أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - العيرج ابراهيم - طفل القبور














المزيد.....

طفل القبور


العيرج ابراهيم

الحوار المتمدن-العدد: 8343 - 2025 / 5 / 15 - 08:34
المحور: كتابات ساخرة
    


في قلب مقبرة شاسعة تتربع على أطراف مدينة نائمة، حيث تمتد صفوف شواهد القبور كجيش صامت، ولد "نجم". لم يرَ نجم والده قط، شهيد حرب الصحراء الذي روى بدمائه أرض الوطن قبل أن يرى نور عينيه. لكن نجمًا لم يعش كباقي الأطفال في كنف أم ثكلى وجدة حنون. لقد اختار، أو ربما اختارته الأقدار، أن يكون بيته بين قبور الشهداء.
كان نجم يبلغ من العمر عشر سنوات، نحيلًا، بعينين واسعتين تكتنزان حكمة أكبر من سنه. كان يعرف كل شاهد قبر، كل اسم محفور عليه، وكأنهم أفراد عائلته. كان يقضي أيامه يتجول بين القبور، ينظفها من الغبار، يضع عليها أغصان الزيتون البرية التي يجمعها من التلال المجاورة، ويحدثهم بصوت خفيض كأنه يهمس بأسرار الكون.
في ليالي الصحراء الباردة، عندما يعم السكون وتهب الرياح ناقلة معها حكايات الماضي، كان نجم يلتف بعباءة والده القديمة، التي لا تزال تحتفظ برائحة تراب المعارك ورائحة الوطن، وينام بين القبور. لم يكن يشعر بالخوف، بل كان يشعر بالأمان، وكأن أرواح الشهداء تحيط به وتحرسه.
كان يتخيلهم، هؤلاء الرجال الذين يرقدون تحت التراب. كان يتخيل "عليًا" الذي تحول جسده إلى أشلاء بفعل قذيفة غادرة، لم يبق منه إلا ذكريات باهتة في قلوب رفاق السلاح. كان يتخيل "سعيدًا" الذي شتت رصاصة طائشة رأسه، تاركة وراءها فراغًا أبديًا في عيون أمه. كان يتخيل "خالد" الذي تقطعت أوصاله في كمين ليلي، تاركًا خلفه زوجة شابة ترتدي ثوب الحداد الأبدي.
كان نجم يستمع إلى حكاياتهم بصمت، حكايات الرصاص المتطاير كالمطر، ودوي المدافع الذي يهز الأرض هزًا، وصراخ الجرحى الذي يخترق سكون الليل. كان يتخيل رائحة البارود التي تخنق الأنفاس، وطعم الغبار والمرارة في الفم، والخوف الذي يتملك القلوب قبل لحظات المواجهة.
لم يكن نجم يرى في هذه القبور نهاية، بل كان يرى فيها بداية لقصص بطولية، لرجال ضحوا بأغلى ما يملكون من أجل تراب هذا الوطن. كان يرى في صمتهم قوة، وفي رفاتهم عظمة.
في أحد الأيام، وبينما كان نجم يجلس بجوار قبر والده، وجد قطعة معدنية صدئة مدفونة جزئيًا في التراب. حفر حولها بحذر حتى استخرجها بالكامل. كانت قطعة من صفيحة عسكرية مثقوبة بعدة ثقوب. حملها نجم بين يديه الصغيرتين وشعر بقشعريرة تسري في جسده. تخيل اللحظة التي اخترقت فيها هذه الشظايا جسد والده، اللحظة التي صعدت فيها روحه الطاهرة إلى السماء.
لكن بدلًا من الحزن واليأس، شعر نجم بشيء آخر، شعور بالفخر. فخر بأن والده كان من بين هؤلاء الأبطال، فخر بأنه جزء من هذه الأرض التي ارتوت بدماء الشهداء.
كبر نجم وهو يعيش بين القبور، يحمل في قلبه ذكرى والده ورفاقه. لم يصبح جنديًا كما كان يتمنى البعض، بل أصبح حارسًا لهذه الذاكرة، راويًا لحكاياتهم، وشاهدًا على تضحياتهم. كان الأطفال يأتون إليه ليستمعوا إلى قصص الأبطال، وكان الكبار يأتون إليه ليجدوا السلوى والعزاء بين قبور أحبائهم.
أصبح نجم، الطفل الذي ولد بين القبور، رمزًا للصمود والأمل، وبرهانًا على أن أرواح الشهداء تبقى حية في قلوبنا، وأن تضحياتهم لن تذهب سدى. لقد تعلم أن الحياة يمكن أن تنبت حتى من بين رفات الموتى، وأن الذاكرة هي أقوى سلاح في وجه النسيان.



#العيرج_ابراهيم (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكشف عن أسطول النقل الحضري السري لأسر شهداء حرب الصحراء: حا ...
- جراح حرب الصحراء المنسية: صرخات مكتومة لأسر الشهداء
- ايت ملول : صمود الجماد في وجه الفساد
- أيت ملول: تنافر الصحة والبيئة - مستحلب الاسفلت ،الأخطار المح ...
- المقاهي الأدبية بين التجاري و الثقافي
- صرخة أرملة شهيد ” أعيدوا لي زوجي”
- افريقيا :ترفع الراية الحمراء في وجه ترامب
- -كوفيد-العنيد
- -كوفيد - العنيد
- 8مارس : نارمهيلة لأرامل شهداء الصحراء‼
- في زيارة الحزام الامني
- من بشهيد الحرب غدر؟؟
- موت ابن شهيد ؟!
- ارملة في رسالة للشهيد
- اليوم العالمي للأرملة: أرملة الشهيد نموذجا
- أسر شهداء حرب الصحراء :الرد الشافي على الأفاك المتخفي
- مأساة أسر الشهداء ليست أحذية للتلميع بباب الصحراء؟
- دماء الشهداء: بين غناء الوفاء ونظرة الجفاء
- أسر شهداء حرب الصحراء: أجراس حرب أخرى تقرع في الأفق
- ضحايا حرب الصحراء الأرملة: بين شهيد الأمة و شهيد الغمة


المزيد.....




- فاز بجائزة -بوليتزر- الأميركية .. مصعب أبو توهة: نحلم بالعود ...
- نواف سلام بمعرض بيروت الدولي للكتاب: مستقبل الأوطان يُبنى با ...
- -باريس السوداء-.. عندما كانت مدينة الأنوار منارة للفنانين وا ...
- رحيل الفنان أديب قدورة.. رائد الأداء الهادئ وصوت الدراما الس ...
- معرض الدوحة الدولي للكتاب يناقش إشكاليات كتابة التاريخ الفلس ...
- الروائي الفيتنامي الأميركي فييت ثانه نغوين: هذه تكاليف الجهر ...
- وفاة الشاعر العراقي موفق محمد
- دور النشر القطرية.. منصات ثقافية تضيء أروقة معرض الدوحة الدو ...
- على -أرجوحة بالي-.. تواجه الممثلة تاراجي بيندا هينسون أكبر م ...
- قريبا.. صدور -تاريخ الدولة الروسية في قصائد- للشاعر الروسي إ ...


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - العيرج ابراهيم - طفل القبور