يصنفوا كـ «أقليات»، لذلك كان يدعو على الدوام إلى تجاوز النظام الطائفي، وإلى تبني نظام تقدمي، ديمقراطي، علماني، يقوم على مبدأ «المواطنة» والمساواة في المواطنة، وكان يعبر عن موقفه في خطبه ومساجلانه وكتاباته، إلى أن نجح مع شركائه في الحركة الوطنية اللبنانية في بلورة برنامج الإصلاح الديمقراطي للنظام السياسي في لبنان عام 1975. فضلاً عن ذلك كان جنبلاط من على خلفيته الموسوعية، وإقتداءً بتجارب الشعوب، كان يرى في الإشتراكية طريقاً للعدالة الإجتماعية، فأقام صداقات مع الإتحاد السوڤييتي آنذاك، ومع الأحزاب الشيوعية واليسارية والدول الإشتراكية الأخرى، عززت قناعته بجدوى التوجه الإشتراكي، نظاماً موفراً للعدالة الاجتماعية. لذلك، لا غرابة أن يكون إسم حزبه «التقدمي الاشتراكي»، وأن يكون شعاره، المعول من جهة أي العمل والأرض، والريشة والمحبرة من جهة أخرى، أي العلم والمعرفة، تأكيداً على كونه بجدارة رجل عمل وعلم معاً■ مؤتمر بتخنية الزراعي ■ دعا جنبلاط إلى بناء إقتصاد يقوم على الإنتاج، مدركاً أن لبنان مؤهلاً لأن يكون بلداً زراعياً، لا يعتمد في زراعته على التبغ والتفاح فحسب، بل وكذلك على أنواع عديدة من «مزروعات المواسم»، إذا ما تأمن للمزارع والفلاح اللبناني الدعم والإسناد من الدولة. وفي هذا السياق وترجمة لدعواته، دعا الحزب التقدمي الإشتراكي بزعامة كمال جنبلاط، وبالإشتراك مع القوى الوطنية اللبنانية، ومنها بشكل خاص الحزب الشيوعي اللبناني، إلى مؤتمر بتخنية ليكون منبراً ينطلق من برامج الإصلاح الزراعي والدعوات إلى بناء السدود المائية، وحسن إستثمار مياه لبنان الصافية والجوفية، والإنتقال من لبنان السياحة وبلد الإصطياف إلى بلد الإنتاج الزراعي، مما يطوّر إقتصاده، ويعزز علاقاته مع جواره العربي، فضلاً عن تأمين الرخاء لفلاحيه ومزارعيه ومستهلكيه في الوقت نفسه. وظل مؤتمر بتخنية علامة فارقة في تاريخ الحزب التقدمي الاشتراكي وتاريخ زعيمه كمال جنبلاط، ومحطة تأسيسية في مسار الحركة الوطنية والتقدمية في لبنان■ في مقاومة مشروع أيزنهاور وثورة 1958 ■ شهد النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي أحداث وتطورات إقليمية كان لها تداعياتها على لبنان تمثلت بداية بإطلاق الرئيس الأميركي أيزنهاور – ووزير خارجيته المتشدد جون فوستر دالاس - مشروعه المعروف لإنشاء تحالف بين دول المنطقة سمي بـ «حلف بغداد»، مشروع دعا إلى ملء «الفراغ» في الشرق الأوسط إبّان «الحرب الباردة»، لمواجهة مخاطر تمدد النفوذ السوڤييتي، ونفوذ الجمهورية العربية المتحدة، التي عزز قيامها زخم التيار القومي الوحدوي في لبنان، ما وضع بدوره البلد في أجواء تأجيج الخلافات الداخلية. ولعل الحدث الخطير الذي فجّر الموقف في لبنان آنذاك، أن الدولة اللبنانية برئاسة كميل شمعون، تلاعبت بنتائج الإنتخابات النيابية في دورة العام 1957، ما أدى إلى سقوط رموز التيار الوطني والقومي التقدمي في لبنان: كمال جنبلاط في الجبل، محمد الزيات في صور، معروف سعد في صيدا، صائب سلام وعبد الله اليافي في بيروت، ورشيد كرامي في طرابلس، الخ.. والتقت هذه القيادات على ضرورة منع تمديد عهد كميل شمعون، والتمرد عليه، فاشتعلت إنتفاضة مسلحة في أنحاء مختلفة في لبنان، دعيت بثورة 1958، إمتدت ستة أشهر، ساعد في إحتوائها حرص قائد الجيش آنذاك اللواء فؤاد شهاب على تجنيب الجيش مخاطر الدخول في متاهات النزاع الأهلي. ■ وأمام مخاطر سقوط كميل شمعون تحت الضغط السياسي من الخارج والداخل، قامت الولايات المتحدة بإنزال قوة من أسطولها السادس على شواطيء العاصمة بيروت وضواحيها، دعماً لرئيس الجمهورية، الذي إضطر بعد تسوية إقليمية، كانت قيادة جمال عبد الناصر طرفاً فيها إلى مغادرة الحكم بعد إنقضاء مدته الدستورية، فانتخب مجلس النواب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، ما أدخل لبنان في مرحلة جديدة. عند إستحقاقها أُجريت إنتخابات نيابية جديدة، عاد فيها زعماء «إنتفاضة» 1958 إلى مقاعدهم في ساحة النجمة في بيروت، وشهد لبنان برنامجاً إصلاحياً، وظهر نهج جديد في إدارة الحكم دُعي بـ «الشهابية»، نسبة إلى فؤاد شهاب، إنطوى على إتجاهات إصلاحية لتنقية الحياة السياسية اللبنانية، وتطوير الإدارة، وتحسين التعليم، والإصلاح الزراعي، وإنصاف المناطق المهمشة، والإنتقال بلبنان من عهد زعماء الإقطاع السياسي إلى عهد جديد حداثوي، شكل فؤاد شهاب رمزاً له. غير أن هذه النزعة الإصلاحية التي قطعت شوطاً بتطبيقاتها العملية، ما لبثت أن توقفت في ظل إحتدام الصراع الداخلي مع القوى المعارضة لهذا النهج، التي إستفادت من تجاوزات «العهد» على الحريات الديمقراطية من أجل تأليب أوسع القوى عليه■ النائب المخضرم ■ كان كمال جنبلاط نائباً مخضرماً، أدرك جيداً قواعد اللعبة البرلمانية في نظام قام على المحاصصة الطائفية والمذهبية، ولعب الإقطاع السياسي دوراً رئيسياً في صناعة سياساته وتحديد موقعه الإقليمي. إحتل جنبلاط مقعداً دائماً في البرلمان اللبناني، مرة واحدة خسر هذا المقعد، إلى جانب شركائه في تقاطعات عام 1957، حين تم التلاعب بصناديق الإقتراع لإبعاد المعارضة عن مجلس النواب، والتي مهَّدَت لانفجار الإنتفاضة المسلحة، والتي سميت آنذاك «ثورة 1958». ■ أدرك كمال جنبلاط خصائص اللعبة البرلمانية، لذلك بَرَعَ بصياغة التحالفات السياسية في تشكيل اللوائح الإنتخابية، وبعد الفوز، لجأ إلى تحالفات برلمانية أفضت إلى تشكيل كتلة برلمانية وازنة، تعددية التمثيل، ولها تأثيرها في الاستشارات الوزارية لتشكيل الحكومات وفي إنتخاب رئيس مجلس النواب، ولها وزنها في إدارة اللعبة البرلمانية في مناقشة وإقرار القوانين ومنح الثقة لهذه الحكومة أو تلك، أو حجبها عنها. وفي هذا الإطار كان جنبلاط يتقدم بمشاريع قوانين، آخذاً بالإعتبار مصالح الناس، خاصة الفئات المحرومة: المزارعين والفلاحين وأصحاب الدخل المحدود. كما كان يتبع تكتيكات ذكية تمكنه حتى من فرض إرادته على إجتماعات مجلس النواب، من خلال توزيع الأدوار على أعضاء كتلته، بما يتناسب والظرف السياسي والأهداف المتوخاة من تلك الجلسة البرلمانية. ■ كان جنبلاط حين يعتلي منبر الخطابة في البرلمان، يفرض هيبته على الجميع، فالكل حريص على أن يتابع باهتمام ما يقوله «الزعيم» و«البِك» و«المعلم». كان خطيباً مفوهاً، يمتلك ناصية اللغة العربية، خلافاً للعديد من زملائه، وكانت خطاباته في مجلس النواب على الدوام، موضع دراسة وتحليل من وسائل الإعلام، فما يقوله كمال بك ليس عن هوى، بل ما يستوجب إدراك معناه. حمل لقب صانع الرؤساء. كما حمل لقب صانع التحالفات البرلمانية. والأهم من هذا أو ذاك، أنه كان يحمل في يده مفتاح الشارع السياسي في لبنان ■ الوزير الفاعل بدوره ■ لم يكن جنبلاط مقبلاً على الاستيزار، بل كانت الوزارة تأتي إليه في كثير من الأحيان بشكل طبيعي، لكنه كان يرفضها عندما لا تنسجم توجهاته مع سياسة العهد، فقبل إتفاق الطائف – 1989، الذي أدخل على الدستور اللبناني تعديلات جوهرية في العلاقة بين أطراف المحاصصة الطائفية، خاصة لجهة تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح مجلس النواب مجتمعاً، كان لرئيس الجمهورية اليد العليا في تشكيل الحكومة، بما فيه رئيسها، ولم يكن ملزماً بإجراء إستشارات مع النواب، تحسم بمن يتولى رئاستها، الخ.. ■ ولعل المناصب الوزارية ذات الخصوصية المميزة، هي التي تولاها جنبلاط في إطار ما كان يسمى «حكومة الأقطاب»، التي قامت إثر أحداث 1958، وهي صيغة كان يتم اللجوء إليها أحياناً في ظروف إستثنائية تستدعي تشكيلها فتضم رؤساء الكتل السياسية، مثل: كمال جنبلاط، بيار الجميل، رشيد كرامي، ريمون إده وصائب سلام، يكون رئيس الجمهورية شريكاً فيها، إلى أن يتم تجاوز «القطوع» فتعود الأمور إلى سابق عهدها في أسلوب تشكيل الحكومات، وهذا واحد من أهم المؤشرات الدالة على الأزمة البنيوية التي تسم النظام السياسي اللبناني. في إحدى المرات تولى كمال جنبلاط وزارة الداخلية، لأن شخصيته ونفوذه السياسي كانا يؤهلانه في تلك الفترة، لتوفير التهدئة للبنان، قدم جنبلاط أثناء تقلدها نموذجاً مميزاً لوزير داخلية حريص – حقاً - على أمن شعبه واستقرار بلده، فلم يحابِ أحداً وطبق القانون بصرامة ونزاهة وعدل على الجميع، ورفض أن تُعطى لأية قضية بعدها السياسي من أجل التهرب من البت القضائي بها، بدعوى أن أوضاع البلد لا تحتمل، وأثبت أن الحسم والحزم والجدية في إدارة شؤون البلاد مع الجميع، دون استثناء من شأنه أن يوفر الاستقرار■ الزعيم الجماهيري الحازم والمرن في آن ■ كان كمال جنبلاط قائداً جماهيرياً حازماً، وفي الوقت نفسه مرناً عند الضرورة، عبّر عن ذلك في أكثر من مناسبة، كانت إحداها عندما قررت الحركة الوطنية بقيادة جنبلاط السير في تظاهرة تخترق شوارع بيروت، الدولة اللبنانية منحت إذناً جزئياً للتظاهرة، إذ منعتها من الوصول إلى قلب المدينة، ونشرت الحكومة قوات الأمن وقوات الجيش مدججة بالسلاح والآليات، وهددت بإطلاق النار على التظاهرة، إذا ما حاولت إختراق الحواجز الأمنية للوصول إلى قلب المدينة. عاش لبنان ساعات عصيبة بتهديد السلطة اللجوء إلى إستخدام القوة، وعلى إصرار قادة الحركة الوطنية اللبنانية على الوصول بالتظاهرة إلى قلب المدينة مع تحميل الحكومة والعهد مسؤولية كل نقطة دم تسيل. الصامت الوحيد كان كمال جنبلاط قيل يومها أنه يعاني جرحاً في قدمه، وأنه سيتغيب عن التظاهرة، وقيل يومها أن جنبلاط يحاول أن يتنصل من المسؤولية وألا يتصادم شخصياً مع رئيس الجمهورية، لذلك سيعتذر عن قيادة التظاهرة، غير أنه فاجأ – مرة أخرى – المتظاهرين بوصوله إلى رأس التظاهرة، وقد ربط قدمه المصابة، أشعل حضوره لهيب المتظاهرين فصارت الهتافات تدوي بالدعوة إلى تحدي إجراءات الحظر والوصول إلى قلب المدينة، لكن المفاجأة الثانية كانت حين انعطف جنبلاط بالتظاهرة عند آخر منعطف بعيداً عن قلب المدينة، متجاوزاً الصدام مع قوى الأمن وعناصر الجيش. ومنها أدلى بتصريح أدان فيه السياسة الرعناء للسلطة المتنفذة، مشدداً على حرصه على حقن دماء الشعب اللبناني، ودماء قوى الأمن وعناصر الجيش، مقدماً عرضاً باللجوء إلى الحكمة في أوقات الشدة في إدارة الحكم، بعيداً عن العجرفة والعنجهية، مؤكداً أن الوطن أغلى من كل شيء، وأن لا قيمة للمواطن إلا بصون كرامة هذا الوطن، وبذلك كسب جولة في مواجهة خصومه السياسيين، وأكد أنه يستحق لقب القائد الجماهيري الحريص حقاً على مصالح شعبه وبلده■ قائد الحركة الوطنية اللبنانية ■ إستحق كمال جنبلاط بجدارة أن يقود الحركة الوطنية اللبنانية بشخصياتها الوطنية وبمكوناتها الحزبية المختلفة من القومي إلى الوطني إلى العروبي فاليساري والاشتراكي وغيرهم، كما نجح مع تحالفه الوطني العريض في بلورة مشروع للإصلاح الوطني الديمقراطي للنظام اللبناني، لنقله من نظام المحاصصة، إلى نظام جديد، يجعل من لبنان وطناً يقوم على الديمقراطية خاصة في نظامه الانتخابي ومجلس نوابه، وصلاحيات رؤسائه، وعلى قاعدة إلغاء المحاصصة الحزبية الطائفية والمذهبية المقيتة التي كانت تقف حائلاً دون إطلاق طاقات الأفراد في المؤسسة الوطنية، وحشر هذه الطاقات في نطاق ضيق، من شأنه أن يعطلها، وأن يدفع بها إلى الهجرة إلى الخارج. ■ كما شكلت الحركة الوطنية اللبنانية بقيادة جنبلاط، مجلساً سياسياً مركزياً، ضم قادة الأحزاب المؤتلفة في الإطار الوطني، والتي تتبنى مشروع الإصلاح الوطني الديمقراطي للنظام، كما نشأت في أنحاء مختلفة من البلاد مجالس سياسية محلية، شكلت أطراً للتنسيق الوطني وتنظيم التحركات الجماعية في مواجهة سياسات الدولة، التي بدت تباشير إنزياح سياساتها نحو مزيد من التشدد السلطوي، المستند إلى أحزاب القاطع الآخر من البلاد، بداعي الدفاع عن «الصيغة» التي تحاول قوى خارجية القضاء عليها، في إشارة إلى الحركة الوطنية اللبنانية وبرنامجها، في ضوء وثوق علاقتها مع المقاومة الفلسطينية■ رئيس الجبهة العربية المشاركة للمقاومة الفلسطينية ■ أدرك جنبلاط بتفكيره العميق، الأبعاد التاريخية لولادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، كما أدرك التأثير الموضوعي لوجود المقاومة الفلسطينية في لبنان على الحالة الوطنية اللبنانية وإرتباطها معها بأكثر من معركة في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي لفلسطين وأجزاء من لبنان، وبتقدم مشروع الإصلاح الوطني الديمقراطي للنظام السياسي في البلد، وحاجة لبنان إلى عمقه العربي، وحقيقة خطر المشروع الصهيوني على واقعه ومستقبله، بما في ذلك رفض إسرائيل حق العودة للاجئين. ■ لم يقف جنبلاط عند حدود تأييده للمقاومة الفلسطينية، بل عمل على تأسيس وقيادة «الجبهة العربية المشاركة للمقاومة الفلسطينية» التي تأسست عام 1972 وضمت في صفوفها القوى الوطنية اللبنانية وصفاً عريضاً من الأحزاب العربية القومية واليسارية والتقدمية، كانت تعقد إجتماعاتها الدورية، وتبحث في أشكال دعم المقاومة الفلسطينية في الصدامات المحلية مع إتجاهات سياسية بعينها، ومع بعض الأطراف الإقليمية، خاصة في العام 1976، حين بدأ تدخل النظام في دمشق يتزايد في الشأن اللبناني الداخلي، لمنع مسار تطور بدأ يأخذ منحاه لصالح المشروع الوطني والديمقراطي■ القامة الوطنية في موقع القائد العسكري الحازم ■ مع إشتعال حرب السنتين في لبنان- 1975/1976، كانت رصاصتها الأولى إغتيال الزعيم الوطني معروف سعد في صيدا في 26/2/1975، شكل جبل لبنان وساحله محاور المواجهة الرئيسية مع القوى المناوئة للحركة الوطنية المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية، ولعل الدور المؤثر الذي لعبه كمال جنبلاط في قيادة المعركة كان هو العامل الأكثر أهمية، إذ أدرك جنبلاط أن ثمة حالة سياسية جاهزة، تتوفر فيها شروط الإنتقال بالنظام السياسي إلى إرتياد آفاق الإصلاح الديمقراطي الحقيقي. كان جنبلاط بقامته الفارعة، النحيلة، وسماته الجادة، وخصلة شعره المتدلية دوماُ على جبينه، مرتدياً بذة سوداء، وأحاط رقبته بشال صوفي أسود، ينتقل من محور قتالي إلى آخر، يطمئن المقاتلين، يشرف على الخطط ويعطي الأوامر. ■ بعيداً عن الأضواء ولهيب المواجهات في الميدان، كانت تدور خلف الأبواب مشاورات بين دمشق وواشنطن، أفضت إلى إعطاء الضوء الأخضر لتدخل دمشق في لبنان بمواجهة التحالف الوطني اللبناني – الفلسطيني، حدد في الوقت عينه الحدود الجغرافية لهذا التدخل، كيلا يتجاوز الخط الأحمر المرسوم إسرائيلياً. إستطاع التدخل العسكري الآتي من دمشق أن يقلب الموازين، فتراجعت القوات المشتركة اللبنانية – الفلسطينية، ما أدى إلى إنكفاء الحركة الوطنية ومعها المقاومة الفلسطينية، إلى أن نشأت معادلة إقليمية جديدة، بعد إنفراد القاهرة بالتسوية السياسية مع تل أبيب، سمحت للتحالف الوطني اللبناني – الفلسطيني أن يستعيد زخمه■ التشييع ... يوم الحشر ■ كان يوم تشييع كمال جنبلاط يوماً للحشر، عشرات بل مئات الآلاف إحتشدوا لوداع الراحل الكبير، الذي شكل ظاهرة في لبنان، في ذلك الزمن الذي مضى؛.. وقد كان زعيماً وقائداً ومقاتلاً ومفكراً وفيلسوفاً، كان نسيج وحده، إذ كان اسمه كمال جنبلاط■ يوسف أحمد آذار (مارس) 2025
محمد بنسعيد .. في ذاكرة حواتمة صنعنا معاً يساراً جديداً 1925-2024 ■ الصداقة التي ربطت ما بيننا وبين محمد بنسعيد أيت إيدر وأنا، هي بحق، جزء من تاريخنا الشخصي، بل أجزم أنها كانت جزءاً من التاريخ السياسي لبلدينا. هو في أقاصي شمال إفريقيا، وعلى ضفاف الأطلسي، وأنا في غرب آسيا، وعلى الضفاف الشرقية للبحر المتوسط. جمعنا الكثير من القضايا والهموم والرؤى، والقناعات، والمعتقدات السياسية، تطابقت في العديد من مراحل النضال الوطني، لشعب المغرب الشقيق ولشعوبنا العربية، خاصة في فلسطين وجوارها. ■ في إستعادة للذاكرة الثرية لما كان بيننا من أعمدة متينة لصداقة مديدة، وما كان بيننا من رؤى مشتركة، بل ومتطابقة في كثير من الأحيان، يمكن التوقف أمام وقائع، أعتقد أن أهميتها تكمن في ما تحويه من عبر ودروس وخبرات، لجيل من المناضلين، تَحَمَّلَ أعباء النضال بأشكاله المختلفة، منذ مطلع النصف الثاني للقرن الفائت، أي القرن العشرين، والذي عاش تداعيات حروب كبرى وعاصفة شهدها العالم، أهمها الحربان العالميتان، الأولى والثانية، وتداعياتهما الكبرى على منطقتنا العربية، وأهمها تشطير الإمبراطورية العثمانية إلى أقطار، تربط بينها حدود غير مستقرة، شكلت منبعاً للتوتر الدائم فيما بينها، ونجحت في زرع قاعدة إستعمارية إستيطانية عدوانية، في قلب فلسطين، والمنطقة العربية، هي إسرائيل. أما في شمال إفريقيا، حيث إرتكب الإستعمار الفرنسي والإسباني عديد المجازر في المدن والريف، كانت شهوة الإستيطان شرهة، إلى حد الإدعاء بأن بعض البلدان العربية كالجزائر، أنها فرنسية، واقتطاع أجزاء غالية من أراضي المغرب الشقيق هي سبتة ومليلية، وجزر الكناري، فضلاً عن إعادة رسم خرائط المنطقة، وزرع ألغام فيها، ما زالت تتفجر في العلاقات بين أبناء الشعوب المغاربية، تشكل جرحاً نازفاً، لا بد من السعي لمداواته ومعافاته، ومحو الآثار العميقة للفتن الإستعمارية. ■ جمعتنا معاً قناعة راسخة بأن تحرير البلاد من الإستعمار والغزو الخارجي، يكون باعتماد المقاومة المسلحة، هذه القناعة عبر عنها محمد بنسعيد، في إلتحاقه بجيش التحرير الشعبي المغربي، وتوليد قيادة أحد الفصائل، بحيث بات أحد زعماء حرب تحرير المغرب من الإستعمار الفرنسي، ونحن بدورنا ترجمنا هذه القناعة في الجبهة الديمقراطية، بحمل السلاح لتحرير الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد هزيمة حرب حزيران/ يونيو 1967. ■ تولدت هذه القناعة، لدى بنسعيد، إدراكاً منه لأمرين: الأول بأن لغة «العنف الإستعماري» التي حاول الإستعمار الفرنسي أن يقمع بها شعب المغرب، لا تصلح معها إلا لغة «العنف الثوري» كما كنا ندعوه في مرحلة ما من مراحل الكفاح المسلح في مشرقنا العربي؛ أما الأمر الثاني، فهو القناعة بأن الشرائح الطبقية والإجتماعية التي سيّدت نفسها على مجتمعاتنا في ظل ظروف خاصة في كل بلد، بدت عاجزة عن إجتراح إستراتيجية نضالية للإنقاذ الوطني، تأخذ بالإعتبار مصالح شعبها، ولا تُغَلِّب في هذا السياق مصالحها الفئوية. فئات إجتماعية، تقف مصالحها عند حدود الحفاظ على وظائفها السياسية في الحكم، ومهادنة الإستعمار، والإستعداد لتقديم التنازلات عن السيادة الوطنية، ووحدة البلاد، وكرامة المواطن وحريته، لذلك جاءت ثورة الشعب المغربي ضد الإستعمار، وبنسعيد أحد قادتها البارزين، لتشكل رداً، ليس على الحالة الإستعمارية وحدها فحسب، بل وكذلك لإسقاط سياسات الخذلان والخنوع للشرائح المتسلطة على مصالح الشعب، والتي لولا سلوكها المتهاون، لما بقيت على رأس الهرم السياسي. ■ عَبَّرَ عن هذا شعبنا الفلسطيني في الثورة الوطنية الفلسطينية الكبرى ضد الإستعمار البريطاني والغزو الصهيوني، وإحتجاجاً على تخاذل القيادات السياسية الفلسطينية في العام 1936. كما عَبَّرَ شعبنا عن هذا، في إطلاق مقاومته المعاصرة في العام 1965، والتي إزداد زخمها بعد «معركة الكرامة» في 21 آذار/ مارس 1968، وإزدادت تبلوراً ووضوحاً، مع إنطلاقة الجبهة الديمقراطية في 22 شباط/ فبراير 1969، حين تقدمت الجبهة الديمقراطية برفع راية الكفاح المسلح، بإعتبارها فصيلاً يسارياً، بادر إلى تبني الفكر اليساري الإشتراكي العلمي، في إطار مكونات فصائل الثورة الفلسطينية. ■ وسيسجل التاريخ لمحمد بنسعيد، أنه كان آخر من إختتموا فصل الكفاح المسلح في المغرب، بل يسجل له، في السياق نفسه، أن قناعته بضرورة الكفاح المسلح، فضلاً عن لجوئه إلى الجزائر، مع مطاردة السلطات وحكمها عليه بالإعدام، إجتمع باللاجئين المغاربة الذين كانوا يقيمون على حدود البلاد، ورأى في وجودهم فرصة تاريخية لاستئناف الكفاح المسلح عبر الحدود ضد الإستعمار والنظام الغابر، لكن القيادات السياسية داخل البلاد، قطعت عليه الطريق، واختارت لنفسها مسلكاً مختلفاً، ما دفعه إلى الإنتقال إلى فرنسا، متخفياً، وقد أخذت قناعاته السياسية تزداد تبلوراً، بضرورة سلوك طريق سياسي جديد وبديل، يُبنى على التجربة، وهذا حسب معرفتي به، مما قاده إلى اعتماد اليسار والإشتراكية العلمية، مرشداً جديداً لمسار هذه التجربة النضالية. ■ مع بنسعيد، هو في تجربته المغربية، ونحن في تجربتنا المشرقية، توصلنا معاً إلى إستنتاج سياسي رائع الأهمية، قادنا معاً إلى تبني الفكر اليساري الإشتراكي العلمي، ووضعنا معاً فكراً يسارياً جديداً، بعيداً عن القوالب الجامدة، وفي سياق من الوعي لأهمية الديمقراطية وتخليص الفكر اليساري من الجمود الفكري والهيمنة البيروقراطية، ولا يخفى سراً أننا، في الجبهة الديمقراطية، ومعنا محمد بنسعيد، ورفاقه، إختلفنا مع قادة الإتحاد السوڤييتي، في أكثر من مقولة أطلقتها موسكو، وفي أكثر من رؤية لها حول واقع الأنظمة العربية الوطنية، وآفاق تطورها نحو أنظمة ديقراطية ثورية، على طريق الإنتقال إلى الإشتراكية، وهذا ما سُمي آنذاك «طريق التطور اللارأسمالي»، وجادلناه طويلاً، وللأسف، جاءت الوقائع لتؤكد صحة موقفنا في مساره النضالي الطويل، ونحن في عز نضالنا، شديد التعقيد، ضد الإحتلال والمشروع الصهيوني، في خضم محيط عربي صاخب، كان علينا أن نبقى في ذروة اليقظة الفكرية والسياسية، لنصون تجاربنا وتأكيد رؤانا، وأجزم أننا نجحنا في ذلك، وإن كان بنسعيد ورفاقه قد دفعوا الثمن غالياً، في إنسحاب عدد من الأعضاء في منظمة العمل الديمقراطي، لصالح حزب إلتقى في نهجه ومساره، مع المسار اليميني في الحركة الوطنية المغربية؛ كما دفعنا، نحن أيضاً، ثمناً حين غادر الجبهة الديمقراطية مجموعة من الأعضاء، إعتقدوا أن الإلتحاق باليمين الفلسطيني فكراً، وسياسة، كفيل بحفظ مصالحهم الفئوية التي كانت الهاجس الرئيس خلف إلتحاقهم به. ■ في هذا السياق أجزم أن حسم الخلاف داخل «منظمة العمل الديمقراطي»، والذي أدى إلى ما أدى إليه، هو الذي مَكَّنَ هذا الجسم السياسي أن يحمي فاعليته، وأن يصون تماسكه، وأن يخطو الخطوات التاريخية التي وصلت إلى قيام «الحزب الإشتراكي الموحد» بقيادته الشابة، التي تربت خلال العقود الماضية على يد الصديق والرفيق والشريك في الفكر والمسار السياسي، محمد بنسعيد. كذلك أجزم أن حسم الخلافات داخل الجبهة الديمقراطية، هو الذي صان تماسكها، كما صان لها موقعها المتقدم في المسار الوطني، جزءاً مبادراً، فاعلاً حيوياً، بدأ يحتل مواقع جديدة على جبهات الفصائل، وبالتالي لا مبالغة في القول أن الجبهة الديمقراطية واحدة من الأركان الثابتة، بل والأكثر ثباتاً في الحالة الوطنية الفلسطينية، تحتل موقعاً متقدماً في التراتبية السياسية داخل م.ت.ف. ■ ونحن نستذكر هذه القامة الباسقة، وهذه الشخصية المميزة، وهذا القائد الوطني المغربي العروبي الكبير، وأحد كبار المجددين في بناء اليسار الجديد، لا بد من القول أن بنسعيد، كان فلسطينياً بقدر ما كان مغربياً، كنا على الدوام حريصين على اللقاء في الدار البيضاء، وفي دمشق، نحرص على التشاور، نتواصل عبر الهاتف، وعبر الرسائل، نتبادل الأفكار والمعطيات، هو في ميدانه المغربي الواسع والكبير، ونحن في ميداننا الفلسطيني والمشرقي الصاخب، وإذا كان علينا أن نتذكر أمراً ما، سيبقى خالداً في الذاكرة، تلك المسيرة الكبرى في تشييعه إلى مثواه الأخير، تقدم صفوفها كبار القادة السياسيين والحزبيين، وممثل ملك البلاد، وكبار الرسميين، ترفرف فوق رؤوسهم رايات المغرب ورايات فلسطين، والحطات الفلسطينية ملتفة على الأعناق، حناجر تصرخ في الهتاف الفلسطيني كما تهتف لبنسعيد الذي رأى في «طوفان الأقصى» والصمود الأسطوري لشعبنا ومقاومتنا في قطاع غزة والضفة الغربية، فجراً فلسطينياً جديداً، أشرق على عموم المنطقة، هزَّ أركانها، وزلزل كياناتها، وقطع الطريق على المسارات المعادية، وشق الطريق للمسارات الوطنية. ■ بنسعيد الذي غادر وهو يتلقى من رفاقه في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ومن ذراعها العسكري «قوات الشهيد عمر القاسم»، بيانات الأعمال البطولية للمقاومين، وهو يتلقى من المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية، التقارير السياسية والدراسات والمذكرات، في قراءات عميقة لـ «الطوفان الكبير»، ولما سوف تؤدي إليه الأوضاع. أخيراً أقول: رفيقي بنسعيد، نحيي ذكراك الأولى، وقد التف حول صورك وشعاراتك وذكراك آلاف الشباب، وآلاف المناضلين والمناضلات، هؤلاء الذين نشأوا بقيادتك، تشربوا من أفكارك، واغتنوا بجدارتك، وهم على العهد والوفاء باقون■
نايف حواتمة 9/1/2025
أنطون سعادة.. مفكر قومي كبير، شاء القدر أن يكون زعيماً 1904-1949 ■ ينظر كثير من المؤرخين، وعلماء الإجتماع، إلى الزعيم أنطون سعادة، على أنه مفكر وقامة سياسية سامقة، جاء إلى ساحة النضال الوطني والمجتمعي، متجاوزاً عصره؛ فقد وجد نفسه، وهو يطرح أفكاره التقدمية، الإصلاحية الجذرية، يصارع نخباً سياسية تقليدية محافظة، أو حتى رجعية، تقلدت مواقعها في إدارة شئون بلدان المنطقة، تحت سقف الدوائر الإستعمارية، الساعية لإفراغ مفهوم الإستقلال من جوهره السيادي، لصالح تبعية سياسية إقتصادية للغرب الإستعماري. لذلك، لا غرابة أن تتحالف هذه التيارات السياسية على اختلاف مشاربها، متجاوزة الخلافات فيما بينها، كما وقع في سوريا ولبنان، وتحيك مؤامرة مكشوفة، لتنهي حياة الزعيم، عبر إغتياله في 4/7/1949 بقرار قضائي تعسفي، مُعد مسبقاً من أعلى المرجعيات، نفذته السلطات الحاكمة ما أن صدر. ■ الزعيم أنطون سعادة إستشهد، لكنه لم يفارقنا، بل بقي بفكره معنا، لا نكتفي باستحضاره في مناسبات ولادته أو إستشهاده، بل هو راهن الحضور عبر الفكرة التي أطلقها وصارت مشروعاً سياسياً يدب على الأرض، ممثلة بحزبه، الحزب السوري القومي الإجتماعي. لقد زرع الزعيم سعادة بذرة في وعي الناس، أفراداً، ومجتمعاً، وأمة، وصارت البذرة شجرة باسقة، قاومت الرياح العاتية، وتحدتها، بحيث صار الحزب السوري القومي الإجتماعي ركناً من أركان حركة التحرر الوطني والإجتماعي في المنطقة، ضد سياسات الهيمنة الغربية، وضد المشروع الصهيوني ممثلاً بإسرائيل. ■ وككل مفكر مبدع، لا تندثر أفكاره حتى بعد رحيله، آمن سعادة بالإنسان، باعتباره أساساً لبناء المجتمع، وبالمجتمع باعتباره مكوناً للأمة، أي بتعبير آخر، آمن بدور التنظيم كرافعة للبناء والتغيير، وهو المفكر المطلع على تجارب الشعوب والأمم والقوميات الأخرى، وفي القلب منها «الأمة السورية» كما يُعرِّفها إنطلاقاً من معطيات الوجود في الزمان والتجذر في المكان. وهو الذي نظر إلى واقع «الأمة السورية» كونها تعيش تحت وطأة «وعد بلفور»، الذي شَرَّعَ أبواب فلسطين أمام الهجرات اليهودية في سياق إنجاز المشروع الصهيوني لإقامة دولة إسرائيل، كما وكونها – أي «الأمة»- تعاني من تفاهمات «سايكس - بيكو»، التي مَزَّقت المنطقة إلى كيانات سياسية عدة، تحكمها نخب سياسية، تنتمي وفرة منها إلى الإقطاع السياسي، أو إلى النخب العسكرية المنشغلة بصراعات السلطة على حساب توطيد أركان الوطن، أو تلك التي مدت يديها إلى المشروع الصهيوني، تتآمر معه، لتقاسم فلسطين، باعتبارها غنيمة سياسية مستباحة. ■ ورغم أن الفكر السوري القومي الإجتماعي، تعارض لفترة مع الفكر القومي العربي، ومع فكر الإشتراكية العلمية، إلا أنه شق طريقه، ونجح في تطوير أدواته السياسية والحزبية، واندمج في خندق النضال، جنباً إلى جنب، مع باقي القوى والتيارات السياسية، مدركاً أهمية إنتمائه إلى حركة التحرر في المنطقة، وضرورة إخراجها من التخلف والإنقسام والتفتت، الذي أبقاها فريسة للإنتداب الإستعماري الفرنسي والبريطاني، مؤهلة في كل مرحلة للإستتباع في ظل هيمنة الغرب على منطقتنا. البذرة التي زرعها الزعيم سعادة، لم تكتفِ بطرح مشروع الأمة السورية، بوحدتها، بل إهتم بتجديد الوعي، شعاره «التوليد لا التقليد»، ما أسهم في التأسيس لثورة فكرية، شعارها «العقل لا النقل». لقد أسهمت هذه الثورة في مقارعة الأفكار المفوَّتة، الهادفة إلى تفتيت المجتمع إلى أقوام وأديان ومذاهب وملل ونحل، بدلاً من توحيده في ظل مشروع إستقلالي قومي جامع بأفق تقدمي. لذلك، لا غرابة أن يدعو الزعيم إلى تجاوز حدود الأفكار البالية التي يقوم عليها الإنتماء الهوياتي الضيق، لصالح الإنتماء إلى المجتمع بكليته، وإلى الأمة بأسرها، وأن يرى في هذه الأفكار المفوَّتة، وخاصة عندما تتمأسس بأي من الأشكال، قوة شد عكسي، توغل في إلغاء التحولات الثورية في الفكر والوعي، إن لم نقل تعطلها. ■ بقي أن نقول إن الزعيم سعادة، لم يكن شهيد تآمر النخب السياسية المنصاعة فحسب، بل كان في واقع الأمر، شهيد فلسطين. لقد قرأ الزعيم مبكراً خطر المشروع الصهيوني على مشروع نهضة الأمة في عين المكان، أي على فلسطين، ولبنان وسوريا، والأردن والعراق، فدعا مبكراً إلى محاربة هذا المشروع قبل استفحاله، وقبل أن يشتد عوده ويتحول إلى خطر داهم على شعوب المنطقة بأسرها. وما لم يدركه البعض، والبعض المتنفذ غالباً، بعد النكبة، أدركه الزعيم، قبل وقوعها، لذا إحتل المشروع الصهيوني بمخاطره على الأمة، موقعه المتقدم في وعيه، ومن هنا إهتمامه بتظهير ما يمثله من تهديد وجودي يستدعي المسارعة إلى توفير شروط إجهاضه قبل أن يتحول إلى قوة سيطرة وتسلط، مسنودة بالغرب. من هنا، كان إنخراطه في القتال ضد العصابات الصهيونية في فلسطين، على رأس أعضاء حزبه الذين شكلوا أحد فصائل القتال الفاعلة في فلسطين. وفي هذا السياق، أدرك أنطون سعادة بعد النكبة، الأثر البليغ لهذ الحدث الكبير على مصالح الأمة، ومستقبلها، ووحدتها، وانشغالها بدرء الخطر الصهيوني على صناعة المستقبل المشرق. ■ ما أسس له الزعيم، في ثلاثينيات القرن العشرين، واستشهد لأجله قبل أن ينتصف القرن بعام، يصونه الآن حزبه، الحزب السوري القومي الاجتماعي، بانخراطه في القتال، ضد الإحتلال الإسرائيلي؛ وبتبنيه خيار المقاومة، جنباً إلى جنب، مع باقي فصائل المقاومة في المنطقة، قدم الحزب من أجل تحرير لبنان من قوات الغزو الإسرائيلي عام 1982 قافلة من الشهداء، إلى أن اندحر الاحتلال عن الأراضي اللبنانية عام 2000، وما زال الحزب السوري القومي الإجتماعي، في خندق الدفاع عن «الأمة» في وجه العدوان الإسرائيلي، والهيمنة الغربية، مدركاً الواقع المستجد، باعتبارنا نعيش في هذه المنطقة مرحلة تحرر وطني بمواجهة مشروع بناء الحلف الإسرائيلي – العربي، تحت المظلة الأميركية، بدعوى «التكامل الهيكلي» للإقليم، عبر «دمج» إسرائيل في المنطقة، وبناء حلف «الناتو العربي» بمشاركة إسرائيل، بذريعة «التكامل الدفاعي» ضد الفعل الوطني المقاوم المتصاعد فعلاً وتأثيراً على إمتداد الإقليم. ■■■ ■ في استذكارنا لسيرته ورحيله إغتيالاً على يد أنظمة التبعية للإستعمار الغربي، نستعيد سيرة قامة فكرية، تحوَّل إبداعها الفكري إلى قوة سياسية فاعلة، إلتف حولها آلاف وآلاف المحازبين والمؤيدين، وانتمت إلى فكر أثبت قدرته على الحياة، هو فكر الزعيم أنطون سعادة■ فهد سليمان 4/7/2024
فرحات حَشَّادْ.. رمز يتجاوز الزمن 1914-1952 [■ يصعب أن نكتب التاريخ دون أن يتسرب الحاضر إلى ما نكتب، خاصة حين يتعلق الأمر بالتعرض إلى التاريخ الحديث والمعاصر، وإلى أبرز رموز الذين ظل تأثيرهم، ولو بدرجات متفاوتة، ملموساً في الحاضر، ذلك أن الحاضر – وأكثر مما يعتقد البعض - يفعل فيه الأموات – أحياناً - أكثر مما يفعل فيه الأحياء. وهو ما أشار إليه العديد من المفكرين، ومن بينهم كارل ماركس؛ ولذلك تُحيل سيرة زعيم أو فاعل في المجالين الإجتماعي أو السياسي إلى تساوق، لا يستجيب لتوالي الحقب الزمنية، بين الماضي والحاضر، وهذا ما يتجلى في سيرة الشهيد فرحات حَشَّادْ:] زعيم نقابي عالمي ■ مضت على عملية إغتيال مؤسس الإتحاد العام التونسي للشغل في 5/12/1952 عقود، وتم منذ أسابيع إحياء الذكرى 72 لهذه العملية الدنيئة التي ظلت عالقة في أذهان التونسيين والتونسيات، والتي أعطت دفعاً قوياً لنضال الشعب التونسي من أجل دحر الإستعمار الفرنسي. عرفت مدن المغرب وعواصم أوروبا وأميركا الشمالية تحركات عمالية حاشدة للتنديد باغتيال فرحات حَشَّادْ، الذي لم يقع النظر إليه كنقابي تونسي فحسب، بل كأحد زعماء الحركة النقابية العالمية، وهو الذي كان يلعب دوراً بارزاً صَلَّبَ أوضاع الكونفدرالية العالمية للنقابات الحرة، التي لم يكن قد مضى على تأسيسها في 7/2/1949 عند إغتيال فرحات حَشَّادْ، أكثر من ثلاث سنوات. لقد لعب فرحات حَشَّادْ دوراً مؤثراً في دفع عدد من النقابات العمالية العربية والإفريقية إلى الإنسحاب من الكونفدرالية النقابية العالمية، وإلى الإنضمام إلى الكونفدرالية العالمية للنقابات الحرة، حيث يحمل الإختيار بين «النقابتين العالميتين» دلالات كبرى في عالم ما بعد الحرب العالمية والإنتقال إلى الحرب الباردة، لأنه إختيار بين نقابة لا تخفي ميولها لمفهوم النضال النقابي كما تتبناه الإشتراكية العلمية، وإنحيازها إلى الشعوب الناهضة ضد الإستعمار، ونعني الكونفدرالية النقابية العالمية، وأخرى تتبنى قيم «الفكر الإستعماري»، وتعتبر أن الدور الأساسي للنقابات هو دور مطلبي ليس إلا، وأن العمل السياسي من إختصاص الأحزاب السياسية وحدها. النقابة في مواجهة الإستعمار ■ وراء هذا الإختيار عوامل «ذاتية»، ترتبط بقراءة حَشَّادْ للوضع السياسي في تونس، وأيضاً لخلافاته السابقة مع الفرع التونسي للكونفدرالية العامة للشغل - CGT، أي النقابة الفرنسية المحسوبة على الحزب الشيوعي الفرنسي، والتي كانت تعتبر أن النضال من أجل الإستقلال لا يحتل المقام الأول، لأن المهمة الأساسية هي النضال ضد الإستغلال الذي يمارسه رأس المال، ولكن هذا «النزوع الأممي» لم يكن حائلاً دون نظر قادة الكونفدرالية العامة للشغل في تونس إلى العمال التونسيين نظرة تمييزية، وإلى التعامل مع وضعيتهم ومطالبهم باستخفاف. يضاف إلى ذلك، أن فرحات حَشَّادْ كان مقتنعاً أن المعسكر الشرقي لا يمكن أن يلعب دوراً في مساعدة تونس في نضالها من أجل الإستقلال، وكان يشترك في هذا «الإيمان» مع قادة حزب الدستور وخاصة الحبيب بورقيبة، ويشير المطلعون على تاريخ الحركة الوطنية التونسية، إلى أن فرحات حَشَّاد قد لعب دوراً في توظيف مباديء الرئيس الأميركي وودرو ويلسون – 1856/ 1924، والذي تولى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية بين عامي 1913 و1921، لمطالبة واشنطن بأن تلعب دوراً في دعم مطالب الحركة الوطنية التونسية من أجل الإستقلال، خاصة وأن حجر الزاوية في مباديء ويلسون هو التأكيد على حق الشعوب المستعمرة في تقرير المصير. على كافة محاور النضال ■ إيمان حَشَّادْ بالنضال السلمي وتحركه لحشد الدعم السياسي والديبلوماسي لم يمنعه من أن يلعب دوراً بارزاً في النضال المسلح ضد الإستعمار الفرنسي، لأنه يعتبر أن وجهي النضال يتكاملان، وهو ما جعله يتحول منذ 18/1/ 1952، وهو تاريخ الإعلان عن إنطلاق الثورة التونسية، إلى المحرك الفعلي للثورة، وخاصة بعد إعتقال الحبيب بورقيبة، ثم مغادرته تونس. كان فرحات حَشَّاد يتحرك بعزيمة لا تلين، على عدة جبهات في الوقت نفسه: جبهة توفير الأموال والأسلحة للثوار في الجبال، وجبهة الضغط السياسي ودعم الجبهة الوطنية، وخاصة ردم الفجوة بين الحركة الوطنية والعائلة المالكة، والإستفادة في ذلك من إرث «باي الشعب»، المنصف باي، الذي طالب بإنهاء العمل بمعاهدة الحماية التي أبرمت في 12/5/1881، وأصبحت بمقتضاها «الإيالة التونسية» مستعمرة فرنسية. يضاف إلى هاتين الجبهتين، جبهة النضال الإجتماعي لتطوير وضعية العمال التونسيين، ولتطوير التعليم وتعميمه، وتحسين وضعية المرأة. رجل الوحدة الوطنية والبحث عن التوافقات ■ كان حَشَّادْ يجمع بين القدرة على المناورة والمرونة، مع إعتماد المرحلية في تحقيق الأهداف إلى جانب الرغبة في تعزيز الوحدة الوطنية، والبحث عن التوافقات؛ وكان يدرك أن مراكمة الأعشار أفضل من مراكمة الأصفار، وهو ما تجلى في عملية تأسيس الإتحاد العام التونسي للشغل، فلم تكن العملية مسقطة أو متسرعة، بل اعتمدت على الإستفادة من بداية تشكل طبقة عاملة تونسية، وهو ما لم يكن متوفراً بالشكل الكافي عند تجربة التأسيس الأولى، التي قام بها محمد علي الحامي عند تأسيس «جامعة عموم العمال التونسيين» سنة 1924، وأيضاً من التحولات المجتمعية التي أفرزتها المرحلة ما بين 1920 و1940. ومن أهم هذه التحولات، تزايد عدد أصحاب الشهادات العليا، خاصة الذين درسوا في أوروبا، والتشكل السياسي للهوية الوطنية التونسية، مما عجَّل في دحض الإدعاء الإستعماري القائل بأنه لم يجد في تونس إلا «غباراً من الأفراد»، وفي الوقت نفسه، تكريس «إستقلال معنوي» عن الباب العالي وإسطنبول. ولا شك أن سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 قد ساعد على ذلك. معطيان آخران ■ هناك معطيان آخران لا يتعين إغفالهما، يتمثل الأول في أن قبضة «الشيوخ» قد إرتخت لفائدة «الشباب» الذين أصبح من حقهم أن يلعبوا دوراً في إنتاج المعنى، وفي قيادة الحركات السياسية والإجتماعية؛ أما المعطى الثاني فيتمثل في كسر إحتكار العاصمة ووجهائها لقيادة المجتمع، وهم الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أفضل من «الآفاقيين» (وهي عبارة كانت تطلق على القادمين للعاصمة طلباً للعلم في جامع الزيتونة من داخل البلاد)، وإذا كان التطرق إلى هذه التحولات يحتاج إلى مقال منفصل، فإن توظيفها في تأسيس الإتحاد العام التونسي للشغل يوم 20/1/1946، قد منح هذه المنظمة النقابية، وهي «الأقدم حالياً في إفريقيا والوطن العربي»، ملامح هوية كفاحية ظلت فاعلة إلى حد الآن، ومنها الإلتزام بدعم القضايا العادلة، وهو ما إلتزم به الإتحاد العام التونسي للشغل منذ 1948، حين أسس لجنة دعم فلسطين، التي تولت تأطير المتطوعين، الذين قصدوا فلسطين وجمعت تبرعات مالية هامة. الإتحاد في قلب الحراك الشعبي ■ المكون الثاني لهوية الإتحاد العام التونسي للشغل، هو أنه ليس مجرد منظمة نقابية، بل إنه طرف فاعل في كل ما يهم المجتمع التونسي، وهذا ما تجلى في أهم منعطفات مسيرة المجتمع التونسي بدءاً من معركة الإستقلال وصولاً إلى «ثورة الياسمين»، وأيضاً معركة كتابة دستور 2014، هذا الدور له تداعياته على الحياة السياسية في تونس منذ الإستقلال، حيث تراوحت العلاقة بين الإتحاد العام التونسي للشغل والسلطة السياسية بين الهدوء والحوار، وأيضاً المواجهات التي ترك بعضها، كما هو حال الإضراب العام في 26/1/1978، ندوباً فاعلة في الوجدان التونسي إلى اليوم. لقد إحتضن الإتحاد العام التونسي للشغل على إمتداد عقود أجيالاً من المثقفين والأكاديميين الذين وجدوا فيه مجالاً للتعبير عن أفكارهم، وخاصة للدفاع عن «الدولة المدنية»، وعن العدالة الإجتماعية، وعن حقوق الإنسان، وفي ذلك إمتداد للمباديء التي غرسها فرحات حَشَّادْ، الذي حولته فرنسا حين اغتالته إلى رمز يتجاوز الزمان، ولا يزال رفض فرنسا الإعتراف الرسمي والعلني بمسؤوليتها في عملية الإغتيال، هذا دون الحديث عن واجب الإعتذار، يشكل دافعاً لبقاء ذكرى إستشهاد فرحات كأحد رموز مناهضة الإستعمار، ذكرى حّيَّة في ظرف تبرز فيه مؤشرات رغبة القوى الإمبريالية في النكوص بالإنسانية إلى مرحلة الإستعمار المباشر.
ولعله من الإشارات اللافتة لهذا المغزى العميق لسيرة قائد كبير إغتاله الإستعمار، إحتضان مدينة جنين – برمزيتها الكفاحية المعروفة - مدرسة أسسها الإتحاد العام التونسي للشغل، تحمل إسم «فرحات حشّاد»، عنواناً للعلاقة الأخوية والكفاحية بين شعبي تونس وفلسطين، وتأكيداً على المكانة المتميّزة التي يحتلها هذا القائد الشهيد في وجدان المناضلين عموماً من أجل حرية الأوطان وإستقلالها■ هشام حاجي 12/1/2025
معروف سعد.. الزعيم اللبناني، الإستثنائي بعلاقته مع فلسطين 1910-1975 ■ خمسون عاماً مضت على إستشهاد أبي الفقراء، إبن مدينة صيدا القائد الشعبي الكبير معروف سعد، نصف قرن إنقضى على رحيل رجل حفر عميقاً ذكراه في وجدان كل الثوار والأحرار، ونذر حياته من أجل شعبه ومن أجل فلسطين ومن أجل قضايا التحرر والتقدم العربية؛ قامة كبيرة، أضحت علامة من علامات النضال التي تؤشر للنصر مع صباح الصيادين والعمال والكادحين، وكل الثائرين ضد الظلم والعدوان والإحتلال. كان الشهيد معروف سعد فلسطينياً بقدر ما كان لبنانياً، وكان عنواناً للتلاحم بين الشعبين الشقيقين اللبناني والفلسطيني وللنضال المشترك بمواجهة الإحتلال الإسرائيلي والتصدي لاعتداءاته، فاحتل مكانته الكبيرة في قلوب الفلسطينيين وأبناء المخيمات الذين كانوا يشعرون بأنه واحد منهم، يتابع تفاصيل حياتهم وهمومهم وآلامهم وأوجاعهم في المخيمات، كما يتابع أحلامهم وآمالهم، ويرسم معهم قوارب العودة الى الديار والممتلكات. ■ معروف سعد، المناضل والمعلم والمدرس الذي إمتشق البندقية في ريعان شبابه ضد الإستعمار والإحتلال دفاعاً عن إستقلال لبنان ومن أجل تحرير فلسطين وعودة أبنائها اللاجئين، وحمل فلسطين وشعبها في قلبه ووجدانه وقناعاته، مناضلاً وقائداً وفيًا للثورة وللقضية المركزية حتى لحظة الإستشهاد، جَسَّدَ في مسيرته علاقة التوأمة مع فلسطين التي عشقها وقاتل من أجلها ودافع عنها، وكان من الأوائل الذين قاوموا الإستعمار والمشروع الصهيوني، فنزل إلى الشارع وقاد المقاومة لمنع وعرقلة قوافل التموين والعتاد المتوجهة إلى قوات الإستعمار البريطاني والعصابات الصهيونية في فلسطين، ونقل السلاح إلى المقاتلين في فلسطين متحدياً إجراءات الإحتلال، والتحق مع ثلة من رفاقه بالثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، وأمضى في ربوع فلسطين زمناً يخوض المواجهات ضد عصابات الهاغانا ووحدات الإستعمار البريطاني، وكان يؤمن بأن إرادة القتال هي السلاح الأمضى لاستعادة الحق السليب في فلسطين، وأن دحر الإستعمار هو نصر للكرامة وللحرية وللأحرار عموماً في كل مكان. ■ وفق هذه المباديء وقف معروف سعد في طليعة المتصدين للأحلاف الإستعمارية في المنطقة العربية، ونظم حملات التطوع للقتال إلى جانب مصر بمواجهة العدوان الثلاثي الفرنسي – البريطاني - الإسرائيلي، وتَعَرَّض للإعتقال أكثر من مرة على أيدي قوات الإنتداب الفرنسي والبريطاني، وتوجه في 15 أيار/ مايو 1948 على رأس مجموعة تضم 140 شاباً من مدينتي صيدا وبعلبك والشوف وبلدات وقرى الجنوب وجبل عامل باتجاه بلدة المالكية شمال مدينة صفد في الجليل الأعلى، وانضم إليهم هناك النقيب الشهيد محمد زغيب على رأس سرية مقاتلة من الجيش اللبناني، وخاضوا معاً معارك ضارية مع العصابات الصهيونية تكبدت فيها قوات العدو خسائر كبيرة. ■ إنتخب معروف سعد في الدورة الإنتخابية لعام 1957، ممثلاً عن الشعب في البرلمان اللبناني، واستمر لأربع دورات متتالية عضواً فاعلاً تحت قبته، فكان صوت الفقراء والكادحين في ندوته؛ ومما قاله خصومه في فوزه: «النيابة زحفت إليه، ولم يزحف هو إليها»، حيث ربط معروف سعد بين محاور النضال الثلاثة: الوطني، والقومي، والإجتماعي. فناضل على كل الصعد ضد الإحتلال والإستعمار ومن أجل التحرر والديمقراطية والعدالة الإجتماعية.. ■ في السادس والعشرين من شباط/ فبراير 1975، طالت رصاصات الغدر قلب المناضل الوطني والعروبي الكبير معروف سعد بينما كان يقود تظاهرة لصيادي الأسماك في مدينة صيدا ضد تشريع الدولة لإحتكار شركة بروتيين صيد السمك على طول الساحل اللبناني، وسقط معه العديد من الشهداء والجرحى اللبنانيين والفلسطينيين، فبكته المخيمات كما الشعب اللبناني والحركة الوطنية وفصائل الثورة الفلسطينية، وشَيَّعه عشرات الآلاف في السادس من آذار/ مارس ملفوفاً بالعلم الفلسطيني، محمولاً على أكف الشعبين اللبناني والفلسطيني، والدموع تنهمر حزناً ووجعاً ووفاءً لقائد ومناضل قدم حياته وعمره دفاعاً عن لقمة عيش الفقراء والكادحين، ودفاعاً عن فلسطين التي سكنت روحه وضميره، وحمل لوائها وخاض دروب النضال من أجل تحريرها.. ■ جمعت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وقيادتها بالمناضل الشهيد معروف سعد علاقة كفاحية عميقة، وفي نهاية ستينيات ق 20 وبداية سبعينياته، وأمام ما كانت تتعرض له الثورة الفلسطينية في مختلف الساحات، يُذكر له الحرص الشديد على التواصل مع قيادة الثورة، ومن ضمنها قيادة الجبهة الديمقراطية وأمينها العام نايف حواتمة وعضو مكتبها السياسي ابو عدنان – عبد الكريم حمد قيس، من أجل تنسيق العمل في لبنان وتوفير الدعم لأبناء المخيمات وتعزيز الجهد المشترك بمواجهة إعتداءات العدو الإسرائيلي وحماية المخيمات وقواعد الثورة، ولا ينسى شعبنا كيف جعل الشهيد معروف سعد منزله ومقرات «التنظيم» في المدينة ملاذاً للفدائيين لحمايتهم من أعين العدو وعملائه، وحوّل عديد البساتين إلى أماكن لتدريب فدائيي الثورة، والتحمت تشكيلات ما أضحى فيما بعد «التنظيم الشعبي الناصري» مع قوات الثورة الفلسطينية في المواقع ومحاور القتال والعمليات المشتركة ضد الإحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، وأفشل محاولات إثارة الفتن وزرع الخلاف بين الثورة الفلسطينية وسكان المخيمات وبين أبناء المدينة، وجَسَّدَ بدم الشهداء وتضحياتهم شعار إحتضان القضية الفلسطينية والدفاع عن حقوق شعبها. ■ هذه العلاقة العميقة والمتجذرة التي أرساها الشهيد معروف سعد مع فلسطين والثورة الفلسطينية، لم توقفها رصاصات الغدر التي أوقفت نبضات قلبه، فأفكاره ومبادئه بقيت تنبض، وشكلت مدرسة نضالية لآلاف المناضلات والمناضلين، في لبنان وفلسطين ومدينة صيدا المقاومة المتعانقة مع فلسطين والملتحمة بقضيتها وشعبها، وبقي التنظيم الشعبي الناصري بقيادة نجله الراحل المهندس مصطفى سعد متمسكاً بالمباديء التي أرساها الوالد الشهيد، فحمل الراية، وتعرض لعدة محاولات إغتيال، واستشهدت إبنته نتاشا في إحداها بالعام 1985، وفقد هو نور العينين، وأصيب وعائلته بجروح بليغة؛ وبالرغم من ذلك، لم تنل هذه الجريمة من عزيمته، ولم تُخرج فلسطين من قلبه، بل استمر أكثر إصراراً على دعم القضية الفلسطينية وبقيت فلسطين والمخيمات ودعم نضال الشعب الفلسطيني وحقه بالعودة من أولويات التنظيم ومبادئه حتى رحيله في العام 2002. وكان الراحل مصطفى سعد ظهيراً وفاعلاً في أنشطة المقاومة الفلسطينية وخطيباً في إحياء مناسباتها التي كانت تقام في ساحات مخيم عين الحلوة وقاعات مدينة صيدا. ■ هذا الإلتزام والإيمان بقضية فلسطين واصله النائب د. أسامة سعد الذي تسلم الأمانة وواصل ذات الطريق في دعم القضية الفلسطينية ونضال الشعب الفلسطيني من أجل إنتزاع حقوقه الوطنية المشروعة، ومن أجل توفير الحياة الكريمة للاجئين الفلسطينيين من خلال دوره في البرلمان اللبناني، الذي جعل أبناء المخيمات يطلقون عليه لقب «نائب فلسطين في البرلمان اللبناني»، نظراً لمواقفه الثابتة في دورات عمل البرلمان ومطالباته المتواصلة بإقرار الحقوق الإنسانية للاجئين، وحرصه على تمتين العلاقات الأخوية اللبنانية - الفلسطينية، وبشكل خاص بين مخيم عين الحلوة ومدينة صيدا والجوار، حيث يشكل المخيم واللاجئين الفلسطينيين المقيمين في المدينة والتجمعات المحيطة بها، جزءاً من التركيبة السياسية والإجتماعية والإقتصادية للمدينة، تَجمعها معها علاقات نضالية وإنسانية وإجتماعية وصلات نسب ومصاهرة ومشاركة في العديد من نواحي الحياة. ■ إستشهد معروف سعد وفلسطين تنبض في قلبه، وفي عينيه بريق الإنتصار، ومع حلول لحظة الرحيل كان صوته يصدح عالياً، دفاعاً عن الفقراء والصيادين، وكانت فلسطين تلمع على وجهه، فالحكاية بينه وبين فلسطين هي الحكاية بين بحر صيدا وبين بحر عكا ويافا وحيفا وغزة، هي رابط الروح والتلاحم والمسار والقضية الواحدة. خمسون عاماً على الرحيل، لكن شعلة الثورة والمقاومة والكفاح التي خطها القادة المناضلون وفي القلب منهم الشهيد معروف سعد ما زالت متوهجة، وملاحم الصمود والبطولة والتضحية تتواصل في فلسطين ولبنان، في مواجهة العدو المشترك■ يوسف أحمد 26/2/2025
أحمد نبيل الهلالي.. قديس اليسار المصري 1922-2006 (1) مؤسس حزب الشعب الإشتراكي - 1987 ■ الحديث عن أحمد نبيل الهلالي مؤسس حزب الشعب الإشتراكي، سهل وصعب في آن؛ سهل لأن الراحل الكبير إتسم بالصراحة والشفافية والوضوح والشجاعة .. في زمنٍ باتت فيه الصراحة جالبة للمتاعب، والشفافية مخاطرة، والوضوح مغامرة، وباتت فيه الشجاعة مكلفة؛ وصعب لأنه كان موسوعة في السياسة، وفي الفكر، كما في مجال إختصاصه كرجل محاماة، يُعَدُ شيخاً من شيوخها.. من هنا، تكوّنت شخصية أحمد نبيل الهلالي المميّزة، وكانت له مكانته المرموقة في مصر، في صفوف الحركة الشعبية، مناضلاً سياسياً صلباً، ذا نظرة موضوعية، وإرادة ثابتة، ووعي متجدد؛ كما كانت له مكانته المرموقة كقومي، عروبي ينظر إلى قضايا الأمة من منظاره الخاص، مدركاً حقيقة الموقع الذي تحتله مصر في حياة هذه الأمة، وحجم تداعيات القرار السياسي المصري على مصالحها؛ كما كانت له مكانته كأممي حريص على استقلالية وعيه، وَقدَّمَ في هذا الميدان نموذجاً جديداً يستحق تقدير المناضلين. وإذا ما حاولنا أن نذهب بعيداً في قراءة شخصية الراحل الكبير، لوجب علينا أن نقول الكثير. فالإحاطة بالصديق والرفيق أحمد نبيل الهلالي مهمة تحتاج إلى جهد جماعي، يرتقي إلى مستوى الرجل، يشارك فيه صف ممن عرفوه، وخبروه، وعايشوه، وواكبوا مسيرته الكفاحية الطويلة والثرية والمتنوعة، ممن أيدوه في مواقفه، وكانوا حلفاء وشركاء له في نضاله، وممن خالفوه في رأيه، لكنهم على الدوام ينظرون إليه باحترام شديد … فهو حليف وفيّ لمن حالفه، وهو خصم شريف لمن لدّه الخصومة. وهو في كل الأحوال نبيل … وبقي على الدوام نبيلاً■ (2) إبن الباشا الملتزم بقضايا الكادحين ■ كان الراحل الكبير شديد الإنسجام مع معتقداته الأيديولوجية ومفاهيمه وقيمه السياسية. وقد رأى أن الإنحياز لليسار، من موقعه المعروف، يفترض الإنسلاخ الطبقي، بمعناه الفكري ومعناه العملي، أي بالممارسة؛ لذلك لم يكتفِ بأنه حمل فكر الطبقة العاملة، وانحاز إلى الفقراء والعمال والفلاحين في بلده، بل خطا خطوات جريئة تنسجم إلى أبعد حدود مع إنحيازه هذا … فتخلى عن موقعه كإبن لباشا – أحمد نجيب الهلالي - كان يوماً ما رئيساً لحكومة بلاده، هي آخر حكومة تشكلت في العهد الملكي، وتخلى عن أملاكه وثروته وعن كل ما يرمز إلى انتمائه الطبقي السابق، وعاش حياة متقشفة، هي أقرب إلى حياة الزهد، حتى أنه استحق عن جدارة لقب «قديس» الفقراء والمناضلين. هذا الزهد وهذا التقشف، وهذا الإنحياز الطبقي، بالفكر والممارسة وبمظاهر الحياة اليومية، طبع ممارساته في التعاطي مع الأمور، كما ترك أثره الكبير في وعي المناضل أحمد نبيل الهلالي .. لذلك كان في سلوكه يقدم نموذجاً آخر في انتماء المناضل إلى الحركة الوطنية في بلاده. لم تتغلب على مشاعره يوماً العصبوية الحزبية، ولم تمنعه الخلافات والتباينات السياسية عن مد الجسور نحو باقي القوى السياسية في الحركة الوطنية المصرية، حتى مع تلك التي كان بينه وبينها سجالات فكرية وسياسية، إذ رفض أن تتحول هذه السجالات، على أهميتها وغناها، إلى مادة للخصومة؛ لذلك كان في مقدمة المحامين الذين تطوعوا للدفاع عن المناضلين من أبناء الحركة الوطنية المصرية في مواجهة القضاء … كان محامي الجميع دون تمييز في الإنتماء الحزبي أو السياسي لهذا المناضل أو ذاك، بما في ذلك من انتسب إلى اتجاه الإسلام السياسي، ودون أي تأثر بخصومة سياسية قد تكون نشبت بينه وبين هذه الفئة السياسية أو تلك. كان يعتبر كل المناضلين في صفوف الحركة الوطنية المصرية أبناء الخندق الواحد، وكان يعتبر نفسه محامياً لهذا الخندق■ (3) «حرية الفكر والعقيدة، تلك هي القضية» ■ كان حزبياً، نعم، لكنه كان حزبياً من طراز آخر. لم يسمح لحزبيته أن تتحول إلى عصبوية تنظيمية تقود أصحابها إلى الإنغلاق على الذات والإنعزال عن الآخرين، بل كان رائزه «حرية الفكر والمعتقد» كما عنوان أحد مؤلفاته. ولعل روحه الديمقراطية وإيمانه العميق بأن الديمقراطية هي السبيل إلى بناء العالم الجديد هو الذي حرره من تلك العصبوية، وسلحه بروح الإنفتاح على الآخرين. وقد ترجم مواقفه هذه في أكثر من محطة وفي أكثر من موقف، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، دعوته في الجمعية العامة لنقابة المحامين لأن تكون النقابة إطاراً جامعاً لكل التيارات السياسية في صفوف المحامين، بما في ذلك تيار المستقلين. إن دعوته هذه، كما أوضح، لم تكن لنزع الصفة السياسية عن نقابة المحامين، بل لتعزيز هذه الصفة من خلال تحصين النقابة بالقوى الوطنية والتقدمية والديمقراطية كافة، معترفاً لأصحاب الأغلبية في الإنتخابات النقابية بحقهم في التمتع بهذه الأغلبية داعياً إلى صيغة توازن بين احترام نتائج الإنتخابات وبين ضرورات البناء الديمقراطي والتعددي للنقابة. والسبيل إلى ذلك كما كان يرى هو بناء تحالفات للقوى السياسية الوطنية والتقدمية، وللتيارات الوطنية المستقلة، بما يحصّن النقابة، ويمدها بعناصر القوة خاصةً وأنها تحتل موقعاً مميزاً في الحياة السياسية في البلاد، وفي الدفاع عن الديمقراطية. وفي السياق نفسه تَحَلَّى راحلنا الكبير بنظرة وحدوية لعمل القوى الوطنية والديمقراطية في مصر؛ ففي مواجهة الطرف الآخر، بصفوفه المنتظمة، وقواه المتعددة، دعا الهلالي إلى بناء إطار خاص بالقوى الديمقراطية والوطنية هو أشبه بالائتلاف الوطني العريض، يضع حداً لحالة الشرذمة والتفتت في صفوفها، ويقدمها إلى المجتمع المصري في صيغة جديدة، تعيد تقديم العمل الحزبي بصيغته الحقيقية، نضالاً وتضحية لأجل الوطن والمواطن، وليس بحثاً عن مكاسب فئوية ضيّقة■ (4) الدعوة إلى تجميع القوى ■ إن دعوة أحمد نبيل الهلالي هذه، تتجاوز في رؤيتها الموضوعية حدود مصر، لتشكل لنا نحن الفلسطينيين درساً غنياً، في بناء مؤسساتنا الوطنية على أسس تعددية إئتلافية وديمقراطية جامعة إن على مستوى المؤسسات السياسية للسلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية. وكذلك الأمر في الأطر المهنية والمنظمات الشعبية، خاصةً وأننا نعيش مرحلة تحرر وطني في مواجهة عدو شرس لا يرحم، كما تؤكد ذلك يوميات الإحتلال والإستيطان، نقوى في مقاومته بقدر ما نعزز وحدتنا الوطنية بمضمونها الديمقراطي والتعددي. كما أن دعوته لبناء إطار ينظم صفوف أطراف الحركة الوطنية المصرية، هي أيضاً دعوة لنا، نحن الفلسطينيين، لنوحد قوانا، ونبني إئتلافنا الوطني في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير سواء بسواء. لقد جاء الحوار الوطني الفلسطيني في محطته الأخيرة بين رام الله وغزة متوجاً بـ «وثيقة الوفاق الوطني»- 2006، ليوفر البرنامج الذي ستنهض عليه حكومة الاتحاد الوطني كضرورة وطنية غير قابلة للتأجيل، والتي وحدها ستكون بمستوى التحديات التي تعترض سبيل القضية الفلسطينية … والأمل يحدونا أن نستكمل هذا الحوار خارج الوطن في فترة قريبة جداً، إمتداداً لمؤتمرات الحوار الثلاثة التي استضافتها القاهرة وآخرها في آذار/مارس 2005، ليتم الإتفاق على الخطوات الملموسة الآيلة إلى تفعيل منظمة التحرير وتطويرها في سياق إعادة بناء مؤسساتها، إطاراً جامعاً لعموم الحركة الفلسطينية بكل مكوناتها■ (5) الصديق الوفي لشعب فلسطين ■ لقد إحتفظ راحلنا الكبير لنفسه، أمام المتغيرات الدولية، ببوصلة شديدة الحساسية تقوده إلى الإتجاه السليم. والإتجاه يكون نحو القضية الفلسطينية والصراع ضد المشروع الصهيوني. ومن هنا إنطلق في محاكمة مواقف الأصدقاء ومواقف الأعداء، مدركاً أن القضية الفلسطينية هي المدخل الصحيح إلى نسج العلاقات على أُسس موضوعية؛ ومن جهة أخرى بقي فهمه للصراع ضد الإمبريالية، يقوم على رؤية لم تزعزعها الدعوات الأمريكية إلى الإصلاح والديمقراطية وغير ذلك من الشعارات، التي تحاول أن تخفي وراءها المقاصد الحقيقية للهيمنة الأمريكية على المنطقة. وتبدو لنا، العودة إلى ما قاله المناضل والمفكر أحمد نبيل الهلالي، في هذا المجال، مصدراً من مصادر تحصين الفكر، وتصليب المواقف، وإغناء القدرة على التحليل والتخطيط، وشق الطريق الذي يفترض بنا أن نشقه، معبّراً عن مصالح العمال والفلاحين وعموم الشرائح الفقيرة والمهمشة، فضلاً عن المثقفين الثوريين■ (6) في وداع «قديس اليسار» ■ وأخيراً، ها هي مصر تودع هذا الرجل إبناً باراً من أبنائها المخلصين، يحتضنه ترابها، وهو الذي كَرَّسَ حياته فداءً لتراب مصر وشعب مصر. رحل الهلالي، «قديس اليسار» كما كان يلقب، لكن تراثه سيبقى، فلنعمل جميعاً لصونه، ولنبقى أوفياء له. إن كنا قد اتفقنا معه، أو اختلفنا، علينا أن نعترف أننا خسرنا برحيله مناضلاً ولا كل المناضلين ورجلاً ولا كل الرجال، فهو إبن الباشا الملتزم بقضايا الكادحين، الذي سلخ من عمره 9 سنوات أمضاها في سجون النظام .. 1959-1964 + 1965-1969؛ لكن العزاء أن الأرض التي أنجبت الهلالي، ستنجب غيره … فمصر هي بلد العطاء، وهي أرض الوفاء■
فهد سليمان 10/7/2006
الفصل الثالث
قادة من الحركة النسائية
■ عصام عبد الهادي ■ نهاية محمد ■ سميحة خليل ■ آمنة الريماوي ■ شادية أبو غزالة ■ نجلاء ياسين/ أم ناصر
عصام عبد الهادي.. النموذج الاستثنائي 1928-2013 ■ تستحق المناضلة والقائدة الملهمة عصام عبد الهادي، أن تكون منارة دائمة في التاريخ الكفاحي الطويل للشعب الفلسطيني، إذ تقدمت الصفوف والأجيال في الحركة الوطنية، كما في الحركة النسائية الفلسطينية، بعزم لا يلين، ويقين بالحق يشبه إشراقة النصر الذي لا بد وأن يأتي يوماً. لم تتوقف على مدى أكثر من نصف قرن، عن العمل الدؤوب والنضال، حتى في المحطات الصعبة التي مُنيت بها الحركة الوطنية الفلسطينية بنكسات وارتدادات سياسية، صغيرة كانت أم كبيرة. ولأسباب تتعلق بشخصيتها الاستثنائية، وانتمائها الوطني العميق، وأخلاقها الرفيعة، فقد كانت محط إجماع القوى الفلسطينية دون منازع. وندر أن أجمعت القوى الفلسطينية على شخصية مستقلة، كما حصل مع الراحلة عصام عبد الهادي. وهنا، علينا أن نسجّل لها موهبتها في نسج الخيوط الدقيقة الجامعة بين المختلفين، دون تخليها عن موقفها الصريح والمبدئي من مختلف السياسات التي كانت تعتمدها القيادة الرسمية في منظمة التحرير الفلسطينية، كلما تطلب الأمر ذلك. ■ الإلتزام الوطني بالنسبة لـ«أم فيصل» هو فعل وحياة يومية، يستند الى مباديء وطنية وأخلاقية راسخة؛ فالمناضلة الكبيرة - التي نتحدث عن بعض جوانب سيرتها - جمعت بين الأداء السياسي المسئول في المحافل العربية والدولية، وبين العمل الداخلي على رأس الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية مع رفيقات دربها؛ ومن هذا الموقع، فقد مثلت المرأة الفلسطينية في المؤتمرات الدولية بتقديم خطاب بليغ مُحكم، دفاعاً عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني تحت الإحتلال وفي الشتات. ■ وكم كانت تهوى أن تزين خطابها بسرد أسماء الرموز النسائية الفلسطينية، من الشهيدات والمعتقلات، فذاكرتها الحادةّ تختزن كل الأسماء المناضلة المضيئة، كما تختزن أبيات الشعر المقاوم – والمقفّى منه على وجه الخصوص – إضافة الى تواريخ ووقائع نضالية ذات دلالة تستند إلى المراجع الأشدّ وثوقاً. وإلى جانب كل هذا، كانت عصام عبد الهادي تتابع مع قيادة وكوادر الإتحاد كل الشؤون والشجون المتعلقة بالإتحاد العام للمرأة الفلسطينية منذ تأسيسه عام 1965: الإجتماعات، المؤتمرات ومتابعة حل المشكلات، والبناء على الإنجازات، وبلورة أسلوب تلقي الصدمات وما أكثرها، عندما يتعلق الأمر بظرف موضوعي خارج عن الإرادة الوطنية؛ واستمرت في الإضطلاع بمسئولياتها على رأس الإتحاد حتى إنعقاد مؤتمره الخامس في العام 2009، حيث سَلَّمت الأمانة، دون أن تبارح ساح العمل الوطني والإجتماعي إلى أن وافتها المنيّة. ■ إلا أن ما لا يعرفه كثيرون، هو ما قدمته الراحلة بصمت وتكتم شديدين على الصعيد الإنساني نتيجة الكوارث التي حَلَّت بالشعب الفلسطيني منذ وقوع الإحتلال. فقد كانت تعتبر كل هذه المفردات الإنسانية، جزءاً لا ينفصل عن النكبة الوطنية الفلسطينية، ففتحت بيتها ليس للإجتماعات السياسية والتنظيمية فحسب، وإنما لكل من قصدها طالباً مساعدة لعلاج، أو تعليم طالب، أو إسعاف عائلة فقيرة، ولكن الإسناد الأهم الذي قامت به على هذا الصعيد هو تأمين مبالغ من مالها الخاص لحماية منازل مقدسية من المصادرة عندما كان يقصدها المعارف ويشكون لها عجزهم عن دفع الضرائب الباهظة التي فرضها الإحتلال بهدف إخلائهم ومصادرة بيوتهم. ■ ظلت عصام عبد الهادي عنواناً راسخاً وجامعاً لتعددية الإتجاهات في الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، عقوداً من الزمن، كما أجمعت عليها مكونات الهيئات النسائية في الأردن التي تشكلت عام 1982 إثر الإجتياح الإسرائيلي للبنان واستهداف تصفية المقاومة الفلسطينية. وهكذا كان بيتها الدافيء شاهداً على الإجتماعات التي أفضت إلى تنظيم عشرات الإعتصامات والمسيرات والوفود لنصرة القضايا الوطنية والقومية، وضمت رموزاً نسائية أردنية: «هيفاء البشير، سهام القاسم، رباب النابلسي، إميلي نفاع، وجد الفايز، دعد معاذ، ليلى نفاع، سلوى زيادين، آمنة الزعبي وانتصار جردانة»، وكثيرات غيرهن. ■ قدمت الهيئات النسائية التي كانت تضمّ عشرات الرموز النسائية المناضلة، وانطلاقاً من دارة «أم فيصل» التي كان يؤمها الجميع، قدمت هذه الهيئات إسناداً سياسياً ومادياً مؤثراً ومنظماً أثناء الإنتفاضتين الأولى والثانية في الأرض الفلسطينية المحتلة، ومثله إسناداً للشعب العراقي أثناء الحصار، وللشعب اللبناني أثناء العدوان الإسرائيلي المتكرر، كما كان للرموز النسائية العربية المناضلة موقع واهتمام بالغين لدى الراحلة الغالية، فلم تَدَع مجالاً للظروف القاسية بأن تُمتهن كرامتهن الإنسانية والوطنية. ■ «أم فيصل» طاقة وطنية وأخلاقية دافقة لا تنضب، لم تعرف التوقف في منتصف الطريق ولم تثنها ظروفها الصحية عن مواصلة العمل النضالي، وفي الأشهر الأخيرة التي سبقت إنعقاد المؤتمر الخامس للإتحاد، كانت تبدو متعبة، وعندما كنا نستوضح حالها، كانت لا تفصح وتكتفي بإجابات مقتضبة: «سليمه إن شاء الله، بسيطة..»، ثم تتابع إدارة الإجتماع، أو المهمة التي كانت بصددها. على مدى سنوات جميلة طوال، تشرفت بالعمل معها والتعلم منها سواء في الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، أو في الهيئات النسائية في الأردن، ولن أنسى تلك الصباحات الكثيرة وأنا أتلقى – برضا واعتزاز - مكالمتها في وقت مبكر جداً بصوتها المميَّز من أجل ترتيب إجتماع أو تحرك شعبي ما... كان نشيدها الأعز في المسيرات والإعتصامات «موطني...»، فما أن تطلق صوتها حتى ينشد معها الجميع، أما قصيدتها الأعزّ فكانت: «يا ظلام السجن خيمً...»، والهتاف الأغلى الذي توجه به النساء في المسيرة كان: «من عمان الى جنين .. شعب واحد لا يلين». ■ لم تتوقف «أم فيصل» عن خوض النضال يوماً، ولم تستدر إلى الخلف أو تلقي بالاً للصغائر، لأن القضية الوطنية لديها فوق كل الإعتبارات. أما عندما أبلغتنا إعتذارها عن استقبال الإجتماعات والملتقيات في بيتها، فقد أدركنا أن قلبها الكبير قد أصابه الوهن، وأن مرحلة جديدة قاسية في حياتنا قد حَلَّت محل أخرى، وأذكر كم كان وقع الخبر علينا صاعقاً، كأننا غفلنا عن دورة الزمن، أو لا نريد أن نصدق أن كل هذا البهاء الذي غمرتنا به سيتوقف، وهذه الروح الوثابة بدأت تخبو. ■ سأضيف لما كتبته إبنتها الصديقة د. فيحاء عبد الهادي، بأن عائلتها الكريمة كما عرفتها كانت أيضاً ظاهرة إستثنائية، وسيبقى رفيق عمرها الأستاذ قاسم عبد الهادي مصدر إعتزاز لنا جميعاً، إذ ندر أن نجد أو نسمع عن مثله زوجاً وشريكاً مسانداً وأبا عطوفاً بكل الصفات الحضارية والثقافية والإنسانية التي عرفناها، فالعائلة بكل أفرادها تدور في فلك الوطن ولا تخرج أبداً عن مساراته ومستحقات قضيته العادلة. ■ أيتها الغالية «أم فيصل»؛ نحمل بعدك عهداً، وثقة لا تتزعزع بالنصر، ونمتليء من محبتك الغامرة للجميع ونقتفي أثر إشراقاتك التي لا يخبو وهجها أبداً... ونبذل سعياً روحيا ونفسيا للتكيف مع حقيقة غيابك. وكلنا ثقة أنك لن تكوني وحيدة في دار الحق، فالشهيدات اللاتي ملأن القلب والوجدان، ربما يكن في الإنتظار، ورفيقات دربك المناضلات اللاتي سبقنك الرحيل، يتلهفن ملاقاة القائدة والأم والأخت الغالية: يسرى البريري، سعادة الكيلاني، سميحة خليل، أميمة القسام، سهام سكر، جميلة صيدم، إنعام عبد الهادي، نهاية الجيوسي، كليمنص خوري، مها نصار وهناء صيام. بعدك نتمّسك بالأمل الدائم بالنصر، ونحفظ تراثاً من الإنجاز، ومجداً وطنياً وإنسانياً لا يُنسى■
عبلة أبو علبة آب /أغسطس 2013
نهاية محمد.. حكاية شعب وسيرة وطن 1948-2015 ■ الإبنة الرابعة بعد اعتدال وعادل ووداد لأبيها مصطفى محمد الآتي من قرية لوبيا الجليلية إلى مدينة طبريا الكنعانية. ولأمها سعدة خليل العبد المقيمة مع عائلتها فيها. عام النكبة وُلدت، حيث اقتُلع الشعب والممتلكات وتشرد الناس، وتبددت الشخصية الوطنية وانهدَّ النسيج وتوزع الجمع كله. حملتها النكبة إلى مخيمات لبنان، فسوريا فكانت الطفولة والشباب ونشوء الوعي الأول وبدء تشكل الشخصية. نهاية محمد: تُعرف نفسها بأنها إبنة لغتها وبيئتها، بنت النكبة ... فالعودة إلى طبريا ولوبيا الجليلية وبلد الشيخ حيفا، وإلى فلسطين ... وتستدرك نهاية أن العودة حق لنا يحميه ويبرره واجب وكفاح العمل من أجله. تشكل وعيها بمعرفة أسماء الأماكن والقرى التي مَرَّت بها قوافل المهجرين قسراً من بلادهم وبمعرفة المخيمات التي عاشت وأحبت وعملت فيها ... اليرموك وجرمانا والسبينة ... فأيقنت أنها وعائلتها من اللاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم النكبة إلى الديار البعيدة وأن اللاجئين كثر، وأن المخيمات وأحزمة الفقر حول عواصم العرب أماكن إنتقالية للعودة إلى فلسطين. ■ في المكان الجديد نما هم العودة ورافقها حتى الرحيل الأبدي. إنها مرحلة الشعور وتشكل العاطفة الأولى تجاه اللاجئين وتجاه الفلسطيني والآخر. تعرفت نهاية مبكراً على القوميين والناصريين وسمعت بالفدائيين وحملت ذلك في مراحلها الدراسية المختلفة ووجدت نفسها مع غيرها في لجان الدفاع عن الوحدة العربية. برزت لاحقاً ميولها الأدبية واهتماماتها بمطالعة الكتب والدراسات والقراءات لساطع الحصري والكواكبي وعازوري، واهتمامها بالأدب العالمي وروايات «عشرة أيام هزت العالم» و«متى تشرق الشمس يا رفيق»، بذلك لفتت نظر المعلمة والإدارة المدرسية والأصدقاء «حيث كانت الثقافة والمعرفة والتعليم تعني مكانة وأهمية إجتماعية وشخصية»، كما تقول نهاية. أصبحت نهاية محمد رئيسة اللجنة الثقافية ومسؤولة عن مجلة الحائط المدرسية في ثانوية البنات الأولى في دمشق. وصارت محور حديث الطالبات وأصبحت القيادة غير الرسمية للمدرسة ومجال إفتخار واعتزاز الفلسطينيات والقوميات معاً، وصارت محط أنظار الجميع واكتسبت سمعة الفلسطينية التي ترفع رأس شعبها كما قالت بعضهن لاحقاً في مرحلة الجامعة والحياة العملية. ■ إعتزت نهاية محمد بهويتها اللاجئة والحالمة بالعودة وهي ابنة الأسرة الفقيرة والمُعالة من قبل أمها العاملة في شركة الصناعات الغذائية. جمعت نهاية محمد بين الدراسة الثانوية والعمل في شركة «سيرونيكس»، مثل الكثير من طلاب وطالبات الثانوية، لتوفير مصروفاتها للعام الدراسي الجديد فأصبحت الطالبة والعاملة معاً، واكتسبت مواصفات ومزايا وقيم العمل كالإنضباط والتعاون والعمل الجماعي، ونما لديها الحس الطبقي والشعور بمصلحة الجماعة. فإذا كانت حكايا الأم والأشقاء والوالد عن لوبيا وطبريا والتهجير القسري، وحكايا الأقران والجيران مصدر وعيها الأول، فإن انطباعات الحارة والمدرسة واللاجئين والمخيم قد شكلت بذرة الوعي الوطني العام، عن فلسطين وعن العودة. وإذا كان التعليم والبيئة والعمل، شكل لها الوعي الإجتماعي، فإن أخبار إنعقاد المؤتمر الأول للإتحاد العام للمرأة الفلسطينية في القدس، وأخبار تكليف القمة العربية لأحمد الشقيري ونشاطاته والمؤتمر الأول لمنظمة التحرير الفلسطينية، وافتتاح مكتبها في دمشق، دفعها مع نشطاء الدفاع عن الوحدة والحالمين بالعودة إلى فلسطين، للإحتكاك بمكتب المنظمة، والمشاركة المبكرة في النضال الوطني، وفي العمل المنظم من أجل العودة. وشكل ذلك لنهاية، مدخلاً للتعرف على الرائدات الأوائل في سوريا والعمل على تأسيس فرع الإتحاد العام للمرأة في سوريا بقيادة سعادة الكيلاني، وزميلاتها. وبما ساعد ومَكَّنَ من العمل على عقد المؤتمر العام الثاني في بيروت، أوائل السبعينيات، الذي تشكل من فرع سوريا وعدد آخر من فروع الإتحاد في البلدان العربية. وأصبحت الراحلة عضواً في الأمانة العامة مع رائدات مناضلات وطليعيات، بعضهن في عمر أمها، مما أتاح لها فرصة التعلم منهن والإطلاع على تجارب ونجاحات وإخفاقات متعددة، وسَّعت معارفها وصقلت تجاربها وأثرت بحياتها العملية والنضالية تأثيراً كبيراً وإيجابياً. ■ جمعت نهاية بين التزامها وعملها الوظيفي في التربية، كمعلمة للرياضيات في مدارس مخيم درعا ومدرسة فرَادة في مخيم السبينة، وبين مهماتها الإتحادية في الأمانة العامة وفي لجنة العلاقات الداخلية للإتحاد، مع مهمات عامة وطنية ونضالية أخرى في الجبهة الديمقراطية وفي المنظمة النسائية الديمقراطية الفلسطينية في مخيمات سوريا. وتزاملت مع القادة النسويات كعصام عبد الهادي وزميلاتها. واستحقت الراحلة كثيراً من شهادات التقدير والثناء على عملها ونجاحها التربوي والمهني وعلى تطوعها ومشاركتها النشطة والفاعلة في العمل الوطني والاجتماعي النقابي النسائي. ■ في الثلث الأخير من عقد السبعينيات، كُلفت نهاية مع غيرها من المؤمنات بقضية المرأة وبدورها في تقدم المجتمع ونهوضه، ببناء المنظمة النسائية الديمقراطية في مخيمات سوريا، بعد أن كان قد بدأ العمل على بناء إتحاد لجان العمل النسائي داخل الوطن في منتصف السبعينيات تقريباً. وتزاملت الراحلة في المهمة الجديدة مع ناشطات مبعدات من فلسطين والأردن، ومع لاجئات المخيمات في سوريا. شكلت نهاية مع زميليها عصام الفايز والشهيد بشير زقوت، المكلفان ببناء منظمة الشبيبة الديمقراطية الفلسطينية، ومع الراحل هشام أبو غوش أمين إقليم سوريا في حينها، رباعياً قيادياً جماهيرياً، كان موضع فخر واعتزاز كل من عمل معهم في إنشاء ذاك البناء الجماهيري المتين. ولعبت الراحلة بتوجيه هشام أبو غوش دور «الناظم» المبدع في توحيد وتنسيق البرامج والخطط والجهود، والموحدة للإرادة والعمل على مستوى القيادة والقاعدة وعموم التنظيم، وربطت بين النشاط والتنظيم وبين الهيئات وإطارها الصديق في العمل والحشد والتوسع، وتُوِج هذا الدور بالنجاح التام. وغدا بذلك إقليم سوريا للجبهة الديمقراطية، ركيزة للنضال الوطني الفلسطيني وضمانةً لحماية المنظمة وبرنامجها، في مرحلة بالغة الصعوبة والتعقيد. ■ لعبت أم الوطنية الفلسطينية نهاية محمد، من خلال عضويتها القيادية وحكمتها الإدارية وديمقراطيتها، دوراً بارزاً وهاماً في مواجهة محاولات العبث بمنظمة التحرير، وبالحفاظ على القرار الوطني المستقل. تعرضت نهاية للإبعاد أواخر العام 1985، وعادت بعد ثلاث سنوات، عندما نجح الشهيد خليل الوزير في إعادة المنظمة برمتها إلى دمشق، لتشييعه ودفنه في مقبرة الشهداء في اليرموك إثر استشهاده في تونس. وعملت خلال فترة إبعادها في لبنان على إعادة تعزيز وحدة فرع لبنان للإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، وفي فرع لبنان للمنظمة النسائية الديمقراطية، وتعرفت على مختلف المخيمات الفلسطينية، مضيفةً خبرتها وتجربتها المُكتسبة في مخيمات سوريا، إلى خبرة وتجربة مخيمات لبنان. وتحملت الراحلة المناضلة، الحالمة بالعودة والعاشقة لتراب الوطن وللناس، بعد عودتها من الإبعاد، مسؤولية إقليم سوريا منتصف 1988، ونجحت في هذه المسؤولية التي استمرت فيها حتى العودة إلى الجزء المتاح من الوطن مع نهاية الإنتفاضة الأولى. ■ على أرض الضفة بعد العودة ظهر يوم 26/8/1994، وضعت الراحلة، برنامجاً خاصاً أطلقت عليه اسم «إعرف وطنك»، تعرفت من خلاله على جميع المدن والبلدات والمخيمات، على طرقها ومداخلها ومخارجها، وخبرت الطرق الإلتفافية والبديلة بسبب الحواجز والإغلاقات الدائمة. ونجحت مع زميلاتها في توحيد جهود فروع وأقسام الإتحاد في الداخل والخارج لخدمة قضية المرأة والقضية الوطنية العامة، ذلك الدور الذي نجح فيه الإتحاد العام للمرأة. وتزاملت الراحلة، في العمل النسائي الموحد في الضفة وغزة، مع الرائدات سميحة خليل وزميلاتها، ومع مجموع الأطر والمراكز والهيئات النسوية، وقادت لجنة العلاقات الداخلية لنشر وتوسيع أطر الإتحاد وقواعده واستكمال هياكله في الضفة وغزة. ■ لعبت نهاية دوراً بارزاً في تشكيل لجان وائتلافات تحديث وتطوير التشريعات والقوانين المتعلقة بالمرأة. حيث كانت منسقةً لعمل اللجنة الوطنية لقانون الأسرة التي تضم الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية ومجموعة من المؤسسات النسوية والحقوقية. وشاركت في نقاشات تعديل وتحديث قوانين العقوبات والميراث وتنظيم الأسرة والنفقة، وقانون الطفل وحماية المرأة من العنف وإنهاء أشكال التمييز ضدها، بتوجه واضح وتصميم نحو عصرنة ودمقرطة التشريع الخاص بالمرأة وبحقوقها ومكانتها. مثلت نهاية محمد، الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، في العديد من المؤتمرات والمحافل والنشاطات العربية والإقليمية والدولية عبر العالم. إلى أن مُنعت في العام 2005 من السفر وبشكل مشدد من قبل الاحتلال الإسرائيلي حتى رحيلها. ■ نهاية: كنت وستبقين في العقول وفي الأذهان لدى أسرتك وعائلتك ومحبيك، ومن عملوا بجانبك وتحت قيادتك وتزاملوا معك، وستكرسين لدى أبناء جيلك والأجيال اللاحقة التي تتلمذت وتعلمت وتربت على يديك، ميلاد قضية المرأة بعد النكبة، وستنيرين لمن رافقك رحلة نضالك الطويل والممتد، آرام وهداية الدرب للعودة إلى أرض الآباء والأجداد. ستبقى سيرتك ومسيرتك يا سيدة العطاء والمبادرة، ويا مدرسة الائتلاف والوحدة، مصدر إلهام وافتخار للمرأة الفلسطينية والعربية، نسير من بعدك على هدي خطاك، وهدي المباديء والقيم التي أرسيت بتجربتك. نسير على طريقك لتحقيق أهداف العودة والتحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، الأهداف، التي حلمت وكافحت ورحلت من أجلها. وسنبقى نحب الحياة ونعشق الأرض كما كنت أم الوطنية، نهاية محمد، ميلاد القضية وهادية العودة■
محمود خليفة / أبو أمجد تموز/ يوليو 2015
في وداع نهاية.. نلمس بصماتها في كل المجالات 1948-2015 ■ تتوقعون مني أن أجدد لها عهد الوفاء لمسيرتها الكفاحية؟ سأفعل. ولكن قبل ذلك دعوني أطلق أنين لوعة من صميم مهجة الإنسان الكامن في أعماق كل منا، القادر أن ينوح ويندب مرارة الفقد، قبل أن يعلموه كيف يخفي آدميته خلف أقنعة الرخام المسماة صموداً وصلابة. نحن نرى الشهب تخر مبرقة من السماء نحو الأرض، فتتلاشى. أما النجوم اللامعة فترتقي من الأرض بمسار متوهج إلى السماء حيث تستقر وتبقى. ونهاية واحدة من هذه النجوم، بل من أكثرها وهجاً وألقاً. ■ هي علم من أعلام هذا الجيل، جيلنا، جيل النكبة والإنطلاقة: الجيل الذي فتح عينيه على مأساة النكبة والذي صنع، رداً على المأساة، مجد الإنطلاقة. هو جيل يمضي. رموزه تفارقنا تباعاً الواحد تلو الآخر. وكل منهم، وهو يرحل، ينتزع معه تلك القطعة من الفؤاد حيث كان يقطن في حياته. فيا ويل قلوبنا الممزقة نحن الذين أخطأتنا المنايا من أبناء هذا الجيل، ونحن لا نملك سوى أن نكف دموعنا وأن نعلل النفس بأن ذكراهم ستبقى خالدة في قلوبنا. نعم.. بلا شك. ذكراهم ستبقى خالدة في قلوبنا، ولكن على شكل جروح لا تندمل وفراغ لا يمكن ملؤه. ■ الآن ونحن نودع نهاية، نستلهم النموذج الذي مثلته، بما اتسمت به من تصميم وقوة إرادة ومثابرة وإصرار يصل حد العناد، نستعين به لقهر لوعة الحزن على فراقها، ونقتدي به لصون الصرح الشامخ الذي ساهمت بدور رئيس في بنائه، لبنة بعد لبنة ومدماكاً إثر مدماك، حتى بات يناطح السماء براية حمراء خفاقة. ■ هي قبل كل شيء مناضلة حزبية. إنهمكت بكل طاقتها في بناء الحزب وأبدعت في هندسة وتدعيم أركانه. وتركت بصماتها في مختلف مجالات العمل الحزبي: في البناء والتنظيم والتثقيف والتأهيل وتدريب الكادر وصقل مواهب القيادات. وتلمس نتائج جهدها في مختلف الساحات وبخاصة في مخيمات سوريا، حيث قادت تنظيم الجبهة لسنوات حتى عودتها إلى أرض الوطن. أولئك الصامدون اليوم في مخيم اليرموك هم من بين الذين أنشأتهم نهاية وغرست فيهم روح العزيمة والثبات. ■ وهي أدركت أن الحزب يفقد مغزاه ما لم ينغرس في صفوف حركة الجماهير المناضلة من أجل حقوقها. وكما أبدعت في بناء الحزب، أبدعت في تعزيز بنية الحركة الجماهيرية وكانت عموداً من أعمدة الحركة النسوية في البلاد ترجمة لقناعتها أن الحرية والمساواة للمرأة شرطان لا غنى عنهما من أجل حرية الشعب واستقلال الوطن. سنبقى نرى ونلمس بصمات نهاية في كل مجال من مجالات حياتنا الوطنية، السياسية والثقافية والإجتماعية. وسنبقى نستمد من ذكراها العزم والدأب والتصميم على المضي قدماً بالمسيرة التي كانت هي دوماً في طليعتها، والتي ستبقى روحها نبراساً ينير لنا الطريق. على هذا نجدد لها العهد، عهد الوفاء■ قيس عبد الكريم / أبو ليلى تموز/ يوليو 2015
سميحة خليل.. نموذج القيادة في الدور الوطني والعمل الاجتماعي 1923-1999 في مرحلة التأسيس ■ ولدت سميحة خليل في مدينة عنبتا قضاء طولكرم عام 1923، وتعلمت في مدينة رام الله، وبدأت نشاطاتها على الصعيد الإجتماعي والوطني في مدينة البيرة منذ أواسط خمسينيات ق 20، وأسست «جمعية الإتحاد النسائي العربي» وفي بداية ستينيات ق 20، وساهمت في تأسيس الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية، كما ساهمت في التحضيرات التي بادرت لها القوى والشخصيات الوطنية والنقابية والإجتماعية في مختلف التجمعات الفلسطينية لإقامة منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964؛ وكانت عضواً مؤسساً في أول مجلس وطني فلسطيني عقدته المنظمة بنفس العام في مدينة القدس، وذلك بصفتها أمينة سر الإتحاد العام للمرأة الفلسطينية. ■ بعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، تكرست صورة سميحة خليل على المستوى الوطني الفلسطيني باعتبارها شخصية قيادية وطنية مناهضة للإحتلال، وناشطة سياسية واجتماعية لعبت دوراً رائداً في المسيرة النضالية للشعب الفلسطيني، حيث كانت عضواً بارزاً في قيادة «الجبهة الوطنية الفلسطينية» في الأراضي المحتلة التي تشكّلت عام 1973، والمكونة من إئتلاف وطني عريض ضم ممثلين عن كافة الفصائل والأحزاب والنقابات المهنية والعمالية والشخصيات الوطنية المستقلة. وقد اعتبر المجلس الوطني الفلسطيني الذي انعقد في القاهرة في آذار/ مارس 1977 «الجبهة الوطنية» بمثابة الذراع السياسي لـ م.ت.ف في المناطق المحتلة. ■ لعبت سميحة خليل دوراً بارزاً في تشكيل وتفعيل «لجنة التوجيه الوطني» عام 1978، التي أصبحت الهيئة القيادية العليا للحركة الوطنية في المناطق المحتلة، وذلك بعد قيام الإحتلال الإسرائيلي بإعلان الجبهة الوطنية تنظيماً معادياً وغير مشروع وقيامه باعتقال عدد من قياداتها. وكانت «لجنة التوجيه الوطني» قد شُكلت في حينه من رؤساء البلديات المنتخبين في الضفة الغربية وقطاع غزة بالإضافة لمندوبين عن الأحزاب والفصائل والنقابات المهنية والمؤسسات الوطنية. وحاولت «لجنة التوجيه الوطني» تكريس علنية نشاطاتها واتخذت من مُجمَع النقابات المهنية في القدس مقراً لها؛ ولكن نتيجة للدور النضالي الذي لعبته اللجنة وتبنيها لبرنامج م.ت.ف، فقد أعلنت سلطات الإحتلال تلك اللجنة القيادية أيضاً هيئة خارجة عن القانون، وقامت باعتقال وإبعاد وفرض الإقامة الجبرية على معظم أعضائها. ■ واصلت سميحة خليل رفع راية م.ت.ف عالياً داعيةً إلى مناهضة الإحتلال وتكريس الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني وتحقيق حريته واستقلاله، ما أدى إلى اعتقالها على يد قوات الإحتلال مرات عديدة. وفي العام 1980 فرضت عليها سلطات الإحتلال الإقامة الجبرية المنزلية لمدة سنتين ونصف السنة، ومنعتها بعد ذلك من السفر إلى خارج الضفة الغربية؛ ولعبت سميحة خليل دوراً بارزاً في قيادة الحركة النسائية والإجتماعية الفلسطينية من خلال رئاستها للإتحاد العام للمرأة الفلسطينية في الأراضي المحتلة، ورئاستها لـ «جمعية إنعاش الأسرة»؛ ومن خلال دورها في اللجنة التنفيذية للإتحاد العام للجمعيات الخيرية في الضفة■ «جمعية إنعاش الأسرة» ■ كان لـ «جمعية إنعاش الأسرة» مكانة خاصة في قلبها، وتعتبرها بمثابة أسرتها الحميمة، وجمعتها مع عضواتها وموظفاتها وطالباتها أقوى أواصر المحبة والترابط. وأعطت سميحة خليل من خلال الجمعية جُلَّ طاقتها لخدمة القضية الوطنية ولخدمة المرأة الفلسطينية والأسر الفقيرة وأهالي الشهداء والمعتقلين. وتشرح سميحة خليل في كتاب مذكراتها(1)، كيف اكتسبت «جمعية إنعاش الأسرة» زخماً إضافياً نوعياً على إثر حرب 1967، فتقول: «كان من أكبر المصائب التي استجابت لها الجمعية كارثة ترحيل أهالي قرى اللطرون الثلاث: عمواس وبيت نوبا ويالو، في منطقة رام اللَّة». وتشرح: «عندما سمعنا بالمأساة التي وقعت في تلك القرى ذهبنا لنرى ما حدث فوجدنا أهالي تلك القرى، ما يزيد عن العشرة آلاف منهم، نساء وأطفال وشيوخ، يهيمون تحت الأشجار وفي الحقول دون طعام أو غطاء. وعلمنا من الناس أن بعض كبار السن والمرضى والمعاقين قد دُفنوا أحياء تحت ركام بيوتهم التي فجّرتها تلك القوات، لأنهم لم يتمكنوا من السير والخروج من بيوتهم إثر الإنذارات التي أطلقتها القوات الإسرائيلية التي احتلت تلك القرى عبر مكبرات الصوت». ■ وتضيف: «عدنا إلى البلد وأخذنا نخبر الناس بما جرى، وننقل لهم صورة ما رأينا، ونستثير هممهم للتبرع لصالح هؤلاء المنكوبين؛ ولكن معظم الناس كانوا مشغولين بهمومهم، حيث لم يكونوا قد استعادوا بعد وعيهم من الذهول الذي أحدثته صدمة الحرب والإحتلال الإسرائيلي، ولذلك لم يستجيبوا بالشكل الذي يتناسب مع حجم الكارثة لدعوتنا لهم تقديم يد المساعدة. وقدَّرنا أن المواطنين لن يستجيبوا إلا إذا رأوا ما حدث بأعينهم. فصرنا ننقلهم بالسيارات والباصات إلى منطقة اللطرون ليروا ما حدث. عندها أفاق الناس، وتفاعلوا مع الوضع، وأخذت المساعدات بالتدفق علينا، من طعام جاهز، ومواد غذائية، وملابس، وأوعية للطبخ. وكنا نحمّل كل ذلك ونوزعه على أهالي تلك القرى لسد حاجاتهم المباشرة. ولكننا بعد أيام قليلة تأكدنا أننا لا نستطيع إعالة ما يزيد عن عشرة آلاف نسمة بشكل مستمر، وأن علينا أن نعيد تنظيم أولوياتنا. فقررنا إقامة لجنة أسميناها «لجنة إغاثة المتضررين» ضمت شخصيات وطنية بارزة من مدينتي رام الله والبيرة. وقد تعهد أعضاء اللجنة بجمع التبرعات من الأهالي على نحو منتظم. وأصبحت تلك التبرعات أشبه بضريبة تُجبى شهرياً من المواطنين حسب مهنة ودخل كل مواطن. وقد إلتزم الأهالي بالدفع لمدة سنتين كاملتين، إلى أن أصدر الحاكم العسكري الإسرائيلي أمراً بمنع جمع تلك التبرعات. ومع ذلك فقد إستمر الناس بتقديم المساعدات العينية». ■ وكانت تلك المرحلة الصعبة بداية نهوض واسع لـ «جمعية إنعاش الأسرة» التي نمت من مؤسسة صغيرة لها مقر يتكون فقط من غرفتين صغيرتين وتعمل فيها موظفة واحدة وثماني متدربات، إلى مؤسسة ضخمة لها ثلاث عمارات، كل منها مكونة من ثلاثة طوابق، يعمل فيها ما يزيد عن مائتين من الموظفات والموظفين وما يزيد عن الثلاثمائة متدربة في مختلف المجالات، وتزيد دورتها المالية السنوية عن المليون دينار أردني، وتقدم خدماتها المباشرة للآلاف من أبناء شعبنا، حيث أصبحت الجمعية تدير برامج تشغيل وتأهيل وبرامج للمساعدة الإجتماعية، وتمتلك مشاريع إنتاجية كبيرة، مثل مصنع المنتجات الغذائية، ومشغل النسيج والتطريز، ومراكز للتأهيل المهني في مجالات: التمريض، والخياطة، والطبخ، وأعمال السكرتاريا، ومهنة التجميل وقص الشعر؛ بالإضافة إلى إقامة دار لأبناء الشهداء والأيتام، ومركز للحضانة وروضة للأطفال، وتفعيل برنامج للتأمين الصحي، وآخر للتبني وبرنامج للمساعدات الطارئة، وآخر للبعثات والقروض للطلاب الجامعيين، بالإضافة لبرامج تعليم الكبار ومحو الأمية. ■ حول شخصية سميحة خليل تقول فريدة العمد، صديقة سميحة خليل وزميلتها التي تولت رئاسة «جمعية إنعاش الأسرة» بعد وفاتها: «كانت سميحة خليل إمرأه شامخة في نضالها ضد الإحتلال الغاشم، مؤمنة بحقوق الشعب الفلسطيني وثوابته الوطنية في إقامة الدولة الفلسطينية وحق العودة وتقرير المصير. عرفتها صاحبة مبدأ، لا تلين عزيمتها أمام غطرسة العدو وشراسته. وأدت مواقفها إلى الزج بها في السجن، كما فرضت الإقامة الجبرية عليها، ومُنعت من السفر لزيارة أبنائها، ولكنها لم تتراجع ولم تتنازل». وتضيف السيدة العمد: «عملت سميحة خليل من خلال الجمعية على مساعدة المرأة على تخطي حواجز التخلف والجهل والإتكالية، فأقامت من خلال الجمعية ستة مراكز للتدريب المهني للفتاة الفلسطينية كي تؤمن لها مهنة تحميها من ذل السؤال عند الحاجة، وتمنحها دخلاً يمكَنها من رعاية أسرتها خاصةً في ظل غياب الأخ أو الزوج أو الإبن المعتقل أو الشهيد. وكانت تردد دائماً أن تعليم الفتيات مهناً مختلفة لم يكن الهدف الوحيد للجمعية، بل من أجل خلق الفتاة الواعية وصقلها لتكون اللبنة الأولى الصالحة في بناء الدولة الفلسطينية المستقلة». وعن دورها الوطني تقول السيدة العمد: «لقد تجاوز نشاط سميحة خليل عملها في جمعية إنعاش الأسرة، فقادت الحركة النسائية بصفتها رئيسة إتحاد عام المرأة الفلسطينية _ فرع فلسطين، وكانت الجمعية هي المركز الذي يجتمع فيه أعضاء الإتحاد وتنطلق منه الدعوات للإضرابات والمظاهرات والإعتصامات، وكذلك إصدار البيانات ضد الإحتلال. وقد وقفت بصلابة تتحدى الإحتلال وقراراته الظالمة خصوصاً عندما أصدر قراراً بإغلاق الجمعية لمدة سنتين وصادر الكثير من ملفاتها ووثائقها المهمة»(2). ■ وأما أمينة العيسوي عضو الهيئة الإدارية لـ «جمعية إنعاش الأسرة»، فتقول: «لم تترك سميحة خليل ميداناً وطنياً إلا وخاضته، واعتمدت العمل الخيري رديفاً للعمل الوطني تخفف به عن البائسين والمتضررين من الإحتلال. كانت تسمع أكثر مما تتكلم وتفكر وتمحص، وبعد ذلك تأخذ قراراها، وكانت تباشر بالعمل لتنفيذ أية فكرة عملية تلوح لها وربما يراها البعض صعبة التحقيق، فكانت لا تتردد ولا تصغي للمحبطين فتمضي بإصرار للوصول إلى ما تصبو إليه من عمل وطني أو خيري، لا تثنيها العقبات والصعوبات وضيق الحال عن الأداء، حساسة لاحتياجات الشعب ويعز عليها أن تراه ذليلاً ومهاناً، وكان هذا الإحساس مبعث تأسيس جمعية إنعاش الاسرة»(3). ■ وتقول سعاد عبد السلام، مساعدة سميحة خليل في الجمعية: «كانت سميحة خليل تهتم إهتماما غير عادي بالطلاب الجامعيين لأنهم جيل المستقبل وقادة الشعب الفلسطيني في المجالات المختلفة. وكانت تحض الطلاب الذين تساهم الجمعية في تغطية نفقات دراساتهم الجامعية على الدراسة والمثابرة والتفوق حتى يدعموا غيرهم من الطلاب المحتاجين بعد تخرَجهم وعملهم. وتضيف السيدة عبد السلام: في أحد الأيام حضر أحد الخريجين، وكان قد تخرًج طبيباً، وأبدى استعداده لتعليم طالب محتاج، بالرغم من أنه لم يعمل بعد، فشكرته وسألته عن أسرته، ولما عرفت أن عدد أفراد عائلته عشرة وأن والده مزارع، وله أخ سينهي التوجيهي هذا العام، قالت له إذهب وأنفق على أخيك وساعد والدك، وبذلك تكون قد ساعدت عائلة أخرى»(4)■ في مواجهة الإحتلال ■ ويقول الباحث نبيل علقم، عضو مركز الأبحاث الإجتماعية والتراث الشعبي الفلسطيني: «بمبادرة من سميحة خليل تَكَّون مركز «التراث والمجتمع الفلسطيني» عام 1972، وأصدر أول دراسة في التراث باسم «قرية ترمسعيا - دراسة في التراث الشعبي» عام 1973. وفي عام 1974 صدر العدد الأول من المجلة الفصلية «التراث والمجتمع» لِتُعنى بدراسة التراث الشعبي الفلسطيني». ويضيف نبيل علقم: «كانت سميحة خليل تمتلك قدرات كبيرة، فهي مناضلة قيادية مخلصة، ذكية، صلبة ولبقة. وكانت تستعمل هذه الصفات حسبما يتطلبه الموقف. وعلى سبيل المثال في أثناء الإعداد لمهرجان عام 1978، رافقتنا السيدة سميحة خليل إلى الحديقة العامة لبلدية البيرة، حيث كان المهرجان سيقام بعد عدة أيام، وذلك لتطمئن على كافة التفاصيل المطلوبة بما فيها دخول الجمهور وأماكن الجلوس وفقرات المهرجان من عروض وأداء وغناء، ومعرض التراث الشعبي والمَضافة وسواها». «وفي أثناء وجودنا في الحديقة دخلت مجموعة كبيرة من الضباط والجنود الإسرائيليين. قال أحد الضباط: ماذا تفعلون هنا؟ فأجابت السيدة سميحة: لقد أخذنا إذناً لإقامة المهرجان. فرد عليها الضابط: لقد أخذتم إذناً لإقامة حفل فولكلوري، ولكنك لم تذكري أنه سيقام هنا. وأخذ بإطلاق التحذيرات من مخالفة الأحكام العسكرية كالتحريض وإثارة المواطنين». «وبعد عدة أيام، ولدى إقامة المهرجان، حوصرت حديقة بلدية البيرة من قبل قوات كبيرة من جنود الإحتلال وضباطه، حيث قامت بمراقبة تدفق جموع المواطنين للمكان قبل ساعتين من بدء المهرجان، ولاحظت إكتظاظ ساحات الحديقة بأعداد غفيرة من الجمهور المتحمس من مختلف الأعمار، حيث تسلق العديد من الشبان الجدران والأشجار المحيطة بالحديقة. وفي كلمة الإفتتاح وأمام الجمهور الحاشد رَحَّبت سميحة خليل بالضيوف من أبناء شعبنا ومن كافة الفعاليات الوطنية الذين حضروا من كل أنحاء فلسطين وأعلنت: «إن الشعب الفلسطيني لن يستسلم وأن الإحتلال إلى زوال»، وما أن بدأت باقي فقرات المهرجان حتى كان الجمهور من رؤساء بلديات وممثلي النقابات المهنية والصحفيين والقيادات النسائية والسياسية والشبابية، يهتف مع كل فقرة أو مشهد يشيد بالثورة وبالفدائيين وبفلسطين، ويندد بالإحتلال وعملائه. فجن جنون جنود الإحتلال وقاموا باقتحام المهرجان وأخذوا يطلقون النار بكثافة شديدة مما أدى إلى انفضاض المهرجان ووقوع العديد من الإصابات بين المواطنين»(5). ■ وتقول سميحة خليل في مقابلة صحفية «إنها لا تطيق الإسرائيليين. وأن أعضاء «حركة السلام الآن» هم أطفال لطيفون، ولكنهم عديمو الأهمية. وأن القوى التقدمية في إسرائيل تحاول العمل ولكن بدون جدوى، فغالبية الشعب الإسرائيلي بالنسبة لها هم إما مؤيدين لبيريس أو لبيغن، وكلاهما ضد أي حل مع الفلسطينيين». وتضيف: «بعد عام 1948 أصبحتُ لاجئة بعد أن هاجرنا من المجدل إلى غزة، وقد رأيت النساء الفلسطينيات اللاجئات وهن يبعن أساورهن الذهبية، وبعد ذلك يبعن أثواب الأفراح المطرزة في سبيل الحصول على لقمة العيش». ومنذ ذلك التاريخ، تقول سميحة خليل: «قررتُ أن أُحَول بنات شعبي من متسولات إلى فتيات مستقلات، لا يمددن أيديهن للغرباء». وتضيف: «في البداية لعنت أوروبا وأمريكا، وبعد ذلك لعنت العرب، ثم عتبت على الفلسطينيين». وتقول: «إن الذنب يقع علينا نحن الفلسطينيين، فنحن الذين يتوجب علينا العمل، ويتوجب أن نعتمد على أنفسنا وليس على الآخرين». وهي تبدي أشد الإعجاب بجمال عبد الناصر، وتقول: «لقد عَلَّمني جمال عبد الناصر الوطنية، ومعنى أن أكون عربية ومعنى الإخلاص لشعبي والإخلاص لوطني إن علينا أن نتعلَم من فلسفة ثورته»(6). ■ وأما دالية كاربيل مراسلة مجلة «مونتين» الإسرائيلية فتصف سميحة خليل بالقول: «إمرأة سيماءها بسيط وشعبي وإلى حدٍ ما مضلل؛ وشخصيتها مؤلفة من مزايا تبدو في الظاهر متناقضة؛ فهي طموحة جداً، وصلبة كالفولاذ، ولا تعرف الرحمة، معتزة بنفسها، ومتكبرة، ولا تعرف المساومة، وفي نفس الوقت رقيقة القلب، وقائدة نموذجية ومثالية، شجاعة جداً، وقوية الشخصية، ومستقيمة. وهي من نمط الفلسطيني الذي لا يرغب الإرتباط بإسرائيل. لذلك فإن كل ما تقوله هو رسالة فلسطينية طاهرة. وهذا هو سر تفوقها وتأثيرها. إنها تمثل صورة لقوة سياسية نشأت من خليط من العصبية القومية والرغبة في مساعدة المضطهدين والضحايا». وتصفها أيضاً بأنها: «إمرأة فلسطينية ذات شهرة مذهلة، تنشط من خلال الجمعيات الخيرية، ومن خلال لجنة التوجيه الوطني ذات الصفة السياسية البارزة». ■ وتسألها الصحفية الإسرائيلية: «هل أنت خائفة»؟ وتجيب: «أنا لا أخاف من أي شيء، ولا أخاف من أحد؛ خوف قليل تسرَب إلى قلبي بعد محاولة إغتيال رؤساء البلديات - كريم خلف، وبسام الشكعة، وإبراهيم الطويل - وهذا شيء طبيعي؛ وأنا لم أخف على حياتي، بل خفت على زوجي المريض الذي سيبقى وحيداً، لأن أبناءنا ممنوعين من القدوم إلى الضفة الغربية للعيش معنا». وعن «جمعية إنعاش الأسرة» تقول الصحفية الإسرائيلية: «تستخدم الجمعية 64 موظفة بوظيفة كاملة، أما باقي عضوات الجمعية فهم جميعهم متطوعات». وتقول سميحة خليل عن موظفات الجمعية وأعضائها: «نحن جميعنا روح واحدة في أجساد الجميع، وهذه هي قوة الجمعية وانطلاقتها المتجددة». ■ وتقول المراسلة الصحفية: «يبدو أن كل طفل في الضفة الغربية يتعلم بأن مهمته هي مقاومة إسرائيل. ففي رياض الأطفال التابع لجمعية إنعاش الأسرة تقوم ريما ترزي وهي المستشارة المهنية لبرامج تعليم الأطفال من سن 3-4 سنوات بتعليمهم نشيداً ألفته خصيصاً من أجلهم، حيث ينشد الأطفال نشيد العصفور وهم يمسكون بأيدي بعضهم البعض: نيالك يا عصفور، أنت حر طليق بينما أنا مضطهد وحزين، علمني يا عصفور كيف أطير فوق أزيز الرصاص، علمني كيف أكون حراً. وروت لي ريما ترزي بأن تلك الأناشيد تهدف إلى تعليم الطفل الفلسطيني حب بلده بشكل إيجابي، وإلى إصلاح الضرر الذي سببه الإسرائيليون. وتضيف ريما ترزي: إن أطفالنا يعيشون في خوف مستمر، وأنتم الإسرائيليون عليكم أن تخشوا من نتائج هذا الوضع». ■ وتختم الصحفية تقريرها بالقول: «منذ عام 1978 وسميحة خليل لا تكتفي بالنشاطات الإجتماعية، بل تشارك في عملية تعزيز الثقة الذاتية في الضفة الغربية. وعندما اعتقل بسام الشكعة جرى تنظيم مؤتمرات ومهرجانات للمطالبة بالإفراج عنه. وفي مؤتمر شعبي عُقد في جامعة بيت لحم إستُقبلت سميحة خليل كبطلة حقيقية. وعندما إعتلت النصة وأنشدت: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر، إنتزعت عاصفة من التصفيق المتواصل. وفي نهاية المهرجان، قال محمد ملحم، رئيس بلدية حلحول: «هؤلاء النسوة هن الجمرة، وهن الإحتراق، ولسن الرماد الذي تذروه الرياح بعد اشتعاله»■ الإنتخابات الرئاسية ■ ولعل أبرز محطة في مسيرتها الوطنية والسياسية وأكثرها إثارةً هي إنخراطها عام 1996 في المعركة الإنتخابية وخوضها المنافسة على رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية مقابل الرئيس ياسر عرفات، وحصولها على 11% من الأصوات(7)؛ مُكرسةً بذلك تقليداً جديداً وعظيم الدلالة في الساحة الفلسطينية والعربية، ألا وهو قدرة المواطن وحقه في المنافسة على أرفع المناصب السياسية، والأهم قدرة المرأة على خوض المنافسة الإنتخابية مثلها مثل الرجل. وفي هذا السياق تقول فريدة العمد: «لعل أهم رسالة بعثتها سميحة خليل عندما رشحت نفسها للإنتخابات الرئاسية عام 1996، كانت رسالة مزدوجة تبعث بها للمرأة الفلسطينية من جهة، وللسلطة الفلسطينية من جهة أخرى؛ أما رسالتها للمرأة فقد أرادت أن تقول لها: «عليك التحلَي بالجرأة والشجاعة والإقدام فأنت جديرة بتبوء أعلى المراكز»؛ وأما رسالتها للسلطة فتقول: «نريد نظاماً ديمقراطياً يحقق العدل والمساواة بين أفراد شعبنا الواحد، بدعم حق المرأة في الوصول إلى مراكز صنع القرار، وفي المشاركة الكاملة في عملية بناء الوطن»(8). ■ وتعليقاً على ترشحها للإنتخابات الرئاسية عام 1996، كتب عضو اللجنة التنفيذية لـ م.ت.ف شفيق الحوت مقالاً في صحيفة «النهار» اللبنانية - 15/1/1996، تحت عنوان «سميحة خليل، أول امرأة عربية تترشح للرئاسة الأولى» جاء فيه(9): «ليس من شجاع مثل امرأة شجاعة، فكيف إذا كانت هذه المرأة هي سميحة خليل؟... من هي سميحة خليل؟ إنها «المرشح» الوحيدة المنافسة لياسر عرفات على رئاسة السلطة الفلسطينية ... هي من رواد الحركة الوطنية الفلسطينية التي لم تكتف بقول «لا» لإسرائيل، وإنما ترجمت هذه «اللا» إلى نضال يومي متواصل دون انقطاع لم تنل منه قسوة الإحتلال وما لاقته منه من أحكام تعسفية وقيود جائرة لم تُثنها رواسب التخلف الإجتماعي ونظرته إلى المرأة ودورها في الحياة العامة؛ وإنما على العكس من ذلك تماماً، فقد تجوهرت مع المعاناة وازداد معدنها الأصيل لمعاناً، كما أصبحت لبنات جنسها وأبنائه قدوةً لمن يريد أن يناضل ويكون على مستوى رسالة النضال: عطاءاً وتضحيةً وصموداً». «لقد سمعت عن سميحة خليل الكثير وعن النشاطات المتعددة التي كانت تمارسها، وبخاصة في مجال الشؤون الإجتماعية من رعاية لليتامى من أبناء الشهداء والمحتاجين والفقراء ... ولكن، ليس لهذا أكتب عنها داعياً لدعمها والتصويت لها. أكتب عنها، لأنها أولاً قررت خوض المعركة الإنتخابية؛ ولأنها، ثانياً، إختارت أبو عمار منافساً لها. ولكن أين الشجاعة في هذا كله؟ ينبع الرافد الأول لشجاعتها، وهو الأهم، من كونها اتخذت قرارها من موقع المعارض لاتفاقية أوسلو، فجعلت من إلغاء الحكم الذاتي هدفاً من أهدافها في حالة فوزها. وذلك لقناعتها أن اتفاق أوسلو فشل في تحقيق أهداف شعبنا الأساسية: وهي الإستقلال والسيادة الكاملين؛ ولأن الشعب يريد دولة مستقلة ذات سيادة فعلية، ولأنه لا يمكن تحقيق السلام الدائم والشامل إلا عندما تُرد الحقوق لأصحابها». «وبهذا الموقف تكون سميحة خليل قد تميَّزت بموقفها عن أكثرية المعارضين من فصائل وأفراد، الذين رسا قرارهم على إسقاط الإتفاقية من خلال مقاطعة هذه الإنتخابات لا المشاركة فيها ... أما سميحة خليل فارتأت المعارضة من خلال الإشتباك لا الإنفكاك، لا سيما وأن قرار المشاركة لا يشترط القبول بالمسار السياسي ولا الموافقة على اتفاقية أوسلو. وهي بقرارها الشجاع هذا فتحت درباً من دروب المعارضة الإستقلالية التي عرفها المشهد الفلسطيني منذ بداية الحركة الوطنية المعاصرة. وهي تجربة ستبقى مفيدةً وموحيةً؛ وبغض النظر عن نتيجتها ستكون ملهمة في تجارب مقبلة». «وأما الرافد الثاني لشجاعة سميحة خليل فينبع من اختيارها الترشح لموقع الرئاسة، لا مجرد العضوية في المجلس التشريعي، علماً بأنها تعلم أنها لو اختارت عضوية المجلس التشريعي لوصلت دون أي عناء، بل وبترحيب علني أو ضمني من السلطة ورئيسها. وهذا يعني جديتها في هدفها السياسي، أي إلغاء الإتفاقية أو تطويرها، فكان خيارها للمنصب المؤثر والقادر على اتخاذ القرار، وهو «الرئاسة» من دون شك». «الرافد الثالث لشجاعة سميحة خليل ينبع من كونها امرأة في مجتمع يتأرجح بين من يريد شده إلى قيود الموروث من تقاليد المجتمع المتخلفة والمحافظة، وبين من يريد جذبه إلى مجتمع ديمقراطي متقدم تحتل فيه «أم» أطفال الحجارة و«أخت وزوجة ووالدة» المعتقل والسجين والشهيد مكانتها التي تستحق، والتي انتزعتها خلال ربع قرن من النضال العنيد». «إن مجرد ترشيح سميحة خليل لذاتها، هو إنجاز إعلامي كبير لحقيقة مطمورة حول المدى الذي وصلت إليه المرأة الفلسطينية في المجتمع المعاصر، وفي هذا كسب مضمون للشعب والقضية سواء نجحت سميحة أم فشلت» [...]. و«لهذه الأسباب مجتمعة، لو كان لأمثالي من أبناء الهجرة الأولى حق التصويت، لما ترددت لحظةً في منح صوتي لسميحة خليل، رغم حيرتي كبقية المعارضين بين المقاطعة والمشاركة. ألم أقل إنها امرأة شجاعة؟». ■ أما ناهض الريِس فيقول(10): «إن الناس عموماً، وإن كانوا قد عرفوا في حينه أن حظ السيدة سميحة خليل في النجاح في التنافس على منصب الرئاسة مقابل الرئيس ياسر عرفات في انتخابات عام 1996 هو بحكم المعدوم، إلا أنهم لم يستغربوا مع ذلك إقدامها على ذلك الترشيح لأنهم كانوا يعرفون أنها لم تقفز إلى ذلك الطموح من الفراغ أو من خلال أحلام الأدعياء، بل قامت بعمل إجتماعي نسوي مليء بالجدوى والنفع. وترشيح سيدة نفسها للرئاسة الأولى في فلسطين لم يكن أمراً منكراً، ولا مستهجناً، ولم يقل أحداً أنه ضده. أما النجاح أو عدم النجاح، فتلك مسألة أخرى. إن طريق سميحة خليل كان طريق العمل والخدمة العامة والتجاوب مع حاجات المجتمع والمشاركة في معايشة أزماته ومآسيه، هو الطريق الذي يمكن أن يحمل المرأة إلى المناصب وإلى المراكز وإلى الجدارة بالمسؤوليات، وذلك بأصوات النساء والرجال، كما هو الحال بالنسبة للمرشحين الذكور تماماً. وبترشيح السيدة سميحة خليل نفسها في انتخابات الرئاسة عام 1996 أوجدت سابقة محترمة وأدت خدمة نادرة لا للمرأة الفلسطينية والعربية وحسب، ولكن للحياة السياسية في هذه البلاد». ■ وأما حنا ناصر، رئيس جامعة بيرزيت في حينه، فقد كتب في صحيفة «الأيام» الفلسطينية - 22/1/1996، «قدمت السيدة سميحة خليل خدمة جليلة إلى الشعب الفلسطيني حينما خاضت معركة الرئاسة؛ فقد أكدت أن بإمكان أي فرد أن يتنافس على المنصب الرئاسي ... ولم يجرؤ أحد في التاريخ الحديث أن يتنافس في الوطن العربي مع الرئيس الموجود على رأس منصبه، كما أرست أم خليل تقليد آخر، ألا وهو أن منصب الرئاسة ليس حكراً على الرجال فحسب، وبالتالي فعلى المجتمع الفلسطيني رجالاً ونساءً - والمرأة الفلسطينية بشكل خاص - أن تحيي أم خليل على جهودها الفعلية في إرساء قواعد الديمقراطية والمساواة للمستقبل». ■ واعتبرت الكاتبة والأديبة الفلسطينية كوثر الزين أن «الإستغراب في دخول السيدة سميحة خليل معترك الإنتخابات الرئاسية كمنافسة لرمز من رموز نضال حركات التحرر في العالم المعاصر، مصدره ليس صغر الحجم النضالي لهذه السيدة، فهي في معزل عن هذا الشك، ولكن لمحدودية مساحة تحركها السياسي، فهي لم تنتمِ إلى قاعدة حزبية؛ فقد أعلنت بأنها مستقلة وأن ولاءها الأول والأخير لفلسطين. علاوةً على انتمائها إلى مجتمع محافظ تغلب عليه العقلية الذكورية، ويخوض لأول مرة في تاريخه تجربة إنتخابات رئاسية، وما كادت تظهر النتائج حتى شاهدنا سميحة خليل على شاشات التلڤاز محتفظة بملامحها نفسها، لتعلن أنها كانت واثقة من أن النتيجة لن تكون لصالحها، ولكنها رشحت نفسها حتى تثبت للعالم أن هناك ديمقراطية وتعددية في فلسطين. وكنت من الذين صدقوا سميحة خليل، واحترمت فيها تلك الإنسانة التي أقدمت على الهزيمة الفردية أمام عدسات العالم وأنظاره من أجل تحسين صورة وطنها في نظر العالم»(11). ■ وأما د. جورج حبش، الأمين العام للجبه الشعبية ففي رسالة وجهها للسيدة سميحة خليل حول موقفه من ترشحها للإنتخابات الرئاسية، فقد ذكر ما يلي: «... ورغم أننا في الجبهة الشعبية قاطعنا الإنتخابات، فإنني من الناحية المعنوية كنت منشدّاً نحوك بكل قوة، وكنت أتمنى فعلاً لو كان بمقدوري أن أقدم لك كل ما أستطيع تقديمه من سند وعون، وبعيداً عن حسابات الربح والخسارة، فإنكِ قد فرضت نفسك على الساحة الفلسطينية بقوة، ونلت إعجاب الكثيرين على الساحتين العربية والعالمية نظراً للشجاعة التي تحليت بها بقرارك منافسة رئيس السلطة. إنني أرى فيك المرأة الشجاعة المتحدية الصلبة التي ترفض أي منصب أو كرسي على حساب الوطن وحريته واستقلاله، فمرحى لك رفيقة درب ونضال دائم ومستديم حتى طرد الإحتلال وتحرير أرضنا الغالية فلسطين»(12)■ شهادة ياسر عرفات في سميحة خليل ■ في رسالته بتاريخ 18/3/1999، والتي وجهها للإحتفال الذي أقيم لتأبين المرحومة سميحة خليل، قال ياسر عرفات، رئيس اللجنة التنفيذية لـ م.ت.ف: «في العقود الأخيرة وتحت حراب الإحتلال الإسرائيلي لأرضنا المحتلة عام 1967، كانت الأخت سميحة خليل تتصدر صفوف النضال الوطني الجماهيري في مواجهة الإحتلال ومنذ أيامه الأولى؛ وتقدم بذلك نموذجاً رائداً ومتقدماً لدور المرأة الفلسطينية. وفي جمعيتها، «جمعية إنعاش الأسرة»، بنت أم خليل وأخواتها وطناً فلسطينياً مصغراً محرراً تحت حراب الإحتلال. وفي هذا الوطن الصغير، الذي كان يكبر يوماً بعد يوم ويتوسع، مبانٍ ومشاريع ونشاطات ليصبح مفخرةً لنا، كانت أم خليل تُحدثُ ثورةً في مفهوم العمل الإجتماعي الخيري بربطه بمتطلبات وأهداف الثورة الفلسطينية، إبتداءاً من رعاية أسر الشهداء والمعتقلين وإيجاد فرص عمل لهم، إلى توفير فرص التدريب والتعليم لآلاف الفتيات، وصولاً إلى الإهتمام بالتراث والفلكلور الفلسطيني كمكون أساسي للهوية الفلسطينية التي كانت تتهددها مخططات الإحتلال الاستيطاني الإسرائيلي». ■ ويضيف الرئيس عرفات: «وأذكر عندما التقيت الراحلة الكبيرة عندما قدمت من تحت حراب الإحتلال إلى مقر قيادة الثورة في بيروت عام 1975، حيث استمعنا إلى تحليلها العميق للوضع ولمتطلبات العمل الوطني، وحيث لمست وإخواني في القيادة الفلسطينية هاجسها الأكبر: حماية وتصليب الوحدة الوطنية، وهو ما سعت دائماً لتكريسه عبر دورها القيادي الرائد في الهيئات القيادية للمقاومة في بلادنا. وعزاءنا في رحيلها أنها شهدت البدايات الصعبة لإعادة بناء وإعمار الوطن الكبير فلسطين التي سيذكر شعبها دائماً فقيدتهم وهو ماضٍ في طريق بناء دولته المستقلة فوق ترابه الوطني»■ وسام الإستحقاق والتميَّز ■ وفي شهر تشرين الثاني/ نوڤمبر من العام 2011 منح محمود عباس، رئيس اللجنة التنفيذية لـ م.ت.ف، وسام الاستحقاق والتميز، للمرحومة السيدة سميحة خليل، وذلك تقديرا لدورها في العمل الوطني العام، ونضالها في مواجهة الإحتلال، وإسهاماتها في ريادة الحركة النسائية والعمل الديمقراطي في فلسطين■ ساجي خليل 26/2/2013
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) شريف كناعنة، عبد اللطيف البرغوثي، كتاب «مناضلة من فلسطين_ دراسة في حياة ونضال سميحة خليل»، ص 144-156، البيرة 1992. (2) مجلة «التراث والمجتمع»، العدد 43، ربيع 2006، ص 85، مركز دراسات التراث الفلسطيني، جمعية إنعاش الأسرة، البيرة. (3) + (4) + (5) نفس المصدر. (6) مجلة «كوتيريت راشيت» الإسرائيلية ، العدد السادس، ص 20، 21، بتاريخ 15/1/1983. (7) http://www.elections.ps/LinkClick.aspx?fileticket=UK3c6VTnImU%3d&tabid=578&mid (8) مجلة «التراث والمجتمع»، العدد 43، ربيع 2006، ص 89، مركز دراسات التراث الفلسطيني، جمعية إنعاش الأسرة، البيرة. (9) صحيفة «النهار» اللبنانية، 15/1/1996 (10) + (11) مجلة «التراث والمجتمع»، العدد 43، ص 153، 154، 157، مركز دراسات التراث الفلسطيني، جمعية إنعاش الأسرة، البيرة. ربيع 2006. (12) مجلة «الهدف»، العدد 1234، 10/3/1996، بيروت.
آمنة الريماوي.. من أجل وطن حر وشعب سعيد 1957-2021 • من أجل الحرية والسيادة والاستقلال، من أجل القدس، العاصمة الأبدية لدولتنا، من أجل العودة إلى الديار والممتلكات، تترى قوافل الشهداء، وهم الذين قدموا أعز ما يملك الانسان في سبيل الوطن، قدموا حياتهم، ضحوا بحريتهم، برزقهم، بصحتهم، من أجل أن ترتفع راية فلسطين فوق كل ركن من أركان أرضنا المقدسة، ومن بين هؤلاء الرفيقة المناضلة آمنة الريماوي التي كَرَّست حياتها، وأفنت زهرة العمر في خدمة القضية الوطنية، دفاعا عن الوطن ضد المحتل الغاصب من جهة، ودفاعا عن حقوق العمال والكادحين وصغار الكسبة من جهة أخرى، من أجل أن يحصلوا على حقوقهم. • إبنة بيت ريم شمال غرب مدينة رام الله، تَفَتَّحَ وعيها السياسي إبّان حرب حزيران/ يونيو 1967، حيث حَفَرَ في الذاكرة واقع لجوء عدد كبير من أبناء بلدتها إلى المُغُر الطبيعية المحيطة بها حماية من قصف طيران الإحتلال. وتطورت مشاركتها في العمل السياسي منذ العام 1969، تاريخ إنتمائها للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، بعد أن تبرعمت بداياته من على مقاعد صفوف المدرسة. • منذ بداية إنخراطها في العمل الوطني المنظم وحتى العام 1977، عملت آمنة بنشاط في الدفاع عن حقوق العمال الفلسطينيين من أجل تحسين ظروف عمل النساء والرجال؛ ومن عضوية الهيئة الإدارية للإتحاد العام في رام الله عام 1978، إنتقلت عام 1985 إلى موقع نائب رئيس إتحاد العمال الفلسطينيين، وبقيت في هذا الموقع حتى عام 1994، حيث عملت للحصول على حقوق المرأة في المساواة بالأجر وبكامل شروط العمل، كما عملت على إنشاء مركز للدراسات العمالية مقره في رام الله. • لقد كان شعار فقيدتنا الغالية، وطن حر وشعب سعيد، وطن حر بخلاصه من الإحتلال والاستيطان والتهويد، وشعب سعيد ينعم بالخيرات التي ينتج وبثمار عمله وجهده، وبخلاصه من الاستغلال. هذا ما يلخص حياة فقيدتنا الغالية وهذا ما يسلط الضوء على أهداف سعت بدأب من أجل تقدمها، وبالنتيجة إنتصارها، وهي القائدة المؤسسة في الحركة النقابية والرائدة في صفوف الحركة النسائية■ ■■■ • في هذا اللقاء المبارك الذي يجمعنا وعلى وهج أحداث متواترة شهدناها في الأيام الأخيرة، نجدها مناسبة للتعبير عن موقفنا حيال هذه الأحداث، فعملية الإغتيال الآثمة التي أودت بحياة ثلاثة مناضلين في نابلس، من قادة «كتائب شهداء الأقصى»، إنما تؤكد على صحة الطريق الذي اختطوه لأنفسهم، وعلى مدى الخطورة التي يمثلها هذا الطريق، لا بل هذا الخيار على الإحتلال الغاشم. من هنا، نحن لا نكتفي بإحياء ذكرى هؤلاء بالتزامن مع إحياء الذكرى الأربعين لفقيدتنا الغالية، بل نؤكد إلتزامنا بالأهداف التي قدموا أرواحهم في سبيلها. • أما بالنسبة لانعقاد المجلس المركزي في دورته الـ 31 - 2022، فنحن نعتقد أن المشاركة بأعماله في الظرف الذي تجتازه القضية الوطنية، هذه المشاركة تنبع من الضرورة الوطنية التي تبرز أولوية الدفاع عن الكيانية الوطنية الفلسطينية، بصرف النظر عن نقاط التلاقي أو التباين، كما تُعَبِّر عنها القرارات الصادرة عن المجلس المركزي. • إن الكيانية الوطنية التي تجسدها م.ت.ف، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا تملي علينا كوطنيين فلسطينيين أن نصون المنظمة ونوطد أركانها، وفي الوقت الحالي تملي علينا الحرص الشديد على دور مرجعيتها التشريعية التي باتت تقتصر على المجلس المركزي بعد أن تم حل المجلس التشريعي، وبعد أن قرر المجلس الوطني أن تكون دورته الـ 23-2018، هي الدورة الأخيرة التي تنعقد بالقوام القائم حالياً، وبعد أن خوَّل المجلس المركزي بمسؤولياته ومهامه وصلاحياته في فترة عدم إنعقاده، وإلى أن يُعاد تشكيل المجلس الوطني بالإنتخاب بشكل رئيسي، وبالتوافق حيث يتعذر إجراء الإنتخابات. • يبقى أن يُقال، إن أهم القرارات وأكثرها إستجابة للمصلحة الوطنية، تفقد قيمتها عندما لا تنتقل إلى حيِّز التنفيذ، وهذا ما نطالب به من موقعنا في النضال الوطني، ونلتزم بالإضطلاع بدورنا إلى جانب دور الأخوة والرفاق في الحركة الوطنية الفلسطينية بكل الوسائل الشرعية المتاحة كي ترى هذه القرارات النور، التي من خلالها تتقدم المسيرة الوطنية، وعلى هذا يعلق شعبنا أوسع الآمال■ ■■■ • لقد إحتلت المناضلة آمنة الريماوي موقعاً قيادياً في عداد اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أسهمت في إغناء النقاشات بالمخرجات والقرارات الصادرة في ختام كل دورة من دورات اللجنة المركزية، كما إستحقت بجدارة عضوية المجلس الوطني الفلسطيني، ليس باعتبارها مناضلة في الجبهة الديمقراطية فحسب، بل وكذلك ممثلة لآلاف العمال والعاملات المنضوين في الإتحاد العام للعمال الفلسطينيين. لقد قدمت المناضلة آمنة الريماوي نموذجاً إستثنائياً لما تكون عليه المرأة الفلسطينية، حين تكرس حياتها وجهودها في خدمة وطنها وشعبها. • إذ نقف بخشوع أمام ذكرى رحيل المناضلة الطليعية، الرفيقة العزيزة والمحبة، آمنة الريماوي، فلنجدد العهد على المضي قدماً في درب النضال من أجل الأهداف السامية التي أمضت رفيقتنا آمنة، سني العمر من أجل إنتصارها، إنطلاقاً من عضويتها في الجبهة الديمقراطية، وعضويتها في المجلس الوطني الفلسطيني– 1985/1988، ومن قلب المعتقل، حيث أمضت أكثر من عامين– 1991/1993 أسيرة في زنازين الإحتلال. وما ترشيح الرفيقة آمنة الريماوي من ضمن 1000 إمرأة من حول العالم لنيل جائزة نوبل للسلام للعام 2005، سوى التعبير عن مكانتها في المحافل الدولية، كقائدة شعبية في الحركتين النسائية والعمالية معاً، إنطلاقاً من ميدان العمل الوطني التي كانت دائماً تحتل موقع الصدارة في ساحاته ومنابره■
ندى طوير 12/2/2022
شادية أبو غزالة.. أول شهيدة فلسطينية بعد إحتلال الـ 67 1949-1968 ■ بدء المعرفة ... معرفتي بشادية، التي أرى لزاماً علي أن أطلعكم عليها لتتعرفوا على الرسالة التي حملتها منذ نعومة أظفارها وحتى مطلع شبابها ... وأقول مطلع الشباب لأنها استشهدت ولم تكن أتمت العشرين من عمرها. هي لقطات من الطفولة لا مثيل لها، أذكرها بوضوح: - مدرسة الفاطمية، عام 1954 في مدينتنا الحبيبة نابلس. - الصف الأول الابتدائي، بدء العام الدراسي، حيث كانت خطواتنا الأولى المستقلة خارج دائرة البيت الأهل. - المعلمة، المرحومة ست صبرية أبو غزالة، تمسك بيد إحدى طالبات الصف، التي تبدوا أصغر منا سناً، تحملها فوق الطاولة، وتتركها لتخبرنا شيئاً ... وإذ بإبنة صفنا الصغيرة تأخذ بالإنشاد، بكلمات غير واضحة تماما لنا: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الرِدى فإما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العِدى ■ نعم ... هذه كانت رسالة شادية أبو غزالة التي حملتها، وبَلَّغتنا بها مبكراً وهي في الخامسة من عمرها، وظلت هذه الأبيات الأحب إلى نفسها في الشعر، وكبرت معها. لقد ترعرعت شادية، وسط عائلة وطنية تهتم بالأدب والثقافة، ولا عجب أن أنشدت ما أنشدته وهي في الخامسة من عمرها. أما رسالتها الأخيرة ... فكانت في صيف عام 1968 قبيل استشهادها، حيث كانت تنشد دوماً، ولم نكن نعلم إنها رسالتها الأخيرة: أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح وهي العبارة التي خُطّت على شاهد مثواها الأخير... وكانت لنا جميعاً ولصديقاتها بمثابة رسالة تكليف بالمهمة من القائدة المقدامة، النموذج في النضال والتضحية والإلتصاق بالوطن والشعب. ■ ولدت شادية نايف أبو غزالة عام 1949 في نفس الغرفة التي فارقت فيها الحياة، فاحتضنت غرفتها المحببة إلى نفسها، أشلاءها التي انتشرت على الجدران بسبب إنفجار العبوة الناسفة، التي كانت معدة لوضعها في عمارة شالوم في مدينة تل أبيب في اليوم التالي– ذاك البيت الذي يطل على مدرسة الفاطمية، حيث أنهت شادية المرحلة الابتدائية والإعدادية، وأكملت الدراسة الثانوية في مدرسة العائشية. ■ شادية صاحبة العينين البنيتين الصغيرتين اللامعتين، اللتين تطلان بحرص وتفقد لكل ما حولهما، وصاحبة البشرة البيضاء المشربة بالحمره الخجولة، رشيقة الحركة، مشرقة الإبتسامة، تميزت منذ طفولتها بشخصية قوية مستقلة فريدة من نوعها، تجمع ما بين الرقة والشفافية من جهة، والصلابة من جهة أخرى، جريئة شجاعة، وخجولة متواضعة إلى درجة سرعة إحمرار الوجنتين عند أدنى إنفعال، صريحة وواضحة لا لبس في حديثها، وفي الوقت نفسه غامضة متكتمة غير مفرطة في الكلام، هادئة حالمة وديعة ... وهي متمردة على الرتيب المألوف ... وثائرة كالبركان في وجه عدوها وعدو شعبها. ■ كانت هذه الصفات لها موقعها ومكانها في شخصية شادية فكانت تعشق الأطفال والزهور والقمر والشجر، كنا نرى ذلك في الصور التي كانت تلتقطها بكاميرتها الخاصة، وتجمعها وتعلقها في غرفتها، ونرى ذلك نحن بنات صفها ومعلماتها في الجمل التي كانت تُكَوِّنها للتعبير عن معاني المفردات سواء في اللغة العربية أو الإنجليزية. ■ كانت صلبة حديدية لا تساوم في المباديء والثوابت التي تحملها، ولا عجب أن حسمت أمرها عام 1967، وكانت قد أنهت للتو السنة الأولى من دراستها في جامعة عين شمس بالقاهرة، في الوقت الذي كانت من المتفوقات والمحبات للمادة التي تدرس - علم النفس والإجتماع، حسمت أمرها دون جدال بالبقاء في الوطن، فأكملت دراستها في كلية النجاح في نابلس، حيث الإحتلال وشعبها ورسالتها التاريخية. وكانت ترد على كل من حاول إقناعها البقاء في القاهرة لإكمال دراستها بالقول: «ما فائدة الشهادة الجامعية، إذا لم يكن هناك جدار أعلقها عليه». ■ كانت شادية – كما جاء في سيرتها في كتاب شؤون المرأة / إعداد سالم ريحان، وكما أعرفها، تعشق البلدة القديمة، بأبنيتها وجدرانها، ودهاليزها وحاراتها، قدمها وتاريخها، تمشي وهي تتجول في أزقتها المعتمة وكأنها في حالة توحد مع عالم سحري، حالة من العشق الممارس، تمتص الجدران وهي تنظر إليها وترفع عينيها في المشاركة مع الآخرين؛ وأضيف: أنها هي التي عَرَّفتني على البلدة القديمة وأزقتها حيث كنت أسكن في رفيديا. ■ عُرف عن شادية الجرأة المتناهية، وقوة العزيمة، فلم تكن لتعترف بتمايز بين الفتاة والشاب، يمنح الأخير تفوقاً عليها، بل كانت تقوم بكل ما يطلب منها، أو قدر أن عليها القيام به، أو من حقها القيام به، بدءاً من حضور عرض سينما بمفردها لفيلم «رعب» - وكان يبدو هذا غريباً في نابلس ... في تلك الأيام- أو لحضور ندوة تعج بالشباب وعدد الفتيات فيها أقل من أصابع اليد الواحدة في مكتبة بلدية نابلس، وإنتهاء بالتدريب على السلاح والمتفجرات ونقلها وإخفاء الشباب في بيتها، وزيارتهم في الجبال والمغر ... إلى القيام بالعمليات العسكرية المسلحة. ■ إلى جانب ذلك كله، كانت – كما ذكرت – تبدو شديدة الغموض، متحفظة في الحديث، شديدة التكتم، الأمر الذي جعلها تنجح في الإنغلاق على أسرار عملها وعمل من يحيطون بها، لدرجة ان أهلها – أقرب الناس إليها – على حد تعبير شقيقتها د. إلهام كانوا يجهلون تماماً طبيعة الأعمال التي تقوم بها والعلاقات التي تحيط بها، مع أنها ابتدأت مسيرتها النضالية وهي في الرابعة عشرة من عمرها - وكنا في نهاية المرحلة الإعدادية – أثناء مرحلة المد القومي، مرحلة تأثرنا فيها بالحركة الناصرية، والفكر القومي، فكانت بداية العمل النضالي المنظم لشادية في صفوف حركة القومين العرب التي تطورت لاحقاً في الساحة الفلسطينية إلى العمل بصيغة «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». ■ إثر هزيمة حزيران/ يونيو 1967، كان الخيار التاريخي للثوره الفلسطينية المعاصرة الكفاح المسلح لدحر العدوان وتحرير فلسطين، وكانت شادية في طليعة المناضلين والمناضلات ضمن هذا الخيار وتحت رايته. أصبحت رسالتها أكثر وضوحاً ونضجاً ... قادت شادية تنظيم الفتيات في نابلس، وشكلت أول خلية نسائية مسلحة - حيث كانت قد تدربت في معسكرات الثورة - هذه الخلايا هي التي قامت لاحقاً، وبعد إستشهاد شادية، بجملة من العمليات العسكرية الناجحة والمعروفة في حينها. ■ حين زارت عمارة شالوم في تل أبيب، قالت سأدمرها على رؤوسهم، وخططت لذلك، لكن الخطأ وسره ذهب معها ... إنفجرت العبوة بها في بيتها، وقد تم التعرف عليها بعد استشهادها عبر خصلة من شعرها وجزء من ملابسها. جميع أهل نابلس يذكرون تلك الليلة، في السابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوڤمبر 1968، حين أعلنت مدافع نابلس بدأ صوم شهر رمضان الكريم، وكان المدفع الأخير، إعلان استشهاد شادية أبو غزالة، الذي شكل عند بنات نابلس ورفيقات وصديقات شادية نقطة البداية في الكفاح النسائي المسلح، فكانت لحظة استشهادها بالنسبة لهن ... لحظة إدراك الحقيقة، ومعرفة الطريق ... لتحرير فلسطين. ■ بكاها أهل نابلس بحرارة، وخرجوا جميعاً لتشييع جثمانها، حيث إختطفه الشباب من المستشفى الوطني بعد اشتباك مع جنود العدو سقط إثره أكثر من شهيد، وسارت مسيرة هي الأولى من نوعها حتى ذاك التاريخ في شوارع نابلس وباتجاه المقبرة الغربية، حيث ووريت الثرى الذي فدته بروحها ونُقِشَت على قبرها رسالتها الأخيرة: «أنا إن سقط فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح»■ ماجدة المصري تشرين الأول/ أكتوبر 2024
أم ناصر .. هي نجلاء ياسين ياسمينة الشام وعرقها الأخضر الجميل، القومية العروبية، فلسطينية القلب والروح 1937-2015
■ يناديها الجميع باللقب الذي تحبه كثيراً: الأخت أم ناصر. وناصر هو الرمز المعنوي لعشرات المناضلين الفلسطينيين الذين أحبتهم أم ناصر كأبنائها وأحبوها كأم روحية لكل واحد منهم. هي الإبنة المخلصة لحركة فتح والثورة الفلسطينية، بتقاليدها الوحدوية وجدلية علاقاتها الكفاحية والإنسانية المترابطة التي بناها القادة والرعاة الاوائل منذ منتصف الستينات.. لشعب خبر صنوف القهر وإنكار نعمة الحياة العادية كما يعيشها بنو البشر. ■ تشرفت بمعرفتها منذ المؤتمر الرابع للإتحاد العام للمرأة الفلسطينية الذي عقد في تونس عام 1985، وبعد ذلك في اجتماعات الأمانة العامة للإتحاد، وأنشطته في الشتات ثمّ على أرض الوطن. كان المخاض السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية عسيراً وشاقاً من ظلم ذوي القربى أو القوى الاستعمارية، وكان الإتحاد على محكّ «القسمة أو الثبات على مكوناته التمثيلية السياسية المتعددة في إطار الوحدة»... بعد الزلازل التي عصفت بالحركة الوطنية الفلسطينية إثر الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 ثم بعد اتفاق أوسلو. وكان القرار الوطني الحكيم بالحفاظ على كنز الوحدة الوطنية في إطار مؤسسات منظمة التحرير. كانت أم ناصر منحازة بلا تردد لهذا الإتجاه وبقيت أمينة ومخلصة لمباديء الوحدة في سلوكها السياسي والإنساني والإجتماعي. ■ أما غزّة التي عادت اليها مع من عادوا بعد عام 1994، فلها مع أهلها حكاية إستثنائية، فقد أحبت أم ناصر مجتمع غزة كما لم تحب أحداً من قبل، دافعت عن ابنائها وبناتها وتبنت مطالبهم الإنسانية أمام «الختيار» الذي كان يتوقع دائماً في كل مقابلة معه أنّ بحوزتها عشرات طلبات التوظيف والمعالجة للفقراء والذين أنهكتهم مصائب النكبة واللجوء.. وظل الوفاء حياً بينها وبينهم حتى بعد مغادرتها القسرية غزة بسبب المرض – إلى القاهرة. ■ لن أنسى دورها في الإنتفاضة الثانية عام 2000 وكانت لا تزال في غزة، عندما تصلها شحنة المساعدات العينية من الهيئات النسائية في الأردن التي ترأستها الراحلة عصام عبد الهادي الرئيسة السابقة للاتحاد العام للمرأة الفلسطينية: تتصل من غزة وهي تفيض غبطة وفرحاً، ثم تسارع الى تشكيل لجان من مستقلات وممثلات عن جميع الفصائل لتوزيع المساعدات على الاسر والشباب والاطفال، والعنوان دائماً هو دعم صمود الانتفاضة الباسلة. إستنفرت معارفها وأقاربها في الخليج لتقديم الإسناد الممكن، وكم كانت فخورة بما قدمته شقيقتها الراحلة الحبيبة فرقد وابنتها الغالية نبيلة: مساعدات نقدية ومادية لأطفال غزة المقاومين الصغار الذين كبروا في أحضان اللجوء والحرمان من الوطن. ■ المسيرة طويلة ومشرّفة من عمان إلى بيروت وتونس ثمّ غزّة إلى ان استقرت مرغمه في القاهرة بعيداً عن الوطن الذي أحبت وعن المجتمع السياسي والإنساني الذي أسكنها قلبه وأسراره ومعاناته التي لا تنتهي. شهد بيت أم ناصر حيثما تنقلت في العواصم على حوارات القادة الفلسطينيين الكبار، واستقبل ضيوفهم العرب وغير العرب، كما شهد استقبال قيادات نسائية عربية وعالمية رفيعة.. وفتح أبوابه لأبناء وبنات فلسطين الذين جلسوا – على طاولة طعام الخالة والأخت الحبيبة أم ناصر. فالقلب الكبير يتسع للجميع.. وفي زواياه العميقة أسرار مكتومة ظلت مؤتمنة عليها حتى وفاتها. ■ أحبت رفيقاتها وصديقاتها اللاتي عملن معاً في مجالات منظمة التحرير، لم تتوقف يوماً عن السؤال عن كل واحدة منهنّ.. أيتها الحبيبة أم ناصر نفتقدك وأنت تحوزين على مساحة خاصة في وجدان كل منا.. يعزينا أنك ستنضمين في دار الحق إلى جميع من أحبت روحك الطاهرة وسبقنك إلى الرحيل؛ ستبقين في ذاكرتنا ياسمينة الشام وعرقها الأخضر الجميل.
عبلة ابو علبة شباط/ شباط 2016
الفصل الرابع
أُدباء في دروب العمل الوطني
■ محمود درويش ■ سالم النحاس ■ الياس خوري ■ جبرا إبراهيم جبرا
محمود درويش.. مضى ... ولم يترك الشعر وحيداً 1941-2008 ■ رحل محمود درويش ومن حول صمته المسجى، إشتعل الكلام مسربلاً بالفجيعة ... ولكن من أي معجم سينهل المرء ليأتي بمرثية تليق بقامته، وهو الذي أدى المهمة إلى حد الإكتمال، وعلى لسانه ودعت الكلمات سيدها الذي مدها ببهائه وسحر بلاغته في إيجازه البليغ وإسترساله المقتضب. درويش أنصف اللغة فأعطى مفرداتها معانيها التي خلقت لأجلها، وأطلقها كعصافير خياله الجانح، قصائد رمت الناس بالتفاؤل وأعانتهم على تجاوز الخيبات الكبيرة التي عصفت بحياتهم. رحل درويش بعد أن مد قوس الشعر إلى أبعد مدياته، وغنّت أجيال متعاقبة على إيقاع أناشيده ... كيف لنا أن نجد ما يعيننا على رثائه، وهو الذي وضعنا على ضفتي إحتمالين يمكن حدوثهما معاً في الوقت نفسه، «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، و«قد إمتلأت بكل أسباب الرحيل». رحل سيد الشعراء بعد أن نثر قصائده في فضاءاتنا ... فلربما تعيننا على ما تبقى لنا من الشقاء ... والإحتمالات المفتوحة. جاء نبأ رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش مربكاً ومفاجئاً، حيث تناولت وسائل الإعلام الخبر بأن درويش توفي لتنفيه مرة أخرى، ومن ثم تعود وتؤكد الخبر من جديد، مدعماً بشهادة الطبيب المشرف على حالته الصحية، أن درويش توفي منذ خمس وأربعين ثانية بالضبط ... إذن درويش رحل ولكن هذه المرة إنتصر على الموت بالموت ... سبع وستون مدى عاشها درويش حالماً بتغيير ملامح القصيدة، فمن قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر والشعر الحر ... سبع وستون مدى مليئة بالمواجهة والثورة ... مليئة بالحب ... مليئة بدرويش ...■ البدايات ■ ولد درويش في قرية البروة/ قضاء عكا، والتي غادرها عام 1948، وكان حينها قد بلغ السابعة ليستقر مع عائلته في جنوب لبنان، ومن ثم عاد مع أسرته سراً إلى قريته ليجدها مهدمة، فأقاموا في قرية دير الأسد في منطقة الجليل. إعتبره الاحتلال الإسرائيلي آنذاك/ الحاضر الغائب/ لأنه لم يُشمل وأسرته بالإحصاء السكاني، فكانت تلك أول أزمة يتلقاها درويش بما يخص هويته، فظلت راسخة في ذاكرته، ويرد بقصيدة «سجل أنا عربي» عام 1967. درس الثانوية ومن ثم أقام في مدينة حيفا، والتي لطالما إعتبرها درويش مدينته بالتبني، كما سماها وكان ذلك مطلع الستينيات، وهناك عمل محرراً في صحيفة «الإتحاد» الحيفاوية، حيث تعرض خلال هذه الفترة للإعتقال والإقامة الجبرية، ومن ثم غادر فلسطين إلى الإتحاد السوڤييتي ليعود إلى القاهرة، تلك المدينة التي أذهلته فيقول: «لقد ذُهلت عندما شاهدت لأول مرة مدينة كل من فيها يتكلم بالعربية»■ أعماله الشعرية ■ بداية درويش بديوان «أوراق الزيتون» 1964، ثم «العصافير تموت في الجليل» 1969، و«حبيبتي تنهض من نومها» 1970، و«تلك صورتها وهذا إنتحار العاشق» 1975، و«أعراس» 1977، و«مديح الظل العالي» 1983، و«حصار لمدائح البحر» 1984، و«هي أغنية ... هي أغنية» 1986، و«ورد أقل» 1987، و«أرى ما أريد» 1990، و«أحد عشر كوكباً» 1992، و«سرير الغريبة» 1995، و«لماذا تركت الحصان وحيداً» 1996، و«جدارية 2000 ميلادي»، و«لا تعتذر عما فعلت» 2004، و«كزهر اللوز أو أبعد» 2005، وإنتهاءً بديوانه الأخير «أثر الفراشة» 2008■ شاعر الصورة والقضية ■ بدا ذلك جلياً في حياة محمود درويش، الشعرية والشخصية، حيث أن فلسطين التي حملها وحملته لم تغادر سجلاته الشعرية الأدبية، هو من نقل فلسطين عبر قصيدته «إلى معظم صالونات الأدب في العالم»، ولا زلنا نتذكر قول درويش: «على هذه الأرض ... سيدة الأرض ... أم البدايات ... أم النهايات ... كانت تسمى فلسطين ... صارت تسمى فلسطين». فغذا بذلك الناطق الوحيد والأوحد الذي يختصر فلسطين في كل أنحاء العالم وضميرها ووجدانها■ تحولات القصيدة ■ لطالما تمايلت قصيدة محمود درويش، بين فراسته كشاعر ونرجسيته المحسوسة أحياناً كثيرة، فكثيراً ما ورد في قصائده «أنا» و«لي»، ولعل نرجسيته وفرديته تبدو واضحة حين يقول: «آية الكرسي والمفتاح لي والباب والحراس والأجراس ... لي ما كان لي ... وقصاصة الورق التي إنتزعت من الإنجيل لي ... والملح من أثر الدموع على جدار البيت لي ... واسمي إن أخطأت لفظ اسمي، بخمسة حروف أفقية ... التكوين لي: ميم/ الميتم والمتيّم والمتمم ما مضى ... حاء/ الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان ... ميم/ المغامر والمعد المستعد لموته ... الموعود منفياً، مريض المشتهى ... واو/ الوداع، الوردة الوسطى ... ولاء الولادة أينما وجدت، ووعد الوالدين ... دال/ الدليل، الدرب، دمعة، دارة درست، ودوري يدللني ويدميني ...». • وربما كان المنفى وسنوات الشتات في الداخل والخارج سبباً قوياً في متانة علاقته وفتنته باللغة «كلما طال منفى الشاعر توطدت إقامته في اللغة». محمود درويش إختار المنفى ليشارك شعبه الألم والمأساة، ويخيط من ألمه ومأساته لغة وصورة فريدة من نوعها، فهو منفى لا ينتمي إلى أي مكان خارج ذاكرته الأولى ... يضخم المنفي جماليات بلاده، ويضفي عليها صفات الفردوس المفقود ويتساءل «هل أنا إبن التاريخ، أم ضحيته فقط»؟ • أما بالنسبة لعلاقة درويش بقصيدة النثر، فلطالما شدته بإغوائها وسحرها، فظل مشدوداً لشكلها ولروحها، ولعل محمود درويش كان يكتب وفي شريط ذكرياته تمر دوماً، صور للمتنبي ولوركا وأبو تمام ورينيه شار وغيرهم ممن حيّروه وخاطروه، فكانت قصيدته مزيجاً غريباً لأسماء ومدارس وأزمنة مختلفة، وكان دوماً يدعو للخروج من سلطة الشعر ورد الإعتبار للنص والقصيدة وتبرئة القصيدة من كل ما هو بعيد عنها وعن لغتها وحياكتها، ولم تخلُ قصائد درويش من الغنائية والدرامية، ويبدو تجلي ذلك في دواوينه الأولى «العصافير تموت في الجليل» 1969، و«حبيبتي تنهض من نومها» 1970، ومن الممكن أن نعتبر أن ديوان «ورد أقل» 1987، بداية الخروج من هذه الغنائية الرومانسية العالية ودراميتها الحارة في كثير من القصائد، كما أن درويش كتب ليزاوج بين الغنائية والدراما، التي تتصاعد من خلال قصيدة «سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا». ولعل قصيدة «سرحان» و«محاولة رقم 7» هي شكل من أشكال إبراز الذات المكتملة، وعلينا أن ننتبه في هذا السياق، إلى أن النقد العربي قد أخطأ عندما وصف قصائد درويش أنها قصائد غنائية بحتة، حيث أن الشكل المسرحي أو مسرحة الشعر يبدو واضحاً من خلال كتاباته الملحمية والأسطورية. • حاول دوماً أن يبتعد في شعره عن المباشرة والتسطيح دون غياب التعبير المحسوس في قصائده، وإنسجام الإيقاع الشعري مع حكاياته وملاحمه وأساطيره، هذه الأساطير التي تماهت معها تجارب الفلسطينيين المعاصرة، ونرى ذلك من خلال رؤية درويش لسيرة الهنود الحمر في قصيدته «خطبة الهندي الأحمر ما قبل الأخيرة أمام الرجل الأبيض»، وفي هذه القصيدة نرى براعة درويش وذكاءه الشعري في إسقاط هذه الرواية التاريخية على تجربة الشعب الفلسطيني المعاصرة. • بدأ درويش في الفترة الأخيرة محاولاً كتابة يومياته وربط تجاربه الشخصية في كثير من المفاصل التاريخية للشعب الفلسطيني، ويبدو وضوح ذلك من خلال ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً»، وديوان «سرير الغريبة» وديوان «كزهر اللوز أو أبعد»، محاولاً أن يعبر عن ألمه العميق بمنفاه الشخصي داخل البلاد وخارجها، كما أن إنتصار الحاضر على مشهد الولادة يتأزم الصراع يجعل شكل القصيدة من خلال منظور المنفى الذي يعاني إغترابات نفسية عظيمة، ويصبح اليأس والإحباط مهيمنين على معظم قصائده في الفترة الأخيرة. ... برحيلك يبقى الحلم (حلمك) بتغيير ملامح القصيدة ووجه الشعر قائماً، ويبقى القلب والوطن الحزين مجدداً يخفق بصدى كلامك وقصائدك ورؤيتك، ويبقى ما لا قدرة للموت على التغلب عليه■ وداع لا ينتهي ■ تبقى منارة النجوم في زمن المنايا العربي، في هذا الزمن السجين، نحمل معك الحزن الكامن في العينين، وصوت الحنين، ضد الصمت شروداً. نحتمي من ساعة الفراق بطيفك الجميل، يأخذ الصوت أبعاده، رغم الرحيل لا تكف عن المحاولة، لأن من يحبونك يواصلون نشيدك ... يواصلون ذات النشيد. نحتضنك في غيبتك، ونرفع آهاتنا محبة ... فيكتمل التكوين نضالاً لقلمك في «إعلان إستقلال» ... وطناً يعرف دربه وتاريخه، حين يتخذ مظلته الشمس ... فلا تخنقه في الحب الظلمة والظلمات ... محمود درويش المقتلع من فلسطين، المترحل من فلسطين ... العائد إلى فلسطين ... ها أنت ترفعها نحو اللامتناهي من مبتدأ التاريخ ... من آثار الأجداد، من حروف الضاد ... رهيفاً ... عزيزاً ... عفيفاً ... وفي الحب ضياءً، يا لغة لا يعرفها سوى العاشقين ... يا رهيفاً يصغي لوقع الخطى ... يفتح في الصمت ذاكرة ... حتى غدا الحب والحزن النبيل درويشاً ... حتى صرت منزلاً للقصيدة ... لملامح الدهشة التي تغفو علينا ... أقول ولا أنتهي ... لم يترجل البرتقال ... ولم يترجل الزيتون الفلسطيني ... لم يترجل ورق العناب، وأنت «عاشق فلسطين» الحبيبة ... لغة الأحباب تسكننا فجراً في وطن الضوء ... في وطن الغياب ... ليس غير هذا الدرب يا درويش ... وسحقاً للضباب ... ها أنت «تنتصر على الموت»■
ماهر أيوب آب/ أغسطس 2008
سالم النحاس.. الذي تعزز حضوراً بعد أن مضى 1940-2011 ■ يشرفنا في حزب الشعب الديمقراطي الأردني/«حشد» أن الرفيق الراحل سالم النحاس – أبو يعرب، الإبن البار للأردن ومدينته التاريخية مأدبا كان مناضلاً في صفوفنا منذ سبعينيات القرن الماضي، بل كان واحداً من المناضلين الكبار متعددي المواهب والإمكانات، من أصحاب الطاقات الخلاقة الذين نهضوا بالحركة الوطنية الأردنية في مراحل قاسية وصعبة المراس، دون أن يتوقف يوماً عن السير نحو حلمه بحياة خالية من القهر والإضطهاد، ووطن سيد حافل بالعدالة والمساواة. ■ لقد أدرك كبيرنا في وقت مبكر من حياته عمق العلاقة المتفاعلة بين التاريخ الوطني الأردني، والتاريخ الوطني الفلسطيني، وكل ما يترتب على ذلك من رؤى ومهام وبرامج متداخلة، متداعية بين الحركتين الوطنيتين: الأردنية والفلسطينية. وعليه، فقد أمضى الرفيق سالم سنوات من عمره معتقلاً وهو الذي لا يطيق الضيمِّ، ولا يليق بمثله أن يقبع خلف جدران سجن. كما أدرك أيضاً عمق العلاقة بين مسارات الأدب والسياسة، فجمع بينهما ببصيرة إنسانية عميقة وانحياز لا مراء فيه لخوض معركته في حياته الشاقة دون أن يتخلى عن كامل الأسلحة التي يوفرها له الأدب والعمل السياسي والإلتزام بحزب الشعب الديمقراطي الأردني/«حشد» الذي أصبح سالم عنوانا له وفارساً مقداماً من فرسانه الشجعان. ■ سالم النحاس: هو الذي عرفه الأردنيون جيداً، السياسيون والأدباء والنخب الثقافية، فقد كان له الفضل الأكبر في تأسيس «رابطة الكتاب الأردنيين»- 1974، وشهد بيته الصغير المتواضع عشرات الإجتماعات التحضيرية طيلة عام 1973 لكبار الأدباء والكتاب: خليل السواحري، إبراهيم خليل، جمال ناجي، عبدالرحمن ياغي، إبراهيم العبسي، مؤنس الرزاز، خالد الكركي، محمود شقير.. وغيرهم؛ وهذا في زمن كانت تحاصر فيه الأحكام العرفية الأحزاب والمؤسسات الجماهيرية ذات التطلعات التحررية.. وكان أن ولدت «الرابطة»: المؤسسة الثقافية التقدمية الأهم في البلاد. ■ يقول عنه أحد أصدقائه في إستعادة لجملة قيلت في المتنبي عبقري الشعر العربي الذي لا ينازع: «سالم النحاس ماليء الدنيا وشاغل الناس»، حيث يشهد له الجميع براعته في إدارة التكتيك السياسي، ومثابرته التي لا تنقطع في متابعة الشأن العام وتوظيف إمكاناته المتنوعة في خدمة ثقافة الحداثة والتطور ودحض ثقافة الظلم والظلام؛ أما في مواسم الإنتخابات التي كانت تشهدها الرابطة سنوياً، فقد كان يديرها ببراعة، ولا يعرف أصدقاؤه من أين يستحضر كل هذه الإمكانات للتعامل مع مختلف التيارات السياسية والفكرية، متجاوزاً المصاعب والحساسيات، وصولاً إلى بر القاسم المشترك. دون كلل، أو توقف، أو ملل.. وكم كانت لحظة مثيرة تلك التي جرى فيها إنتخاب سالم النحاس للهيئة الإدارية لـ «رابطة الكتاب الأردنيين» أثناء وجوده – في مطلع الثمانينيات - في السجن معتقلا، ولكنه حر أيضا، إرادة وفكراً، فقد أجمعت كافة التيارات في الرابطة على إنتخابه، إنحيازاً للحرية وللدور المتقدم للمناضل الكبير. ■ أسس سالم النحاس صحيفة «الأهالي» الناطقة باسم حزب الشعب الديمقراطي الأردني/ «حشد» عام 1989 حيث تزامن نشوؤها مع بدء مرحلة الإنفراج الديمقراطي في البلاد واستقدم لها كتابا مرموقين، وآخرين ناشئين جرى تدريبهم على الكتابة في الصحافة السياسية المعارضة بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على الأحكام العرفية. كان للصحيفة ولازال دور بارز في الحياة السياسية العامة، وفي توطيد علاقة القواعد الحزبية بالبرنامج السياسي. كان سالم هو عراب «الأهالي» بلا منازع، فقد رعاها طيلة خمسة عشر عاماً من حياته، مقدما خلاصة جهده الفكري والسياسي والأدبي، دون أن تثنيه أية عقبات نشأت بسبب خطها المعارض للسياسة الرسمية في البلاد. وصمدت «الأهالي» ومناضلوها وهم الذين يحملون روحا كفاحية عالية وقلماً لا يغفو ولساناً لا يعرف الصمت على الضيم. لقد سبق الرفيق سالم مثقفون ديمقراطيون مميزون أسهموا بجدارة في النهوض بالثقافة الوطنية في البلاد وأحاطوا بجدلية العلاقة الأردنية - الفلسطينية مستنيرين بما أقره أول مؤتمر وطني أردني عقد في عمان عام 1928، وكان للرفيق علاقة حيّة مع أصدقائه المناضلين والأدباء، سواء كانوا أحياء أم أمواتاً، فقد كان يُخَيَّل لي وهو يتحدث عن الراحلين الكبيرين: عرار/ مصطفى وهبي التل، وتيسير السبول أنهم موجودون بيننا. ■ رشَّح الحزب سالم النحاس للإنتخابات النيابية لأكثر من دورة منذ عام 1989، ولا ينسى الرفاق تفوقه في الخطاب السياسي وقدرته على التأثير في المزاج العام، ولا زلنا نذكر أيضاً كيف حمله أهل مخيم البقعة على الأكتاف في الحملة الإنتخابية الواسعة التي شاركت فيها كل أطراف الحركة الوطنية آنذاك بعد سنوات طويلة مما كان يُعرف بمرحلة العمل السري. لقد طالت العقوبات الرفيق سالم طيلة حياته بسبب إنتمائه السياسي حيث فُصل من عمله وأُبعد من البلد العربي الذي كان يعمل فيه، وكم كانت الخسارة كبيرة عندما أقعده المرض وحال بينه وبين نشاطه السياسي الفائق، وإبداعاته الخلاقة التي لم تتوقف ليس على المستوى الوطني الأردني فحسب، وإنما على المستويات القومية، كما برزت أثناء الإنتفاضة الأولى في فلسطين المحتلة، والحصار الطويل للعراق الشقيق؛ ولم تهدأ روح سالم النحاس حتى بعد إصابته بالمرض، وظل يكافح من أجل أن يستمر دوره النضالي. ■ أما ما يجري اليوم في العالم العربي، فهو يليق بأن يكون ميداناً لروايات سالم النحاس وسعة خياله السياسي.. فمهما تعثرت، وأينما ضَلَّت الطريق، فلا بد للثورات الشعبية أن تعود إلى أصالتها، وقوانينها الطبيعية بعيدا عن الإستهلاك السياسي وهيمنة الفئة، وتغول القطب الواحد.. لا بد لكل هذه الإحتجاجات والإنتفاضات والثورات بمستوياتها المختلفة، من أن تقطف حقوقها المشروعة في العدالة والحرية والمساواة والكرامة الوطنية بعد أن ذاقت شعوبنا العربية مرارة التفرد والإقصاء واحتكار السلطة والموارد وعودة الإستعمار إلى المنطقة بأقبح أشكاله وأشرسها. وعندما يتوفر كل هذا المخزون الهائل والقدرة غير العادية على مواصلة الطريق وابتكار أشكال التغيير والتعبير عن الاحتجاج؛ أو عندما تُنبت تربتنا العربية هذا القدر من المناضلين والأكفاء والضمائر الناصعة، فلا بد أن يطلع الفجر الذي طالما ترقبناه دون أن يأتي. ■ لقد رحل عنا مناضلون كثر لن ننساهم، ولن تُمحى إنجازاتهم على طريق الكفاح الصعب الطويل ومن حق كل المناضلين الذين رحلوا عنّا أن نفي لهم بالوعد فهم الذين مهدوا الطريق للتحول نحو الديمقراطية والاستقلال الوطني على امتداد عشرات السنين، دون أن يضجروا من ظلام وظلم الإستبداد.. كانوا متيقنين من قدوم الفجر الذي لا بدّ وأن يأتي بهياً مثل أرواحهم الطاهرة. ■ نفتقد صوت الضحكة المجلجلة للرفيق سالم عندما كانت تتكدس أمامنا الهزائم والإنكسارات الكبيرة منها والصغيرة، فهذه الطريقة خاصته التي يعبر فيها عن مقاومة الألم والشعور بالخسارة... ومثلما قال عنه صديقه الكاتب حسين جمعة: «ينظر سالم إلى الحياة بعيني صقر، مضى وهو يأخذ حذره من أجل أن ينطلق من جديد. أبو يعرب، القادم من الصحراء وهو يحمل قيمها وتقاليد أهلها الثقافية لا يرتضي المواقف الرمادية ولا يعرف سوى إختيار واحد: الحياة أو الموت، النصر أو الهزيمة». إلى روح سالم النحاس، ولأرواح الرفاق المناضلين الراحلين: سلاماً ووفاءً لا ينقطعان■
عبلة أبو علبة كانون الأول/ ديسمبر 2024
الياس خوري.. اللبناني، الذي اختار فلسطين قضية 1948-2024 ■ منذ الساعات الأولى لصباح السادس عشر من أيلول/ سبتمبر 1984، تدفقت إلى شوارع مخيم شاتيلا وأزقته الضيقة، جموع ضمَّت آلاف المواطنين، لبنانيين وفلسطينيين، يحيون الذكرى الثانية لمجزرة صبرا وشاتيلا، إندفعت بمسيرة حاشدة إلى المقبرة الجماعية لضحايا المجزرة، رافعين الأعلام اللبنانية والفلسطينية؛ وسار في ركاب التظاهرة التي شهدتها العاصمة اللبنانية بيروت للمرة الأولى، منذ الغزو الإسرائيلي في حزيران/ يونيو 1982، قادة سياسيون، ومؤسسات إجتماعية وكتّاب وصحفيون محليون وأجانب، ومن ضمن هؤلاء كان يسير في المقدمة، كاتب وروائي وصحفي، وصاحب كلمة جريئة، ودور مقدام، إسمه الياس خوري. ■ عاش الياس خوري في مطلع شبابه المرحلة الذهبية للعمل السياسي في لبنان. في تلك الأيام إنطلقت الحركة الوطنية اللبنانية، بتعدديتها وحيويتها الدافقة، بخطى ثابتة نحو إرتياد آفاق التحرر الوطني والديمقراطي في دولة المواطنة والحرية والمساواة؛ وترافقت معها إنطلاقة مقاومة الشعب الفلسطيني، رداً على هزيمة 5 حزيران/ يونيو 67، وبدأت الحالة العربية تعيش منعطفات سياسية، تحت وطأة الهزيمة وفي ظل النهوض الشعبي في المنطقة؛ وبالمقابل، لجأت أطراف التحالف الأميركي- الإسرائيلي إلى تحريك أدواتها وأتباعها والملتحقين بها، والمتضررين من النهوض الجماهيري الكبير، والإطلالة القوية للأفكار والمشاريع التحررية الوطنية الديمقراطية في الإقليم. وفي قلب هذا التحرك في لبنان، كان الياس خوري يعيش في كنف عائلته، في بيروت، العاصمة المتوهجة ثقافة ونشأطاً، التي إنقسمت سياسياً، حتى قبل إندلاع حرب السنتين- 1975/1976، إلى شرقية وغربية، حيث نفوذ الأحزاب الوطنية اللبنانية في الغربية، المتحالفة مع المقاومة الفلسطينية. ■ أدرك الياس خوري أن المقاومة الفلسطينية ليست مجرد «بندقية» أُشهرت بمواجهة هزيمة حزيران والرد عليها فحسب، بل هي حركة تحرر وطني، تشكلت في مراحل النهوض والصمود الكبرى، شقيقة حركات التحرر العربية، متحدرة من صلبها، وواحدة من أهم حركات التحرر في العالم. كما رأى في الإنتماء العضوي، إلى هذه الحركة الوطنية، مخرجاً له من الغوص في معازل الإنتماءات الضيقة، وحلاً عملياً لإثبات خطأ الإدعاء بـ«الطائفة – الطبقة»؛ فلا هذه، في الغربية ولا تلك في الشرقية، طبقة، بل صراع نفوذ على هندسة نظام سياسي لم تستقر أوضاعه، منذ الإستقلال. ■ شكل ميدان الصحافة الفلسطينية التي ازدهرت في بيروت، في زمن النهوض والصمود، الفضاء الفسيح، ليعبر فيه الياس خوري عن نفسه، وفكره وصدق إنتماءه إلى عروبته برؤية تقدمية وطنية. إحتل مكانة مميزة في عالم الصحافة الفلسطينية، حتى أن كثيرين إعتقدوا أن الياس خوري فلسطيني، أو لبناني من أصول فلسطينية، فقد رأوا فيه نموذجاً للمثقف الذي يقرن الوعي بالعمل، والذي لا يكتفي بالدفاع عن أفكاره وقناعاته في مساجلات المنتديات – على قيمتها – بل يندفع إلى الميدان، مساهمة منه في تحقيقها. ■ دافع الياس خوري عن قناعته ويقينه السياسي، بالرواية، والقصة، والمقال؛ كان أديباً كما كان سياسياً؛ كان روائياً بقدر ما كان مؤرخاً عبر الرواية؛ كان ناقداً، يُحَوِّل قلمه إلى سوط يجلد فيه الإنحراف السياسي الرسمي عربياً ومحلياً، يملك الشجاعة في قول كلمته بالوضوح الكافي دون دوران، وبعيداً عن أي حسابات خاصة. وقدم في هذا السياق نموذجاً في رؤيته لما يتوجب على الكاتب والمثقف أن يكون، حين انتمى إلى «الكتيبة الطلابية»، التي إنتسبت لاحقاً إلى «الجرمق»، أعلى مرتفعات بلادنا المحتلة، تلك الوحدة الفدائية، الفلسطينية بانتمائها، والتعددية – إن لم يكن الأممية - بتكوينها، التي أرادت ونجحت في أن تقدم تجربة رائدة، جمعت في صفوفها عشرات المثقفين، من أهل القلم وغيرهم، الذين حولوا قواعد العمل الفدائي وبالتزاوج مع العمل المسلح، إلى حاضنة للفكر وتعميق الوعي النقدي بجوهر المشروع الوطني الفلسطيني. ■ بعد أن غادرت قيادة المقاومة الفلسطينية بيروت في أواخر آب/ أغسطس 1982، بعد 87 يوماً من القتال والحصار، عاش القاطع الغربي من العاصمة اللبنانية، أياماً عصيبة من القمع بمختلف الأشكال والأساليب، طاولت بيئة المقاومة من فلسطينيين ولبنانيين، فمنهم من إختار الإنزواء، أو الإنضواء، أو الإغتراب المؤقت عن البلد، ومنهم من صمد وكافح وثبت؛ أما الياس خوري، فعلى الرغم مما تعرض له من مضايقات، واستدعاءات لتحقيقات هدفها ترهيبه ودفعه إلى التكيف أو الرحيل، فقد بقي صامداً متشبثاً بموقفه، لم يتخلَ عن قلمه ولا عن خطابه السياسي، وبقي أميناً لالتزامه، ووفياً لأفكاره، التي كان يدرك أنه قد يدفع يوماً ما ثمنهاً غالياً، كما دفعه كثيرٌ ممن طالتهم اليد السوداء. لذلك، عندما إنطلق في مقدمة مسيرة إحياء ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، إنما كان يحتفي بانتصاره على الوعي الإنعزالي، الذي أراد إغراق بيروت في دهاليزه المظلمة، وأنه استعاد عاصمته بيروت، باعتبارها عاصمة تتيح للشعب الفلسطيني، أن يعبر عن وطنيته وانتمائه؛ ويمارس فيها الشعب اللبناني، حريته في انتمائه إلى قواه الوطنية، والتحامه بالقضية الفلسطينية. ■ لم يكن الياس خوري مجرد روائي يكتب الرواية من أجل إشباع رغبته في الكتابة، بل جعل من روايته رسالة، يتوجه بها إلى من يعتبرهم قراءه وشركاءه في الوعي والإنتماء. كان يكتب من قلب الحدث، وليس من منظار الرؤية عن بعد. كان يعيش الرواية قبل أن يكتبها، كما في رواية «باب الشمس» التي صارت عملاً سينمائياً ناجحاً من إخراج المبدع يسري نصرالله؛ ورغم عمق إدراكه لجوهر القضية الفلسطينية وتفاصيلها، فإنه عمد إلى التحضير لها ليس عبر المراجع المكتوبة فحسب، بل عبر العودة إلى المرجع الأصل للقضية، إلى العيش في خيمة القصص في المخيم، فأجرى في مخيم برج البراجنة، في ضاحية بيروت الجنوبية، عشرات المقابلات، إنتقل فيها من عمق إدراكه للقضية الفلسطينية إلى عمق إدراكه للإنسان الفلسطيني، بما ينطوي عليه من مشاعر وأحلام، ويستبطنه من تمنيات، وتطلع إلى الحاضر وإلى المستقبل، وهكذا كانت «باب الشمس» صورة شديدة الواقعية في تصويرها للإنسان الفلسطيني، الجوهر والأساس في قضيته الوطنية. ■ وكذلك لم يكن الياس خوري، مجرد صحفي يبحث لنفسه عن دور، بل كان يعتبر الصحافة ميداناً للنضال اليومي ولعله عبَّر عن هذا النزوع الذي كان يبحث عن منبر من خلال توليه إحدى المهام الرئيسية في «مؤسسة الدراسات الفلسطينية»، في بيروت، ومنها دوره في استدامة صدور مجلة «دراسات فلسطينية» وإغنائها بالملفات ومحاور النقاش، وإعلاء إتجاهها السياسي الوطني والثقافي، وحمايته من أيّة تلونات سياسية، قد تنزلق بين الأسطر. الياس خوري أيها الصديق الراحل الباقي/ على ضريحك وردة بيضاء■ فهد سليمان تشرين الأول/ أكتوبر 2024
جبرا إبراهيم جبرا.. وعصا باشوية الأدب الفلسطيني 1919-1994
(1) ■ في بداية شغلي في الأدب، واشتغالي عليه، نصحني أحد السابقين علي في الكتابة الأدبية ألا أقرأ أدب الروائي الفلسطيني المعروف جيداً جبرا إبراهيم جبرا لإعتبارات كثيرة، كان في مقدمتها أنه كاتب مخملي لا يكتب إلا عن العوالم والشخصيات الماضية داخل الغرف الدافئة، أو قل داخل القصور، حيث هي المرايا، والأرياش، والنساء الفاتنات، والسهرات العابثة، والكؤوس وشؤونها، والكلام العاطفي المثير، إلخ.. أي أن أبتعد عن كتابات جبرا، لأنه بالمختصر المفيد لا يكتب عن فلسطين وآلام شعبها وأبنائها، والفدائيين الذين يمدون الدروب بدمائهم ساعة بعد ساعة، بدءاً من منتصف الستينيات وحتى يوم الناس الراهن هذا، ألا أقرأ أدب جبرا كي لا أصاب بلوثة كتاباته الفاجعة والمتمثلة بابتعاده عن القضية الفلسطينية وشوؤنها. ■ ولأنني، وبالمصادفة، لم أكن مقتنعاً بالأدب والقصص التي نشرها صديقي العجوز «الذين نصحني بهذه النصيحة العجيبة». سارعت إلى قراءة ما وقع بين يدي من أدب جبرا، وكان ذلك متمثلاً بمجموعته القصصية الأولى «عرق وقصص أخرى» التي نشرها للمرة الأولى عام 1956، ثم أعاد نشرها سنة 1974 ضمن منشورات إتحاد الكتاب العرب في سوريا. ■ الحق كانت قصصاً ملأى بالقلق، والحيرة، والبحث عن الخلاص الفردي ضمن الخلاص الجماعي، ملأى بالإحباطات الموجعة التي تعيشها الشخصيات، وملأى أيضاً بأمرين على درجة كبيرة من الأهمية في النص القصصي، وأعني بهما، أولاً: طريقة التعبير «الشكل وحواشيه»؛ ثانياً: الرؤيا، أي «المقصد وما يخفيه وما ينجم عنه من معاني ودلالات ومرام». كان أسلوب القصص رائعاً، وكانت رؤية جبرا إبراهيم جبرا مذهلة من حيث قدرته على مدّ نصه القصصي «بما فيه من إجتماعي وعاطفي وإقتصادي وسياسي» بالطاقة الفكرية، أو قل بالرؤية الفكرية الواجبة الحضور لتمنح النص معيارية أعلى، ورتبة أرفع، أي أنني وجدت عند جبرا ما كنت أبحث عنه في النصوص العربية، والغائب على نحو مرعب، وأعني به الجانب الفكري «لا الإيديولوجي» في النص، أو الفرشة الفكرية والفلسفية في القصة الواحدة، «إذ يلاحظ قارئ القصة العربية، على نحو عام، أنها تخلو من الأبعاد الفكرية، وعدم إستطاعة القاريء ردها إلى تيارات فكرية بعينها، أو مذاهب فلسفية معروفة، طبعاً الإستثناءات موجودة، لكنها قليلة». ■ جبرا من هذه الناحية، كان منتبهاً على نحو مبكر ما الذي يعنيه الجانب الفكروي، المضمر داخل البنى القصصية، وما الذي يجعل من النص القصصي مكتملاً أو يكاد. صحيح أن القاريء يخرج بماهية الحدث، والرؤية، ويعجب بطريقة الكتابة، وبالأسلوب الرائع السهل الممتنع الذي يحبذه جبرا، لكنه بعد كل هذا يخرج بمفهوم واضح عن قدرة جبرا على توزيع أفكاره على شخصيات نصه الواحد، وقدرته على مماهاة أفكاره مع ما يريد الوصول إليه داخل ما هو أدبي صرف. لذلك؛ ما أخطأ بعض نقاد جبرا حين عدوا قصص مجموعته «عرق وقصص أخرى» إنموذجاً متفرداً في الكتابة القصصية العربية، لما حوته من تجليات الفن القصصي العربي الناجح «وعلى نحو مبكر جداً»، ذلك لأن جبرا إستوعب الكثير من مفاهيم الإبداع والقص، والكتابة الأدبية بما حصله من دراسات، على غاية من الأهمية، في البلاد الإنجليزية، وبما ينجم عن هضمه للثقافة الإنجليزية، على وجه التحديد، بقديمها وجديدها في آن واحد. ضحكت ملأ رأسي من أفكار صديقي القاص العجوز الذي نصحني بعدم قراءة جبرا، ذلك لأنه هداني إلى قراءة الرجل دون قصد منه، فعدت وهديته، راجياً أن يقرأ مجموعة جبرا «عرق وقصص أخرى» لأنها رائعة فعلاً، فقرأها، وأعجب بها لاعناً معي الثقافة الشفوية، والأقاويل الوراثية، والهمس اللانظيف، وكل ما أُثير ظلماً بحق مبدع أصيل مثل جبرا■ (2) ■ أشير إلى هذا الرأي المبكر بأدب جبرا إبراهيم جبرا، وأنا، يومئذ، كنت أتلعثم بالأدب، لأقول شيئاً واحداً حقاً «يليق بجبرا إبراهيم جبرا عصا باشوية الأدب الفلسطيني بعامة»، وذلك لما يحفل به أدبه من جدة، ورفعة مستوى، وفكر إنساني خلاّق، وقدرة على التعبير إعجازية بحق، وثقافة موسوعية ما توافرت إلا لنثر قليل من مثقفي العربية وأدبائها ومبدعيها■ (3) ■ فجبرا، منذ روايته الأولى «صراخ في ليل طويل» الذي طبعها ونشرها في القدس سنة 1946، أكد الرجل على علو قامته الإبداعية، ومقدرته الواضحة على بناء نص أدبي. روائي يأخذ بلب القاريء من كلمته الأولى إلى كلمته الأخيرة، حيث يصير القاريء جزءاً من النص، باحثاً عن مخرج أو نافذة للشخصيات الحيرى القلقة، باحثاً مع المؤلف وحروفه عن الهدأة المشتهاة لعالم متخيل طَعَّمَهُ جبرا بالواقعية الشديدة الوضوح والمقنعة بحضورها وتواجدها في عوالمنا، والممتع فيما تظهره أو تخفيه من حوادث وتطلعات وهواجس لشخصياتها، التي لا يستطيع القاريء الفكاك من التعاطف الشديد معها «والتعصب لها»، أو التوق الشديد لخلعها، ونبذها والقسوة عليها وطرحها جانباً على قارعة الحياة، كورقة جافة لا أسف عليها ولا حزن. ■ في روايته «صراخ في ليل طويل»، يشعر القاريء بأن هذا العمل مسند بقوة معرفية عالية الحضور، وقوة مشعة من داخل ذات جبرا إبراهيم جبرا، فالرواية مشكلة ومبنية بحرص ثقافي على قدر كبير من الوعي بالعصر وحيثياته. كما يحس القاريء بأن سيطرة جبرا على الشخصيات سيطرة تعني التماهي معها والتوحد مع شؤونها بعامة، ومواكبة تفصيلية لسيرورتها وصيرورتها الحاصلة، لا سيطرة قسرية خارجية، تديرها ولا تنفعل بها. في «صراخ في ليل طويل»، نقع على ما نظّر له جبرا في كتاباته النقدية اللاحقة، وذلك من حيث الحرص على الواقعي في الرواية أياً كان موضوعها وزمانها ومكانها. وفي هذه الرواية الصادرة في وقت مبكر، «نسبة إلى تاريخ نشأة الرواية العربية 1946». ■ إتخذ جبرا نهجاً زمنياً «صار اليوم معروفاً في الرواية العربية»، هو الزمن الخيطي، تسلسل الأحداث وتتابعها مرادفة، على الرغم من تداخل الواقعي على نحو موشى بتطريز الكلام ورهافته. وهذا ما سيتطور في عام 1970، مع صدور رواية جبرا إبراهيم جبرا «السفينة» المهمة جداً «بالنسبة إليه، وبالنسبة للرواية العربية في آن واحد»، حيث سيضاف جانب آخر إلى النسيج الروائي عنده، يسمى بالجانب الأسطوري ليضاف إلى ما هو واقعي، وليتداخل هذان الجانبان في تواشج إبداعي غاية في الحضور، والتصوير، وغاية في الشفافية والإستبطان معاً، بدءاً مع الأرضية الرخوة «البحر» في السفينة، إلى عبثية المكان «الإستقرار المنشود»، وإنتهاء باستفادات المعاني من الحروب اليونانية القديمة ودلالاتها. ■ بل، إن جبرا إبراهيم جبرا، المثقف بهاجس التطور والإضافات، «لا على طريقة المراكمة والتقليد الأخرق» سيضيف جانباً آخر في روايته المعروفة «البحث عن وليد مسعود» الصادرة عام 1978، هو ما نسميه الجانب الحلمي «أو المتخيل» إلى الأقنومين السابقين «الواقعي» في رواية «صراخ في ليل طويل»، و«الواقعي والأسطوري معاً في روايته السفينة». إن واقعية البداية في «البحث عن وليد مسعود» لا تلبث أن تصير إلى الأسطورية، في المفردات المكانية، وفي الزمن الثابت الذي لا ينتهي، أو يفرغ، وفي الشخصيات الآتية بقوى وطاقات مذهلة، وبحضور لا يقاوم، ومن ثم ليتصاعد في نهاية الرواية إلى قمة الإعجاز في الحضور الحلمي والمتخيل، حيث يذوب وليد مسعود في نهاية الرواية، فما عدنا نرى أهو من كان يحدث في شريط التسجيل، أو هو الذي قاد السيارة ليصل إلى الحدود، أو هو من تخطى الحدود وتلاشى، أم هو الذي لم يستطع على قهر الحدود «كواقع حي مشخص»، أم هو كل هذا مجتمعاً، ثم من الذي يبحث عن الآخر ... القاريء أم الكاتب أو البطل نفسه(!). إن هذه اللعبة الروائية، والإبداعية الرائعة التي أنجزها جبرا، في «البحث عن وليد مسعود»، هو من أدخل النقاد والقراء معاً في لعبة تشخيص هذه الرواية من حيث حيرة إسنادها إلى واقع عربي، أو إلى عربي فلسطيني، أو إلى واقعي إنساني ... مفتوح على كل الإحتمالات والإشتقاقات الكثيرة، بل وهذا ما سيتطور إلى أمور إبداعية أخرى، أو قل إلى إضافات إبداعية أخرى على صعيد الشكل «طريقة البناء والتعبير بصرياً في الحدود الأولى»، وعلى صعيد الموضوع «من حيث الشغل على الأزمنة الثلاثة في آن واحد الماضي والحاضر والمستقبل، مستخدماً كل الطاقات التعبيرية عند الشخصيات لإبداء ما تريد، أو إخفاء ما تريد أيضاً، وهذا أمر لم نصادفه في الكتابة الروائية إلا عند وليم فوكنر في «الصخب والعنف» الرواية الأكثر أهمية إبداعاً ومؤدى في تاريخ فوكنر، والتي ترجمها وقدم لها جبرا في عام 1979 ... ■ هذا التشخيص سنجده في رواية الغرف الأخرى لجبرا والصادرة في عام 1986، والتي تظهر فيها الشخصية ذاتها بأسماء عدة تبعاً لـ«الحالة» وظروفها، إنطلاقاً مما هو واقعي، وصولاً إلى ما هو أسطوري، أو العكس تماماً، وتبعاً أيضاً لبداية الأزمنة الثلاثة وتداخلاتها ... وكل هذا يتأتى على نحو دوراني، حلزوني، مبهر في التقنية الروائية، وفذّ في المعاني والدلالات، حيث لا يصادفنا في هذا النص إلا اللهاث من أجل شيء هو لا شيء، اللهاث الذي لا ينم عن الجهد والتعب والركض، أي اللهاث الخادع في زمن صار أسوأ تشخيص له، يختزل بكلمة واحدة نفاذة الرائحة ... هي الإستهلاكية، الإستهلاكية الذاهبة في طي صفة الخلود الذي كان هاجس الآلهة، وهاجس البشر، والمأمول الأولى والمرتجى، حتى ولو كان خلوداً بشيخوخة مفجعة»■ (4) ■ تُرى هل إندماج هذه العوالم «الأسطوري والواقعي والحلمي» مع تثبيت الزمن في بؤرة مركزية واحدة مدهشة في جمعها وقبضها على ما هو في حيز الماضي والحاضر والمستقبل ... عائد إلى ثقافة جبرا إبراهيم جبرا الهائلة! أم يعود إلى براعة في جل ما كتب من رواية، وقصة، وشعر، وسيرة ذاتية، نقد أدبي، ونقد فني؟ أم أنه يعود إلى هذين الجانبين معاً؟ أم أنه بمقدورنا أن نضيف إليهما ما يمكن توصيفه بالتفرد والنجومية «عن ثقة، وعلى أرض صلبة من الجرأة الإبداعية والثقافية»، التي سعى إليهما جبرا إبراهيم جبرا؟ أن نعيد كل هذا، في لحظة صحو شديد، إلى ما أراده جبرا فعلاً، من منافسته لقدراته وثقافته، وبراعته الإبداعية حصراً؟. ■ بلى، بمقدور المرء أن يصل إلى شيء يطمئن إليه، فحواه أن جبرا إبراهيم جبرا، لم يكن يريد منافسة أحد، ولم يكن يكتب على الطريقة الإمتثالية لآراء النقاد، أو متطلبات الظروف، «كحاجة الثورة الفلسطينية الماسة لصوت إبداعي وثقافي متميز مثل جبرا ليتحدث عن أفعالها وأشخاصها، وبطولات أناسها ومتطلباتهم ...إلخ». ■ صحيح أن جبرا إبراهيم جبرا كان داخل لعبة المنافسة الإبداعية لكن ليس مع الآخرين، ولا مع الواقع، ولا مع الظروف ... وإنما كان داخلها مع نفسه تحديداً، لذلك كان حزنه مرفوعاً حين إنتقده «نقاده» بأنه كاتب مرتاح مادياً، يكتب عن عوالم الدفء، والأرجوانيات «بإستثناء الدم»، ومن عايش فترة الستينيات والسبعينيات معايشة حقيقية، يدرك أهمية الصلابة الإبداعية والثقافية التي تحلى بها جبرا ... حيث لم ينجُ كاتب عربي، أو نص عربي، من لوثة الإعلام والسياسة ومتطلباتها الآنية، والمرحلية، والفوضوية في أكثر الأحيان تلك الفوضى، التي تحيل النص الأدبي إلى خانة الإستهلاك، وعالم السندويش، والرضا باللماع الخادع الذي لا يدوم سوى لحظة واحدة موتها طيها دائماً، أقول: لم ينجُ أحد من ذلك إلا من عصم ربك. وجبرا إبراهيم جبرا، كان واحداً من هؤلاء الناجين بإمتياز■ (3) ■ وكي لا أطيل، أقول إنني تحدثت في الجانب الذي أعرف فيه شيئاً قليلاً، أقصد الجانب المتعلق بقصة ورواية جبرا، وسأترك الحديث عن جوانب أخرى للذين يشاطرونني محبة هذا الرجل المبدع الكبير، الذي أوقف حياته على أسوار العملية الإبداعية، وعلى السعي الجدي والرصين لبناء شخصية أدبية لها شأنها، ودورها، وإبداعها، وقولاتها، وحضورها في عالم الثقافة العربية والعالمية ... شخصية شديدة الخصوبة والعطاء ... هذه هي شخصية جبرا إبراهيم جبرا الفنية، هذه الشخصية التي لا تحتاج إلى جدال «بضجيج عال أو خافت»، لنقول عنها إنها من أهم الشخصيات الثقافية والإبداعية التي عرفها العرب خلال المئة سنة الماضية، والتي ستظل حاضرة بتغيراتها الأدبية ومؤلفاتها الكثيرة، وخططها الإبداعية ... في نفوس الكثيرين من القراء والمبدعين والمثقفين أيضاً■
حسن حميد 8/2/1997
الفصل الخامس
بالدم .. رسموا لفلسطين
■ إسماعيل شموط ■ توفيق عبد العال ■ ناجي العلي
إسماعيل شموط.. اليد ترى، والقلم يرسم 1930-2006
■ إسماعيل عبد القادر شموط، هو ذاك الطفل الفلسطيني الذي تفتحت عيناه في العام 1930 على الإنتداب البريطاني في مدينة اللد، التي تعتبر من أكبر وأقدم المدن في فلسطين، حيث حبا خطوات طفولته الأولى ونما في أجواء إشتداد قبضة الإستعمار والإحتلال، وانطبعت في ذاكرة طفولته مشاهد ما تعرضت له هذه المدينة كما غيرها من المدن والقرى الفلسطينية من حملات تهجير وتطهير عرقي، وسجلت فيها واحدة من أكبر الإرتكابات على يد وحدة كوماندوز صهيونية بقيادة «موشيه ديان»، حين إقتحمت المدينة غازية في 11 تموز/ يوليو 1948، وأعدمت الشباب المسلحين ببنادق قديمة، الذين واجهوها بعد نفاذ ذخيرتهم. ■ بعد يومين من هذه الجريمة المروعة، بدأت رحلة العذاب لإبن السبعة عشر عاماً، وهو يخرج مع عائلته وجموع أبناء مدينته مشياً على الأقدام، محاطون بعصابات الصهاينة وسط التهديد والوعيد، تائهين في بحر من التساؤلات حول مصيرهم ووجهتهم وما خَلَّفوه وراءهم من أرض وذكريات وأحلام وحقوق.. مشاهد وصور كثيرة شهد عليها إسماعيل شموط في رحلة التهجير القسري من مدينته، إنطبعت وانحفرت في ذهنه، مشاهد الخوف، والتهديد والإذلال، وانحفرت مشاهد الجوع وصراخ الأطفال والبكاء وخوف الأمهات وأنين المرضى، وصورة أخيه الأصغر توفيق الذي فارق الحياة عطشاً وهو في الطريق قبل أن يصلوا الى قرية نعلين بجوار رام الله. ■ مشهدية متشابكة من الوجع والألم، ومشاعر مختلطة من الحزن والغضب، وحمم من البركان تريد أن تنفجر لعل أجسادهم تلتحم وتنجبل بتراب مدينة اللد ولا يغادروها .. ففيها ترتبط الذاكرة وفي ثناياها يتجسد الوطن والوجود والهوية. هذه اللوحة وتلك الذكريات والمشاهد حملها شموط مع عائلته في رحلة التهجير من نعلين الى رام الله، فالخليل، لتحط في قطاع غزة إلى أن إستقرت في أولى الخيام التي أصبحت لاحقاً مخيم خانيونس، حيث عمل بائعاً متجولاً للمعجنات لمدة عام، قبل أن ينتقل للتدريس في إحدى مدارس وكالة الغوث/ الأونروا. ■ في تلك الخيمة بدأ الشاب إسماعيل يسترجع شريط الذكريات، محاولاً من خلال موهبته بالرسم التي حملها وبرزت معه في سن مبكرة، أن يعبر عن ذلك الزخم المتأجج في أعماقه بالريشة والألوان، وأن يجسد ويخرج ما تختزنه ذاكرته من صور، فبدأت جدران المدرسة والمخيم وأزقته تزدان بالرسومات والملصقات التي تروي بعضاً من حكاياته، وكانت لوحة «العطش» من أبرز لوحاته التي رسمها في بداية الخمسينات مجسداً فيها مسيرة الخروج من اللد ووفاة أخيه عطشاً، كما وَثَّقَ برسوماته دموع الأطفال وخوف الأمهات وطوابير الخروج والإقتلاع من اللد وخيمة اللجوء، مزيج من الألوان ومزيج من الصور حاول من خلالها أن يجسد حكاية النكبة واللجوء والجرح الفلسطيني، وفي الوقت ذاته لم تُغفل رسوماته ولوحاته إرادة الحياة والأمل والإصرار على النهوض ومحو آثار النكبة والإنطلاق من جديد لتحقيق الحلم والأمل بالإنتصار واستعادة الأرض والحقوق. ■ تمكن شموط من الذهاب الى القاهرة عام 1950، وعمل هناك مراسلاً في أحد الاستديوهات للإعلانات، والتحق بالوقت ذاته بكلية الفنون الجميلة، ما ساعده في تنمية موهبته على أيدي عدد من الأساتذة والفنانين الكبار. وفي نهاية السنة الثالثة لدراسته الأكاديمية، وما أن أنجز مجموعة من الرسومات واللوحات، حتى حملها الى قطاع غزة، واختار أن يفتتح معرضه الشخصي الأول – 29/11/1953، في نادي الموظفين بمدينة غزة، بعرض ما يقارب 65 لوحة تروي الحنين للوطن وحكايات المخيم والأرض واللجوء والنكبة الكبرى التي كان أحد ضحاياها وعايش مأساتها، وكان لها التأثير الأكبر على مجرى حياته وخياله ومشاعره وموهبته وإنتاجه الفني. ■ عام 1954، شارك الفنان شموط في المعرض الذي افتتحه الرئيس جمال عبدالناصر بمُشاركة الفنانة التشكيلية تَمَّام الأكحل والفنان الفلسطيني نهاد سباسي - وحمل عنوان «اللاجيء الفلسطيني» بحضور عديد القيادات الفلسطينية التي كانت تقيم في مصر آنذاك، وبعد تخرجه من الجامعة حصل على منحة لمتابعة الدراسات العليا في أكاديمية الفنون الجميلة في روما، ثم عاد بعدها الى بيروت في العام 1956 ليعمل رساماً في مقر رئاسة الاونروا، وساهم من خلال تجربته بإنعاش الجوانب الفنية بالمناهج والمدارس، وأقام في قاعة اليونيسكو ببيروت معرضاً مُشتركاً عام 1957 مع الفنان التشكيلي الفلسطيني توفيق عبد العال وزميلته إبنة يافا الفنانة تَمَّام الأكحل التي باتت شريكة حياته بدءاً من العام 1959. ■ مع تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية – 1964، بادر شموط ومجموعة من زملائه الى تشكيل أول إتحاد للفنانين التشكيليين الفلسطينيين، وانتخب أميناً عاماً له كما انتُخب أول أمين عام لاتحاد الفنانين التشكيليين العرب، وأسهم مع زملائه في الإتحاد بتنظيم معارض وندوات في العديد من العواصم العربية وفي أوروبا وأميركا وأفريقيا، فساهموا من خلال لوحاتهم ورسوماتهم في نقل الرواية الفلسطينية وتجسيد آلام وآمال الشعب الفلسطيني ونضالاته من أجل إستعادة أرضه وحقوقه الوطنية. وحاز شموط على العديد من الجوائز العربية والدولية كما حصل على درع الثورة للفنون والآداب، وعلى وسام القدس، وعلى جائزة فلسطين للفنون.. ■ تواصلت رحلة الترحال واللجوء مع إسماعيل شموط، حيث أجبره الإجتياح الإسرائيلي على مغادرة لبنان باتجاه الكويت، التي بقي فيها حتى حرب الخليج عام 1991، ومن هناك نحو ألمانيا ملتحقاً بولديه، ليعود بعدها للإستقرار في عمان مع زوجته تَمَّام، حيث تكون فلسطين في مرمى أعينهم، وتَمَكَّن هو وزوجته من زيارة يافا واللد في العام 1997، لكن قلبه المثقل بالهموم والأوجاع لم يسعفه على تحمل رؤية اللد ومنزل عائلته وحارته والجدران التي حفر عليها ذكرياته وأحلامه يعبث بها المستعمرون، فعجز قلبه عن حمل المزيد من النزف ليتوقف نبضه عن الخفقان وهو في السادسة والسبعين من عمره في أحد مستشفيات كولون الألمانية في الثالث من تموز/ يوليو عام 2006. ■ في كتابها الذي صدر عام 2016 عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بعنوان «اليد ترى والقلم يرسم- سيرة تمام الأكحل وإسماعيل شموط»، الذي قدم له الروائي والكاتب اللبناني الراحل الياس خوري، حاولت تمّام الأكحل الإضاءة على سيرة حياتها مع زوجها، الذي وصف بأنه الزواج الفني الممهور بحب فلسطين، فالأكحل، كما يلفت صاحب «باب الشمس»، لا تروي في مذكراتها حكاية زوجها إلّا لتروي حكاية جيل النكبة الذي وجد نفسه في عراء التاريخ، فحاول أن يعيد صوغ هويّته بالألوان والكلمات، وأن يجمع فتات الذاكرة، كي يبدأ تأسيس الحلم الفلسطينيّ. رحل شموط وبقيت لوحاته وألوانه على القماش والجدران وفي الصالات والقاعات والمعارض تروي حكاية الملحمة الفلسطينية التي أراد ترسيخها في ضمير العالم ووجدانه، وحاول بريشته أن يؤرخ لمسيرة الكفاح والنضال ومآسي النزوح واللجوء، ولتاريخ وذاكرة وتراث وثقافة وهوية، ومن أجل إعلاء الرواية التاريخية الفلسطينية بمواجهة الرواية الزائفة للمشروع الصهيوني■
يوسف أحمد شباط/ فبراير 2025
توفيق عبد العال.. إبن عكا البار، الذي لم يبارح الأزرق مخيلته 1938-2002 ■ الفرشاة والألوان أسلحته الثقيلة على جبهة الرسم. يتمترس خلف المنصب ويعطي قلبه للريح الغربية. يقتنص الومضة كصائد ماهر فيغمره الحلم الصيفي بورديات عاملات النسيج، وأهازيج صبايا الجبل؛ وكشلال سفقي تداهمه الحرب الأهلية، دامية كالجرح المستوطن في شتات الفلسطينيين، فاتنة باكية كطفلة تبحث عن أبوين ضاعا في قذائف الإنعزاليين، حزينة كالتنهيدة، كالنوح الريفي على بنادق فلاحي ثورة الـ 36؛ وكمرجل من الحب والغضب أُذيبت فيه ثلوج المرتفعات المختلطة بدماء تل الزعتر، فَرَّغَ غضبه، حبه، حزنه، فرحه باللوحة والملصق. تشهد له الشوارع وجدران المنازل وواجهات المؤسسات. تشهد له محاور الدفاع عن المخيمات، ولأنهم يشهدون، ظل بخندقه محارباً. وفي هذا المحور المتقدم، ومن خلال ثلاثين لوحة زيتية، والعديد من الملصقات، جَسَّد الفنان توفيق عبد العال، أمين سر إتحاد الفنانين التشكيليين الفلسطينيين في لبنان، الألم المنتصر، والمدن المغلقة بوجه الغزاة، والبنادق المشرعة كالنشيد في كل حي وبلدة ومدينة. ■ درس الراحل مباديء الفن والتصوير في عكا على يد معلمه جورج فاخوري، حيث خطَّ عبد العال أولى رسوماته طفلاً متعلقاً بالبحر الذي سيشكِّل عنوان المرحلة الزرقاء التي إمتدت حتى سبعينيات القرن العشرين، قبل إنتقاله إلى لوحة تنزع نحو الغموض والتأمل. ■ جماليات الأزرق تعكسها اللوحات التي حملت عناوين «أحلام الصياد»، «الجاروفة»، «مواويل فلسطينية»، «خريف البحر»، «مدينة الأحلام» و«شاطيء الأماني»، وجميعها تعود إلى العام 1966، في تشكيل أيقوني للبحر في موازاة لبورتريهاته النسائية التي كانت معظم شخصياتها متفاعلة مع البحر أو الطبيعة غالباً. ■ في تلك المرحلة، ظهرت مفردات أخرى ذات صلة وثيقة بالهوية والوطن بعد حرب 1967، ومع صعود الثورة الفلسطينية، ومنها نساء في زيِّهنَّ الشعب والحصان والصبّار وأسراب الحمام، كما إستحوذت الشمس على حيّز كبير في لوحاته. ■ في ذاكرته، تختمر صور الرحيل الفلسطيني الأول عام 48، تعشوشب محطات النفي وشوارع الشتات، وتلتصق به كظله. كان يحمل في جعبته توأماً آخر للحزن نما بنموه، وشاخ في الطفولة. ومن تحت الرقابة كان يهِّرب الشعر إلى دفاتره السرية، يحكي لمسجله كل الأوراق الممنوعة، فتولد رسوماته البكر في حضن المجلات الملتزمة، فينجح في العشق الأول. ومنذ 1960 وأعماله تتمحور حول إبراز الشخصية الوطنية الفلسطينية، «فتاة من عيلوط»، «إنتظار»، لوحتان جسدتا آمال الشعب الفلسطيني بانتظار المخلص، عبر نافذة «وجه من فلسطين». هذا المخلص تجاوز «غودو» صموئيل بيكيت، الذي يأتي ولا يأتي، فغودو الفلسطيني جاء حاملا بندقية حطمت حاجز الصمت. وبالتفاعل مع البندقية، ومن خلال الفرشاة كأداة تعبير حضاري، جاءت لوحة «الطريق»؛ فالثورة لم تفاجئه، لم تداهمه، لقد مَهَّدَ لها بعشرات اللوحات، وولدت في مرسمه قبل أن تتحقق على أرض الواقع، فالفنان يبشر بالثورة ولا ينتظرها. ■ إختبر عبد العال النحت بالخشب في تجربة تناولت الجسد الإنساني بشكل خاص، في أعمال تنتمي إلى النحت الثنائي غائر الأبعاد أكثر من إنتمائها للنحت بمفهومه التقليدي العام، واستأثر موضوع المرأة على مجمل منحوتاته الخشبية، حيث لا زوايا ولا تكوينات حادة، بل إنحناءات وتعرّجات رقيقة هادئة تغلف وجوه وأجساد نسائية. ■ لم يحجز نفسه في صالات العرض والمتاحف المتخصصة، فظل يفكر بنقل اللوحة الجدارية إلى الشعب، حتى أوصلها إلى المخيمات والمدارس والساحات العامة. وعبر المخاض، عبر تجربته، وصل إلى نقطة اللاخيار سوى الإلتزام الكامل بقضايا الشعب والثورة، فصار عضواً في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وتقابل مع الملصق كأداة تحريض وتعبئة وجها لوحة. وصار همه أن يرتقي بالملصق إلى مستوى اللوحة، بعد أن جرب اللوحة المباشرة التي تصل إلى مستوى الملصق، حتى أصبحت ملصقاته مؤطرة على الجدران وتنتظر دورها في معارض الملصقات الدولية. ■ تَعرَّضت أعماله للتدمير أكثر من مرة على يد العدو الصهيوني، أولها في قصف وقع في أيلول/سبتمبر 1982 في بيروت إستهدف «دار الكرامة» التي أقام فيها معرضه آنذاك، كما أحرقوا مرسمه وأرشيفه الذي كان في «مستشفى عكا» بمخيم شاتيلا بعد مجزرة صبرا وشاتيلا في العام نفسه، كما تَعرَّض منزل عائلته، حيث بقيت لوحاته، إلى القصف في حرب تموز/ يوليو 2006، فتضرر جزء منها. لكن إعتداءً أعنف تعرض له عبد العال شخصياً عام 1987، وقع حين حاولت جهة عميلة إغتياله، حيث جرى تحطيم زجاج نظارته على عينيه، ما أدّى إلى فقدانه البصر بالتدريج، إلى أن أصبح كفيفاً فغدت صلته باللوحة من خلال إضافة اللون إلى رسومات تدريب على الخط كان قد نفذها في سنوات ماضية، ثم توجه إلى الكتابة في محاولات شعرية دوّنها في عدد من النصوص. ■ يلخص الفنان الراحل غربته في مقابلة صحفية بالقول: «لم أرسم النكبة، بل كنت أرسم إنطباعاتي عن فلسطين ولبنان، رسمت الثورة قبل إنطلاقة الثورة»، رسمت لوحة إسمها «لن يسقط العلم»، تمثل فدائياً سقط، وفدائياً آخر يتسلم منه راية الثورة، ولوحات «رقصة السلاح»، «أنشودة شعب» و«معاً إلى فلسطين»، ومع إنطلاقة الثورة إستبدلت الفدائي بالفارس، وانتقلت من الأسلوب الإنطباعي التجريدي إلى الأسلوب السريالي..»■ القسم الثقافي – مجلة «الحرية» 7/8/2008 توفيق عبد العال.. قاربُ عشق على شواطيء المنفى 1938-2002 ■ ما تركته الحضارات من مخزون أثري ساهم في تخليد الأمم. وقد كان للفنون التشكيلية بمختلف أساليبها، الدور الهام والرئيسي في تخليد وبقاء تلك الحضارات. وقد ساهمت الآثار العمرانية والمنحوتات والأعمال الفنية الأخرى، وكل ما تبقى مما صنعته الشعوب البائدة، في نقل حضاراتها إلى الأمم والشعوب المعاصرة. وكُل ثقافةٍ مَهمَا اتسعت آفاقها لا بُد وأن نَجد فيها أطياف مُتصلةً مع مَنبعِها. كَذا هو الأمر في الإبداع الفلسطيني، على تَعددِ إنتاجهِ، فإن رُموز الوَطن السَليّب، الإقتلاع، التشرِيد، المَنفى، الحَنين، الخِيام، التَحدي، الصُمود، الثَورة، الحرية، العودة، كُلها رُموز تَداخلت في العَطاء الإبداعي لشَعب يَستحقُ الحياة. ■ وبما أن الفن التشكيلي بكل ما أمكنه أن يحمل صِفة الشَكل الإنشائي لتَصَور ما، وهو المُمتد في جَوف تَاريخ هذهِ الأرض، أرض فلسطين، فقلّما تَجد فناناً تشكيلياً فلسطينياً، سافر في متاهاتِ الرؤيةِ اللونيةِ، دُون أن تَحمل أعمالهُ جُزءًا رَمْزَوياً من تاريخ فلسطين ومأساتها، وكذلك هو أيضاً الفنان العكي توفيق عبد العال، هذا المُشرد مُنذ طُفولته إلى أرض أشقاء غُرباء، المُتَعَثر على خُطى التيهِ من عكا إلى بيروت، والذي ظَل يَحمل عكا أيقونةَ عِشق مَنقوشة على جُدران قَلبهِ؛ فانتقلت عَبر لمسات فُرشاتهِ ألواناً وأشرعةً وقواربَ راسية على شواطيء المنافي، أو لنَقُل على شواطيء المنفى القَسري في مخيم برج البراجنة – الضاحية الجنوبية لبيروت، فتجانسَت مَع روح المكان والإنسان والطبيعة فيهِ، دون أن يُهمِل أو يَسلّو عِشقَهُ الطفولي، المنسوج من حُلم الوفاء لفلسطين، فلسطين الذاكرة، فلسطين الأرض والإنسان، فلسطين مسيرة الثورة والعودة. ■ قَبل ان أبدأ بالكتابة عن هذا الفنان العاشق، رومنسي اللون والحركة، تَوَغلت بِمحاولة قِراءةٍ بَصريةٍ سريعةٍ، لأكثرَ من ثلاثمائة لوحةٍ فلسطينيةٍ لعدد كبير من الفنانين الفلسطينيين. بَعضها مُحتفظ به، وبَعضها موجود في كتب وكتالوجات خاصة وعامة، والبَعض الآخر عَبر وسائل التواصل الإجتماعي، إضافة إلى مراجعة ما يقارب خمسمائة لوحة من تاريخ الفن، الممتد من عصر ما قبل النهضة - «الرينيسانس»/ Renaissance، وحتى أواسط القرن العشرين.. في كتاب مُترجم حَمل عنوان « قِصة الرسم»، للراهبة الباحثة ويندي بيكت، باحثًا من خلال كُل ذلك عن تلك الموشحات السريالية العفوية، تلك التي شطح فيها، أو تأبطتها خلسةً ريشةُ الفنان توفيق عبد العال، لتَنتشر على بِساط عدد قليل من لوحاتهِ، كَحالة عفوية لا تدري ماذا تريد أن تَقول. فوجدت أن التشابه بينها وبين أعمالٍ أخرى، لكبار الفنانين، كان قليلاً جداً أو رُبما مَعدوم. وأنا أعزو ذلك إلى أن هذه الأعمال اللونية التجريبية التجريدية، جاءت وليدة حالة من الفراغ النفسي، أو هي تعبير عن مرحلة من اليأس التي يَمر بها الفنان بين اليومية والأبدية. لكنها كانت تمتاز دوماً، بشيء من الأزرق والبنفسجي المتصلان بألوانِ بحرِ عكا.. ذاكرة طيف وحنين، تمثل رد الفعل النفسي العفوي، لما يختزن في أعماق الفنان من عاطفة وهواجس. ■ فاتني أن أذكر ملاحظة مُهمة جداً، أن التعامل مع اللوحات من خلال صور مطبوعة في كتالوج، أو من خلال ما هو مخزون عبر الشبكة المحوسبة، لا يمكنه أن يعطي المتلقي تلك الأبعاد والإمكانيات الفلسفية في حوارهِ مَعها، كما يَتعامل بَصرياً مع لوّحةٍ أصليةٍ، يُحيط بِها الضوء الطبيعي المُنتشر في المكان. لذا، من المُمكن أن تَحجُب الصورة المطبوعة تَفاصيل أو إنعكاسات لونية لأية لوحة أو عمل فني، فندخل حينها في قراءة مغلوطة لأي عمل كان. إن التعامل مع لوحات ومنحوتات وتماثيل الفنان توفيق عبد العال، من خلال صور مطبوعة في كتالوج، مع نصوص تتحدث عنه وعن أعمالهِ، شيء جيد لمن يريد أن يتعرف على سيرة وأعمال هذا الفنان. لكنها قطعاً، لا يمكنها أن تكون مادة تشكيلية خام، يمكن التوغل في أبعادها واكتشاف مكنوناتها الفلسفية، المنبعثة من روح الفنان وقلبه وعقله. فأنا كقاريء بصري، لا يُلهمني ما يُكتب عن الفنان، بقدر ما يُلهمني ما أستقرأه من خلال الإبحار في أجواء أعماله الفنية. لذا أرجو المعذرة إذا ما وقعت في خطأ ما، أو ذكرتُ في مداخلتي شيئاً لم يرُق لأحد. ■ إن مجرد مقارنة عفوية لأعمال الفنان توفيق عبد العال، تِلك المُنجزة بواسطة المساحات اللونية العفوية التجريدية، وبين الأعمال الأخرى التي تنتمي إلى بداياته مثلاً، أو تلك التي نَسجها على وتيرة التَعبيرية الإنطباعية، أو تلك الأعمال الخُطوطية، أو منحوتاته الصلبة من خشب الزان المعتق، لا بد وأن نَجد الكثير من الاختلاف بين المرحة اللونية وتلك المراحل الأخرى. إلا أن الكثيرين ممن كَتبوا عَن الفنان توفيق عبد العال تعاملوا بِصورة مُحقة مع كافة الرُموز التي تَناولها هذا الفنان المشبع بالحُلم.. فمن زُرقة البَحر وقوارب الصَيّد، وأسراب الحَمام والنَوارس، إلى الأشرعة المنتصبة في الفضاء الرَحب، كما هو الأمر في الحصان والفارس، فالمرأة والطفولة، ومن ثُم إلى الطبيعة المترامية والبيوت والأكواخ، والرُموز الثَورية ما بين شَمس ساطعة وشَمس غاضبة. تلوح دائما في أعماله نَفحة الأمل واستمرارية البقاء. وما ذلك إلا رسالة إلى القادم من الزمان، بأن عودة الوطن إلى أبنائه بعودة أبنائه إليه، هو أمر محتوم، لا يمكن التراجع أو التخلي عنه مهما طال الانتظار. إن خيول توفيق عبد العال خيول جامحة، حتى وهي في حالة التعب، أو في حالة الإنكسار، وفارسهُ منتصب القامة، وحرابهُ مشرئبة في عمق السماء، وترسَهُ جدارٌ ثابت بوجه العاصفة. وهو صامد راسخ كـ«جلمود صخر» فوقَ جوادهِ. كُل هذه الرموز دلالات مُطلقة على أن طريق الثورة هو الطريق الوحيد للخلاص. ■ لم يتناول توفيق عبد العال المأساة الفلسطينية بألوانها الحَمراء الدموية، مُبتعدًا بذلك عن رَصد وقائع الذَبح والقَتل المُتكرر لأبناء شَعبنا. لا من باب التغاضي أو الإنكار لها، إنما من مُنطلق البَحث عن سُبل التَحدي ووسائل الصُمود، باعثاً الأمل المتشبث بالبقاء واستمرار الحياة. فَذهبَ مُبحراً بكل ألوانهِ مُتوغلاً بالوجود. من زَهوة الطبيعة، سماءً وأرضاً وبحاراً، إلى بيوت ونوافذ حانية، إلى نساء وأطفال في وضعيات مختلفة، تُعمق في ما بَينها روح التَعاضُد والحياة. حتى أنه رَسم من خيالٍ مشبع بالرومانسية «حمام عكا» و«حمام الباش» ولوّحات أخرى تُجسد روعة التكوين الجسدي للمرأة، بوصفها العُنصر الأهم في مسيرة التَحدي لصراع البقاء، مما يُذكرنا بلوحاتٍ لنساء عاريات خَلدتهم أعمال كبار الفنانين، بداية من مايكل أنجلو حتى ماتيس ودالي وبيكاسو. لكن نساء توفيق عبد العال جئنّ بِشطحات إنطباعية تعبيرية، تَحمل في مضامينها أنوثة رومانسية متماهية، بعيدة عن إثارة أيةُ غريزة شهوانية، لكل من يهيم في أجوائها. ■ مارس توفيق عبد العال الرسم والتصوير والنحت والتخطيط. كان فناناً دائِم القلق، لهذا تنقل بين الواقعية والرمزية والتعبيرية والسريالية، ويشكل إرثه وثيقة تشكيلية لونية خصبة، ورسالة تحمل في ثناياها حلم وأمل للقادم من الأيام، حتى يحقق شعبنا خلاصه من الإحتلال، ونيل حقوقه المشروعة، في هذا الوطن الذي لا نرضى بوطن سواه■ زاهد عزت حرش 9/8/2018
ناجي العلي.. المبدع، شهيد الديمقراطية وحرية الرأي التعبير 1937-1987 ■ حياة ناجي العلي أغنى من أن تختصر بموته؛ فالإغتيال السياسي، الذي أودى بحياةٍ كانت ذروة في العطاء الإنساني والفني والنضالي، يختزل جوانب رئيسية من تلك الحياة التي احتلت فيها موقعاً أساسياً، وبخاصة في شطرها الأكثر نضجاً واكتمالاً، مسألة الديمقراطية في العالم العربي والنضال في سبيل حرية الرأي. وإذ نقف اليوم في الذكرى السنوية الرابعة لغياب ناجي العلي نشعر كم هو راهن وملح مطلب الديمقراطية وحق التعبير عن الرأي، وكم هي معبرة تلك الرسوم التي خطتها ريشة ناجي المرهفة، من الحمامة الواقفة على طارق المسدس ولسان حالها: «لا للإغتيالات السياسية»، إلى إبن الشعب الذي يتصدى بصدره العاري قبل أن يسقط مثقوبا بالرصاص صارخاً: «لا لكاتم الصوت»، مروراً بالرجل المتكرش الذي يقطع بالفأس الأقلام الحرة المنتصبة كشجرة الحياة؛ ومن معقول الرأس في إشارة إلى العقل المعتقل، الذي يتلفت خائفاً وأمامه مساحة مرسومة بشعار الديمقراطية، إلى حنظلة الذي يحلم بالديمقراطية المرسومة بالصُبار، مروراً بإبن الشعب الذي يكتب وصيته بعد أن غامر مطالباً بالديمقراطية. رسوم لا تُنسى محفورة في ذاكرتنا جميعاً تشير إلى الفكرة / المطلب، لدى أبناء شعبنا. فكرة كانت تسكن هذا الفنان الكبير، فالتقاطها مسألة مفصلية، يتوقف إلى حدود بعيدة في ضوء حلها السليم مستقبل مسار حركتنا الوطنية. ■ ناجي العلي هو شهيد الديمقراطية شهيد النضال في سبيل حرية الرأي، هو ضحية الإغتيال السياسي الذي سقطت جراءه كوادر لامعة في حركتنا الوطنية، وقادة تاريخيين، يضيق المجال عن ذكرهم. إن شجبنا وأدانتنا وتصدينا الحازم لأسلوب الإغتيال السياسي موقف مبدئي وعملي ممارس، لا يمكن أن نحيد عنه من موقع إنساني ونضالي وطني. وإن كنا قد إختلفنا أحياناً في الرأي السياسي مع هؤلاء أو بعضهم، فهذا سبب إضافي واعتبار راجح كي نعلن تمسكنا بالقيم والمثل التي وجهت نضال ناجي العلي واستشهد في سبيلها، وبخاصة مُثل الديمقراطية وحرية التعبير ورفض الإغتيال كأسلوب لتصفية الحسابات السياسية. ■ لقد جرت إضاءات عديدة على الآراء السياسية لناجي العلي فيها الكثير من الصحة وبعض الخطأ. ولعل بعض ما يجانب الصواب هو الكلام عن عقله السياسي، الذي ينأى بنفسه عن الواقعية السياسية ولا يستوعب أحاديث المرحلية في النضال والتكتيك السياسي وميله التبسيطي في مقاربة الواقع المعقد واختزاله إلى ثنائية الأبيض والأسود. ولايحتاج المرء لخوض نقاش سياسي مع ناجي العلي ليفهم أن عقله السياسي أكثر تركيباً وتعقيداً من أن يُقسر ضمن هذه الثنائية، وعلى قاعدة هذا التبسيط. فرسومه تشهد على جدلية الاستيعاب في لحظتي التحليل والتركيب للواقع السياسي، ورسومه تقطع بتفوق القدرة على التقاط الجوهري في اللحظة السياسية المعقدة بخطوط مقلة تنضح بالواقعية، بليغة في التعبير وفعالة في التوجيه. ■ وان كان ثمة ثنائية في فكر ناجي العلي، فهي قائمة بين غني وفقير، وحاكم ومحكوم، ومُضطَهِد ومضطَهَدْ، ولاجيء ومغتصب، لأن الواقع الفلسطيني والعربي قابل لأن يندرج في هذه الثنائيات بسبب حدة الإستقطاب الذي يشهده. إن ثنائية الترميز عند ناجي العلي ليست جامدة ولا تبسيطية مسطحة. وإن استقرت رموزه لا تتحرك إلا باتجاه تأكيد قسوة ملامحها، فذلك بسبب حدة الاستقطاب واحتدام المواجهة. وأفكاره الأساسية، بميلها الفطري والواعي للتصدي للظلم والعدوان واغتصاب الوطن وحقوق الشعب، ثابتة لا تتحرك إلا باتجاه المزيد من التماسك والتجذر. إن هذه الثنائية في الترميز ناتجة عن قدرة متقدمة في التجريد، أي إكتناه الأساسي من بين التعدد، والأساسي في غمرة الازدحام. وبهذا المعنى، فهي ليست ثنائية التبسيط بل الوضوح في عينه في المسألة الوطنية والمسألة الإجتماعية، بل في المسألة الوطنية منسوبة إلى جوهرها الطبقي، وهي تحدد الموقع والإنتماء إلى الشعب الكادح المظلوم المضطهد في مواجهة عرب أميركا وعرب العدو الإسرائيلي. ■ إن ناجي العلي متفوق الإمكانية ومرهف الإحساس في إعادة عملية التشكيل هذه كل يوم بالتقاط المستجد وبرسم روح ومهام التصدي التي تفرض نفسها من خلال المقاومة، التحدي، روح المثابرة، العنفوان الفلسطيني والثقة بالنصر... وفي هذا يحضرنا رسم المرأة - فلسطين فوق ركام بيتها، وعلى بقايا الجدار صورة زوجها الشهيد يتحدى بكبرياء الجندي الصهيوني وفي بطنها المكور جنين المسيرة المتواصلة وصرختها الصامتة تدوي: صبرا ... صبرا .. ألا تذكرنا هذه الصورة بيوميات شعبنا في مخيمات لبنان وفي أكثر من مكان، وبيوميات الإنتفاضة الكبرى التي اندلعت بعد شهور قليلة من استشهاد ناجي. وفي هذا نقول: كم كانت نظرتك إستشرافية وثاقبة أيها الفنان المبدع في التقاط اللحظة السياسية بواقعها الراهن وفي تمثل أبعادها المستقبلية. إن العقل السياسي لناجي لم يكن عاجزاً عن تقبل التكتيك أو استيعاب المرحلية، التي يعتقد بعض القادة في ثورتنا أنهم وحدهم أسيادها. ■ كان إيمانه عميقاً بأن الشعب بحسه وخبرته النضالية المتراكمة ونضجه هو سيد التفكير السياسي الواقعي بمرحليته وتكتيكه. والإشكالية تكمن في اختلال العلاقة بين الشعب وهذه القيادة التي عجزت عن إكسابها ذلك المضمون الديمقراطي، الذي وحده يشكل ضمانة الوصول بالثورة والقضية الوطنية إلى بر الأمان. إن هذا ما يفسر حدة ناجي السياسية التي تعكس موقفاً نقدياً عالي النبرة، وأحياناً رافضاً للقيادة المتنفذة القيِّمة على السياسة الرسمية المعتمدة، وذلك بصرف النظر عن درجة إقترابه أو إبتعاده عن هذه السياسة؛ فالخلل بالنسبة له يكمن في المضمون الديمقراطي للعلاقات التي تقيمها هذه القيادة وأسلوب العمل الناتج عنه، قبل أي شيء آخر. ■ لقد اختار ناجي لنفسه موقع التعبير عن المزاج الشعبي السائد، وأكاد أقول المعارضة الشعبية التي قد لا تنطبق تماماً على أوضاعنا الخاصة كثورة – بأقله حتى الآن؛ هذا المزاج الذي يضرب جذوره في تراث وتاريخ طويل يعود إلى 70 سنة خلت، في إطار ذاكرة شعبية مُسَيَّسة تعلمت ألا تمحض ثقتها بلا شروط أو تحفظات لقيادتها، كما تراها في المؤسسة المتراتبة هرمياً، ولا أقول «السلطة»، وإن كانت قيد التشكل، والتي تنزع في علاقاتها الداخلية ومع شعبها إلى القفز عن الديمقراطية وإلى التسلط والأسلوب الأوامري البيروقراطي، مما يوفر المناخ المؤاتي لتعزيز ميول المساومة لدى بعض القيادات والتي اعتقد ناجي - وأحياناً بحق - أنها تكون على حساب المكاسب الوطنية الفلسطينية وتلحق الضرر بالقضية الوطنية. وفي الظرف الراهن الذي تمر فيه قضيتنا الوطنية في مواجهة السياسة الأميركية بآخر تجلياتها، تبرز الحاجة الملحة إلى ذلك الصوت الوطني الفلسطيني والديمقراطي الأصيل، كي ينطلق موضحاً ومعبئاً ومحرضاً برسومه، التي يساوي كل رسم منها دستة من البيانات■ فهد سليمان 29/8/1991
الفصل السادس
قادة من الجبهة الديمقراطية
■ عمر القاسم ■ عبد الكريم حمد قيس/ أبو عدنان ■ عبد الحميد أبو غوش/ هشام ■ عبد الغني هللو/ أبو خلدون ■ سامي أبو غوش/ الحاج سامي، وزوجته مها ■ سليمان الرياشي/ سعيد عبد الهادي ■ طلال أبو ظريفة
عمر القاسم.. قائد الحركة الأسيرة 1941-1989 ■ ولد الشهيد القائد عمر محمود محمد القاسم في الثالث عشر من تشرين الثاني/ نوڤمبر من العام 1941 في حارة السعدية الواقعة داخل أسوار مدينة القدس القديمة، من أبوين متوسطي الحال. وترجع أصول عائلة القاسم إلى بلدة الطيرة القريبة من حيفا، التي أقامت فيها حتى عام 1911، وبعدها إنتقلت إلى قرية «حبلة» الواقعة قضاء محافظة قلقيلية، حيث ما زالت عائلة القاسم تقيم فيها حتى يومنا هذا. أما والد الشهيد عمر، فبحكم عمله كسائق في إحدى شركات نقل الركاب في ذلك الوقت، فقد كان كثير التنقل والترحال من قرية إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى. وكان المستقر الدائم للوالد الكريم داخل أسوار مدينة القدس، التي أحبها بشكل خاص لمكانتها المقدسة واحتوائها على كثير من المعالم والشوارع والأحياء القديمة، إضافةً إلى كونها مقراً لعمله. ■ تزوج محمود محمد القاسم/ والد الشهيد في عام 1938، وأحضر زوجته، والتي بقيت على ذمته حتى يوم وفاته في 4/3/1989، من بلدة سلمة. وأنشأ أسرة كبيرة، ضمت تسعة أولاد: ستة من الذكور وثلاثة من الإناث؛ وكانت الأسرة، ما زالت تعيش في ضواحي مدينة القدس في حي الشيخ جراح حتى وفاة الشهيد عمر، ورغم تشتت معظم أفراد العائلة لأسباب كثيرة، واضطرارهم للعيش في عدد من الدول العربية المجاورة، من أجل الدراسة و العمل، إلا أن الوالدة الكريمة كانت ما زالت متمسكة بمنزلها، وإلى جانبها أحد أبنائها وإحدى بناتها. ■ يوم الرابع من حزيران/ يونيو من هذا العام، تصادف الذكرى التاسعة عشرة لاستشهاد القائد الوطني عمر محمود القاسم، وهي الذكرى العزيزة على قلب كل مواطن فلسطيني حر، وعلى كل أبناء شعبنا المناضل في كل مكان، فأصدقاء الشهيد ورفاقه في السجن وخارجه وفي كل بقعة من أرض الوطن، يعرفون من هو الشهيد عمر القاسم، وإذا كنت أُحيي ذكرى استشهاد أخي، فإنني في الوقت عينه، أُحيي ذكرى كل الشهداء الأبطال، الذين سقطوا على ثرى وطننا فلسطين، خلال معركة النضال الطويلة والمريرة ضد الإحتلال الصهيوني البغيض، فرووا وطهروا بدمائهم الزكية أرض الوطن، فزادوها قدسية. ■ إستشهد القائد عمر القاسم بعد اعتقال دام أكثر من واحد وعشرين عاما، قضاها في غياهب سجون الإحتلال، متنقلا من سجن إلى آخر، ومن زنزانة إلى أخرى، بحيث لم يبقَ سجين واحد لم يعرفه، أو لم يلتقِ به؛ فكل السجناء منذ عام 1968 وهو تاريخ إعتقاله، وحتى يوم استشهاده في الرابع من شهر حزيران/ يونيو 1989، عرفوه مناضلاً صلباً، وقائداً فذاً في سجون الإحتلال، مارس النضال داخل السجن وخارجه، بأروع صوره، وأطلق عليه زملاءه بالمعتقل لقب «شيخ الأسرى والمفكرين»، لما كان يتمتع به من قوة وبأس، قوة بالفكر والإرادة، حيث اعتبره زملاؤه من أبرز المفكرين والمثقفين، الذين دخلوا المعتقلات الإسرائيلية، كما لقبه شعبه بـ «مانديلا فلسطين». ■ يقول أخي الشهيد في أحدى رسائله إلى أحد أصدقائه خارج السجن: «لكل كائن حي دورة حياة، وبعد أن تكتمل هذه الدورة، فإن الحياة تطرحه جانبا، ويبقى كذلك، إلى أن يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ ولكن، إذا قرر أحدهم، أن لا يقف جانبا، فقد يُضطر إلى مضغ طعامه مرتين، الأولى حقيقية، وفيها يتذوق طعامه ويشعر بلذته، وبالمرة الثانية تكون زائفة، حيث لا يشعر بلذة أو طعماً، وإنما مجرد أن يملأ الفم بالطعام لسد جوعه؛ كل هذا لأعبر لك، عن مدى تذوقي لطعم الحياة، فالأحداث تتكرر أمامي، فتبدو زائفة أحياناً، وإذا ما اضطررت لصنع أحداث جديدة، فهذا يتطلب مني ثمناً باهظاً». ■ وعن خصائص السجن يقول أخي في رسالة أخرى: «إن العزاء الوحيد لنا بالسجن، هو وجودنا على أرض الوطن، والتعرف على أبناء صهيون عن قرب، من خلال وجودنا معهم وجها لوجه، أنتم ربما تقرؤون أو قرأتم عن الصهيونية في الكتب والمجلات، ولكننا ونحن داخل السجون، نلمسها طيلة أربع وعشرين ساعة في اليوم». وقال لي قبل استشهاده: «إذا استشهدت، فلا تأخذوا ثمن استشهادي، فروحي فداء حبي لوطني ولشعبي». ■ لم يكن الشهيد القائد مناضلاً عادياً، بل كان دوره مميزاً منذ اعتقاله وحتى يوم استشهاده، فنضاله يمثل تاريخ ربع قرن من كفاح شعبنا الفلسطيني، وما كتبه عنه رفاقه وأصدقاؤه ومن سمعوا عن نضالاته سواء شعراً أو نثراً أو فكراً لشيء يقرب من الخيال. ورغم فاشية، ونازية الحركة الصهيونية، فقد إرتقى أخي الشهيد بأخلاقه ومبادئه إلى القمة، حيث قال في أحد رسائله - 31/7/1986: «لن نسمح للحقد والممارسات الفاشية والعنصرية الصهيونية، أن تخلق في نفوسنا الرغبة في الرد عليهم بالمثل، والنظر للديانة اليهودية بشكل عنصري، فإننا سنحارب العدو، بما يخدم القيم الوطنية والإنسانية والسلام العالمي، رغم أننا نتألم للمآسي التي تسببها حربهم العدوانية ضدنا، وممارساتهم العنصرية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وضد أطفاله ونسائه، والرجال الكبار بالسن منهم، وللشعوب العربية، وحتى للإسرائيليين أنفسهم». ■ عندما سأله أحد قادة العدو الصهيوني وهو معتقل لديهم، فيما إذا أفرجوا عنه، هل سوف يلتزم ببيته ويمتنع عن القيام بأي نشاطات سياسية ضدهم، جاء رده واضحاً وصريحاً وعفوياً: «لقد أمضيت أكثر من عشرين عاماً في الإعتقال، ولا يهمني مصيري الشخصي، ما يهمني هو قضية شعبي، وطالما بقي كابوس الإحتلال على صدر شعبي، سأبقى أقاتلكم». ■ عندما أفرج العدو عن مجموعة من زملائه بالسجن، ولم يكن ضمن المجموعة التي أفرج عنها، سما الشهيد بروحه وإحساسه، وصعد إلى القمة، حيث جمع رفاقه الأسرى الذين سيفرج عنهم وخاطبهم قائلا: «إنه إنجاز كبير، أن يتم الإفراج عنكم، ونحن نعيش الآن عرساً فلسطينياً وطنياً، وعلينا أن نعمل على إنجاحه، أما نحن الذين سنبقى في داخل المعتقل، فعلينا أن لا نحزن؛ وحتى لا يفقد رفاقنا وإخوتنا فرحتهم، فعلينا أن نفرح معهم». ■ وبعد خروج بعض المعتقلين واستقرارهم خارج المعتقل، سمع عن زواج البعض منهم، فكتب لأحد أصدقائه يقول: «إنني مسرور حقا عندما سمعت بزواج عدد من الأسرى المحررين، أما بالنسبة لي، فلم أكن أتصور في حياتي أن يتأخر زواجي، لأنني بطبيعتي متفائل، أحيانا أفكر بأنه لن يكون لي أولاد شباب، فالتغيير العمري للأسرى بالسجن، جعلني أشعر بأنني أب، وربما جد في آن معاً، فهناك الكثير من الشبان المعتقلين، ينظرون لي كأب، وهذا ما يفرحني، لأنني أحبهم فعلا كأنهم أبنائي، وبعض المعتقلين صغاراً جداً بالسن، ويحبونني كجد لهم، والباقون ينظرون لي كأخ، لأنهم من جيلي، فأنا بالحقيقة، أعيش بين أهل، يحبون بعضهم بعضاً، والمحبة ثمرة العطاء في كل شيء، وسعيد ذلك الإنسان، الذي يجعل حياته كلها عطاء». ■ ومن الأقوال الخالدة للشهيد القائد: «في السجن، لا ينتهي دور المناضل، بل يبدأ، وهو نضال مكمل ومترابط مع النضال خارجه، يجب أن نصمد على هذه الجبهة، «جبهة المعتقلات»، وسوف نصمد رغم الإختلال الواضح والفادح في موازين القوى، لصالح العدو». ■ بعد خروج بعض المعتقلين واستقرارهم في الخارج، كتب لأحد رفاقه: «سعادتي بتحرركم، طفت على حياتي، وبت كأنني أسبح في بحر من النشوة، إن هذا ليس كلاماً مبالغاً فيه، فليس من الممكن لإنسان مثلي، أن يجد طعماً للحياة بعد كل ما جرى، لولا هذا الشعور العميق من السعادة، الذي يسيطر على نفسي، نتيجة لتحرر هذا العدد الكبير من الأحباء». ومضى يقول: «لكن يا أخواتي، بالرغم من ذلك، فأنا لست نادماً لوجودي في السجن، لأن واجبي تجاه وطني وشعبي ومبادئي، أهم بكثير من واجبي تجاه أهلي أو أخواتي، وأعتقد أنكم تؤيدوني في ذلك». ■ وفي رده على رسالة من إحدى أخواته، يقول: «لقد قرأت رسالتك، وتأثرت بها جدا، فقد كانت رسالة مليئة بالحب والألم، ومليئة بالحرارة والصدق، وليس شكل الكلمات هو المهم، وإنما جوهرها و باعثها، وإن كلماتك مهما كانت قاسية أو جميلة، فهي واحدة، لأن مبعثها الحب والصدق، ومع هذا، إنكم بالنسبة لغيركم محظوظون، فهناك فتيات خسرن تعليمهن، وأخريات خسرن حياتهن، وأخريات يقضين حياتهن في السجن، ولكنكن تذهبون وتجيئون بكامل الصحة والسعادة، كذلك بالنسبة لإخواني فهم طيبون، ولكني لن أغفر لهم تقاعسهم عن واجبهم الوطني، واهتمامهم بأنفسهم و بزوجاتهم فقط». ■ في الذكرى الخامسـة عشـرة لاستشهاده كتب عبد الناصر عوني فروانة وهو أسير محرر ويعمل بوزارة الأسرى والمحررين بغزة بتاريخ 4/6/2004: «مَن لَم يَعرف عمر القاسم، لا يعرف الحركة الوطنية الأسيرة... فهو علم من أعلامها ورمزاً من رموزها، وأحد أبُنائها الأساسيين، وكان على الدوام عماداً أساسياً من أعمدتها الراسخة ... فكان في حياته قائداً فذاً، ومناضلاً شرساً، وأسيراً شامخاً، ونموذجاً رائعاً، وفي مماته شهيداً خالداً، وقنديلاً لن ينطفيء نوره، نعم هذا هو عمر القاسم لمن لا يعرفه، بل يعجز القلم عن وصف خِصاله وتجف الكلمات حينما تسرد سيرته، وتنحني القامات تقديراً، حينما تتحدث عن بطولاته ومواقفه»■ أحمد القاسم حزيران/ يونيو 2008
عمر القاسم.. «مانديلا فلسطين» عنوان وتاريخ وهوية 1941-1989 ■ ولد عمر القاسم في حارة السعدية بالبلدة القديمة في مدينة القدس المحتلة - 13/11/1941. درس الابتدائية في المدرسة العمرية القريبة من المسجد الأقصى، إنتقل بعدها إلى المدرسة الرشيدية التي أنهى دراسته الثانوية فيها - 1958. كانت الثانوية بمثابة معقل وطني ومركز للنشاط السياسي الذي تنطلق منه المظاهرات الطلابية التي تتحول إلى مظاهرات شعبية. عمل عمر القاسم مدرسًا في القدس، وفي نفس الوقت إلتحق بكلية الآداب بجامعة دمشق بالإنتساب، وتخرج منها وقد حاز على شهادة الليسانس في الأدب الإنجليزي عام 1963. ■ إرتبط عمر القاسم منذ صغره بالعمل الوطني خلال مرحلة دراسته الثانوية. إنضم إلى حركة القوميين العرب في عمر 17 عامًا؛ بعد حرب حزيران/يونيو 1967، لعب عمر القاسم دوراً في تنظيم المقاومة الشعبية بالقدس، وقد إنعكس نضاله على مهنته في التدريس حيث ربط التعليم بالتحريض السياسي، وكان في مقدمة المظاهرات الشعبية المنددة بالإحتلال. وبسبب نشاطه الوطني وانتسابه لصفوف حركة القوميين العرب، أصبح على رأس قائمة المطلوبين في القدس، لكنه نجح بالإفلات من حملات الإعتقالات بعد تعرض منزله للمداهمة مرات عدة. ■ تحت هذه الظروف، غادر إلى الأردن والتحق هناك بقواعد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تأسست إمتداداً للفرع الفلسطيني من حركة القوميين العرب بنهاية 1967، وانتخب عضواً في لجنتها المركزية. تلقى العديد من الدورات العسكرية إلى أن أصبح عضواً في القيادة العسكرية للجبهة، وتسلم مسؤولية القطاع الأوسط في العام 1968، وعمل على إعداد وتدريب خلايا العمل الفدائي تحضيراً للقيام بعمليات عسكرية ضد الإحتلال. ■ إجتاز ليلة 28 تشرين أول/أكتوبر من العام 1968 نهر الأردن نحو فلسطين على رأس مجموعة فدائية، وكان الهدف جبال رام الله بهدف التمركز فيها لشن عمليات عسكرية ضد قوات الإحتلال ومستوطنيه. إلا أن المجموعة إصطدمت قبل أن تصل إلى هدفها بكمين إسرائيلي قرب بلدة كفر مالك، فوقع إشتباك مسلح إنتهى بوقوع أفراد المجموعة في الأسر بمن فيهم جرحاها، بعد نفاذ ذخيرتهم. ■ أُخضع عمر ومجموعته لتعذيب قاسٍ، لكن هذا لم يمنعه في المحكمة العسكرية من إثارة قضية إلزام سلطات الإحتلال على التعامل معهم كأسرى حرب، وفق ما تنص عليه القوانين والمواثيق الدولية وأصر على حضور الصليب الأحمر الدولي، الذي سجل سابقة في هذا الإطار لتثبيتهم كأسرى حرب. وبعد عدة جلسات حُكم على عمر بالسجن المؤبد مرتين و27 سنة، بتهمة الإنتماء للمقاومة والقيام بعملية عسكرية. وبذلك، بدأ عمر القاسم مرحلة جديدة من العمل النضالي في صفوف الحركة الوطنية الأسيرة داخل سجون الإحتلال. ■ في شباط/فبراير 1969، أُعلن عن إستقلال الجناح اليساري بالجبهة الشعبية تحت إسم جديد، أضحى الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وانحاز عمر القاسم حينها للجناح اليساري وأصبح من أبرز قادة الجبهة الديمقراطية وعضواً في لجنتها المركزية ومسؤولها التنظيمي داخل السجون. كرّس القاسم ومنذ بدايات الأسر إهتمامه لتحويل السجون إلى أكاديميات وطنية، فعمل على إدارة حلقات نقاش حول الخيارات السياسية ومسار القضية الفلسطينية، بالإضافة لشرح الأدبيات الفكرية والفلسفية، كما عمل على الترويج للبرنامج المرحلي الذي طرحته الجبهة الديمقراطية، ليتحول لاحقًا إلى البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. ■ رَكَّزَ عمر القاسم إهتمامه على شؤون الأسرى وأوضاعهم، وقدم دراسات قيّمة لأوضاع المعتقلين، والتجربة الكفاحية للحركة الأسيرة والمراحل التي مرت بها، وذلك في إطار عملية تثقيف وتعبئة وإعداد نفسي ومعنوي للأسرى في مواجهة إدارة السجون، في سياق النضال من أجل تحسين ظروف الإعتقال. ولعل أبرز ما كتبه عمر هو سلسلة مقالات تُشخّص أوضاع الأسرى داخل السجون ومراحل تطور الحركة الأسيرة، وكذلك تجارب إضرابات الحركة الأسيرة، وقد كتب في تلك السلسلة 34 مقالاً، بالإضافة إلى إصدار 126 كراساً تناولت المراحل السياسية التي مرت بها الثورة الفلسطينية. ترافق هذا الجهد النظري مع قيادة حملات الإحتجاج داخل السجون، فقاد عمر مع الأسرى معارك الإضراب عن الطعام، وكان حريصاً بالدرجة الأولى على العمل الوحدوي، ما منحه مكانة بارزة ومميزة داخل الحركة الأسيرة، وذلك بشهادة كافة الأسرى رغم اختلاف توجهاتهم الفكرية والسياسية والتنظيمية. وعمل عمر على بناء الجسم التنظيمي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في المعتقلات الإسرائيلية، وأقام دورات تثقيفية للكوادر، وتخصيص دورات لتجارب حركات التحرر العالمية في حرب التحرير الشعبية، وكان له الفضل في تأسيس صحافة المعتقلات، عبر العمل على إنشاء صحيفة في كل معتقل، ومجلة موحدة للحركة الأسيرة. ■ تشهد مسيرة عمر القاسم داخل السجون له بالكثير من المحطات الكفاحية والمواقف الصلبة. فعندما نَفَّذَت مجموعة تابعة للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين عملية في مستوطنة «معالوت» في أيار/مايو 1974، وأسرت المجموعة عدداً من الإسرائيليين داخل المستوطنة مطالبة بإطلاق سراح 27 معتقلاً فلسطينياً من سجون الإحتلال مقابل الإفراج عنهم، إستدعت سلطات السجون عمر، وقاموا بعصب عينيه ووضعوه على متن طائرة مروحية برفقة رفيق دربه في السجون، الشهيد أنيس دولة، واتجهوا بهما إلى معالوت، ثم وضعوهما على متن مجنزرة، وطلبوا منهما دعوة الفدائيين لتسليم أنفسهم، فرفضا القيام بهذه المهمة. وعندما أصرت سلطات الإحتلال، أمسك عمر القاسم بمكبر الصوت وصاح بأعلى صوته: «أيها الرفاق نفذوا أوامر قيادتكم بحذافيرها ولا تستجيبوا لمطالب الأعداء»، فخطف جنود الإحتلال المكبر منه وانهالوا عليه بالضرب داخل المجنزرة، عقابًا على ما قام به، ثم أعادوه إلى زنزانة إنفرادية. ■ أثار هذا الموقف ضغينة وحقداً لدى الإسرائيليين ضد عمر، فرفضوا إدراج اسمه في كل عمليات تبادل الأسرى التي حدثت فيما بعد، لكن صلابة عمر النفسية وإيمانه بقضيته كانت الوسيلة الوحيدة لمواجهة الرد الإنتقامي القاسي الذي عمد إليه الإحتلال، في محاولة لضرب معنوياته وتحطيمه نفسياً عن طريق إيهامه بأن لا قيمة له في عين تنظيمه؛ فبعد عملية التبادل التي وقعت بين الجبهة الشعبية - القيادة العامة والإحتلال عام 1985، خرج معظم رفاقه في الأسر وتم إستثناء اسمه من قائمة المفرج عنهم، لكن عمر جسّد موقفاً وحدوياً يعبر عن الأبعاد الإنسانية العميقة في شخصيته، وذلك حين تحدث في ندوة تضم كل الذين سيفرج عنهم حيث قال: «إنه إنجاز وطني كبير، ونحن نعيش الآن عرساً وطنياً، وعلينا أن نعمل على إنجاحه، ونحن الذين سنبقى، لا نحزن حتى لا يفقد الرفاق والأخوة فرحة خروجهم. علينا أن نفرح معهم»، وبعد ذلك إقترح برنامجًا بهذه المناسبة وشارك فيه بفعالية. ■ بعد خروج المعتقلين واستقرارهم كتب لأحد رفاقه: «سعادتي بتحرركم طغت على حياتي وأسبح في بحر من النشوة، إن هذا ليس كلاماً مبالغاً فيه، فليس من الممكن لإنسان مثلي أن يجد طعم الحياة، إلا أن هذا الشعور العميق من السعادة الذي يسيطر على نفسي نتيجة لتحرر هذا العدد الكبير من الأحباء». رأى الإحتلال أن تأثير عمر القاسم تجاوز حدود المعتقل، وبعد اندلاع الإنتفاضة الكبرى عام 1987 حاول الإحتلال الدفع بخطوات للتهدئة في محاولة لاحتواء زخم الإنتفاضة المتصاعد. وفي أثناء مقابلة إسحق ناڤون، الرئيس الإسرائيلي السابق مع عمر القاسم داخل السجن، طلب منه عدم القيام بأي نشاط سياسي، مقابل الإفراج عنه والسماح له بالإقامة في القدس. فجاء رد عمر حازماً: «أمضيت عشرين عامًا في الإعتقال، ولا يهمني مصيري الشخصي، ما يهمني هو قضية شعبي، وأن لا يبقى كابوس الإحتلال على صدر الشعب. سأبقى أناضل وسوف يأتي اليوم الذي أتحرر فيه». ■ كان عمر قائدًا وقدوة متفقًا عليه، وكان مرجعاً وعلى درجة عالية من الوعي وقوة الإقناع. ومن المحطات الهامة في تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة، أنه قاد، عشية إنعقاد الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر في تشرين الثاني/نوڤمبر 1988، النقاش السياسي في كافة السجون والمعتقلات، من أجل صياغة المهام الراهنة للحركة الوطنية الأسيرة، وهي النقاشات التي وَحَّدَت الأسرى على برنامج سياسي موحد، مطالباً الدورة 19 بإعلان قيام دولة فلسطين. ■ عانى عمر القاسم خلال مسيرة حياته خلف القضبان، على مدار 21 عاماً من العديد من الأمراض بسبب التعذيب والتنكيل، ما تحول إلى مرضٍ عُضال في ظل سياسة الإهمال الطبي المتعمد من قبل إدارة مصلحة السجون، التي ضربت بعرض الحائط كافة المناشدات الصادرة عن الهيئات والمؤسسات الإنسانية والدولية الداعية لإطلاق سراحه، إذ أبقته يكابد أوجاع المرض في مستشفى السجن. في تاريخ 4 حزيران/ يونيو 1989، أُعلن عن استشهاد عمر القاسم جراء تفاقم مضاعفات المرض، بعد أن أمضى واحداً وعشرين عاماً في سجون الإحتلال، وهي أطول فترة يمضيها معتقل فلسطيني في تلك السجون ذلك الوقت، وقد أطلق عليه لقب «مانديلا فلسطين». ووريَ الشهيد عمر القاسم الثرى في مقبرة الأسباط في مدينة القدس، وشارك في تشييع جثمانه الآلاف من الجماهير والقيادات السياسية والوطنية، كما أقيمت للشهيد مسيرات وجنازات رمزية، ومظاهرات عمت كافة أرجاء الأرضي المحتلة. لم يعش عمر طويلاً، لكنه بات رمزاً لشجاعة الفلسطيني وصموده، وستبقى مسيرته فخراً لكل أحرار العالم، وبوصلة نضالية للحركة الأسيرة■ محسن القيشاوي 7/5/2021
عبد الكريم حمد قيس/ أبو عدنان.. سنديانة فلسطين 1927-1992
■ برحيل القائد والمناضل الكبير أبو عدنان، سنديانة فلسطين، فقدت الجبهة الديمقراطية والثورة الفلسطينية وحركة التحرر العربية، واحداً من أبرز مناضليها وأشدهم إخلاصاً لمبادئه ومعتقداته. لقد أمضى القائد الكبير أبو عدنان حياته كلها، من أجل قضية شعبه ووطنه، ومن أجل قضايا التحرر والتقدم العربية، ومن أجل حرية وإستقلال فلسطين، وعودة أبنائها اللاجئين إلى ديارهم، ورحل أبو عدنان مثقلاً بالمرض والتعب، متسلحاً بروح الشباب واليقين بعدالة قضية شعبه وواجبه في استعادة حقوقه الوطنية. رحل عنا أبو عدنان، مخلفاً سمعة نضالية عطرة وإرثاً كفاحياً ناصعاً، نشأت على يديه أجيال من المناضلين الأشداء تتلمذوا على يده، واستمدوا من خبرته وصلابته قوة مضاعفة في مواجهة التحديات الهائلة، والمصاعب والمؤامرات الهادفة للحؤول دون انتزاع شعبنا الفلسطيني لحقوقه الوطنية، حقه في العودة وتقرير المصير والدولة المستقلة. ■ عاش مناضلنا الكبير أبو عدنان تجارب غنية من النضال الوطني التحرري العربي، والنضال الوطني الفلسطيني، وكان دائماً مناضلاً وقائداً صلباً مخلصاً متفانياً، عانى أشكال القمع والملاحقة والسجن والإهانات على يد زبانية النظام، ما عَرَّض حياته أكثر من مرة للخطر، بقي على الدوام مرفوع الرأس، موفور الكرامة، مؤمناً بعدالة قضيته، وفياً لرفاقه ولأبناء قضيته وشعبه، وكان على الدوام محط إحترام أبناء شعبه، والشخصيات والرموز الوطنية والعربية عرفته، واحترمت فيه الإخلاص والتفاني والنفس الطويل في النضال والإستعداد الدائم للمثابرة على دربه مهما بلغت الصعوبات. ■ أبا عدنان ... نفتقدك في هذه الأيام الدقيقة من عمر قضيتنا ومسيرة شعبنا ... نفتقد إيمانك الراسخ وبساطتك النموذجية وحبك العميق لشعبك وقضيتك ... نفتقد رجلاً كبيراً عاش واستشهد من أجل فلسطين. ومن أجل كل القضايا النبيلة ... نفتقد قلباً كبيراً إتسع لكل العواطف الجياشة، وللعطاء غير المحدود، قلبٌ توقف قبل الأوان متعباً، ويخفق ويعمل ويسابق الزمن سعياً لتحقيق العدالة التي داسها المحتلون بأقدامهم، وتعامل آخرون معها بمعايير مزدوجة، لم يكن ليقبل بها أبو عدنان.
■ قلب كبير توقف عن الخفقان ورحل عنا، وسنديانة شامخة منتصبة ، راسخة في أرض الأجداد وفي وجدان شعبه الفلسطيني ومناضلي ثورتنا وإنتفاضتنا وجبهتنا. سنديانة سامقة، مستقيمة الجذع، متجذرة عميقاً في الأرض وفي الذاكرة ... حتى تتحقق أهداف الشعب في العودة والحرية والإستقلال الوطني■
نايف حواتمة آب/ أغسطس 1992
عبد الكريم حمد قيس/ أبو عدنان.. عاش من أجل فلسطين 1927-1992
■ أبو عدنان، الفلسطيني الطيب، المشرد منذ صباه خارج وطنه، المناضل باستمرار من أجل هذا الوطن، ومن أجل حقوق شعبه التي ديست بأقدام الغزاة والجبابرة العتاة، الذين وقفوا معهم باستمرار، كان مريضاً بالقلب منذ زمن طويل، ولكن مرض القلب هو أحد الأمراض الفلسطينية الدارجة، هذا من جانب، ومن جانب آخر، لم يكن أبو عدنان بعيداً عن التأثر بكل ما يحيط به من أحداث، وما يحيط بشعبه من آلام ومصاعب. ■ لم يعد سراً أن أبا عدنان تحسس كثيراً من صيغة التسوية التي طرح الأميركيون خطوطها العريضة، في أواخر العام 1991 من بوابة مؤتمر مدريد - واشنطن، وتلمس أبو عدنان أن قضية المشردين/ اللاجئين، أي قضية أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، باتت مطروحة، من قبلهم للتصفية، عبر التوطين والتهجير المتجدد، وهو ما اتضح بجلاء كبير في مطلع العام 1992، مع إنعقاد مؤتمر موسكو متعدد الأطراف، ومن ثم إجتماع لجنة اللاجئين المنبثقة عنه في أوتاوا – كندا، التي بحثت بقضيتهم بمنطق تنموي – معيشي، بمعزل عن المضمون الوطني لقضية اللاجئين القائم على حق العودة إلى الديار والممتلكات. وأكثر من ذلك، كان لدى أبي عدنان تخوف كبير حتى على مصير قضية الإستقلال الفلسطيني، وأبو عدنان كان وطنياً فلسطينياً حازماً ووطنياً عربياً وفياً للأفكار التي حملها منذ صباه، منذ فترة الصعود الكبير لحركة التحرر العربية في الخمسينيات والستينيات، وأبو عدنان من الرعيل الحازم في عدائه للإمبريالية – والإمبريالية الأميركية تحديداً، ولم تكن تريحه ظواهر التدخل الأميركي في الشؤون الفلسطينية، وتناغم بعض الفلسطينيين مع هذا «العصر الأميركي»، كما يسميه البعض. ■ كانت لدى أبو عدنان ثوابت قوية حازمة وإخلاص لا متناه لقضية شعبه الفلسطيني وقضايا العرب، والكادحين منهم خاصة، كان حسه الطبقي فطرياً، كما كان الحال بالنسبة للفنان الشهيد ناجي العلي، الذي كان أحد طلابه في مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، حين كان أبو عدنان مدرساً في مدارس وكالة غوث للاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وكان ناجي تلميذاً شقياً وموهوباً فيها، توسَّم فيه أبو عدنان تلك السِمات التي جعلته من أهم المبدعين في عالم الرسم الكاريكاتوري. كان أبو عدنان يرى حوله تراجعات وإنهيارات حركة التحرر العربية (ومعسكر الإشتراكية السوڤييتية الذي تحالف ودعم هذه الحركة) كآلام شخصية، لم يكن يفصح عنها إلا للقلائل من حوله، كل ذلك علاوة على الصعوبات الصحية التي كان يعاني منها أكثر من فرد من عائلته الصغيرة، الملتزمة هي أيضاً بقضية النضال. ■ وكما كان يعرف الجميع، كان أبو عدنان متقشفاً في حياته وملبسه، ولم يترك وراءه سوى سمعته النضالية وسيرته الطيبة، والقدوة التي يشكلها بالنسبة للعديد من الذين عرفوه أو تربوا على يده، بالمعنيين، التعليمي والنضالي. ■ كان أبو عدنان، إبن قرية نَحِفْ الواقعة في مركز منطقة الشاغور بين جبال الجليل الأعلى وجبال الجليل الأسفل، ثم اللاجيء في مخيم عين الحلوة الكبير قرب مدينة صيدا اللبنانية المتعانقة، منذ زمن بعيد، مع فلسطين وقضيتها، كما جسد ذلك إبن صيدا البار وصديق أبي عدنان الشهيد الكبير معروف سعد، الذي كان إستشهاده - 1975 إحدى الإشارات الأولى لإنطلاقة حرب صعبة عاشها لبنان، أكلت الأخضر واليابس، وطحنت سنوات عديدة من عمر البشر فيه، من لبنانيين وفلسطينيين وعرب آخرين، كان أبو عدنان قريباً دائماً من أبناء المخيمات الفلسطينية، ومن بسطاء المنافي الفلسطينية الذين يشعرون دائماً بأنه واحد منهم، والآلام التي لحقت بالمخيمات الفلسطينية في لبنان، وبشعبي فلسطين ولبنان ككل، كان يعيشها أبو عدنان بحساسية كبيرة، وكانت تنعكس على مزاجه وصحته. ■ عاش أبو عدنان حياته من أجل شعبه وقضيته الوطنية، والحديث عن «إفناء الحياة» خدمة لقضية بعينها، ينطبق عليه بشكل خاص، ولذلك له دين علينا، دين الوفاء للقضية التي عاش واستشهد من أجلها، قضية كادحي العرب، الذي حمل، لفترة من الزمن، راية وحدتهم وتحررهم وتطورهم، وبقي حتى النهاية يؤمن إيماناً عميقاً بهم وبها، رغم كل الإنتكاسات. ■ في ذمة الخلود يا أبا عدنان، ونعاهدك أن نكمل هذا المشوار الصعب بنفس الحزم واليقين، من أجل أطفال الحجارة ومن أجل أبناء المخيمات الفقيرة، من أجل شعب لا يريدون له أن يكون حراً سيداً على أرضه، وأملنا جميعاً بهؤلاء الأطفال، الذين يستشهدون اليوم برصاص العدو الإسرائيلي، الذي يطاردهم ليل نهار، أملنا بهذا الشعب الصلب الذي قال عنه شاعر الأرض الفلسطينية توفيق زياد، بعد أحد مآسيه الكبرى المعاصرة، كما جسدتها «النكبة»، أنه «شعب ذو سبعة أرواح» ■
داود تلحمي آب/ أغسطس 1992
شهادات قالوا في «أبو عدنان» ...
■ إن فقدان المناضل أبو عدنان من صفوفكم هو خسارة لكم ولنا، خاصة في هذه الظروف التي يجتازها النضال الوطني الفلسطيني. وفي ذاكرتنا الروابط الكفاحية التي جمعتنا والرفيق المناضل أبو عدنان، وهي صفحة ناصعة في التاريخ الوطني■ د. جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
■ عرفته منذ أكثر من أربعين سنة، لم يَهُن يوماً ولم يستكن لحظة، كان حركة دائمة بإيمان لا يعرف اليأس، وعزيمة لا تعرف الكلل. أبو عدنان واحد من رموز الجليل الذي تحمل أعباء النكبة، ولما قضى ترك له رفاقاً يحملون المشعل، وسيكملون المشوار حتى يتحقق الحلم الذي نذر أبو عدنان نفسه من أجله، تحرير فلسطين وإنسانها■ شفيق الحوت عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
■ سيفتقد إخوته برحيله عنواناً من عناوين الإلتزام القومي الكبيرة في ساحة النضال العربي■
سليم الحص رئيس مجلس الوزراء الأسبق
■ إن الخسارة بفقدان الأخ المناضل أبو عدنان لا تعوض، فقد كان رحمة الله عليه رمزاً للنضال في سبيل قضية العرب جميعاً، ومثالاً للإلفة والمودة بين أهالي لبنان وفلسطين، فرحمة الله عليه، ونسأل الله أن يسكنه مع الشهداء الصديقين في علياء سمائه، وتعازينا لجميع الأخوة■
رشيد الصلح رئيس مجلس الوزراء اللبناني
■ عرفت الأخ المرحوم أبو عدنان مناضلاً شريفاً عنيداً في الحق متشبثاً بهذا الحق دون أية مساومة، وإذا كان قد قضى بنوبة قلبية، فإن قلبه كان يتسع لكل نضالات الأمة، ونضال الشعب الفلسطيني، لذلك أعتبره قضى شهيداً من أعز الشهداء■ شفيق الوزان رئيس وزراء لبنان الأسبق
■ تحية الفخر والإعتزاز لنضالك يا أبا عدنان، يا رفيق الدرب وزميل النضال في الأزمات الصعبة، وستبقى الشعلة التي أضأناها سوياً، متوهجة إلى أن تنتصر راية التحرير على أرض فلسطين■
محسن إبراهيم الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان
■ لا يمكن إلا أن ننحني إجلالً وإكباراً أمام ذكرى هذا المناضل - المثال■ جورج حاوي الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني
■ أعطى كل حياته لقضايا الأمة العربية، فأضاف إضافة جَمَّة إلى نضال كل الشرفاء، أضاف العمل الإنساني وعلاقته الإنسانية التي قلما تراها في غيره، بالإضافة إلى المبدأية والمناقبية، عرفته منذ زمن طويل وله فينا أعظم تقدير وإحترام■
منير الصياد الأمين العام للاتحاد الإشتراكي العربي
■ فقدنا في شخص الرفيق أبو عدنان، صديقاً مخلصاً ومناضلاً كبيراً، شكل على الدوام نموذج المناضل المخلص المتفاني المبدئي، خسره شعب فلسطين وكل المناضلين الوطنيين واللبنانيين والعرب■ نديم عبد الصمد عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني
■ فلسطين الثورية الجديدة التي ولدت بعد 1948، مقترنة بذهني بطليعة مميزة، وَحَّدَها المرحوم عبد الكريم حمد قيس - أبو عدنان. وقضية أخرى أصبح فيها مع الأيام خبيراً، وهي العلاقات الفلسطينية – اللبنانية، وأذكر أنني كنت معه ومع أبي ماهر اليماني ومجموعة طليعية في زيارة للرئيس اللبناني فؤاد شهاب، وكانت أول محاولة لإقامة علاقات واضحة بين المخيمات الفلسطينية وفي لبنان والسلطة اللبنانية■ مُنح الصلح المفكر والسياسي اللبناني المعروف
■ قدر المناضلين بل أقصى طموحاتهم أن يسقطوا في ساحة النضال، وأن يسجلوا وقفات العز التي لا معنى للحياة بدونها، وأبو عدنان فارس من فرسان النضال من أجل فلسطين، ومن الذين مارسوا الشهادة عبر فعل العطاء اليومي، وهو إذ يغادرنا اليوم، يترك فراغاً، ستعرف الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين كيف ستملؤه■ نصري الخوري مكتب الرئاسة في الحزب السوري القومي الإجتماعي
■ لا غرابة إذا تعب قلبه بعد نصف قرن تقريباً من النضال المتواصل، ضد البغي والطغيان والإستعمار والتخلف والفساد، والإنحراف والمتاجرة بالقيم والتنكر للمباديء وتزوير الشعارات. أبو عدنان يرحل بجسده، ولكن نفسه تظل موجودة، هي موجودة بيننا بأفكاره وبنضاله وممارساته، وبما بذله من أجل قضيته■ د. أنيس صايغ رئيس تحرير «الموسوعة الفلسطينية»
■ غالباً ما تتجسد الصفة في الذهن، رجلاً، فلا تتمثلها إلاّ من خلاله، ولا تذكرها إلا وتستحضره. وهكذا فقد التصقت كلمة «مناضل» في ذهني بصورة رجلين: أبو ماهر أحمد اليماني، مدّ الله في عمره، وأبو عدنان عبد الكريم حمد قيس، الذي غادرنا قبل أيام إلى الدار الآخرة، من غير أن يغادر موقعه في «الشارع»، أي شارع وكل مكان من لبنان (...)، لا إدعاءات ولا تصريحات ولا صور إلا ضمن العشرات والمئات والآلاف وفي الصفوف الخلفية ... لا مواكب ولا سيارات ...■ طلال سلمان رئيس تحرير جريدة «السفير» اللبنانية
■ أبو عدنان خسارة كبيرة وموجعة على كل هذه الساحات، والمصاب جلل للبنانيين والفلسطينيين معاً، لأن عبد الكريم حمد قيس هو عقدة الوصل الموصولة دائماً في حكمته ودرايته ومعرفته ومتابعته للشؤون الوطيدة في العلاقات اللبنانية – الفلسطينية على كل مستوياتها، المتوجه إلى القصر الجمهوري أو رئاسة الحكومة أو وزارة الداخلية أو وزارة الشؤون الاجتماعية، ليتسنى له عرض قضية تخص الفلسطينيين في لبنان. أبو عدنان لم يكن ملك جبهته الديمقراطية التي نقدم لها العزاء بوفاته، فالرجل لعب دوراً، حتى لفظ أنفاسه على الساحة اللبنانية، دوراً ميزه، عندما كان يقتحم على الرئيس الأمير فؤاد شهاب ساعات ليله، يبحث معه في أمر معتقل فلسطيني، أو شأن يتعلق بوضع يعانيه مخيم من المخيمات الفلسطينية في لبنان■
موفق مدني رئيس تحرير صحيفة «الديار»
■ موت أبي عدنان شهادة في ساحة نضال، هي أشرف وأنبل ما عرف تاريخنا الحديث ... كانت فلسطين تلمع على وجهه وفي كلمات، وفي نبض قلبه الذي توقف، ولكن فلسطين لم تتوقف، ولن تتوقف حجارة أطفاها ومسيرة شعبها■
سماحة العلامة محمد حسن الأمين
■ كثيرون لا يعرفون أبوعدنان، ولكن كل واحد في مخيمات لبنان يعرفه ويعرف بساطته وكبرياءه وعطاءه منذ عهد الخيام الممزقة في الخمسينيات، وحتى عهد المخبرين والعسس والسياط وإستباحة الكرامات في بداية الستينيات، وإلى عهد القرنفلة الحمراء، وزغاريد العودة في السبعينيات، وعهد إجتياحات العدو، وحروب الأشقاء في الثمانينيات. في فترة من الفترات، إنقسمت الساحة الفلسطينية على ناسها، وإحتكم الناس إلى أسلحتهم، وتحولت شوارع الفاكهاني إلى غابة كلاشنكوڤات، ويومها كان أبو عدنان وزميله رفيق دربه أحمد اليماني – أبو ماهر، هما وحدهما اللذان يسيران بلا حراسات، وبلا بنادق، وبلا صهيل سيارات مسلحة، ولا صفق أبواب عندما يترجل الراكبون■
صالح القلاب وزير الإعلام الأردني الأسبق
عبد الحميد أبو غوش/ هشام.. ترك بناءً وبنائين، عملوا معه وتعلموا منه 1947-2014 ■ في حضرة الشهادة نلتقي هَهُنا، حيث الشهادة ملح الأرض؛ في حضرة الشهادة، نلتقي اليوم، لإحياء ذكرى قائد بارز من قادة العمل الوطني الفلسطيني؛ قائد مؤسس في القيادة التاريخية للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. وإذا كان من طبيعة الأمور، في المناسبة التي تجمعنا اليوم، أن نتكلم عن هشام أبو غوش، لابد – إبتداءً – من استئذانه؛ فمن بين الصفات التي إتسم بها فقيدنا الحبيب، ميزة التواضع ونكران الذات والتماهي مع الجماعة ونسب الإنجاز إليها؛ أما نحن، فمن جهتنا، لن نستأذنه هذه المرة، فهو لم يستأذنا بالإنصراف، لكننا نستميحه عذراً، إذا ما حاولنا – بكلمات قليلة – أن نفيه بعض الحق تعبيراً عن بعض الوفاء؛ فغائبنا الكبير كان بليغاً باختصار الخطاب المعلن، ساطعاً بتجنب الأضواء، مؤمناً بأن العمل الجيّد، إنما يعبّر عن نفسه بنفسه، باعتباره ملكاً للمناضلات والمناضلين الساعين بدأب في رحاب القضية الوطنية. ■ إبن عمواس الرابضة على كتف القدس، التي فيها ولد وإلى جوارها عاد بعد رحلة عوليس فلسطين؛ إبن عمواس الذي أفنى زهرة العمر مكافحاً من أجل القدس بأقصاها وقيامتها، من أجل العودة وتقرير المصير، من أجل الدولة واستعادة الوطن السليب؛ ها هو الأن يرقد بسلام، راضياً مرضياً، بعد أن ووري ثرى البيرة – رام الله، أسوة بشهيد فلسطين الأكبر ياسر عرفات، في النقطة الأقرب إلى عمواس اللطرون، عمواس القدس، عمواس فلسطين. ■ عرفته مخيمات الشتات، في الأردن، وفي سوريا بخاصة، منافحاً مثابراً عن قضايا الشعب والثورة في جميع المحطات الصعبة التي إجتازتها منظمة التحرير، ومدافعاً عنيداً عن وحدتها وبرنامجها، كلما إقتضى الأمر. وما أن لاحت أمامه فرصة العودة إلى فلسطين، حتى إندفع نحوها بالعاطفة المشبوبة والعقل الراجح، مطمئناً أن ما ساهم – من موقعه – ببنائه في الشتات الفلسطيني بات بأيدٍ قادرة مقتدرة؛ فهو كان على مفترق مقدمات إستحقاق «إنتفاضة الإستقلال» التي من «أقصى» القدس إندلعت شرارتها؛ ثم كان على موعد مع مواجهة الإحتلال الغاشم وحملته على الإنتفاضة بمسمى «السور الواقي»؛ وبعدها كان حاضراً على استحقاق إعادة البناء بعد إنقشاع غبار المعركة تحضيراً للجولات المتوالية فصولاً، وآخرها عدوان «الجرف الصامد» - 2014 على القطاع، الذي شكلت إستباحة الضفة والقدس على مدى ثلاثة أسابيع المقدمة الدموية لعدوان إمتد لقرابة الشهرين. ■ لم تنقضِ عقود النضال المتواصل بالجهد اليومي المثابر، الدؤوب.. لم تمضٍ دون أن تترك آثارها الغائرة على الجسد، وإن صقلت الوعي، فمناعة الجسد طالما تحركت باتجاه مخالف لقوة الإرادة ومَنَعتْها؛ وكلما كان الخبيث يتمدد في الجسد، جسد فقيدنا الحبيب، كانت إرادته تتفولذ وعزيمته تشتد، في البذل والعطاء حتى الرمق الأخير، بهدوء وصمت يعكسان سمو الروح وعمق الإيمان بقضية الشعب والوطن. ■ هكذا رحل عنا هشام أبو غوش.. لم يخلِّف وصية، ولم يوصِ أحداً أو بأحد، بل ترك بناءً وبنّائين عملوا معه وتعلموا منه؛ هؤلاء سيغذون الخطى بنفس التصميم، في ظرف سياسي بالغ التعقيد يطرح جملة من التحديات؛ تحديات يتوجب على الحركة الفلسطينية رفعها دونما تردد: • أول هذه التحديات يتمثل بكيفية التقدم نحو إستعادة الوحدة الداخلية بعد أن تبدَّت النتائج الكارثية للإنقسام في أكثر من محطة فاصلة، آخرها- 2014، عدوان «الجرف الصامد» على القطاع. أثناء هذا العدوان، الذي لم يستثنِ الضفة والقدس وإن تركز على القطاع، ظهرت المفارقة الصارخة بين الوحدة في الميدان حيث تدور المواجهة، والفِرقة في القرار حيث تُرسم السياسة. حالة الإنقسام هذه لم تُفلح خطوات على غرار تشكيل الوفد الموحد للمفاوضات، وقبلها حكومة الوفاق الائتلافية المنبثقة عن إتفاق الشاطيء، بعد تنحي حكومة حماس.. لم تفلح في وضع الحالة الفلسطينية على سكة إستعادة الوحدة، لأن هذه الخطوات – على إيجابيتها – أتت جزئية ومحدودة، وحاذرت المساس بالبنية الحامية لمركز القرار السياسي على مستوى القطبية الثنائية المتنابذة. إن ما نواجهه حالياً يقتضي المعاجلة لدعوة «الإطار القيادي المؤقت والموحد» الذي يضم جميع القوى ممثلة برأس الهرم لكل منها، إلى إجتماع فوري لبحث الأوضاع، باعتباره – أي الإطار - المعني بتقديم الإجابات الوافية على السؤال الملح بشقيه: ماذا بعد العدوان على غزة؟ وماذا بعد فشل العملية السياسية بالرعاية الأمريكية المنفردة؟ • ثاني هذه التحديات يتمثل بالقدرة على تشكيل الأدوات الرئيسية الفاعلة سياسياً وإدارياً على طريق إستعادة الوحدة الداخلية، وحل المشكلات الداهمة من خلال ثلاث خطوات متلازمة: - تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية؛ - تشكيل قيادة وطنية موحدة في قطاع غزة تأخذ على عاتقها، ومن موقعها، إنجاح خطة إسقاط الحصار وإعادة إعمار ما دمره العدوان؛ - تشكيل خلية أزمة في إطار اللجنة التنفيذية لمتابعة أوضاع شعبنا في سوريا لجهة توفير الحد الأدنى من متطلبات الصمود وإحتواء نزيف الهجرة التي باتت تنذر بالتحول إلى ظاهرة إجتماعية تهدد تماسك البنية والدور الوطني. • أما التحدي الثالث، وعلى خلفية إنسداد سُبل الحل السياسي بالرعاية المنفردة لواشنطن، فيتمثل باتباع إستراتيجية تبني على عضوية فلسطين المراقبة في الأمم المتحدة من أجل إكتساب عضوية دولة فلسطين في المؤسسات والإتفاقيات الدولية، وبخاصة محكمة الجنايات الدولية، وبما يفتح الأفق لهجوم سياسي دبلوماسي يحقق المزيد من خطوات نزع الشرعية عن الإحتلال وعزل الكيان. ■■■ ■ وبمغزى هذه التحديات وروحيتها، والإلتزام بما ينجم عنها من مهام، نعاهد شعبنا على مواصلة الطريق حتى العودة والدولة، وبالقدس عاصمة.. هذا عهدنا لأسرانا الذين نجلّهم ونناضل حفاظاً على مكانتهم وحقوقهم إلى أن يعانقوا فضاء الحرية؛ هذا عهدنا لجرحانا، ولشهدائنا الذين سقطوا في العدوان الأخير؛ هذا وعدنا للقائد هشام أبو غوش الذي إرتقى شهيداً قبل أن يرى القدس محررة، وعلم فلسطين يرفرف تحت سماء عمواس اللطرون، عمواس القدس، عمواس فلسطين. نم قرير العين هانئاً في مثواك الأخير، أيها الرفيق والأخ والصديق، فمن غيرك تنطبق عليه مقولة: رُبَّ أخٍ لم تلده أمك■ فهد سليمان 23/10/2014
عبد الغني هَلَلو/ أبو خلدون.. عاش الثورة بمختلف محطاتها 1947-2017 ■ إذ نقف أمام ذكرى رحيل قائد مؤسس من قادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين؛ عبد الغني هللو- أبو خلدون، عضو مكتبها السياسي، تعود بنا الذاكرة إلى عقود مضت، بمحطات فاصلة في مسيرة نضالية ممتدة، تفيض عن نصف قرن من النضال المثابر، بروح التفاؤل الثوري المتأصل، بإرادة لا تلين، وبقناعة راسخة بحتمية إنتصار القضية الوطنية، مهما تعاظمت الصعوبات التي تعترض طريقها. ولد شهيدنا الكبير في يافا 1947، عروس الساحل وعاصمة فلسطين الثقافية بدون منازع، التي رأت النور في الألف الرابع قبل الميلاد، حيث هَجَّرت العصابات الصهيونية أبناء المدينة إثر النكبة عام 1948، فتوجَّهت عائلته إلى دمشق، فيها نشأ وتعلم في مدارسها وكلياتها، وانخرط في وقت مبكر، وهو على مقاعد الدراسة في النضال الوطني والقومي من أجل قضية فلسطين وحق اللاجئين في العودة إلى الديار والممتلكات. ■ هو من جيل إنخرط في العمل الوطني في مرحلة تقدم المشروع النهضوي العربي، لاستكمال مهام التحرر الوطني، في مرحلة المد القومي، تحت مظلة الوحدة العربية، وتحرير فلسطين، والإنفكاك من قيود التبعية والتخلف، لصالح التنمية الإقتصادية والتقدم الإجتماعي بأفق إشتراكي. كما هو من جيل واكب الحركة الوطنية الفلسطينية منذ انطلاقتها وعلى امتداد عمرها المعاصر، بمختلف مراحلها، تقدماً وتراجعاً، وبمختلف ميادين عملها، في العمل الفدائي، والحركة الأسيرة، وفي الدفاع عن الثورة وسلاحها، في العمل السياسي والتنظيمي والجماهيري والعسكري، قبل أن يترجل ويترك الساحة، في رحيلٍ عزّ على أبناء الجبهة الديمقراطية ومناصريها، وعلى أوساط واسعة في الحركة الوطنية، ويسلم الراية إلى من خَلَفَهُ. ■ ولعلنا نفي شهيدنا الكبير بعضاً من حقه، بتجديد التأكيد على مواصلة المسيرة، التي إفتتحناها معاً، وتدرجنا في دروبها الوعرة حتى ترتفع راية فلسطين فوق أسوار القدس، المدينة السليبة راهناً، والعاصمة المحررة حتماً لدولتنا المستقلة؛ وفي هذا السياق نؤكد إخلاصنا للرسالة التي وجهها، قبل رحيله، أن حان الوقت، وآن الأوان، لكي تنتقل دفة القيادة في الحركة الفلسطينية بعمومها، إلى الأجيال الصاعدة، التي رأت النور بعد اندلاع الثورة المعاصرة. ■ في سيرته النضالية المديدة تقلد فقيدنا مهام عديدة، أبرزت كفاءته القيادية، فقد انطلق من المواقع القتالية في نسق القواعد العسكرية، ليحتل دوره القيادي في صفوف الحركة الجماهيرية، حيث انتمى – وافداً من الحركة القومية - للجبهة الديمقراطية منذ تأسيسها في شباط/ فبراير 1969، وكان واحداً من مؤسسيها، وانتقل إلى الأردن للإنضمام إلى القطاع العسكري، وشارك في العديد من العمليات ضد الإحتلال الإسرائيلي، ثم عاد إلى سوريا، فانخرط في العمل النضالي إلى جانب أبناء المخيمات الفلسطينية، ليتولى بعد ذلك مسئولياته القيادية في مخيمات لبنان، مقيماً في مخيم الرشيدية الساحلي، المخيم الأقرب إلى فلسطين في الجنوب اللبناني الأغر، جنوب المقاومة، قبل أن ينتقل بمهمة التمثيل الرسمي للجبهة الديمقراطية في العاصمة العراقية بغداد، وبعدها ممثلاً للجبهة في العاصمة الليبية طرابلس. عرفته الأحزاب اليسارية والتقدمية والديمقراطية العربية وفي العالم، حاضراً في محافلها ومؤتمراتها ممثلأ للجبهة الديمقراطية ورئيساً لوفودها وناطقاً رسمياً باسمها.. وبعدها تولى قيادة منظمات الجبهة الديمقراطية في الفروع الخارجية، لينتقل بعد ذلك لقيادة إقليم الجبهة في مخيمات سوريا. ■ إلى جانب الدفاع عن الحقوق الوطنية، وعن م.ت.ف، ممثلاً شرعياً ووحيداً لشعبنا، وعن كيانيته السياسية، خاض أبو خلدون النضال في الميادين كافة، ولعل أهمها لا بل في مقدمها النضال من أجل بناء أجيال من المناضلين، في صفوف الحركة الشعبية وفي المخيمات، وعلى يديه تربت أجيال من المناضلين الفلسطينيين في أغوار الأردن، وفي مخيمات سوريا ولبنان، وفي كل مجال، إضطلع فيه بمسئولية، بغض النظر عن طبيعتها، وعديد الذين عملوا بقيادته أصبحوا الآن قادة في الصفوف الأمامية، يحملون عنه أطيب الذكريات، ذكريات الكفاح المشترك، والمعاناة معاً، بما في ذلك معاناة الجوع، في بعض الأيام، ومعاناة درء مخاطر الإنقسام دفاعاً عن مصالح شعبنا وقضيته. ■ وفي مثابرته على الإلتزام بالروح النضالية، خاض أبو خلدون في صعوبات الكفاح بلا تردد، وجابه المخاطر وتخطى العقبات، متطلعاً إلى المزيد من العطاء، مسلح بيقين إنتصار الثورة والمقاومة وإندحار الإحتلال، وتحرير الأرض، وقيام الدولة الفلسطينية. وكان يراوده، حلم العودة إلى الديار والممتلكات وانتهاء مأساة التشرد واللجوء، وتصويب المسار التاريخي، ورفع الظلم عن كاهل شعبه، رائزه في هذا، برنامج الجبهة الديمقراطية، وفكرها السياسي، وتجاربها الغنية، ونضالات أعضائها، وفي القلب من كل هذا، تضحيات شعبنا، وأصالته النضالية، وتمسكه بحقوقه الوطنية المشروعة غير القابلة للتصرف. ■ كان وحدوياً، بقدر ما كان إبناً وفياً ومخلصاً لجبهته. كان يسارياً وطنياً، فلسطينياً، بقدر ما كان إبناً للعروبة ولحركة النضال الأممية ضد الإمبريالية، وإلى جانب الشعوب المكافحة من أجل حريتها وإستقلالها.
وإذ نستذكر هذه القامة بكل شوق، ونستعيد تاريخ هذا القائد المتقشف، من المهم، لا بل من الضروري أن نؤكد، أن البنيان الذي أمضى العمر مساهماً في تشييده، سيبقى صامداً، وسيعلو شامخاً يوماً تلو الآخر، وأن الموقع الذي شَغَر بغيابه، تقدم إلى الأمام من يشغله مِمَّن تدرجوا تدرجوا بقيادته، في مدرسة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين■ فهد سليمان 14/12/2019
سامي أبو غوش وزوجته مها.. المثقف المشتبك 1945 و 1952-1981 ■ إستمعنا واجمين، وكنا مجموعة من المعتقلين السياسيين الشباب في سجن المحطة، من خلال جهاز راديو مهرب، للخبر الذي بثته إذاعة مونت كارلو قبل أربعين عاماً بالتمام، أي في الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1981، عن استشهاد سامي أبو غوش – الملقب بالحاج سامي - وزوجته مها أبو غوش، خلال إنفجار سيارتهما في منطقة الفاكهاني ببيروت. شيء ما واقع في داخلي كان يقول: هذه نتيجة طبيعية لمن اختار هذا الدرب، وأصوات أخرى تقول: لا... لا شك أنهم أخطأوا في التشخيص، فهذا موت مبكر جداً، وظالم إلى أبعد الحدود. لم ألتقِ به في حياتي قطّ، العشرات سألوني عنه وعن علاقات القربى التي تجمعني به، وكان السؤال منطقياً وطبيعياً في ضوء الشبه في الملامح كما يقول العارفون، وانتمائي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، الفصيل الذي كان هو أحد قادته ومؤسسيه واستشهد حين كان سكرتيراً للجنته المركزية، ليتبين لي لاحقا أننا أقارب، لكن النكبة ثم النكسة، والشتات، والهجرات، والمعارك والحروب، وتدمير عمواس وعموم قرى اللطرون وتهجير أهلها، والتخفي، والإعتقالات، والعمل السري كلها عوامل تجعل من التواصل الطبيعي بين العائلات الفلسطينية والأقارب والمعارف أمراً عسيراً. ■ أحسست بالفجيعة والخسارة الشخصية الفادحة حين إرتقى إلى أعلى عليين، فالأسئلة عنه زادتني شوقاً لمعرفته، وكنت أظن قبل استشهاده أن لقاءنا حتمي ولكنه مؤجل، رحيله المؤلم لم يلغِ الأسئلة، بل عززها وترك للزمن والمعارف والأصدقاء وخاصة رفاق دربه ومجايليه مثل هشام أبو غوش، وسالم خلة، وتيسير الزبري، وجودت السويركي ومحمود خليفة أن يجيبوا عليها، ويكملوا رسم الشخصية التي تشفّ عنها صورته شبه الوحيدة التي انتشرت: طيف إبتسامة خفيفة على طرف شفتيه، نظرات نافذة، ووسامة لا تخفى وبعض الغموض(!). ■ هي صورة المثقف الثوري الذي يترك كل شيء من متاع الحياة ويلتحق بالنضال، وصورة «المحترف الثوري»، كما وصفها لينين لحزب البلاشفة، فلا ينال إلا ما هو ضروري للقيام بمهامه. لم تكن الثورة قد غرقت أو أُغرقت بعد بطوفان المال والتفرغات والتجييش والإمتيازات والمكاتب والمرافقين، بل كانت مهام الثوار والمناضلين سواء كانوا قادة أو عساكر، تمثل إمتداداً لنفس حياة السجون والأحراش وقواعد التدريب، لبس «كاكي» أو شبه عسكري متشابه، ونمط حياة مزدحم بالمهام والمواعيد والمتابعات. كان النموذج السائد هو للمثقف الذي يغنيه إتساع عالمه الداخلي وسعة أفقه عن الحاجة لإحاطة نفسه بمظاهر الأبهة والبريستيج القيادي فارغ المحتوى. ■ لماذا أذكر ذلك؟ لأن كل من عرفوه كانوا يقارنون بين مسؤولياته الإدارية والمالية الجسيمة، فائقة الأهمية والحساسية، التي كان يتولاها، وبين مستوى حياته المتقشف والبسيط إلى أبعد الحدود. وبين ثقافة وذكاء صاحبنا الشهيد الحاج سامي وبين سلاسة وتلقائية وعفوية سلوكه الإنساني وتواضعه، وحيائه مع رفاقه والمقربين منه النابع من أخلاقه الثورية الراقية، وهو الذي كان بشهادة الجميع شديداً وقاسياً تجاه أعداء الشعب والثورة والإنسانية. الشهيد الحاج سامي هو ابن الشهيد محمد ذياب أبو غوش، الذي استشهد في العام 1948. لم يكن سامي الصغير قد بلغ الثالثة من عمره عند استشهاد والده دفاعاً عن أرضه. وهو زوج ورفيق درب الشهيدة مها حسن أبو غوش، رفيقته في الحياة والنضال والشهادة، ولم نكن نعرف عنها الكثير، لكن صوراً نادرة إنتشرت لها مؤخرا تكشف كم كانت مها منخرطة في النضال الشبابي والنسوي سواء في مرحلة الثورة في الأردن، أو في لبنان. وقد رحلا بهذا الشكل التراجيدي بعد أن خَلَّفا لارا، التي كانت بالكاد في الثامنة من عمرها، لكنهما تركا أيضاً إرثاً غنياً في مضامينه رغم قصره الزمني، ولعل أهمية هذا الإرث تزداد الآن أكثر من أي وقت مضى ونحن نرى إنقلاب المعايير وتبدل الأزمان واختلاط الزيف بالفهلوة. ■ ثورتنا الفلسطينية وحركتنا الوطنية لم تكن كما آلت إليه الأحوال الآن حيث يختلط تجار السياسة بالمناضلين، والمثقفون الثوريون بالأدعياء، فقد كانت ثورتنا عظيمة ومثلت رداً عظيماً على النكبة، وشكلت ظاهرة يغلب عليه النبل والإستقامة والطهر الثوري، وغالبا ما تكون الأخلاق واختيارات الضمير، والانحياز إلى ما هو حق وعدل، هي ما يدفع الإنسان الثوري لاختيار طريقه بالاندغام بمصالح الشعب، وإدراك أن الخلاص الفردي يأتي من خلال الخلاص الجماعي من الظلم والإضطهاد، أما ما علق بالثورة من فساد فيعود لعوامل عديدة خارجية وداخلية، أهمها غياب الرقابة والمحاسبة والمساءلة. ■ في الذكرى السنوية الأربعين لاستشهاد الحاج سامي وزوجته ورفيقة دربه مها أبو غوش، ننحني إجلالاً لذكراهما العطرة، وللقيم السامية والنبيلة والطاهرة التي مثلاها في حياتهما وفي إستشهادها وفي ذكراهما، ولابنتهما العزيزة لارا الفخر والاعتزاز على مدى الزمان، وللأهل والرفاق وكل من يذكر شهداءنا خالص المحبة■
نهاد أبو غوش 1/10/2021
سامي أبو غوش.. وقادمة خيولك .. 1945-1981 .. وقادمة خيولك في أغاني الذاهبين الى الكمائن، والنداءات التي تأتي من الطرقات، والأحزان تسند ظهرها للشمس، وأنت ظلال أغنية تصاعد وهجها عشرين عاما، والندى يغفو على كتفيك فطوبى للندى وطوبى للتي نشرت مناديل الوداع ولملمت أحزانها وتعلمت لغة البدايات التي لا تنتهي لعاشقة تصافح يومها الآتي ويضحك حزنها أبداً. ■■■ .. وقادمة خيولك كي تروض شهوة الخيل الهجينة وزينتك البنفسج والبنادق فلا تبحث عن الكلمات ستأتيك النوافذ وحدها وأصوات المغنين، واحتفالات البراعم والشوارع والمواكب والنقابات الصديقة والصغار الناهضين فلا تبحث عن الكلمات ستأتيك السنابل وحدها والياسمين. ■■■ .. وقادمة خيولك في المساء وفي اندفاعات الخطى، والموت لا يأتيك من خلف الحقيقة والمطر ■■■ .. وقادمة خيولك في احتجاجات البنادق ضد هذا الليل، أو ضد احتمالات التراجع عن عصافير الجليل وعن ملامحها فكل القادمين من القذائف والرصاص يغادرون مواقع الحزن البليد وتنتمي خطواتهم العشب والطرقات وكل الذاهبين إلى الخليل سيدخلون دمي لكي بيروت تأخذ شكل وجهي المنتظر فبيروت العشيقة والقتيلة وبيروت الحرائق والخميلة وبيروت المطر وبيروت التي إن جاءها وجع المخاض تلونت بالزعتر البلدي وبيروت التي يتناقل العشاق موعدها لتذهب في جنازتهم ليبقى وجهها الطيب ويبقى وهجها الدموي. ■■■
.. وقادمة خيولك في الصباح لكي ترى عمان ولارا في إندفاعتها تحاول أن ترى حيفا وتسأل عن تفاصيل اللقاء وعن وصيتك الأخيرة و للعشاق صوت ليس يسمعه سوى العشاق وللعشاق ذاكرة الفراشات الصغيرة■ عبد الهادي الشروف 7/10/1981
سليمان الرياشي/ سعيد عبد الهادي.. المثقف العضوي والمناضل الطليعي في الميدان 1943-2019 [■ في 25/9/2019، إحتضنت «دار الندوة» في بيروت، حفلاً دعا له «المنتدى القومي العربي» لتكريم عدد من قادة العمل الوطني العربي واللبناني والفلسطيني من بينهم الراحل الكبير سليمان الرياشي/ سعيد عبد الهادي عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وأحد أول مؤسسيها، والمفكر والباحث والمثقف الموسوعي المعروف؛ وفيما يلي إحدى المداخلات التي قدمت في هذه المناسبة:] ■ ينتمي سليمان الرياشي، أبو فهد - وأحب أن أناديه بالإسم الذي اختاره لنفسه: سعيد عبد الهادي - إلى جيل إنفتح وعيه في وقت مبكر على الفكر القومي، وفي هذا إستند برؤيته القومية لوضعنا العربي والإقليمي إلى ثلاثية مترابطة بتأثيراتها المتبادلة: تحرير فلسطين، إنجاز الوحدة العربية، وتحقيق التنمية الإجتماعية والإقتصادية من خلال بناء الإشتراكية. إطلالته الأولى على العمل القومي كانت في بلجيكا، حيث تخصص في الدراسات التاريخية واللغات القديمة، يوم كان مسؤولاً أول لفرع حركة القوميين العرب في هذا البلد، وبصلته مع سائر فروع الحركة في أنحاء أخرى من أوروبا. وكان منذ تلك الأيام يتحرك ضمن بيئة الفكر التقدمي، يبحث عن إجابات لأسئلة صعبة ومعقدة تتعلق بالقضايا الثلاث الآنف ذكرها، والتي كانت تشغل باله: • فلسطين: لماذا خسرناها؟ وكيف نستعيدها. • التشرذم العربي: ما أسبابه؟ وكيف نبني الوحدة القومية بمنظور تقدمي وبمفهوم ديمقراطي، بعيداً عن كل أشكال النزعات الشوڤينية والعنصرية. • التنمية الإجتماعية والإقتصادية: التخلف، وكيف نتحرر من قيود الإستعمار بأشكاله: العسكري منه، والكولونيالي والإمبريالي، ونكسر حلقة التخلف وننطلق نحو بناء إقتصاد وإنسان إشتراكي. ■ هزيمة حزيران/ يونيو 67، أحدثت زلزالاً في الإقليم حفرت في نفسه، كما في نفوس الكثيرين من أبناء جيله، آثارها العميقة، وكان – كما كانوا - أمام خيارين: إما التسليم بالهزيمة، والإنكفاء نحو الإحباط، وإما التمسك بالبحث عن الجواب على السؤال المركزي إياه: «ما العمل»؟ ورداً على هذا السؤال، عَمَّقَ سعيد عبد الهادي معارفه بالتاريخ، ودراسته لأوضاع المنطقة، والإلمام الأفضل بشتَّى صنوف علم الإجتماع ومدارسه، وحسم إنحيازه نحو الفكر العلمي، ومنهجه الجدلي وصولاً إلى إرتياد آفاق المادية التاريخية المفضية إلى الإشتراكية العلمية، ما ألقى على عاتقه مسؤولية الدور المطلوب منه في هذا الميدان، في صفوف الجاليات الفلسطينية في أوروبا إبتداءً، حيث كان يتابع دراسته الجامعية، من موقعه النضالي وإحساسه العميق بالمسؤولية الوطنية. وفي هذا السياق كان واحداً من العاملين في الحقل النظري الذين أثّروا في إطلاق وتزخيم دور التيار اليساري في الحركة القومية، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بالتحديد، وبما هي تجربة جديدة لتيار يساري عربي مسلح بالفكر والبرنامج والبندقية، يحاول على الدوام أن يرتقي إلى مستوى المسؤولية التاريخية التي أُلقيت على عاتقه بعد وصول المشروع القومي إلى الطريق المسدود. ■ إحتل أبو الفهد، في حياته النضالية مواقع قيادية مهمة بالأطر المسئولة في الجبهة الديمقراطية: - فتولى مسؤولية التمثيل السياسي أمام القوى الفلسطينية والعربية والدولية، ولا نبالغ القول، إذا ما أكدنا أنه بنى مع رفيقه في المسار النضالي: د. عصام حداد، ومعهما عدد محدود من الرفاق، ما هو أشبه بوزارة الخارجية للجبهة الديمقراطية، وبات مكتبه مرجعاً موسوعياً معتمداً عن الأوضاع السياسية والحزبية في الحالتين الفلسطينية والعربية، وفي العالم. - تولى ومعه رفيق الدرب: د. عصام حداد، بناء الفروع الخارجية للجبهة، في صفوف الجاليات والطلبة الفلسطينيين في القارات الخمس، وأينما تواجد تجمع فلسطيني. بنى تنظيماً واسعاً، وفاعلاً، ولعل محطة الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، شكلت إمتحاناً لهذا التنظيم، حيث نجح سعيد عبد الهادي في تعبئة ما لا يقل عن 1500 مناضل من الطلبة الجامعيين والمهندسين والأطباء وغيرهم، إلتحقوا بصفوف الثورة، دفاعاً عن لبنان في مواجهة الغزو، منهم من مضى شهيداً، ومنهم من جرح، ومنهم من عاد إلى قواعده سالماً، بعد خروج قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت وإعادة إنتشار القوات الفلسطينية في فضاء عدد من الدول العربية. ■ كان سعيد مثقفاً عضوياً، حريصاً على تنمية ثقافته، وظل وفياً لمبادئه، مخلصاً لانحيازاته، في الوقت الذي عزَّ فيه مثل هذا الإنحياز، ونجحت سياسة الإستقطابات والإغراءات المذهبية والجهوية في لبنان ومشرقنا العربي عموماً باصطياد من إصطادتهم. كان مثقفاً بين السياسيين، وكان سياسياً بين المثقفين، وهو إبن مدينة زحلة عروس البقاع بلا منازع، ومنارة الأدب والثقافة عموماً في لبنان، وهو المتحدر من عائلة عُرفت بنشاطها السياسي والإجتماعي ودورها الفكري، عبّرت عنه بصف واسع من المثقفين والإعلاميين والقياديين من مختلف الأحزاب اللبنانية. وكان يؤمن أنه لا تعارض بين هويته الوطنية اللبنانية، وبين هويته النضالية الفلسطينية، فكان لبنانياً في الصميم، وكان فلسطينياً في الصميم، وكان عروبياً وأممياً في الصميم. قرأ جيداً المشروع الصهيوني. وكان مرجعاً كبيراً في فهم هذا المشروع وفهم أهدافه وأطماعه في المنطقة. ولعل هذا ما أسهم في صياغة هذا العمق الكبير في وعيه وبنيته الفكرية. ■ آمن، كما آمن كل من في الجبهة: 1- أن م.ت.ف هي الممثل الشرعي والوحيد لشعب فلسطين، الأمر الذي لم يكن بالإمكان بلوغه، إلا بفضل نضالات وتضحيات قدمها الشعب الفلسطيني على مدار عقود من الزمن. 2- أن البرنامج الوطني هو البرنامج المعياري، الذي بالقياس عليه يكون الحكم على مختلف المشاريع السياسية المطروحة في ساحة العمل الوطني، ومن هنا فهو التوأم اللازم والملازم لمنظمة التحرير الفلسطينية ومقياس جدية التمسك بها والدفاع عنها في الأوقات الصعبة؛ وأن المس بالمنظمة هو مس بالبرنامج، وأن المس بالبرنامج، تحت أية صيغة كانت هو إفراغ للمنظمة، من مضمونها، وموقعها التمثيلي، ومكانتها القانونية. ■ سليمان الرياشي واحد من الذين يحضرون في الوجدان وفي الذاكرة، في حضورهم وفي غيابهم، بل دعوني أقول إنه واحد من الذين يقوى حضورهم بعد رحيلهم. فلقد ترك في تراث الجبهة الديمقراطية بصماته، فضلاً عن المقالات والدراسات ذات الطابع التاريخي والنظري، التي أسهمت في تطور الفكر السياسي للجبهة الديمقراطية، وفي تعزيز موقعها في الحالتين الفلسطينية والعربية، بل والأممية، حزباً ذا فكر وقاد، ومبادرات جريئة، وقدرة على الإستشراف، إلى جانب القدرة على تحليل التاريخ واستخلاص العبر من دروسه. ■ ومن بين ما أسهم به سليمان الرياشي قراءته العلمية لمفهوم الإشتراكية في حزب العمل واليسار الصهيوني عموماً، وإفتراقه عن الاشتراكية العلمية كما أسس لها كبارها، ماركس، لينين، إنجلز وغيرهم. كذلك يسجل للراحل الكبير، سليمان الرياشي أنه كان من بين المساهمين الرئيسيين في إنجاز المجلد الذي حمل عنوان: «حول الأزمة في الحركة الثورية العالمية وإتجاهات التغيير في عالمنا المعاصر»، الذي أجازه المؤتمر الوطني العام الثالث للجبهة الديمقراطية عام 1994، وهو من أهم الوثائق التي صيغت بمنهجية علمية تناولت تقييم تجربة بناء الإشتراكية في الإتحاد السوڤييتي، وما يُستخلص منها؛ كما توقفت أمام الأزمة البنيوية للرأسمالية في مرحلة العولمة، والصعوبة المتعاظمة للخروج منها. فتحية الوفاء إلى من ساهم ببناء هذا الصرح الوطني العظيم، المثابر – مهما طال الزمن - على طريق إنجاز الحقوق الوطنية لشعب فلسطين، وبكل ما يتطلبه الأمر من دأب وتضحيات■ معتصم حمادة 25/9/2019 طلال أبو ظريفة .. لسنا هوية تبحث عن مكان، بل مناضلون من أجل حرية الوطن 1960-2024 ■ عندما ترغب في الكتابة عن رفيق لك، عايشته لفترة زمنية طويلة في الإطارات الحزبية، وتعرفت عليه كإنسان، من لحم ودم، يفرح ويحزن، كباقي البشر، تصاب بالإرباك، وأنت تبحث عن الكلمات التي تعتقد أنها تفي صاحبك حقه، دون أن تتجاهل الآخرين. تتراكم أمامك، المشاهد والصور، تستدعيها في محاولة لرسم الصورة الأخيرة لشهيد رحل في غير موعده، وأنت تتخيله وقد استهدفته قذيفة من طائرة، ما اعتادت إلا أن تستهدف الأحياء والمنازل المدنية، فتحول المكان إلى ركام، والأجساد إلى أشلاء متناثرة في أرجاء المكان، تسبح في دماء هُدِرَت بوحشية، لا لسبب سوى لأن صاحبها فلسطيني، رفض إلا أن يكون فلسطينياً، وألا يغيب عن أرض فلسطين، فوقها ولد، وعلى ترابها مشى، ومن مياهها ارتوى، غادرها لفترات قصيرة، تلبية لنداء العِلم والمعرفة، ثم عاد إليها بشوقه العارم، تفتح له ذراعيها، مناضلاً، مسخراً جهده وعقله وكل مشاعره في خدمة أقربائه وجيرانه، وأبناء حارته، مدركاً بإحساسه العميق أن لا قيمة للفلسطيني إلا إذا قدم لفلسطين ما يملك، وبذل حياته في سبيلها. ■ ولد الشهيد طلال أبو ظريفة، كأي مولود فلسطيني في قطاع غزة، يحمل في يده بطاقة تُعرّف بالهوية وتُجهل الجنسية، ومثل الكثيرين، نشأ طلال ونما، وانخرط في اتحاد الشباب الديمقراطي الفلسطيني - «أشد»، ما أسهم في تكوين شخصيته الوطنية وبلورتها، فنظر إلى فلسطين نظرة جديدة، ليس باعتبارها مجرد نكبة رافقها تهجير وتبديد، ومؤامرة لطمس الهوية، بل هي وطن، وشعب، وقضية، وهياكل وطنية، جمعت تحت راية فلسطين الملايين، وابتدأ في تلقي الفكر الجديد، الذي أبدع اليسار الفلسطيني الجديد في بلورته مشروعاً نضالياً، أفاض على الجميع، وصار هو المشروع الوطني بعناصره، وهو العنوان بتفاصيله. ■ النقلة الأولى في حياته، كانت عندما سافر إلى الجزائر، بمنحة جامعية أمّنها إتحاد الشباب - «أشد»؛ وللمرة الأولى في حياته، خرج من خلف أسوار قطاع غزة، إلى العالم الفسيح: القاهرة، ثم الجزائر، حيث عاش أوضاعاً مختلفة، فقد تَعرَّف أكثر على فلسطين، حين التقى أقرانه الجامعيين، أبناء جِلدته، القادمين من أقطار اللجوء الأخرى: سوريا، العراق، الأردن، كما تعرف إلى أبناء الضفة الغربية، الشريك في معاناة الإحتلال. كما تعرف إلى الشعب المضيف، وهو شعب بنى وطنه، بالتضحيات الغالية، عبر ثورة أفضت إلى تحرره من الإستعمار الفرنسي، أدرك أن الحرية حق مقدس للشعوب، وأن الحرية لا تُقدر بثمن، حتى ولو سُفِكَت في سبيلها دماء غزيرة، دماء الشهداء والجرحى، وأنَّ على الشعب المتطلع إلى الحرية أن يقدم ما عليه من واجبات وتضحيات، وأنه دون ذلك، فإن الحديث عن الحرية، مجرد لغو لا معنى له، بل هو أحياناً ذريعة واهية للتهرب من الواجبات الكبرى. ضمن هذه الأجواء، إنخرط مع رفاقه في العمل الوطني والنقابي في إطار «أشد» وإتحاد طلاب فلسطين في الجزائر، واحتل مكانة متقدمة في النهوض بواجباته طالباً جامعياً، إلى جانب رفاقه، من أجل فلسطين. ■ النقلة الثانية في حياته، كانت عندما أنهى في الجزائر دراسته الجامعية، وبات عليه أن يعود مرة أخرى إلى قطاع غزة، يحمل معه علماً ومعرفة، ليكرس حياته، منذ تلك اللحظة، للتفرغ للعمل الوطني، واحداً من الكوادر المتقدمة للجبهة الديمقراطية في القطاع، يجند خبراته في خدمة شعبه وفي خدمة منظمات حزبه في القطاع، حيث تألق دوره كمنظم من طراز رفيع قادر على إجتراح أشكال التنظيم واعتماد أشكال النضال المناسبة لاحتياجات تقدم دور حزبه في العملية الوطنية. وفي الوقت نفسه بدأت مكانته تتقدم، ودوره الوطني يتعزز عبر انتسابه إلى الاتحادات الشعبية التي توفرت لديه شروط الإنتساب إليها، ثم بدأ يتدرج في نهوضه مضطلعاً بدوره الوطني، فتقلد المواقع التالية: • ممثلاً للجبهة الديمقراطية في الهيئة الوطنية لكسر الحصار وحق العودة. • عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني. • ممثلاً للجبهة الديمقراطية في اللجنة العليا للتنسيق في القطاع. تراه في مقدمة الصفوف في التظاهرات والإعتصامات الشعبية في طول القطاع وعرضه؛ تراه على خطوط التماس في أيام «الجمعات» في مسيرات كسر الحصار وحق العودة؛ تراه متحدثاً مفوهاً إلى رجال الإعلام حتى بات أحد المراجع الدائمة لمندوبي الفضائيات والصحف ومراكز الإعلام في القطاع. هذه النشاطية المتميزة في العمل الجماهيري والوطني، لم تُثنه على الصعيد التنظيمي الداخلي عن تركيز جهده على عملية البناء الحزبي، بتعقيداتها وصعوباتها التي يدركها كل من دخل هذا العالم، مراكماً الخبرات والمهارات الناجمة عن الممارسة الهادفة، فأبدع بحِرَفيته ومثابرته وتحليه بمواصفات من تعاطى «الهندسة التنظيمية» على خلفية الإلمام بـ«هندسة علم الأحياء» التي اكتسبها من دراسته الجامعية. ■ النقلة الثالثة كانت مع انفجار «طوفان الأقصى»، وبات عليه في هذه المحطة، أن يحسم خياره، كأي قائد وطني، بين تلبية إستحقاقات موقعه القيادي، في صفوف رفاقه وأبناء شعبه، وبين تلبية واجباته العائلية. مهماته السياسية والتنظيمية كانت دائرتها الواسعة شمال القطاع، أي مدينة غزة وجوارها، ومنزله حيث تقيم عائلته في عبسان الكبرى في جنوب القطاع. وكما هو منتظر من أي قائد، إنحاز لواجبه الوطني، وبقي في الشمال، تصاعدت عمليات القصف التدميري، والاجتياحات، لكنه بقي ثابتاً، صامداً ولم يغادر، وبقي يتنقل من مكان إلى آخر، في شمال القطاع في قيادة منظمات الجبهة الديمقراطية، بالتوجيه لجناحها العسكري «قوات الشهيد عمر القاسم»، والدور الميداني في مراكز الإيواء والمستشفيات، جنباً إلى جنب مع لجان العمل الطوعي، من الجبهة الديمقراطية ومن الفصائل الأخرى، في تعزيز صمود الناس، في حرب، أدرك أنها ستكون طويلة. ■ وختاماً، أتت النقلة الرابعة، حيث طالت الحرب، وبقي شمال القطاع ساحتها الرئيسية، بالكاد تصله أنباء عائلته، ودع عدداً من أقربائه، قضوا بنيران الطائرات الحربية الإسرائيلية. وفي ليل 16/5/2024، وبينما كان يأوي، في ساعات الليل الأخيرة، إلى مهجعه، الذي لم يكن يعتقد أنه كان آمناً بالقدر الكافي، سقطت من الأعلى، صاعقة أميركية الصنع، ألقت بها طائرة أميركية الصنع أيضاً يقودها طيار إسرائيلي، أحالت المنزل إلى دمار شامل، وحولته مع رفيقه القائد العسكري الميداني محمود حمامي، إلى أشلاء، بذل رفاقهما جهداً مضنياً في تجميعها في أكياس رحيل الشهداء. وفي جنازة مهيبة، شديدة التواضع، عميقة في رمزيتها، ووري ورفيقه محمود الثرى، محاطاً بألم الفراق الأخير، ليصبح طلال أبو ظريفة عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ذكرى لا تُنسى، إلى جانب الآلاف من أبناء منظمات الجبهة الذين سبقوه، والذين سيلحقون به، إلى الشهادة، على طريق القدس. طلال أبو ظريفة، أيها الرفيق، لقد كنت قائداً بالفطرة، صقلتك التجربة في الميدان، وكان شعارك دائماً: «لسنا هوية تبحث عن مكان، بل مناضلون من أجل حرية الوطن»■ فهد سليمان 28/8/2024
الفصل السابع
من قادة العمل المسلح
■ خالد عبد الرحيم ■ خالد نزال ■ بهيج المجذوب/ مراد ■ محمد شاكر خزعل/ فايز أبو حميد ■ بشير زقوت
خالد عبد الرحيم.. اللواء الذي تكتّم على رتبته 1945-2018 ■ ليس سهلاً، حتى على أصدقائه، أن يكتبوا عن خالد عبد الرحيم، وأن يسبروا أغوار شخصيته، وأن يرسموا بدقة كيف قطع مسيرته، وكيف عبّر في محطاتها المختلفة عن آرائه، ومواقفه، بما هي تعبير، في الوقت نفسه، عن شخصيته وطبيعة تفكيره، ورؤيته للحياة، وللعلاقات الإنسانية، ومَهَّدَ في الوقت نفسه، للنضال، إحترافاً أم تطوعاً. ويمكن القول إن خالد عبد الرحيم يشكل شخصية، بقدر ما تعتقد أنك إقتربت منها، بقدر ما تشعر في الوقت نفسه، أنك ما زلت على مسافة منها لتدرك مكوناتها. خالد عبد الرحيم، كما هو معروف، من أوائل الفدائيين في الضفة الغربية، تحت الإحتلال الإسرائيلي، اعتقل عام 1968، إثر إشتباك ومطاردة مع جيش الاحتلال، وقضى في الأسر 12 عاماً، إستعاد بعدها حريته في عملية تبادل الأسرى في العام 1979. ■ معظم الأسرى، إن لم يكونوا كلهم، ممن يمضون فترة طويلة في الأسر، يخرجون وهم يجيدون بشكل أو بآخر اللغة العبرية، إما من خلال إحتكاكهم بالسجان أو حتى من خلال دراسة اللغة في السجن، بإعتبارها حاجة نضالية. خالد عبد الرحيم، قضى 12 عاماً في الأسر، ولم يلفظ - لا نقول يتعلم - عبارة عبرية واحدة مع السجان، كان حريصاً على مقاطعة هذه اللغة. طبعاً لقناعته بأن مقاطعة اللغة العبرية، هي شكل من أشكال المواجهة والنضال، وتحدي السجان. لذلك، يلاحظ أن أقرانه الذين عايشوه في الأسر، واستعادوا حريتهم، إما معه أو في دفعات أخرى، سَخَّروا إجادتهم للغة العبرية في أعمال صحفية، فيما ركل عبد الرحيم - كما كنا ندعوه - هذه اللغة، وتعالى عليها بقناعته أنها لغة ميتة، ذات مضمون إستعماري عنصري، لا تستحق أن يبذل المرء الحد الأدنى من الجهد ليتعلمها، إلا أن ذلك لم يحل دون أن يتابع عبد الرحيم الصحافة العبرية مترجمة إلى العربية، وأن يدرك خارطة الصحافة الإسرائيلية، وإتجاهات كل واحدة منها، أو يدرك خارطة الكتاب والصحفيين، واتجاهاتهم الفكرية والسياسية من باب «إعرف عدوك». ■ حين إستعاد عبد الرحيم حريته، أُبعد مع عدد من رفاقه المحررين إلى لبنان، قاموا بجولة في المخيمات، حيث استقبلوا بتظاهرات شعبية صاخبة، في وقت كانت فيه القضية الوطنية تعيش أجواء شديدة السخونة، إنعكست حماسة في مخيمات لبنان، وكانت زيارات المحررين من أسرى الجبهة الديمقراطية عاملاً آخر من عوامل تسخين الأجواء. ولعل إحدى المحطات التي شهد فيها عبد الرحيم ورفاقه المحررون، إستقبالاً ساخناً، تفجرت خلاله عواطف أبناء المخيم فرحاً وابتهاجاً، كانت زيارة مخيم عين الحلوة نموذجاً، حين دخلوا المخيم في سيارة عسكرية مكشوفة، أغلق عليها المتظاهرون والمرحبون الطريق، وأصروا على مصافحة القادمين من أرض الوطن إلى الشتات، بعد أن قضوا في زنازين الإحتلال الإسرائيلي عشرات السنوات، ثم أقيم للقادمين عرض عسكري شاركت فيه فصائل المقاومة كافة، بعدها حفل خطابي، تناوب على الحديث فيه متحدثون هنأوا الجبهة الديمقراطية والمحررين باستعادتهم لحريتهم، مرحبين بهم إلى مواقعهم النضالية يستأنفون دورهم في ظروف وأوضاع جديدة. بعدها تحول المهرجان إلى حفل غنائي أنشدت فيه الأناشيد الوطنية، وأطرب فيه الجميع «الزجَّال»، والشاعر الفلسطيني المشهور الأستاذ كعوش، قدم قصائده الزجلية هدية لكل من الأبطال المحررين، ولعل اسم «خالد عبد الرحيم» أسعف قريحة الزجال الشاعر كعوش، فأفاض في إبداعه ما أثار عاصفة من الترحيب بالأسير المحرر القادم من أرض الوطن. ■ وفي الحديث عن شخصية عبد الرحيم، يمكن القول إن توليه مهامه في القوات المسلحة الثورية، الجناح العسكري للجبهة الديمقراطية، بعد تحضير أكاديمي على أعلى المستويات، إنسجم مع شخصيته وطموحه الشخصي، كذلك إنسجمت هذه المهام مع بنيته الشخصية، بقامته الفارعة، التي اشتهر بها بين رفاقه وأقرانه، ومع ذلك يمكن القول إن خالد عبد الرحيم كان يتسم بالخفر، وأخذ على نفسه، لأسباب ولقناعات خاصة به، أن لا يتحدث في مهرجان أو حفل سياسي، على غرار المهرجانات والإحتفالات الشعبية التي تقام في المناسبات الوطنية، لكنه كان في الوقت نفسه، بارعاً في الحديث السياسي والفكري أمام الأطر والتجمعات الحزبية، يبدأ حديثه متمهلاً، ثم تنطلق عنده قاطرة الكلام، ويصاب أحياناً ببعض الحماسة التي تعبر عن عمق قناعاته بما يقول، معززاً ثقة المستمعين إليه وبه. ■ ومن موقعه في قيادة قوات الجبهة الديمقراطية، كان يواظب على زيارة معسكرات التدريب، والإلتقاء بالمتطوعين ويحدثهم في سلسلة محاضرات، عن صفات المقاتل الثوري، وتعريف «القوات» والجبهة الديمقراطية والقضية الوطنية، أي أنه كان حريصاً على تهيئة المقاتل تهيئة وطنية ونفسية وجسدية، قبل أن يلتحق بمواقع القتال في المخيمات أو خارجها. كما كان عبد الرحيم بارعاً في إعطاء التوجيهات للقادة والمقاتلين، في عز الأزمات السياسية والعسكرية، إذ قاد قوات الجبهة الديمقراطية على محاور البقاع، وجبل لبنان، ضد قوات الغزو الإسرائيلي في العام 1982، وقدم في إطار خطة مدروسة، دعماً لبيروت المحاصرة، معتمداً على سلاح المدفعية والراجمات. كما كانت له تجربته القتالية الناجحة، إبان الحرب على المخيمات، حين نجح في تسويرها بحزام ناري شكل عنها دفاعاً قوياً عنها ضد أية محاولات لإختراق الصفوف. ■ في الوقت نفسه، كان خالد عبد الرحيم مثقفاً، فقد اجتاز دورة قادة ألوية، في عاصمة عربية شقيقة، وتخرج منها برتبة لواء، بشهادة رسمية، لكنه في الوقت نفسه، لأسباب كان رفاقه يتفهمونها، يرفض تعريف نفسه باعتباره اللواء خالد، بل كان يكتفي بالرفيق خالد، كما كان منكباً على المطالعة، يبدي إهتماماً بالتاريخ والفلسفة والرواية، متابعاً دقيقاً للصحافة خاصة الأجنبية، للإطلاع عما تكتبه وكيف تقدم القضية الوطنية إلى الرأي العام. أما حين كان يجتمع إلى قيادته العسكرية، فكان يمارس دور الموجه والمسؤول إلى جانب دوره القيادي في فرض الرقابة، عبر التقارير، وفي جولات ميدانية في مواقع المقاتلين، وكان متعاوناً إلى أقصى حدود التعاون مع مساعديه. ■ في أواخر أيامه، أُصيب بما إستوجب دخوله إلى المستشفى، حيث قضى وقتاً عصيباً، رفض خلال إقامته أن يستقبل زواره، مكتفياً بالحديث الهاتفي، ما يعكس طبيعة شخصيته ومدى إعتزازه بنفسه، وإصراره على أن لا يتذكره الآخرون، إلا وهو في ذروة نشاطه. قائد وطني، خاض المعارك وأشرف على بناء أجيال من المناضلين ... اتسم بالصراحة والوضوح ... له كل الإحترام والتقدير، وتحية له في مثواه الأخير■
معتصم حمادة كانون الأول/ ديسمبر 2018
خالد نزال.. ما زال شبحه يحوم في أروقة الموساد 1948-1986
■ من مزايا القائد أن يعرف جيداً طريقه إلى الهدف، وكان خالد نزال يعرف جيداً طريقه إلى فلسطين. نزع اللافتات العبرية التي أرادت تزوير الحاضر، وزرع مكانها لافتات فلسطينية عنوانها «هنا فلسطين»، محا خرافات أرض الميعاد، وسطّر بدلاً منها الحقائق الفلسطينية بالدم، حين لم ينفع الحبر. بنى جيلاً من الفدائيين الذين أطلوا برؤوسهم شامخة: «قوات الداخل» مرة، وقوات «النجم الأحمر» مرة أخرى، وكتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية – قوات الشهيد عمر القاسم مرة ثالثة. وما نشهده اليوم من بنادق تطل بفوهاتها مكللة بالعلم الفلسطيني، هي واحدة من تلك البذور التي نثرها خالد نزال ورواها بدمه، فأينعت تزين الطريق الذي كان قد شقه ورسم معالمه خالد نزال. ■ لماذا أصرت إسرائيل على ارتكاب جريمة إغتيال خالد نزال؟ سؤال يمكن الإجابة عليه ببساطة متناهية: • لأنه هو من هندس وأشرف على تنفيذ عملية «يوم الأرض» في العام 1984، في شارع ديزنكوڤ في قلب تل أبيب، ويومها كتبت صحيفة «السفير» اللبنانية تقول: «غادر الفدائيون لبنان إلى تل أبيب». • وهو الذي قرأ جيداً إجراءات الاحتلال والغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982، وجعل منه وسيلة، نجح خلالها في «شحن» دفعات من الأسلحة، كانت لها فعاليتها في الإنتفاضة الوطنية الكبرى التي انفجرت بعد سنوات قليلة. • وهو الذي هندس عملية الخليل، حين خرج من البلدة القديمة عدد من المقاتلين الأبطال، قضوا على دورية إسرائيلية كانت تجوب المنطقة، وما زالت أسرار هذه العملية دفينة في الذاكرة وفي الملفات المخبأة في أرشيف «قوات الداخل». • وهو الذي هندس عملية تفجير ثلاجة في شارع محنا يهودا في قلب القدس، على مقربة من نقطة تجمع لجنود العدو، عقاباً على ما ارتكبته قوات الاحتلال من جرائم في القدس والضفة وقطاع غزة. • وهو الذي هندس ونجح في أسر أحد جنود الاحتلال والغزو الإسرائيلي في مدينة صيدا في الجنوب، ونقله إلى المكان الآمن، إلى حين أجرت الجبهة التبادل مع جثته، وقد توفي في الأسر إثر غارة إسرائيلية شنتها إسرائيل على مكان إحتجازه. • وهو الذي صنع جيلاً من الأبطال المقاتلين الفدائيين، ممن تدربوا على يديه في أساليب القتال والمقاومة ضد الاحتلال، وصناعة أدوات المقاومة الشعبية من أبسط المكوِّنات، سيراً على خطى من سبقنا من القوى في حروبها الشعبية ضد الاستعمار. • وهو الذي أفنى حياته في كتابة الرسائل ورسم الخطط، وتزويد خلايا الأرض المحتلة بكراريس التوعية الأمنية، وامتلاك نظريات «الإنتماء السري والنضال العلني». ■ لذلك لا غرابة أن تجند قوات الاحتلال كفاءاتها الأمنية في مطاردة خالد نزال. قبل جريمة اغتياله، إجتمعت في تل أبيب، مجموعة من كبار ضباط الموساد، على رأسهم رئيس الجهاز، والشاباك، وآمان، وتقرر في ذلك الإجتماع إغتيال خالد نزال. عندما قرر السفر إلى أثينا، للقاء بعض محطاته النضالية، تلقى نصائح بعدم السفر، فأثينا وكر لعملاء إسرائيل، لكن حرصه على إنجاز المهمة وإدراكه لأهميتها القصوى، والانتفاضة الوطنية في ذروتها، أصر على الذهاب.. وهناك نجح عملاء الموساد في ارتكاب جريمتهم. ودعناه في مخيم اليرموك، كما لم يودع قائد من قبل، أصبح اسمه واسم عمر القاسم، ومراد/ بهيج المجذوب، القادة الثلاثة أيقونة من أيقونات الثورة والشعب والوطن. رحل عنا، لكن إسرائيل ما زال ترعبها ذكراه، إذ ما زال شبحه يحوم مؤرِقاً العدو في أروقة الموساد■ معتصم حمادة 19/12/2022
بهيج المجذوب - مراد.. إبن صيدا البار، عاشق فلسطين 1950-1976 عن صيدا ■ ولد الشهيد بهيج المجذوب- مراد في صيدا، وهي مدينة تتحلى بالروح الوطنية، شكلت مدخلاً للجنوب اللبناني، وأحد معاقل الحراك القومي العروبي في لبنان. ربطتها بفلسطين أواصر علاقة متينة وخاصة قبل النكبة وقيام دولة إسرائيل، حيث كانت عكا، المدينة الأقرب إلى صيدا، مقصد الصيداويين وموقعاً للتصنيع والتجارة. ونمت بين المدينتين علاقات أسرية، عززت روح إنتماء المدينتين إلى التيار العروبي في رفضه للمشروع الصهيوني، والإنتداب البريطاني في فلسطين، والفرنسي في لبنان. وكما برزت في عكا شخصيات وطنية فلسطينية، برزت في صيدا كذلك شخصيات وطنية لبنانية، أهمها الشهيد معروف سعد، ثم نجله المهندس مصطفى سعد، ولاحقاً تبعه الدكتور أسامة، إلى جانب صف من النقابيين والمثقفين، أبرزهم الناشر شريف الأنصاري، والقائد النقابي حسيب عبد الجواد، والأستاذ الجامعي د. مصطفى الدندشلي، والأكاديمي د. محمد المجذوب؛ كما برزت عائلات إنخرطت في النضال الشعبي، منها عائلة الشهيد بهيج المجذوب، والبزري وغيرها ... ■ لعبت صيدا دوراً بارزاً في إسناد الثورة الفلسطينية عام 1936، وعملت على مدها بما توفر من السلاح والمال، كما أسهمت في حرب 1948، حيث تطوع عدد من أبنائها في «جيش الإنقاذ» مع الوحدة العسكرية للجيش اللبناني، التي قاتلت في المالكية وحررتها من الميليشيات الصهيونية، وقطعت الطريق على الشاحنات التي حاولت أن تتسلل من جنوب لبنان لتمد العصابات الصهيونية بالسلاح، وكان على رأس هؤلاء المتطوعين الشهيد معروف سعد، النائب عن المدينة لعدة دورات، ورئيس إلى حين إستشهاده- 26/2/1975، حين إغتالته أجهزة السلطة وهو يقود تظاهرة الصيادين الفقراء، اللبنانيين والفلسطينيين، تصدياً لمشروع شركة «بروتيين» التي سمحت لها السلطات اللبنانية آنذاك، بتأميم الصيد البحري وإحتكاره على شواطيء لبنان. في تلك التظاهرة سقط ضحايا لبنانيون وفلسطينيون، في مقدمهم الشهيد معروف سعد. ■ في ظل هذه العلاقة المتينة بين صيدا اللبنانية وعكا الفلسطينية، لم يكن غريباً أن يقوم بجوارها أكبر مخيم فلسطيني في لبنان - عين الحلوة – إلى جانب مخيم آخر صغير – المية ومية - وأن تضم المدينة أكبر تجمع سكاني فلسطيني في لبنان، بحيث تواشجت الأحياء والعائلات فباتت مختلطة، والعائلات متصاهرة، إذ قلما تجد حياً من أحيائها لا يتشارك فيه فلسطينيون ولبنانيون، أو مهنة لا يكون فيها للفلسطينيين الإسهام البارز كالصيد البحري وتجارة الخضار والفواكه واللحوم، أو سيارات النقل، وصناعة الأثاث المنزلي أو غيرها من المهن والنشاطات.. كما من المظاهر البارزة في هذه المدينة، أن الحركات القومية كحركة القوميين العرب أو حزب البعث، كانت حركات بقيادات وقواعد مختلطة لبنانية – فلسطينية■ عن الشهيد ■ في هذه الأجواء المفعمة بالروح الوطنية، ولد الشهيد بهيج المجذوب - مراد، من عائلة لبنانية عريقة وذات إمتدادات واسعة في أكثر من مدينة في الساحل اللبناني، عمل والده رئيساً لإحدى الدوائر في البلدية، ما عزز علاقاته هو الآخر مع أبناء مدينته الصغيرة، آنذاك. نشأ مراد في أجواء سادها الحِراك الإجتماعي الوطني، حتى أن المناسبات الدينية تحولت في ظل هذه الأجواء إلى إحتفالات وطنية، تتردد في طرقها وأزقتها الأناشيد القومية، وتعليقات أحمد سعيد المعلق الأكثر شهرة في إذاعة «صوت العرب»، وخطابات الرئيس جمال عبد الناصر، الذي إنتشرت صوره في المنازل، كما في المحال التجارية، وصار عبد الناصر قبلة الوطنيين، لبنانيين وفلسطينيين، يراهنون على زعامته لتحرير فلسطين وعودة اللاجئين إلى بلادهم. ■ غير أن هزيمة حزيران/ يونيو 1967، أحدثت صدمة كبرى في النفوس، وكان لها دور مؤثر في دفع الكثيرين لإعادة النظر بما كانوا يؤمنون به من مفاهيم وحركات سياسية، دون أن يتخلوا في الوقت نفسه عن القيم التي نشأوا عليها. ومما لا شك فيه أن مجلة «الحرية» الناطقة بداية باسم «حركة القوميين العرب»، ولاحقاً باسم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، التي كان مراد يواظب على قراءتها، كغيره من مئات الشبان في صيدا، لعبت دوراً مهماً في تحرير الشباب اللبناني والفلسطيني الوطني والعروبي من صدمته، وإحباطه، وأعادت إليه الأمل وفتحت له آفاقاً جديدة، خاصة حين أجرت «الحركة» المراجعات الواسعة التي وصل التيار اليساري الديمقراطي فيها إلى نتائجه الإستراتيجية بالتخلي عن الفكر القومي الشعبوي، الذي أثبت فشله في قيادة التحرر الوطني نحو إستعادة الحقوق الوطنية لشعب فلسطين + تحقيق الوحدة القومية + بناء الإشتراكية، للإنتقال إلى الإسترشاد بالفكر الإشتراكي العلمي في التحليل الملموس للواقع الملموس، الذي يبرز الدور القيادي الحاسم للطبقة العاملة وسائر الكادحين في قيادة النضال الوطني والديمقراطي التحرري نحو تحقيق أهدافه. ■ شكلت حركة المقاومة الفلسطينية في ذلك الزمن، حالة إجتذاب لآلاف الشبان، فلسطينيين وعرباً، وكانت صيدا واحدة من المدن اللبنانية التي إنتمى عدد كبير من أبنائها إلى المقاومة، حتى أن أول إثنين من شهداء المقاومة في صيدا، ومن حركة فتح بالتحديد، كانا لبنانيين: محمد البركة ومحمد منصور (شقيقي، المتحدر من جهة الوالد من أصول جزائرية)، إستشهدا على التوالي في شهري 7 و 8 من العام 1968؛ ما شكل دلالة عميقة على الرابط التاريخي والمصيري بين شعبين، وبين وطنين في مواجهة خطر مشترك تمثله إسرائيل وتحالفها الأطلسي. ■ شكل 22 شباط/ فبراير 1969، منعطفاً في حياة الشهيد مراد، وعدد كبير من المناضلين، حين أعلن عن ولادة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين منظمة يسارية ترفع راية الكفاح المسلح، قدمت سلسلة من الأطروحات الفكرية والسياسية والتنظيمية أحدثت جدلاً في الحالة الفلسطينية كما في الحالة العربية، وكانت مجلة «الحرية»، تلك المطبوعة التي مثلت بنجاح كل هذا المدى، ما جعلها في مقدمة المجلات السياسية والفكرية العربية، إمتدت أفكارها في مشرق المنطقة العربية ومغربها. ■ كان مراد واحداً من مئات الشبان في لبنان الذين إجتذبتهم الجبهة الديمقراطية وأفكارها، ووجد نفسه كما وجد آخرون أنفسهم أمام نمط جديد من الحياة السياسية، والفكرية، ما يتطلب بذل جهد دائم لتغذية الوعي بمصادره، فكان إهتمامه بمقالات محمد حسنين هيكل في «الأهرام»، ومقالات محسن إبراهيم، ونايف حواتمة، ومحمد كشلي، وسامي خشبة، وسامي شاهين، وغيرهم في مجلة «الحرية»، عدا عن صحيفة المحرر بملحقها الأسبوعي «فلسطين» الذي كان يرأس تحريرها، غسان كنفاني، أبرز الكتاب السياسيين والمبدعين الفلسطينيين على إمتداد ستينيات ق20، وحتى إستشهاده على يد الموساد - 1972. ■ كما إنغمس مراد، كغيره من مناضلي الجبهة الديمقراطية في مطالعة كتب اليسار بتلاوينه المختلفة من كلاسيكيات الماركسية مروراً بماوتسي تونغ وإنتهاءً بكتابات غرامشي.. وتجارب الڤيتكونغ، وروايات الحرب الوطنية في الإتحاد السوڤييتي كما وصفها الأدب الروسي، ولعل من أهم ما ألهم مراد ورفاقه آنذاك الرواية الشهيرة «كيف سقّينا الفولاذ»، و«الثلج الحار». ساد فكر يساري واسع متنوع المصادر في صفوف الشباب، ورغبة عارمة في الإطلاع على التجارب، كتجربة الثورة الجزائرية، وتجربة تشي غيڤارا بخاصة، والثورة الكوبية عموماً، والتوباماروس، وعموم حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث. ■ أسهم كل هذا في تسليح العقل السياسي لدى مراد ورفاقه بآفاق رحبة، مَكَّنت من إستيعاب المراجعة السياسية التي شكلت أساساً لإنطلاقة الجبهة الديمقراطية، كتقرير «مؤتمر آب»- 1968، وتجربة ثورة الـ 36 وأهمية الخيار الكفاحي الذي أقدم عليه الشيخ عز الدين القسام، (التي حملت إسمه لاحقاً إحدى التشكيلات العسكرية الرئيسية للقوات المسلحة الثورية في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) وتجارب الڤيتكونغ، وتجربة النضال الوطني الفلسطيني، في ظل الإنتداب البريطاني، مروراً بالنكبة وقيام الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، والتلاوين السياسية التي أفرزها تعدد فصائل العمل الوطني ومحاكمتها، وبخاصة تجارب الأنظمة الوطنية التي فشلت في استكمال ثورتها الديمقراطية والتحرر من هيمنة الإستعمار سياسياً وإقتصادياً، وإفتقارها للبرنامج الثوري لمواجهة المشروع الصهيوني، وإمتلاك القدر الكافي من الوعي للتمعن في قراءة المشروع الصهيوني وأهدافه، وظروف نشأة الحركة الصهيونية■ في خضم النضال ■ لم تمهل التطورات العاصفة، الجبهة الديمقراطية المولودة حديثاً، ولم تمنحها الوقت الكافي لتمتين بنيانها، إذ داهمتها أحداث أيلول/ سبتمبر 1970 في الأردن وما تلاها، فرضت عليها، كما على باقي فصائل المقاومة، الإنتقال بشكل رئيس إلى جبهتي الجولان وجنوب لبنان. وهذا ما وضع منظمات الجبهة الديمقراطية في لبنان، أمام واجب بناء ما كان يسمى آنذاك «القطاع العسكري» بالإعتماد على الموارد البشرية الكفاحية التي تؤمنها مخيمات لبنان وسوريا بشكل خاص، وتركيز عدد من القواعد المتقدمة، على هاتين الجبهتين تنطلق منها نحو أهدافها العسكرية في العمق الصهيوني، ما أمكنها ذلك، خلف الحدود شمال فلسطين. ومع إنفتاح جبهة جنوب لبنان على مصراعيها، إمتدت يد العدوان الإسرائيلي إلى كافة مخيمات لبنان، في شماله وجنوبه، ومحيط بيروت. ■ في هذا السياق، برز الشهيد مراد شخصية قيادية فاعلة، إستحقت بجدارة تحمل المسؤوليات التنظيمية والعسكرية معاً، فعين قائداً للجبهة الديمقراطية في مخيم عين الحلوة ومدينة صيدا، تولى تشكيل قوات الميليشيا الشعبية وتنظيمها وتدريبها بالتعاون مع صف من ذوي الخبرة والتجربة في هذا الميدان، ما أهل الجبهة الديمقراطية ليكون لها دور ملموس، جنباً إلى جنب مع باقي فصائل المقاومة، في تأمين الحراسات الليلية لمخيم عين الحلوة ومحيطه، ولشواطيء مدينة صيدا، تحسباً للإنزالات الإسرائيلية المفاجئة. ■ شكلت شخصية مراد حالة مميزة، إسترعت إنتباه القيادة المركزية للجبهة الديمقراطية، فانتقل إلى بيروت، وكُلف بتشكيل قوة خاصة معنية بالدفاع عن منطقة الفاكهاني، مركز تجمع مقرات المقاومة على إختصاصاتها، خاصة بعد أن بدأت تطل برأسها أحداث أنذرت بأن لبنان مقبل على تطورات عاصفة، مهمتها مواصلة العمل على تصفية المقاومة الفلسطينية في لبنان، بعد أن نجحت في إعادة بناء نفسها، ولملمة جراحها العميقة، إثر ما كانت قد تعرضت له في السنوات الأولى لانطلاقتها■ مراد القائد السياسي والعسكري ■ في كل المحطات التي إجتازها، أثبت الشهيد مراد جدارته، سياسياً وعسكرياً؛ ففي أيلول/ سبتمبر 1970، سار على رأس مجموعات من المتطوعين من أعضاء الجبهة الديمقراطية للإشتراك في الدفاع عن الثورة في الأردن، وعندما تولى تشكيل القوات الخاصة للجبهة الديمقراطية في بيروت، أثبتت هذه القوات فعاليتها في الدفاع عن الثورة وعن المخيمات، على محاور القتال في الفاكهاني والمدينة الرياضية ومستديرة الكولا في الطريق الجديدة، كان على رأس القوة متابعاً مهامه السياسية، مؤكداً دوره قائداً ميدانياً، ينجح على الدوام في تعبئة القوى وإستنهاض الهمم، وردع الخصوم والأعداء على محاور الإشتباك. ■ أمام التطورات المتسارعة في لبنان والمنطقة، وعلى الصعيد الفلسطيني، بما في ذلك نتائج حرب تشرين/ أكتوبر 1973، والحراكات السياسية في لبنان، وإحتدام الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني على خلفية رفض بعض القوى للبرنامج المرحلي. وفي هذا الإطار نخص بالذكر الخلاف السياسي الحاد الذي تمخضت عنه حرب تشرين/ أكتوبر 1973 مع القاهرة في سعيها لتحقيق تسوية منفردة مع إسرائيل، تنسف النتائج الإيجابية لهذه الحرب الناجمة عن فعالية العمل العربي المشترك الذي تضافرت فيه جهود وتضحيات جيشي مصر وسوريا بمشاركة منظمة التحرير والعراق والجزائر والمغرب وليبيا، معززة بسلاح النفط الذي زجت به المملكة العربية السعودية في المعركة، والذي سرعان ما إتضح مفعوله الإستراتيجي على مجريات الحرب وما تبعها من تداعيات إيجابية صبت في مجرى تحقيق الأهداف الوطنية المرسومة. ■ وكان لهذا الخلاف تداعياته، التي أدت إلى بقاء سوريا وحيدة في تحمل تبعات المواجهة العسكرية النظامية وبالتالي السياسية مع إسرائيل، الأمر الذي إضطرها للبحث عن نقاط توازن أخرى لتصحيح الخلل في نسبة القوى وتعويضاً عن خسارتها لما كانت تمثله مصر من ثقل نوعي في المواجهة، كان من ضمنها السعي لتشديد قبضتها على الأوضاع في لبنان، حيث الدور الناهض للحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع منظمة التحرير الفلسطينية، فكان الصدام بنتائجه السلبية على الجميع، والذي كان بالإمكان تجنبه لو تَحَلَّت الأطراف المشاركة فيه بالحكمة السياسية اللازمة. ■ ضمن هذه الأجواء المشحونة نهوضاً ملموساً في أوضاعها، كُلف الشهيد مراد بتولي قيادة الجبهة الديمقراطية في جنوب لبنان، مسؤولاً عسكرياً وسياسياً، حيث شهدت منظمات الجبهة الديمقراطية في الجنوب، نهضة مميزة، إتسعت فيها منظماتها الجماهيرية، وتصلبت فيها منظمتها الحزبية، وتعززت علاقتها الوطنية، وإمتد نفوذها في أحياء المخيمات، ومدينتي صور وصيدا، وباتت الجبهة الديمقراطية فاعلاً رئيسياً في رسم القرار الوطني على صعيد الجنوب، كما على صعيد باقي مناطق لبنان. ومن الأمثلة البارزة على ذلك الدور الذي لعبته الجبهة الديمقراطية في الرد على حادثة إغتيال الشهيد معروف سعد - 1975، ثم الدور الذي لعبته في تأمين الطريق الساحلي بين العاصمة بيروت وجنوب لبنان، بإعتباره المركز الرئيس للمدد البشري واللوجستي لفصائل المقاومة الفلسطينية وفصائل الحركة الوطنية اللبنانية وأحزابها. ■ ثم تدحرجت التطورات إلى أن وصلت في العام 1976 إلى لحظة بات فيها الحسم السياسي والعسكري أمراً ضرورياً، دفاعاً عن الثورة الفلسطينية وعن الحركة الوطنية وبرنامجها للإصلاح الديمقراطي في لبنان. لكن التدخلات الخارجية، أسهمت في تعطيل مسار الإصلاح، عبر تدخل عسكري غير مشروع، هدفه إحتواء المقاومة الفلسطينية وإجهاض المشروع الوطني اللبناني للإصلاح الديمقراطي. وفي 7/6/1976، تقدمت دبابات جيش التدخل الإقليمي، مستهدفة مدينة صيدا ومخيم عين الحلوة ومخيم المية ومية. أعلنت الفصائل الفلسطينية والوطنية اللبنانية التعبئة، وكان الشهيد مراد على رأس قوات الجبهة الديمقراطية التي إشتبكت مع القوات المتقدمة من محور جزين - عبرا وصولاً إلى ساحة النجمة في صيدا، ونجحت في تدميرها. ■ في هذه المعركة الطاحنة، سقط عدد كبير من الشهداء، وكان على رأسهم القائد مراد، حيث تم العثور على جثمانه مصاباً بشظايا قذائف الدبابات، وإلى جانبه سلاحه الفردي والقاذف المضاد للدروع. نقل جثمان الشهيد مراد إلى أحد المستشفيات لحفظه حتى ترتيب تشييعه، في مدينة صور ومخيماتها أولاً، قبل أن يُنقل إلى مسقط رأسه في صيدا حيث شُيَّع إلى مثواه الأخير في مقبرة صيدا، فووريَ الثرى إلى جانب شقيقه ماهر، الذي سبقه إلى الإستشهاد قبل عام – 28/6/1975 ولمّا يبلغ بعد الربيع الـ 21 من عمره، على رأس إحدى المجموعات القتالية دفاعاً عن المخيمات الفلسطينية في بيروت■ مراد الإنسان ■ عند استشهاده بكاه الجميع دون إستثناء، فقد كان مناضلاً شجاعاً، وإنساناً مميزاً برفعة أخلاقه وطهارة سمعته، وصفاء قلبه، وصدق إخلاصه لحزبه وللشعبين اللبناني والفلسطيني، وللقضية الفلسطينية عموماً، وللجبهة الديمقراطية. بقي في المواقع الأمامية مقاتلاً شجاعاً، وقائداً يتقدم الصفوف، تربى على يده عشرات المقاتلين والمناضلين الأوفياء، الذين ما زال عدد منهم في مواقعهم النضالية، يحفظون ذكراه الجميلة، ووقائع يومية من حياته البسيطة، لم يُثْنِهِ عن العمل بنفس الإندفاع إستشهاد شقيقه ماهر في معارك الدفاع عن بيروت ومخيماتها، بل حرص على إبراز حالته المعنوية المتقدمة والعالية دوماً، مؤكداً أن الوفاء للشهداء هو السير على مسارهم دون تردد أو إحجام. ■ رحل مراد، ورحل من قبله شقيقه ماهر، ثم بعد سنوات – كانون الأول/ ديسمبر 1988 رحل شقيقه الأصغر المهندس مازن في مهمة نضالية، أثبت أنه الشقيق الوفي لمن سبقه، لمراد ولماهر. وهكذا، تكون عائلة بهاء المجذوب، الموظف رئيس إحدى الدوائر في بلدية صيدا، قد قدمت للقضية الفلسطينية ولشعبها، وللبنان، وقضيته الوطنية، ثلاثة شهداء من أبنائها الأربعة. مراد، أيها العاشق الرومانسي للثورة، شقيق الشهيدين، وعاشق فلسطين لك المجد■ أحمد منصور حزيران/ يونيو 2000
محمد شاكر خزعل/ فايز أبو حميد.. الفدائي الذي استشهد قائداً 1949-1978 البدايات ■ كان يفترض أن يولد في بلدته البَصَّة في فلسطين، وأن يترعرع تحت سمائها، ويرتوي من مائها، ويتغذى بخبزها وفاكهتها، وأن يخطو خطواته الأولى المتعثرة في أزقتها، وأن يتعلم في مدارسها، ليغدو واحداً من رجالها، وربما من رجالاتها. لكن القدر، الذي - في حالات بعينها – لا إنفكاك منه، جعل من العام 1949 موعداً لولادته، بعد إنقضاء سنة على النكبة الوطنية، لا يذكر في أي خيمة ولد، ولا يدري تحت أي سقف زينكو نما، لكنه ما زال يذكر كيف حبا على الأرض العارية، بشعره الأشقر الجميل، وكيف تسلل من الباب نحو الزمان، ليغوص في رمال الطريق ويحاول أن يعود، فَيُضَيِّع معالم الطريق، حيث أزقة المخيم متشابهة، يبكي وتسيل دموعه إلى أن تعود والدته لتلتقطه، تحتضنه أحياناً وتغفل عنه - مع بقائه تحت النظر - أحياناً أخرى. ■ ولد على أرض مخيم برج البراجنة، غرب الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، ونما وكبر، لا تفارقه مشاهد الطابور الصباحي في مدارس الأونروا، ولا طعم زيت السمك الذي يفرض على التلاميذ تناوله لرفع مناعتهم. ما زال يذكر الكلمات الأولى في كتاب اللغة العربية، ومنها درس حرف الراء: راس – روس... والجراب الذي خاطته له والدته ليحفظ فيه كتبه وقلم الرصاص، وحذاءه المطاطي، الذي يزيد حرارة الصيف ويفاقم برودة الشتاء. ■ أحب المخيم وأقرانه وسكانه، لكن ما كان يُنغص عليه حياته هو أنه كان محظوراً عليه مغادرة المخيم لزيارة أقربائه في المخيمات الأخرى، خاصة تلك الواقعة جنوباً، إلا بإذن من «مخفر الدرك»، فهو لاجيء فلسطيني، إبن مخيم، حُرِم – تبعاً للظرف السياسي السائد – بقدر معتبر من حقه في التمتع بإنسانيته؛ حتى الإذاعة، كان على أبناء المخيم أن يتجنبوا الإستماع إلى بعض محطاتها إلا سراً تحت طائلة الملاحقة من الأمنيين المولجين بـ «ضبط» المخيمات. لم يغادره الشعور بالإضطهاد، لتعرضه لمضايقات المخفر و«المكتب الثاني» الممسكين بخناق المخيم، وبالمقابل تغذى على روايات وأقاصيص أهله، عن البَصَّة، وعن عكا، وترشيحا، وغيرها من المدن والقرى الفلسطينية، عن العز الذي كانوا يعيشون في ظله، عن الحلم الدائم بالعودة، وعن الأمل المعقود على من كان يُحيي في صدورهم حلم العودة إلى فلسطين، من خلال ما كانت تبثه إذاعة «صوت العرب» من القاهرة من تعليقات سياسية وأغانٍ ثورية في مرحلة «المد القومي»، مروراً بنشيد «موطني» الخالد لإبراهيم طوقان، وصولاً إلى غنائتي «عائدون، والحدود لن تكون» و «القدس لنا» للكبيرة فيروز. ■ جدَّ واجتهد في المدرسة، وتدرج من صف إلى آخر، في ظل قناعة أن التسلح بالعلم هو السبيل بالنسبة للاجيء لمواجهة صعوبات الحياة؛ وفي المدرسة، رافق زملاء كثيرين متحمسون للقضية ويحبون جمال عبد الناصر، ثم صاحب زملاء حدثوه عن الوطن السليب، وعن أهمية العمل النضالي المنظم، وعن معنى الإنضمام إلى صفوف «الحركة» طريقاً للعودة إلى الديار، وبذلك أصبح صديقاً لحركة القوميين العرب، وكانت الحركة السياسية الأكثر تأثيراً في المخيم. هزيمة حزيران/ يونيو 67 صدمته، وكاد أن يفقد الوعي وهو يستمع إلى جمال عبد الناصر يقدم إستقالته من منصبه، خرج إلى أزقة المخيم يبحث كالآخرين عن الجواب، وفي جو إختلطت فيه المشاعر بين ألم الهزيمة الكاوية وأمل النهوض من جديد، بدأت الأسئلة تدور وتدور، ما الذي جرى ولماذا جرى، وما هو الحل، وما العمل؟!... ■ ومع مجلة «الحرية» والتعاميم الحركية التي كان يطلع عليها، جاءت الإجابات الشافية، وبدأت مرحلة وعي جديد؛ وأطل الفدائيون برؤوسهم، صاروا هم واسطة الحل، وهم الأمل، وانعقدت في أنحاء المخيم جلسات بدأت هامسة، تبحث عن الطريق الجديد، لكنها سرعان ما تحوَّلت إلى صرخة للإنتقال من عالم المخيم بقبضة «المكتب الثاني» إلى عالم الفدائي، بلباسه المميّز، وكوفيته المبرقعة بالأبيض والأسود، ولمعان الإرادة في نظراته■ العمل الفدائي الفلسطيني الجديد ■ ولادة العمل الفدائي شكلت ظاهرة ألهبت صدور الفلسطينيين ونفوسهم، خاصة الشباب منهم، ونجحت وسائل الإعلام في الدول العربية، لا سيما في تلك التي إنتكست أوضاعها جرّاء هزيمة الحرب، في إبراز هذه الظاهرة، بل والذهاب في الإشادة بها إلى حد المبالغة في تقديم أعمالها في محاولة منها لإعادة إستقطاب الشارع العربي من بوابة تأييد العمل الفدائي، بعد أن هبطت أسهمها – كأنظمة - في الشارع، وخسرت موقعها في الرهان عليها، حاملة للمشروع القومي، وتحرير فلسطين، وإعادة اللاجئين إلى ديارهم، حتى أن بعض القادة العرب لم يتردد في رفع شعار «كلنا فدائيون»، رغم التناقض الموضوعي بين طبيعة نظامهم السياسي، ومتطلبات العمل الفدائي، والقتال لتحرير الأرض، وموجبات ذلك.. ■ قادة آخرون رفعوا شعار «المقاومة وجدت لتبقى»، وآخرون «إن المقاومة هي نقطة الضوء الوحيد في هذا الظلام العربي الدامس»، وبذلك صار حلم كل شاب فلسطيني أن يكون فدائياً، يدفعه إلى ذلك أيضاً البلاغات العسكرية التي تصدرها فصائل المقاومة عن عملياتها القتالية ضد الإحتلال الإسرائيلي، والأناشيد الثورية التي بدأت تبثها «إذاعة الثورة»، والتحقيقات الصحفية عن معسكرات تدريب الفدائيين، وعن مواقعهم المتقدمة على خطوط التماس مع الإحتلال، خاصة على طول نهر الأردن. ■ في الفترة التي أعقبت حرب الـ 67، بدأت مجموعات فدائية تتسلل إلى داخل الأراضي المحتلة لإقامة نقاط إرتكاز للمقاومة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وكانت تقوم بعمليات على خطوط التماس، عمليات «القشرة» كما كانت تسمى، أو في عمق الأراضي المحتلة، ما أمكنها ذلك. وفي سياق رد العدوان على هذه العمليات أتت معركة «الكرامة» في آذار/ مارس 1968، لتسجل علامة فارقة في مسار المقاومة الفلسطينية، حيث تصدى الفدائيون بإسناد فعَّال من الجيش الأردني لتقدم جيش العدو، لترده على أعقابه مكبدة إياه خسائر ملموسة في الأرواح والمعدات، ما أعلى أسهم المقاومة فلسطينياً وعربياً، إذ تحوَّل النصر التكتيكي والصمود في الميدان إلى إنتصار سياسي ومعنوي بتداعيات إعلامية وتعبوية غير مسبوقة، حوَّل المقاومة إلى ظاهرة جماهيرية جارفة، لكنه أدخلها – في الوقت نفسه – في دائرة التطلعات التي تتجاوز – موضوعياً – إمكانياتها وقدراتها. ■ أصبحت الأردن قبلة الشباب الفلسطيني، من أنحاء العالم. وفي لبنان بالذات، شكلت سوريا الممر الإجباري للوصول إلى الأردن للإلتحاق بمواقع الثورة، وكان على الفصائل الفلسطينية، خاصة تلك التي نشطت في مخيمات لبنان، أن «تعبيء» الشباب الفلسطيني، وتوفير الطرق والمسالك لهم، للوصول إلى هناك، حيث المقرات القيادية لاستقبال المتطوعين، وفرزهم إلى معسكرات التدريب، ومن ثم إلى مهام نضالية متعددة، ومنهم من كان يلتحق بالمواقع القتالية المتقدمة على حدود فلسطين لينخرط في الأعمال الفدائية.. ■ وهكذا نشأت ظاهرة جديدة، أسهمت هي الأخرى في إشعال نار الثورة في الصدور: عودة بعض المتطوعين شهداء محمولين على أكف رفاقهم، لتشييعهم ومواراتهم الثرى في مخيماتهم في لبنان وسوريا؛ آخرون كلفوا بالعودة إلى مخيماتهم، والشروع في إستحداث معسكرات محلية لتدريب الشباب في المخيم، وبناء تشكيلات محلية بمثابة «وحدات الشعب المسلح» في إطار ما كان يسمى بـ «الميليشيا الشعبية» للدفاع عن المخيمات أمام خطر الأعمال العدوانية الإسرائيلية التي بدأت يدها الطويلة تمتد إلى داخل التجمعات السكانية الفلسطينية، خاصة في لبنان■ في معسكر «جبل النزهة» ■ كان فايز أبو حميد حالة من بين آلاف الحالات التي تفاعلت مع الحدث الكبير. كان شاباً قد بلغ العشرين من عمره، وفي غفلة عين، ومع أولى ساعات الغروب، إنسل أبو حميد من مخيم برج البراجنة، يَجِدُّ السير في الطرق الوعرة إلى سوريا، حيث الإستراحة، وبعدها إلى عمان...؛ وفي معسكر «جبل النزهة»، قرب عمان، أحد معسكرات التدريب العسكري للجبهة الديمقراطية، بدأ أبو حميد يصافح حلمه، إرتدى بَزَّة التدريب، أحسّ منذ اللحظات الأولى أنه سيكون أمام أكثر من إمتحان، فعزم بكل إصرار على إجتيازها بنجاح، وعند كل خطوة تدريب، كان يشعر أنه أحدث نقلة في بناء شخصية جديدة ملؤها الثقة بالذات. ■ عاد أبو حميد من معسكر الإعداد والتدريب، جاهزاً لتحمل المسؤولية، فشرع بتدريب المتطوعين من سكان المخيم، ما عزز دوره كمسئول عسكري يمثل الجبهة الديمقراطية في الأطر العسكرية والأمنية التي تتشكل على الصعيد المحلي بين الفصائل الفلسطينية. ولا يزال من عايش تلك الأيام يذكر كيف استجاب أبو حميد ورفاقه لنداء الثورة إبّان أحداث أيلول/ سبتمبر 1970، عندما جاءت الرسالة من القيادة تطلب التطوع للدفاع عن الثورة، حيث وجهت دعوة إلى الرفاق والرفيقات على عجل إلى المكتب، حمل الكل سلاحه الفردي من بنادق صينية أو تشيكية، ومن كانت لديه بدلة قتال إرتداها تأكيداً على جهوزيته. ■ واجهت الرفاق ومن ضمنهم أبو حميد مسألة لم تكن في الحسبان، هي كيف نحافظ على مكتب الجبهة في المخيم مشرع الأبواب على مدار الساعة، في تلك الأيام كان من غير المناسب على التنظيم أن يغلق أبوابه حتى ولو ليلاً، تحت طائلة تصنيفه كتنظيم لا يتمتع بالجهوزية المفترضة لمواجهة كل الإحتمالات. وجد الرفاق الحل في تكليف رفيقتين، الإشراف على المكتب، لكن الرفيقتين هددتا بالإستقالة، إذا لم يسمح لهما بالإلتحاق بقوات الثورة، وبعد جدال ونقاش، إقتنعتا أخيراً أن مهمة الإبقاء على المكتب مشرع الأبواب، يستقبل أبناء المخيم، هو أحد أشكال تلبية نداء الواجب الذي يحدد – في الوقت المطلوب - أين تكون، وليس أين ترغب أن تكون. ■ عندما تجمع أعضاء الجبهة الديمقراطية قبل الإنطلاق في أحد الباصات إلى المعسكر المحلي في مخيم شاتيلا، غرب بيروت، حيث مكان التجمع والفرز، فوجئوا بعشرات من أبناء المخيم، يحتشدون في وداعهم، في جو من الحماس المؤثر، ويتمنوا لهم العودة منتصرين، وكان الفرح يخيم على الجميع ... عادت أجواء ثورة 1936، وعاد الشيخ عز الدين القسام، وعاد الشهيد عبد القادر الحسيني حَيَّاً، وسقط عن المخيم لباسه كمأوى للاجئين، وصار معسكراً للثورة. ■ عاد أبو حميد ورفاقه من الأردن، بعد أن لَبَّى نداء الثورة، مشدوداً إلى التفرغ للعمل الفدائي، فغادر المخيم، تاركاً أهله وراءه، ملتحقاً بإحدى القواعد المتقدمة للقطاع العسكري للجبهة الديمقراطية، وبذلك إنتقل أبو حميد ليعيش حالة اليقين للمناضل المحترف الذي حسم خياره الوطني، وحقق حلماً بقى يراوده سنوات■ من المقاتل إلى القائد ■ تنقل فايز أبو حميد المقاتل المتطوع في صفوف القوات المسلحة الثورية للجبهة الديمقراطية في مهامه القتالية بين معظم قواعد الجبهة، من القاطع الشرقي للثورة إلى القاطع الأوسط، إلى الغربي، وتعرف على جنوب لبنان، جنباً إلى جنب مع مقاتلي الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، إلى أهالي الجنوب اللبناني وسكانه الأوفياء لوطنهم وترابه، ولفلسطين وأهلها وثورتها، خضع للمزيد من دورات الإختصاص، فاتسعت مداركه وتعمقت تجربته، ما أَهَّلَه إلى صعود سلم القيادة خطوة خطوة عن جدارة واستحقاق. شارك في حرب تشرين/ أكتوبر 1973 وعمل مع رفاقه في الثورة الفلسطينية على فتح جبهة أخرى للقتال – وإن كانت رمزية - في جنوب لبنان إلى جانب جبهتي الجولان وسيناء. كما شارك أبو حميد في معارك الدفاع عن المخيمات الفلسطينية ومع إنفجار الأوضاع في لبنان عامي 1975 – 1976، كان أبو حميد الذي إختمرت خبرته بالقتال، يُثبت حضوره الفاعل على المحاور الساخنة. ■ هذه صورة من صور الدور القيادي الذي تحمل أعباءه فايز أبو حميد، حين رقّي مع تطور التشكيلات القتالية لقوات الجبهة الديمقراطية إلى قائد كتيبة تموضعت على خط القتال مع العدوان الإسرائيلي على محاور النبطية، في القطاع الأوسط لجنوب لبنان، حيث أسهمت أيضاً في تدريب وتأهيل عدد من مقاتلي أبطال العمليات النوعية للجبهة الديمقراطية، وتأمين عبورهم إلى داخل الأرض المحتلة في شمال فلسطين، كذلك لم تتوقف الدوريات القتالية عن التحرك على خطوط التماس لـ «سطع» الأوضاع بالدقة المطلقة، والتحسب لأعمال العدو المفاجئة■ حرب 1978 والمواجهات الشرسة (عملية الليطاني) ■ فجر التاسع من آذار/ مارس 1978، نجحت مجموعة من مقاتلي حركة فتح، تقودهم الشابة الفلسطينية دلال المغربي، في عملية إنزال عند أحد شواطيء تل أبيب، حيث أسرت المجموعة إحدى الحافلات واحتجزت ركابها، إلى أن يتم إطلاق سراح عدد من الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال. حركة فتح أطلقت على العملية تسمية «عملية دير ياسين» نسبة إلى المجزرة المروعة التي إرتكبتها مجموعات الإرهاب الصهيونية لتهجير أبناء شعبنا من وطنهم، وحملت المجموعة إسم الشهيد القائد «كمال عدوان»، الذي إغتالته إسرائيل في عملية «ڤردان» ببيروت في 10/4/1973 إلى جانب القائدين يوسف النجار وكمال ناصر، والهجوم الفاشل على المقر المركزي للجبهة الديمقراطية في حي الفاكهاني. بذريعة هذه العملية، قررت تل أبيب أن تقوم بعمل عسكري واسع في جنوب لبنان. ولما كان الطقس عاصفاً، والبحر هائجاً، إضطرت إسرائيل إلى تأجيل عملها العدواني لأيام، مما وفر للقوات المشتركة فرصة تجهيز أوضاعها للتصدي للعدوان، والذي أكدت كل المؤشرات أنه سيكون واسعاً، وقد يتخذ شكل إجتياح بري للأراضي اللبنانية. ■ كان الهدف الإسرائيلي، وكما توضح في سياق العملية العسكرية، إحتلال المنطقة جنوب نهر الليطاني بالكامل، والقضاء على الوجود الفدائي فيها، على أن يشمل هذا الإحتلال مدينة النبطية شمال الليطاني، حيث مقر القيادة العسكرية للقطاع الأوسط، وبهذا تحقق إسرائيل أيضاً هدفها في تهجير أكبر عدد ممكن من المدنيين من سكان المخيمات الفلسطينية وأبناء القرى اللبنانية، مستهدفة تأليب الحالة الجماهيرية على المقاومة، وتولید ضغط على الحالة السياسية اللبنانية، يسمح باتخاذ إجراءات تضييقية ضد المقاومة الفلسطينية وضرب التحالف الفلسطيني - الوطني اللبناني. هذا إلى جانب توفير «حزام أمني» عميق على طول الحدود مع لبنان، من خلال توسيع «الشريط الحدودي» القائم أصلاً. ■ إندفعت القوات الإسرائيلية على كافة القطاعات والمحاور، وفق السيناريو الموضوع، وجوبهت بمقاومة عنيفة، وخاضت القوات المشتركة معارك بطولية في كل من العرقوب ومحاور صفد البطيخ، تبنين، السلطانية، حداثة، حاريص، صريفا، مجدل زون، المنصورية، كفر رمان، بير السلاسل، برج رحال، العباسية، وقرى منطقة الخيام، إضافة إلى الملاحم البطولية في القنطرة، القعقعية، الطيبة، وتبع ذلك القصف المدفعي وإطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستوطنات شمال فلسطين. ■ إنتشرت كتيبة «صلاح الدين» بقيادة فايز أبو حمید على محاور النبطية - الطيبة في مواجهة العدو الإسرائيلي وعملائه في المناطق الحدودية الجنوبية في القطاع الأوسط، ونظراً لكفاءة وخبرة القائد أبو حميد ومساعديه، وإعترافاً من قيادة المقاومة بالدور الذي تلعبه كتيبة «صلاح الدين» في الدفاع عن المنطقة، بوابة الوصول إلى صيدا، عبر محور الزهراني، كُلِّف فايز أبو حميد بقيادة القوات المشتركة للثورة الفلسطينية، فوضع لها الخطط العملانية للدفاع المتحرك في مواجهة الغزو الإسرائيلي، وبما يسمح بتكبيده أفدح الخسائر، ويكلفه عند كل شبر، يُمكن أن يتقدم عليه، أرواح جنوده ودمائهم. ■ بعد أن إنتشرت أنباء عملية «دلال المغربي» النوعية في عمق فلسطين، أيقن النقيب أبو حميد بأن إسرائيل لا بُدَّ أن تستغل الحادثة لتقوم بعدوانها على منطقة النبطية. وعليه، أعطى أوامره إلى القوات المشتركة بإعلان حالة التأهب، وإلغاء الإجازات، وتفقد محاور القتال المختلفة، مشدداً على تزويدها بإحتياجاتها كاملة، بما يوفر لها القدرة على القتال المستقل، وفق نظام الدفاع المتحرك للقوات الفدائية. وبدوره، قام أبو حميد بتفقد محاور القتال والمقاتلين واطمأن إلى أوضاعهم، وإلى روحهم المعنوية وإستعدادهم القتالي، كما اطمأن إلى جاهزية الضباط، وتوفر كل الإمكانيات الضرورية لخوض معركة مكلفة لجيش العدو. ■ حين هدأت عملية القصف الجوي التي إجتاحت المنطقة، أدرك القائد أبو حميد أن ساعة الصفر قد أَزفَّت، فاتخذ قراراً جريئاً، نقل بموجبه غرفة عملياته إلى منطقة القنطرة، وهي موقع متقدم، ليكون على مقربة من المقاتلين في كتيبة «صلاح الدين» والقوات المشتركة. ■ إندلع القتال العنيف يوم 16/3/1978، وبدأت مدفعية العدو تمهد بقصف كثيف، لتقدم آلياته ومدرعاته ودباباته على أكثر من محور، ومع طلوع الفجر، كانت قوات العدو قد إجتازت الحدود اللبنانية - الفلسطينية، وبدأت الإشتباكات تدور على محاور القتال كافة. وببراعة القائد المجرب، نجح فايز أبو حميد في إدارة المعركة وتوجيه مقاتليه عبر أجهزة الإتصال، ما دفع العدو لطلب الإستعانة بطيرانه الحربي، بعدما فشلت قواته في إختراق دفاعات الفدائيين، ووقعت تحت نيران عقد أسلحة م/ د، وحين إقتربت قوات العدو من بلدة القنطرة، تحول المكان إلى ساحة مواجهة قاسية، حيث أمر أبو حمید مقاتليه بخوض قتال تراجعي منظم، وأصر أن يكون في عداد الدفعة الأخيرة التي تخلي المكان. ■ دارت معركة شرسة خاضها الفدائيون في أزقة القنطرة، من منزل إلى منزل، ومن عطفة إلى عطفة، ومن دار إلى دار، وسكت جهاز الإتصال الخاص بالقائد أبو حميد، وانسحب المقاتلون الفلسطينيون وقد كبدوا العدو خسائر ملموسة. وحين إنقشع دخان المعارك، ونجح الصليب الأحمر الدولي في جمع جثامين الشهداء الذين لبوا نداء الواجب الوطني، كان جثمان القائد أبو حميد من بينهم، مؤكداً أنه كما عاش فدائياً، إستشهد قائداً. ■ إجمالاً لم يقتصر دور قوات الجبهة الديمقراطية على المساهمة بالتصدي لقوات الغزو باجتياح الليطاني، بل ساهمت في العمليات الخاصة خلف خطوط العدو، وبقيت تتصدى لمحاولات العدو الإسرائيلي تحسين وضعه التكتيكي بإحتلال مواقع جديدة، وما معركة «جسر الحاصباني»، التي خاضها فدائيو الجبهة الديمقراطية منفردین، واستردادهم للجسر، واستيلائهم على تجهيزات العدو التي تركها في أرض المعركة، إلا مثال على حجم الخسائر التي وقعت بصفوف العدو، وعلى قدرة قوات الجبهة في المحافظة على كل شبر من مواقع الثورة■ إلى المثوى الأخير وسط الزغاريد والأهازيج ■ في موكب مهيب، نقل جثمان الشهيد القائد فايز أبو حميد - محمد شاكر خزعل، قائد كتيبة «صلاح الدين» في القوات المسلحة الثورية، قائد القوات المشتركة لقوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية على محاور القتال في قطاع النبطية، وقائد عمليات التصدي للهجوم الإسرائيلي على لبنان، نقل إلى مثواه الأخير في مقبرة شهداء الثورة في بيروت، مخترقاً شوارع النبطية، مروراً بالزهراني، وعبر الطريق الساحلي، وسط الزغاريد والأهازيج الثورية. ■ كتبت عنه الصحافة الإسرائيلية حين إعترفت تقارير مراسليها العسكريين أن معركة جيش الإحتلال على محاور بلدة القنطرة، كانت شديدة الوطأة على القوات الإسرائيلية التي حاولت التقدم أكثر من مرة، وتم صدها، وأعيدت على أعقابها تجر آلياتها المدمرة، حاملة قتلاها، تصم الآذان صرخات جرحاها، ما أرغمها على اللجوء إلى الطيران الحربي الذي حول البلدة إلى ركام، حين أسقط فوقها عشرات القنابل شديدة الإنفجار، وهو ما أودى بحياة القائد أبو حميد، وعدد من رفاقه، قاتلوا حتى الرمق الأخير، ببسالة وشجاعة وإقدام، وبعد أن كبدوا العدو خسائر فادحة، لم يستطع إلا أن يكشف عنها، وبذلك ودون أن يدري، أسهم العدو في كتابة الفصل الأخير، المجيد والمُشَرِّف، للقائد أبو حميد، الذي زينت صوره بوسامته المعهودة جدران المنازل في الأحياء والمخيمات■ معتصم حمادة 16/3/2008
بشير زقوت.. بين الليطاني وتخوم غزة يزهر ورد الشهداء.. عهداً أن نظل نروي الدالية والزيتون 1950-1978 ■ «... ليلة الرابع من نيسان رأيت كابوساً في منامي»، بأن محمد سمور قد حضر لزيارتي في القاهرة وأحضر لي هدية هي بمثابة بنطلون جينز؛ ولكنه مزنر بقماش الكاكي العسكري، فقلت له: شو هالبنطون يا محمد؟! ضحك وقال: «شكلك مش عارف أنه أحلى ما في البنطلون هو الكاكي»؛ كما شاهدت أيضاً في منامي «أخته التي إستشهدت لاحقاً في الإنتفاضة الأولى، وهي تعمل في مصنع، وفجأة أمسك سير إحدى الماكينات شعرها وسحبها حتى توفيت».. إستيقظت من هذا الكابوس متشائماً وتوقعت بأن خطباً ما سيحدث، لم أذهب للجامعة، وخرجت دون هدف، عدت بعد العصر للشقة؛ دقائق وإذا بالباب يطرق، خرجت وإذا برفيق من الجبهة الديمقراطية على باب الشقة يُسلمني البرقية التي وصلتهم وتطلب منهم إبلاغي بالسفر إلى بيروت بسبب بشير، ولا شيء سوى ذلك، «وكان هناك كلمة مشطوبة من البرقية»، الأمر الذي لم يساعد على تسكين مخاوفي.. ■ وبدأت رحلة معاناة جديدة وهي كيف سأسافر وأصل بيروت لأعرف ما حل ببشير، وأملي الوحيد بأن يكون مازال حياً؛ وأن إستدعائي ربما لأنه مصاب ويحتاج أن أكون بجانبه، فأنا الوحيد من خارج الأرض المحتلة وفي دولة قريبة يمكنني الحضور بسرعة، حيث أن سمير كان قد بدأ دراسته بجامعة هاڤانا بكوبا، وباقي الأهل في غزة. ■ شعرت أن الحياة قد توقفت، وليس أمامي سوى أن أطارد الزمن، حتى أتمكن من الحضور الفوري كما أكدت البرقية التي وصلتني، فيما يبدو أن قلب الموظف الذي إستقبل البرقية وإنسانيته لم يحتملا هذا التبليغ القاسي؛ فقرر على مسؤوليته أن يشطب تلك الكلمة الأكثر قسوة في الحياة، بل ولا تعني سوى توقفها، ربما أراد أن يحمي روحي من انهيارها، ويعطني فرصة لامتصاص هذه اللحظة الموجعة حد الموت وما دونه. ■ بدأ زملائي في السكن يرفعون من معنوياتي، وبدأت بوضع خطة الإتصالات لصباح اليوم التالي كي أتمكن من الوصول إلى حيث كان بشير شهيداً أو جريحاً. ذهبت في اليوم التالي لمكتب منظمة التحرير، حيث كان المرحوم الأستاذ مجدي أبو رمضان عضواً في تنفيذيتها مقيماً في القاهرة، ويتردد على مكتب التنفيذية بالقاهرة، وكذلك المرحوم سعيد كمال الذي كانت تربطه بأجهزة الدولة المصرية علاقات جيدة، وقد طلبت منهما مساعدتي بالحصول على وثيقة سفر للوصول إلى دمشق، ربما للإطمئنان على بشير، أو المشاركة في تشييع جثمانه، إستمرت جهود ووساطات الحصول على وثيقة سفر للاجئين الفلسطينيين أسبوعاً كاملاً، فنحن طلبة غزة نحمل فقط بطاقة إقامة، رغم أن قرار منح اللاجئين هكذا وثيقة هو قرار من الجامعة العربية، حيث كانت مصر تصدرها لجميع أبناء وبنات القطاع، وسوريا تصدرها للمقيمين في سوريا، وهكذا لبنان والعراق، بينما الأردن كانت تصدر جوازات سفر أردنية للفلسطينيين في المملكة سواء المقيمين في الأردن أو في الضفة الغربية باعتبارها كانت جزءاً من المملكة، حتى إندلعت الإنتفاضة فأعلن الراحل الملك حسين فك الإرتباط القانوني والإداري معها، ولكنه لم يلغِ حق فلسطينيي الضفة من جواز السفر الأردني، وهي خطوة تقدّر له وللأردن مهما كانت تأويلات أسباب ذلك القرار. ■ أخيراً، حصلت على الوثيقة المصرية التي تُمنح للاجئين الفلسطينيين، ولكنها مؤقتة وسارية فقط لمدة ثلاثة شهور ولسفرة واحدة. وصلت دمشق في أول طائرة متوجهة إليها، كان الوقت بعد الظهيرة، توجهت فوراً لما كان يعرف بمكتب الأرض المحتلة الكائن في حي المزة بدمشق، جلست في صالة إنتظار حيث حضر شخص تبدو عليه الصرامة، ولم يتحدث بكلمة واحدة، وحتى اليوم لا أعرف إن كان عرف من أنا في تلك اللحظة أم لا، فقد دخل مكتبه وأغلق الباب على نفسه. علمت فيما بعد أنه عصام عبد اللطيف، ثم بدأ الآخرون الذين يعملون في هذا المكتب يحضرون واحداً تلو الآخر: أبو ليلى- «قيس عبد الكريم»، ثم مصطفى جفال، وآخرون، ثم حضر خليل الذي سبق وقابلته في القاهرة وهو «سميح خليل»، وقد علمت فيما بعد أنه الإبن الأصغر للسيدة سميحة خليل، ومن دون الآخرين عانقني بحرارة وقال: «البقية بحياتك»، أجبته وأنا أشعر بدوار: «ليش هو مات؟». شعر خليل بالصدمة، وقال: «أنت ما حد خبرك، ليش أنت مش جاي من بيروت؟»، أجبته وكمن يحاول ألا يصدق أو لا يريد ذلك: «لا، وصلت قبل ساعتين قادماً من القاهرة». كم شَعر بالإرتباك، وقال: «أعذرني، فكرتك جاي من بيروت، على الأقل لم أكن أرغب بأن أكون من يصدمك بهذا الخبر». ■ وهكذا بهذه الطريقة، أحسست بتعاطفه الإنساني، ومن تلك اللحظة نشأت علاقة شخصية قوية معه، حتى وفاته قبل سنوات بمرض السرطان. إذن بشير إستشهد، وليس جريحاً كما حاولت أن أوهم نفسي، أو كما حاول موظف البرقيات أن يخفف عني تلك الصدمة. جلست وأخذت نفساً عميقاً وحاولت أن أكون رابط الجأش متماسكاً، ولكنها النار تحرق القلب وتجفف الدموع. خرج الجميع ليقدموا العزاء وحاولوا التخفيف من الصدمة، وبدأت الإتصالات لتأمين وصولي لبيروت. علمت حينها أن والدتي وأخي منير قد تمكنا من الوصول من غزة وكذلك أهل عبير، وأنهم شاركوا في التشييع المهيب الذي جرى في بيروت حيث «مقبرة شهداء الثورة» الواقعة على حوافي دوار مخيم شاتيلا. ■ كان علي أن أتوجه فوراً إلى بيروت لأكون مع والدتي ومع عبير زوجة بشير التي طالما حدثني عنها الشهيد في رسائله، إلا أن هذا يتطلب ترتيباً خاصاً، بل ويتطلب إصدار بطاقة عسكرية من منظمة الصاعقة؛ ولا أدري لماذا من هذه المنظمة. جرى إتصال مع صديق لبشير اسمه عبد الوهاب النوايسة، لإصدار هكذا بطاقة، في الأثناء علمت أن والدتي قد عادت من بيروت وذهبت هي وأخي منير إلى بيت أهلها وشقيقها خالي عبد الكريم في مدينة حمص، كانت الساعة قد قاربت على العاشرة مساءً عندما أوصلني أحد الرفاق لكراج سيارات حمص في دمشق، وصلت بعد منتصف الليل لبيت خالي عبد الكريم؛ وهو الشقيق الوحيد لأمي، وكان قد عاد مؤخراً من الكويت حيث عمل لسنوات طويلة، ليستقر في سوريا، ولكن أحداً لم يكن في البيت، إنتظرت مع السائق برهة من الوقت دون أن يأتي أحد، ثم ذهبت لفندق في مدينة حمص، لم تغمض عيناي ولو دقيقة واحدة، عدت لبيت خالي مع الفجر لعل أحداً يأتي ويدلني أين أم بشير لأخفف عنها حزنها المجلل بغار غياب أجمل من في حياتها وحياتنا؛ إبنها البكر بجمال إبتسامته. ■ إنتظرت حتى أشرقت الشمس ولا أحد في المنزل، ولم يأتِ أحد حتى السادسة والنصف صباحاً، حيث وصل شخص وفوراً قال مندهشاً: «جمال؟»، أجبته ببرود: «نعم أنا جمال». فأنا لا أعرفه ولم ألتقِ به يوماً في حياتي، عانقني بحرارة، وقال: «أنا خالك عبد الكريم». قلت: «وين أمي؟»، فتنهد وقال: «يا الله كم تشبه بشير يا خال». فهو يعرف بشير جيداً، وكان بشير قد زارهم عدة مرات، بما في ذلك في الكويت أثناء دراسته في بغداد؛ وتابع: «والدتك طلعت من حمص عصر أمس متوجهة لدمشق، ومنها لعمان دون أن تبيت في أي منهما، وستتوجه مباشرة لغزة، فقد أصرت أن تعود بسرعة لإخوتك وأخواتك ووالدك الذي منع من السفر». وقتها علمت أن والدي وعمي عبد الحميد وعمي أبو مصطفى كانوا قد حاولوا الوصول لبيروت مع أمي ومنير بعد أن أبلغتهم الجبهة الديمقراطية باستشهاد بشير من خلال إتصال جرى مع د. حيدر عبد الشافي، ولم يتمكن سوى والدتي ومنير من الوصول لبيروت، بينما عاد الثلاثة لغزة «يروون الدالية والزيتونة»، كما كتب ميشيل النمري في رثاء مؤثر لبشير على غلاف مجلة «الحرية»، بعد أن أعادت إسرائيل والدي، وأعادت الأردن عمي عبد الحميد، ثم رفضت السلطات السورية إدخال عمي أبو مصطفى. ■ عدت إلى دمشق، وكانت بطاقة الصاعقة قد جهزت، وتم نقلي عبر ما يسمى بالطريق العسكري إلى جنوب لبنان عبر جبل الباروك، وصلت ليلاً وكان في انتظاري الرفيق أبو محمود الفوريكي- «معروف أبو السعود»، وكانت بوسترات الشهيد بشير والشهيد فايز أبو حميد تملأ المكان، وقد أَمَّنَ أبو محمود وصولي صباح اليوم التالي إلى بيروت لمقر قيادة الجبهة في «بناية رحمة» بالفاكهاني، وأيضاً كانت جدران شوارعها مليئة بملصقات الشهيد بشير وابتسامته الجميلة وعيونه الأجمل تنظر إلي، وكأنها تسألني لماذا تأخرت؟ كنت واثقاً من أنه يعرف أن من سجنوه وطردوه هم من حالوا دون وصولي في موعد يمكنني من عناقه وإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه، وذرف الدموع التي يستحقها، ولأكون مع أمي أخفف من حزنها. ■ نقلني الرفاق إلى بيت الرفيقة فادية - «ماجدة المصري»، حيث كانت عبير ومنذ استشهاد بشير تقيم معها في بيتها القريب من الملعب البلدي في منطقة طريق الجديدة، وقد حدثتني عبير، وهي مليئة بالحزن، عن والدتي وكيف ظل حزنها صامتاً في داخلها، وكما ذكرت فادية أنها عندما كانت تشعر بالحاجة للبكاء تذهب للحمام، كي لا ترى عبير دموعها. وقد ظلت تردد بذهول خاصة للرفيق ممدوح نوفل الذي كان يزورها مواسياً: «أنا مش زعلانة إنو استشهد فهذا طريق الأبطال؛ أنا والله بس زعلانة لأنو استشهد قبل ما يشوف الدولة اللي كان يظل دايماً يحكيلي عنها». آخ يا بشير لو تعرف كم صارت هذه الدولة بعيدة، بل وربما صعبة المنال؛ وفي نفس اليوم ألحيّتُ على الذهاب لمقبرة الشهداء، إلا أن توتراً أو ربما كان إشتباكاً مع حاجز للصاعقة بالقرب من مفرق الملعب البلدي حال دون وصولنا لمقبرة الشهداء في نفس اليوم، فنصحني الرفاق بتأجيل زيارة الضريح لليوم التالي. ■ وصلنا مقبرة الشهداء التي تضم في ثراها أغلى أمانة وضعها الفلسطينيون في بيروت حتى تكون في مقدمة العائدين يوماً، وهي تتسع يومياً في حرب كانت مفتوحة، وقد إئتُمنت على خيرة الرجال والنساء الذين ضحوا بأرواحهم/هن من أجل فلسطين وترابها، ودفنوا على تخومها، بانتظار أن تُنقل رفاتهم يوماً إليها، وتُشاد النصب لإحياء سيرتهم وذكراهم العطرة في مدنها وبلداتها وقراها. ■ وقفت أمام الضريح، غير مصدق بأن بشير الذي كان ينبض بالتحدي والحياة والثقة الحتمية بالحرية والخلاص من ظلم الإحتلال، هو الآن تحت هذا الثرى، وفي ذلك الضريح الذي يسجل أنه ولد في فلسطين عام 1950، واستشهد دفاعاً عن الثورة في عام 1978. ولم يكن بشير المناضل المشتبك والحالم قد تجاوز الثمانية والعشرين عاماً بكل تلك المسيرة الصاعدة حتى الشهادة. كنت أتمنى أن يُكتب على ضريحه ولد بعد النكبة في مخيم الشاطيء فجر يوم الاثنين السابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوڤمبر عام 1950 واستشهد من أجل فلسطين وحرية شعبها ظهر يوم الثلاثاء الرابع من نيسان/ إبريل 1978، فسيرة مثل هؤلاء الأبطال وتضحياتهم والدروس التي قدموا في حياتهم من أجل فلسطين وشعبها والإنسانية وتحقيق العدالة فيها، تحسب بدقائق الساعات والأيام. ■ وقفت أمام هذا التاريخ الذي عشته مع بشير وأنا طفل؛ فلم أكن قد تجاوزت العاشرة، وهو لم يكن قد بلغ السابعة عشرة عندما غادر المخيم بعد الإحتلال في صيف 1967، قطع نهر الأردن متسللاً إلى عمان، ثم عاد بعد أسابيع قليلة بنفس الطريقة وغادر ثانية، نعم لم يكن قد بلغ السابعة عشرة عندما قرر الخروج من أجل إستكمال دراسته الثانوية في ضيافة عمي أبو هشام في قطر، ومن ثم الإلتحاق بالجامعة في شبين الكوم بمصر، فالتحصيل العلمي هو رأس مال اللاجيء حتى يعود إلى بلاده وأرضه التي هجر منها، ومن أجل إستكمال هذا التعليم على درب العودة والحرية، تعرض بشير وهو في العشرين من عمره لإبعاد من مصر، لأسباب سياسية، تلاه بعد ثلاث سنوات ترحيل آخر من العراق لنفس الأسباب، ثم من سوريا، وتخللها زيارة للأهل في فلسطين واعتقال وترحيل وإبعاد. ■ الإعتقال الأخير له كان وهو على مقعد الإمتحانات في كلية الهندسة في جامعة دمشق، لإتمام وعده لأمه وأبيه، نعم إعتقل بشير وهو يحاول أن ينهي المواد القليلة التي تحول دون نيل شهادة الهندسة، فقط ليؤكد أن خيار التفرغ في قوات الثورة لم يكن بسبب فشل في الجامعة، والتي حالت أنظمة القمع للمناضلين دونها، وقد كان ملصق إستشهاده، الملصق الأول الذي يعلق على جدران كلية الهندسة التي كان ينتظر التخرج منها، فتخرج شهيداً كما كتب لي قبل أيام الصديق نبيه محمد نبهان، وأنا أضيف: «بأنه تخرج بوسام أشرف من كل أنظمة البوليس التي طاردت روحه حتى صعدت للسماء على يد قنابل سيدهم الأمريكي والتي ألقاها طيار إسرائيلي مجرم من طائرته الحربية القاذفة». ■ مرت في شريط ذاكرتي كلماته الشجاعة في مجمع التحرير بالقاهرة، وهو يرفض محاولات إذلال المناضلين ويتوعد بالحساب، وعناقه الطويل لي في مطار القاهرة قبل أقل من عام، ونعم، لم أكن أعرف أن هذا العناق سيكون الأخير، فلم أتمكن من عناقه حتى في وداعه الأخير، ربما هو كان يعلم، فطريق النضال الذي إختاره بشير هو طريق التي تُبنى الأوطان على أكتافها وتضحياتها، كما كتب لي قبل حوالي العام. بقيت متسمراً أمام الضريح المجاور والملاصق لضريح رفيقه فايز أبو حميد - «محمد شاكر خزعل»، إبن مخيم برج البراجنة الذي سبقه للشهادة بأسبوعين وبضعة أيام، أي في 16/3، بمواجهة الإجتياح الإسرائيلي في القطاع الأوسط بجنوب لبنان، بينما أتأمل تقاسيم وجهه الجميل المرسوم على ملصق ملون بألوان العلم الفلسطيني، ظهر في مخيلتي مشهد توحد شباب وصبايا مخيم الشاطيء وهم يهتفون معاً مع شباب وصبايا مخيمات لبنان وكل مخيمات اللجوء والتشرد: «بالروح بالدم نفديك يا شهيد... بالروح بالدم حنكمل المشوار». ■ كانت اليافطة التي تحمل إسمه ما زالت معلقة على أشجار المقبرة، يتقدمها شعار: «لا صوت يعلو على صوت تحرير الجنوب»، الذي كان شعار مسيرة التشييع، وقد ظل هذا السؤال في عقلي يكبر يوماً بعد يوم، فصحيح أن بشير إستشهد في جنوب لبنان وفي معركة شرسة قبل أيام من استشهاده، والتي كتب عنها رفيق دربه ورفيق السلاح غسان عبود، إستمرت لعدة ساعات في منطقة حاصبيا في القطاع الشرقي بجنوب لبنان، وكان يصدّ ورفاقه تقدم قوات العدوان الإسرائيلي الغازية لأرض الجنوب، ولكنها معركة مواجهة إسرائيل التي إغتصبت أرض فلسطين وتستهدف القضاء على شعبها وثورتها. ■ وظل هذا السؤال يكبر في عقلي وهذا الشعار ينضج في طريق النضال الذي أثمر بعد عشر سنوات بأن «لا صوت يعلو فوق صوت الإنتفاضة»، التي مهدت لها تضحيات كل الشهداء من الأغوار في معركة الكرامة، ومعارك التصدي للغزو الإسرائيلي في الجنوب، وفيما بعد حصار بيروت عام 1982، وصمودها ثمانية وثمانين يوماً في مواجهة محاولات إسقاط المنظمة وتصفية الثورة ونهوض شعب الإنتفاضات التي تتالت فيما بعد، كأنها بروڤات صغيرة لانتفاضة كبرى قادمة كان قد كتب عنها وتنبأ بها جميل هلال قبل ثلاثة أشهر فقط من إندلاع الإنتفاضة الكبرى في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر 1987، مشيراً أن هذا يتطلب قيادة وطنية موحدة لقيادة نضالات الشعب الذي سينتفض، وهكذا تماماً كان، فبروح الوحدة التي جسدتها دورة المجلس الوطني الثامنة عشرة في نيسان/ إبريل 1987 لاستعادة وحدة المنظمة، وبروح الإنتفاضة الكبرى التي جسدتها قرارات الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني في تشرين الثاني/ نوڤمبر 1988، كان شعار «لا صوت يعلو على صوت الإنتفاضة»، والإعلان عن إرادة الشعب بتأسيس القيادة الوطنية الموحدة. ■ تلك الوقفة أمام ذلك الضريح يعلوه هذا الشعار وملصقات الشهداء كانت حاضرة في الثامن من كانون الثاني/ يناير عام 1988 عندما كُتب واعتُمد، ومن ثم طُبع ووُزّع بيان الإنتفاضة الأول والذي سجل في التاريخ «نداء رقم 2»، لتكون الثورة الفريدة دون بيان رقم 1، وذلك تجسيداً لمتطلبات الوحدة، فالبيان رقم 1 هو بيان إستشهاد حاتم السيسي وقبله العمال الأربعة الذين داستهم شاحنة مستوطن إسرائيلي، وبيان إستشهاد جيڤارا ومحمد صالح وعبد الحميد الجمل ومحمود جدوع وحسين حماد ومحمد جودة، وغسان كنفاني وماجد أبو شرار وأبو على إياد، والحاج سامي أبو غوش وخالد نزال، وشيخ الشهداء عبد القادر الحسيني والشيخ عز الدين القسام؛ هو بيان إنطلاقة الثورة وكل فصائلها، هو بيان نعي شرف الطيبي وصائب دهب ولينا النابلسي وشادية أبو غزالة ودلال المغربي، وكل شهيدة وشهيد على درب الثورة والإنتفاضة وحرية الشعب وعودته. ■ عدنا عبير ومحمد سمور وأنا وعدد من الرفاق والرفيقات؛ أذكر منهن المناضلة أمل المصري إلى بيت فادية، وتجرأت على السؤال كيف استشهد بشير، حينها علمت أنه بينما كان عائداً من إجتماع مع قوات الطواريء الدولية/ «اليونيفيل» إصطدم بسطاره بقنبلة عنقودية صغيرة ملتصقة بتراب الجنوب فانفجرت وأودت بحياته، وكانت بالقوة التي كسرت مسدسه ولم تفلح محاولة إسعافه فصعدت روحه شهيداً، وليبقى هذا الجرح كما جرح آلاف الشهداء مفتوحاً إلى أن يتحقق حلمهم بالنصر، أو الشهادة دونها. ■ مكثت في بيروت عدة أيام إلتقيت خلالها بابن عمي صلاح الذي كان قد حضر متطوعاً من ليبيا، ويذكرني «بأنه طلب أن يفرز على القطاع الشرقي لأنه علم من أصدقاء له في الديمقراطية أن بشير في القطاع الشرقي، وقبل إستشهاده بيومين ومن خلال الرفاق في القطاع الشرقي تكلم معه عبر اللاسلكي واتفقا على اللقاء يوم الجمعة في بيروت، وقد أخفى الرفاق في الديمقراطية كما يقول صلاح خبر إستشهاد بشير، وأبلغوه بذلك في الساعة الواحدة ليلاً من صباح الجمعة، فتوجه فوراً إلى الدامور، حيث استقبله هناك الرفيق سالم دردونة، ثم أوصله لبيت فادية في الرابعة صباحاً، وحوالي الخامسة والنصف من صباح الجمعة وصلت والدتي ومنير، وكانت طيلة الوقت متماسكة، إلا أنها عندما رأت صلاح إنهارت بالبكاء»، ويضيف صلاح: «وهكذا للأسف إلتقينا الجمعة كما اتفقنا، ولكن لوداعه الأخير». تعرفت أيضاً خلال تلك المدة القصيرة جداً على أجمل الرفاق وخيرة الأصدقاء أبو ربيع - «أحمد رزق»، وسالم دردونة وفادية وغيرهم من الرفاق، ورافقني فيها يومياً إبن مخيم الشاطيء الشاب المليء بالوفاء محمد سمور. وكان علي أن أعود بسرعة للقاهرة؛ فالسنة الدراسية لم تكتمل، وبعدها يجب أن أعود إلى غزة حيث أمي وأبي وأهل المخيم يروون الدالية والزيتونة، ولم أكن أعلم ما ينتظرني في أقبية لاظوغلي من مفاجآت ستغير من مسار ومجرى حياتي كلها. ■ غادرت بيروت، وأنا في طريق عودتي للقاهرة، شعرت وكأن قطعة من قلبي بقيت هناك في مقبرة الشهداء، فلا أكاد أصدق أن بشير الأخ الأكبر، والذي كان قدوة ونموذجاً لنا بإرادته وصلابته الشخصية والسياسية، وابتسامته النابعة من قلب صافٍ وحنون، بات مجرد ذكرى أو إبتسامة على صورة صمّاء لا حياة أو حركة فيها، رحل بشير هكذا في غمضة عين، وتوقفت مع رحيله مطاردات أنظمة البوليس التي رغم تناقضاتها السياسية والفكرية، إلا أنها كانت تتلاقى في ترحيله وإبعاد خيرة الفلسطينيين من عواصمها. على الأقل هو الآن يخلد في راحة أبدية من قرارات ترحيل ربما كانت ستعدّ له من هذه العاصمة أو تلك، أو إعتقال ومطاردات في زنازين وسجون هذه العواصم الثورية التي كانت تعد إنقلابات أنظمتها من أجل تحرير فلسطين، وتمتمت في نفسي معزياً حالي. ■ كانت زيارتي الخاطفة لبيروت مليئة بالقهر والحزن والفقدان المؤلم. وفي الأيام التي كنت أزور الضريح مع محبيه تارة وخلسة كي أحدثه وحدي مرات أخرى، كانت أم فايز أبو حميد، مواظبة على البقاء عند ضريحه، وكي نكون واقعيين، فصحيح أن رفاق الدرب والأصدقاء الأوفياء سيواظبون على افتقاد رفاقهم الشهداء، هذا صحيح، ولكن حرقة قلب الأم واشتعال النار في صدرها لا يمكن أن يضاهيه ألم من أي كان حتى الأخ الشقيق. ■ في آخر زيارة لمقبرة الشهداء قبل مغادرتي بيروت، ودعتها، ودون أن أوصيها بشيء قالت لي والدة الشهيد فايز: «ربنا معك يا إبني وقلبي مع أمك. فالنار اللي جواها ما بيعرفها حد مثلي ومثل كل أم فقدت كبدها، أغلى الناس في حياتها، إبنها»، وبينما كانت الدموع تملأ عينيها أضافت «سلم على أم بشير وقل لها ما تقلق على القبر يا بنيي، هذا أمانة في رقبتي طول ما أنا عايشة راح أدير بالي عليه زي ابني، الله يرحمهم وإن شاء الله الجنة مثواهم»، بهذه الكلمات الصافية والموجعة ودعت بيروت، وبحزن يماثل الكون بثقله أيضاً ودعت عبير ورفاق بشير، وعدت للقاهرة، وقلبي يهتف: «بين الليطاني وتخوم غزة يزهر ورد الشهداء»■ جمال زقوت 4/4/2021
بشير زقوت.. دمه في عينيك ... دمه بين شفتيك 1950-1978 ■ لا يستطيع بالضبط تحديد طبيعة المشاعر التي تفجرت في داخله حين نُقل إليه الخبر ... شيء أكبر من الألم ... شيء أكبر من اللوعة ... شيء أكبر من الفخر والإعتزاز ... وشيء هو أقرب إلى الذهول، وعندما تجتمع كل هذه المشاعر معاً، لا يعود بالإمكان إختزال وصفها. - إنه قدر الفلسطيني ... همس الوالد المفجوع في سره، وصمم على الحضور إلى بيروت للمشاركة في تشييع ولده ... وكذلك فعل إخوانه «أعمام الشهيد بشير»■ ■■■ ■ من غزة فلسطين إلى بيروت لبنان، يحتاج المسافر إلى عشر تأشيرات سفر بعشرة أختام على وثيقة السفر، من بينها أربعة داخل الوطن الواحد بين غزة التي ألحقت ردحاً من الزمن بالنظام المصري، والضفة التي ألحقت بالنظام الأردني، وذلك الجزء من أرض الوطن الذي يفصل بين الجزئين الآخرين. الوالد ومن حضر معه تنفسوا الصعداء عندما قطعوا نهر الأحزان الحارقة الذي تقدس إسمه، فلقد أيقنوا أن بيروت لم تعد بعيدة بعد أن ختم آخر جندي إسرائيلي على وثائقهم■ ■■■ ■ لكن الوالد أوقف على حدود عربية حين قدم أوراق إعتماده التي أشهر فيها إلى أنه من أصل كنعاني خطير ومن المستحسن مراقبته. والعم الأول أوقف على الحد السادس والعم الثاني على السابع، والعم الثالث طلب إليه أن ينتظر طويلاً على الحد العاشر. قالوا: نستأنف. ولدنا يدفن غداً ... تستقبله أكاليل الورد المتفتح على الحياة في مقبرة الشهداء. إبتسم الضابط المكلف بحماية حدود الوطن من غزو «الغرباء»، ففهموا، واعتذروا، وعادوا. لكن الوالد أطلقها صرخة: «لقد شقيت كثيراً يا ولدي» «لقد مت كثيراً يا ولدي» كان يتذكر لحظة خبر ينبئه بإعتقال ولده في غزة. كان يتذكر لحظة خبر ينبئه بإعتقال ولده في عاصمة عربية. كان يتذكر لحظة خبر ينبئه بنفي ولده من عاصمة عربية ... وبإعتقال ونفي ولده من عاصمة أخرى. العم الأول صرخ بوجه الضابط؛ إن دم ولده يبصره في عينيه. والعم الثاني صرخ بوجه الضابط؛ إن دم ولده يبصره بين شفتيه. والعم الثالث قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ... نعود إلى غزة نروي الدالية والزيتونة والإنفجارات ... قد نمهل لكن لا نهمل ولف عباءته وعاد■ ■■■ ■ حملوه على الأكف، فوق الأعناق، ملفوفاً بعلم فلسطين، تذكرته والدته محمولاً على الأكف فوق الأعناق يرفع علم فلسطين ... ومن خلفه من أمامه سار المئات من رفاق الدرب. صورته تطل عليهم. كان جسده يطل عليهم. وفي المرتين كان الهتاف الحاد يخترق السماء «بالروح بالدم بنكمل المشوار»■ ■■■ ■ الجمعة ... والشمس في عز الظهيرة عاهده رفاقه على الإستمرار في طريقه. السبت ... والشمس في عز الظهيرة كان رفاقه الطلبة الذين ساروا معه في حياته، وساروا معه في تشييعه، يعيدون بناء ما تهدم من منازل مخيمات الجنوب ... كانوا في مخيم الرشيدية، يعيدون ترتيب الأشياء لبعث الحياة فيه من جديد، وكان بشير الطيب يرافقهم ... يشدّ على أياديهم ... يؤكد لهم أن العودة إلى غزة تتطلب العودة الآن إلى الرشيدية والبص وبرج الشمالي ... ليكونوا أقرب إلى غزة. وكان المهاجرون يتدفقون عائدين إلى قراهم ومخيماتهم ... وكان أهل بشير ينبئون أبناء غزة بأمر «رجال الحدود» ... وكان عم بشير يروي الدالية والزيتونة والليمونة، وينظر من بعيد فيرى مخيم الرشيدية، ويرى مقبرة الشهداء، ويمدّ يده مصافحاً «الرجال الرجال» من بعيد ... وكانت الزوجة تعد رفيق دربها بشير بمشاركة رفاقها الطلبة رحلة الأسبوع القادم إلى مخيمات الجنوب، وتسأله عذراً لأنها تخلفت لمرة واحدة، يوم تفرغت لمرافقته في مشواره الأخير■
ميشيل النمري نيسان/ إبريل 1978
الفهرس
■ هذا الكتاب....................................................................5 ■ لكم المجد والرايات............................................................11 ■ الفصل الأول: قادة من فلسطين..............................................15 • ياسر عرفات.............................................................17 • جورج حبش.............................................................19 • إسماعيل هنية...........................................................23 • فتحي الشقاقي...........................................................26 • بشير البرغوثي...........................................................30 • مصطفى الزبري/أبو علي مصطفى........................................33 • بسام الشكعة............................................................36 • خليل الوزير/ أبو جهاد...................................................40 • محمد الضيف..............................................................45 ■ الفصل الثاني: قادة من حركة التحرر الوطني................................49 • كمال جنبلاط............................................................51 • محمد بنسعيد..............................................................62 • أنطون سعادة...........................................................66 • فرحات حشّاد............................................................69 • معروف سعد............................................................73 • أحمد نبيل الهلالي.......................................................76 ■ الفصل الثالث: قادة من الحركة النسائية.....................................81 • عصام عبد الهادي.......................................................83 • نهاية محمد................................................................86 • سميحة خليل............................................................92 • آمنة الريماوي...........................................................102 • شادية أبو غزالة.........................................................105 • نجلاء ياسين/ أم ناصر..................................................108 ■ الفصل الرابع: أدباء في دروب العمل الوطني.................................111 • محمو درويش............................................................113 • سالم النحاس............................................................117 • الياس خوري.............................................................120 • جبرا إبراهيم جبرا.........................................................123 ■ الفصل الخامس: بالدم.. رسموا لفلسطين.....................................129 • إسماعيل شموط.........................................................131 • توفيق عبد العال.........................................................134 • ناجي العلي..............................................................139 ■ الفصل السادس: قادة من الجبهة الديمقراطية................................143 • عمر القاسم.............................................................145 • عبد الكريم حمد فيس/ أبو عدنان........................................153 • عبد الحميد أبو غوش/ هشام............................................161 • عبد الغني هللو/ أبو خلدون.............................................164 • سامي أبو غوش وزوجته مها...........................................167 • سليمان الرياشي/ سعيد عبد الهادي.....................................172 • طلال أبو ظريفة........................................................175 ■ الفصل السابع: قادة من العمل المسلح.......................................179 • خالد عبد الرحيم.........................................................181 • خالد نزال................................................................184 • بهيج المجذوب/ مراد.....................................................186 • محمد شاكر خزعل/ فايز أبو حميد..........................................192 • بشير زقوت..............................................................199 ■ فهرس..........................................................................209
#الجبهة_الديمقراطية_لتحرير_فلسطين (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خارطة طريق لتوحيد الصف الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة والضم
...
-
«الديمقراطية»: بالحوار الوطني والمجتمعي، وترجمة مخرجاته نعزز
...
-
-في الحرب والمقاومة-: جديد مركز ملف
-
دورة القادة الشهداء( ) إسماعيل هنية .. طلال أبو ظريفة .. فؤا
...
-
البلاغ السياسي الصادر عن اللجنة المركزية للجبهة الديمقراطية
...
-
العدد 87 من «كراسات ملف»: المسار الأمني في «اتفاقات أبراهام»
-
في الذكرى ال76 للنكبة الوطنية ، «الديمقراطية»: آن الأوان للت
...
-
المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق
...
-
اللقاء الفلسطيني في موسكو (29/ 2-1/3/2024) قراءة وتقدير موقف
-
في مهرجان سياسي في الذكرى ال55 لانطلاقة «الديمقراطية»
-
في الذكرى ال55 لانطلاقة الجبهة
-
بيان صادر عن فصائل المقاومة الفلسطينية
-
بيان صحفي الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين حزب الشعب الفلسطي
...
-
«الديمقراطية» في مذكرة إلى القمة العربية الطارئة
-
في مواجهة العدوان الإسرائيلي – الاميركي المستدام - رؤية سياس
...
-
العدد 73 من «كراسات ملف»: إجتماع الأمناء العامين .. العلمين،
...
-
إجتماع الأمناء العامين / العلمين، 30/7/2023
-
العدد 68 من «كراسات ملف»: المؤشرات الاقتصادية في فلسطين .. 2
...
-
العدد 67 من «كراسات ملف»: النكبة في السينما الفلسطينية والعر
...
-
كتاب تحت المجهر
المزيد.....
-
هل تعتقد أن بوتين يريد السلام مع أوكرانيا؟.. ترامب يجيب لـCN
...
-
لندن وبروكسل توقعان اتفاقية دفاعية
-
صحيفة: القادة الأوروبيون استغربوا عدم رغبة ترامب في فرض عقوب
...
-
اتفاقيات ثنائية تشهدها قمة بريطانية أوروبية هي الأولى بعد -ب
...
-
من باريس إلى ستوكهولم ـ حزب -البديل- وأشقاؤه في أوروبا
-
ترامب: روسيا وأوكرانيا ستبدآن محادثات وقف إطلاق النار -فورا-
...
-
-مصر أم قطر؟-.. مشروع قانون في إسرائيل لحظر وساطة دولة عربية
...
-
ضجة في الجزائر وفتح تحقيق عاجل بسبب سؤال عن -قيام إسرائيل-
-
اتصال بوتين وترامب.. تمهيد لحل بأوكرانيا
-
أسباب جفاف الشفاه
المزيد.....
-
في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية
/ الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
-
الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها
/ محمود خلف
-
الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها
/ فتحي الكليب
-
سيناريوهات إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان -دراسة استشرافية
...
/ سمير أبو مدللة
-
تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل
/ غازي الصوراني
-
حرب إسرائيل على وكالة الغوث.. حرب على الحقوق الوطنية
/ فتحي كليب و محمود خلف
-
اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني
/ غازي الصوراني
-
دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ
...
/ غازي الصوراني
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|