|
محمد أركون وأهمية نقد الموروث
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8338 - 2025 / 5 / 10 - 14:01
المحور:
سيرة ذاتية
فقد الفكر العربي خلال السنوات الماضية مجموعة من الطلائع الفكرية المتميزة بعطائها التنويري، في مجال الفكر العربي المعاصر، فقد رحل فؤاد زكريا، ومحمد عابد الجابري ونصر حامد أبو زيد والمفكر الجزائري محمد أركون.
في عددها (4-3) الصادر في عام 2011، نشرت مجلة «الأزمنة الحديثة» المغربية رأيًا للباحث والمفكر المغربي كمال عبداللطيف قال فيه: لقد تميَّز الإسهام الفكري للراحلين بمنحاه العقلي وروحه النقدي، إضافة إلى الجرأة في بناء الأفكار المساعدة على خلخلة مظاهر التقليد في فكرنا المعاصر.
وبحسب رأيه، يجمع المفكرون الذين أشار إليهم هاجسًا مركزيًا، يتمثل في سعيهم بثبات لتجاوز نمط التفكير المهيمن، في ثقافة المجتمع العربي. فقد اختاروا بشجاعةٍ نادرةٍ، الحفر والنقد والتشخيص العقلاني للعوائق التي تقف حائلاً أمام إطلاق مشروع الاجتهاد والإبداع
في الفكر العربي المعاصر. وقد تميَّز الراحل محمد أركون بمشروعه في نقد العقل الإسلامي، وهو المشروع الذي جمعه بمحمد عابد الجابري وقرَّبه من بعض مناحيه من اجتهادات نصر حامد أبو زيد، رغم أن كلا واحد منهم قارب موضوعاته بأساليبه الخاصة في النظر.
انطلق أركون في بناء مشروعه في نقد العقل الإسلامي في نهاية الستينيات، وشخَّص عناوين نقده الكبرى في مصنفة نحو نقد العقل الإسلامي، بالفرنسية الصادر سنة 1984، ثم في باقي مصنفاته، التي اعتنى فيها بما كان يسميه الإسلاميات التطبيقية، وهو المجال الذي سعى فيه لتدشين القول النقدي في نصوص الفكر الإسلامي المختلفة والمتعددة، والنصوص السياسية والفقه والتصوف، ومختلف منتوجات العقل التراثي والذاكرة التراثية،
منطلقًا من أن الإسلاميات التطبيقية عبارة عن مباحث تروم مُحَاصرة نظام النظر الإسلامي الوسيطي، وكشف منطقه الداخلي ومحدوديته النظرية والتاريخية. وهي تتأسس في أعماله بواسطة عمليات الاستيعاب الإيجابية لمكاسب العقل المنهجي المعاصر، حيث تتيح هذه المكاسب المنهجية في نظره إمكانية إنجاز فتوح نظرية جديدة في مجال معرفة الذات في مظاهرها المختلفة.
في حين يرى أن أركون يفسح المجال في أعماله لمفاهيم الفكر النقدي، باعتبارها وسائل وأدوات مناسبة لمحاصرة الفكر القطعي النصي واليقيني بمختلف صوره، وذلك لتعزيز وترسيخ صور العقلانية في النظر، والنسبية في المعرفة، والتاريخ في الوجود.
يتجه العمل في مشروع نقد العقل الإسلامي لإبراز أهمية الروح النقدية الحداثية في الفكر المعاصر وفي العالم المعاصر. ولهذا تنحو مقاربات منحى جذريًا، وهي ترتب بدورها نوعًا من القطيعة مع آليات في النظر عتيقة، ما تزال مهيمنة على أساليبنا في التفكير وفي العمل، في العالم العربي مشرقه ومغربه، وفي مختلف أرجاء الفضاء المحكوم بسياج العقل الإسلامي كما تشكل في عصورنا الوسطى.
إن أهم ما توصل إليه عبداللطيف وهو يتابع منجز أركون النظري، الذي استوعبته مؤلفاته العديدة بالفرنسية والإنجليزية، وفي بعض الترجمات العربية، التي قدمت للأعمال المذكورة، أن العقل الإسلامي في نظره لم يعدْ محصورًا في مجال محدد ونهائي.
لقد انحل في آثار نصية وممارسات تاريخية، يستوعبها موضوع أشمل هو الخيال الاجتماعي والتاريخي. إن المشروع النقدي الذي أسسه الراحل محمد أركون وهو يقارب مجال الفكر الإسلامي محاولاً تركيب دراسات تطبيقية يقوم فيها بتجريب واستثمار أكبر قدر ممكن من الوسائل المنهجية، من أجل قراءة جديدة لبنية العقل الإسلامي، وهي قراءة لا تكفي بنسخ النفع، بقدر ما تولدها وتوسعها في ضوء ملابسات وشروط إنتاج العقل الإسلامي.
لقد كان أركون يجتهد في فتح نوافذ جديدة في التعامل مع الحدث الإسلامي، حيث ينتج المقالة الأنثربولوجية، ويحاول التفكير في بعض جوانب الظاهرة من زاوية إنسانية، كما ينفتح على طرق وأساليب المقاربة السوسولوجية، وهذا الأمر منح أبحاثه المقاربة المركبة. يعد مجال العقل الإسلامي في منظور أركون حدثًا لغويًا تاريخيًا، متعدد الأبعاد والدلالات.
وقد عمل أركون في دراسته التراثية على رفض طرق التأريخ التمجيدي، كما رفض الطرق التي تمارس التقطيع التاريخي المعروف والمنجز من طرف أصحاب الفرق والطبقات والملل والنحل. إنه في جملة واحدة يتخلى عن التاريخ المعتمد على مسلمة التعالي والقداسة
المستقرة فوق التاريخ. وتسلح بدل كل ذلك برؤية تنفتح على التأريخ الإشكالي، مستعينة بمفاهيم تنتمي إلى حقول معرفية متعددة، من أجل محاولة الإمساك الدقيق بمجال العقل التاريخي، كما تبلور في المجال الإسلامي منذ تجربة المدينة، إلى تجارب الإخفاق المتعددة التي عرفها ومازال يعرفها العالم الإسلامي.
لقد أدرك محمد أركون جيدًا أهمية التحولات المنهجية الأساسية التي تجري في مجال الفكر المعاصر ابتداءً من الخمسينيات، خاصة التطورات التي حصلت في اللسانيات وفي التاريخ والأنتربولوجيا والفلسفة. وحاول في ضوئها التفكير في كيفية الاستفادة من مكاسبها المنهجية دون أن يتناسى شروط إنتاج المعرفة العلمية، وشروط إخصاب حقل الدراسات الإسلامية بواسطة استعارة المفاهيم، التي يمكن أن تكفل مساهمة جديدة وجيدة في باب قراءة الحدث القرآني.
لهذا السبب يحفل النص الأركوني بأسماء أهم المفكرين المعاصرين، كما يحفل بمفاهيم مستمدة من حقل العلوم الإنسانية مثل رأس المال الرمزي، الزمن الطويل، التاريخية، الخطاب السيميائي، اللامفكر فيه، المنسي، المكبوت، البنية العميقة.. إلخ، يوظف أركون هذه المفاهيم دون أن يستنسخها، أنه يتمثلها، وينتج بواسطتها نتائج جديدة حاسمة في باب الإسلاميات التطبيقية.
لا يستعير أركون المفاهيم المذكورة من باب الافتتان والانجذاب بالمنجزات الغربية، إنه يغامر باستدعاء هذه المفاهيم، أو هذه السلطات المعرفية المرجعية من زاوية رغبته في تدشين عهد جديد في التعامل مع الإسلام، إنه يستثمرها ليوسعها ويغنيها ويغني بواسطتها حقل دراسة الإسلام والقول الإسلامي.
الخلاصة، لقد انتبه أركون إلى حصول تباعد كبير بين الإسلام والظاهرة الإسلامية والتحول المعرفي الذي تأسس وما زال يتأسس في الفكر المعاصر. وهو يريد أن يقيم تصالحًا معرفيًا بين الإسلام ومنجزات الفلسفة وعلوم الإنسان، وهو تصالح يرمي إلى هدف نقدي كبير هو خلخلة الموروث بلغة جديدة، لغة لا تكتفي بالحماسة الإيديولوجية الرافضة، بقدر ما ترمي
إلى تأسيس خطاب جديد حول الحدث الإسلامي، خطاب يلغي أزمنة الوصف والتكرار والمديح والتاريخية والرومانسية، ويعيد القول الإسلامي (مجال تمظهر الخيال الإسلامي) للتمكن من اكتشاف لغة جديدة ورؤية جديدة في الوجود. التصالح هنا إبعاد للغربة، ووسيلة للتجاوز، وأفق لكونية معرفية بلا حدود.
حين تناول الدكتور سيار الجميل مشروع أركون الفكري - المصدر مجلة «روز اليوسف» سبتمبر 2021 - ذكر: لقد أثار محمد أركون جملة هائلة من العواصف ضده من قبل العرب والفرنسيين، ليس بسبب نقده القوي واللاذع، بل لأسباب عديدة أخرى، فهو صاحب مشروع سماه (الإسلاميات التطبيقية)، وأسلوبه معقد جدًا في الكتابة، حتى يكاد لا يفهم كله مطلقًا
سواء في الفرنسية أم العربية، وقد تجرّد أحد طلبته المخلصين وزميله في ما بعد، ومنذ عام 1978، بترجمة العديد من أعماله وكتبه إلى العربية، وهو الدكتور هاشم صالح، سوري الأصل والمقيم بباريس، ناهيكم عن انتقادات أركون اللاذعة التي كرسها ضد أولئك الذين اختلف عن تفكيرهم ومناهجهم من المستشرقين الفرنسيين.
وذكر أيضًا أن أركون صاحب مشروع فكري، استهدف فيه فتح أفق من نوع جديد في الفكر الإسلامي فيما سماه بتطبيق للمنجز، واعتبره منهجًا عقلانيًا حديثًا في دراسة الإسلام. ولقد بقى يسعى جاهدًا إلى ترسيخ ذلك كونه يرى بأنه السبيل الوحيد لتحقيق الفهم العملي للواقع التاريخي المتنوع للمجتمعات الإسلامية. وينتمي أركون إلى جيل
فرنسي عالي المستوى في ثقافته وإبداعاته ومناهجه وفلسفاته، فقد استفاد حتمًا من تجارب ومنجزات ميشيل فوكو وبيير بورديو وفرانسو فوريه وغيرهم من الذين أحدثوا ثورة إبستمولوجية ومنهاجية في الفكر الحديث، فأراد أن ينحى مثلهم في دراساته وكتاباته ولكن عن الفكر الإسلامي، وقد جعل منهجه ينفصل عن مناهج الاستشراق الكلاسيكي الذي بقي
مسجونًا في الدوامات الفيلولوجية (علم دراسة اللغة)، فهاجمها بشراسة متناهية وكل عناصرها ومن يدور في فلكها من المستشرقين الفرنسيين. وقام أيضًا بدراسة ألسنية وتاريخية وأنثروبولوجية متنوعة، وحاول تطبيق ما طبقه العلماء الفرنسيون على تراثهم اللاتيني المسيحي الأوروبي، محاولاً ذلك على تراث الإسلام وتاريخه وتنوعاته.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لم أشعر يومًا بخوف على مستقبل الولايات المتحدة كما أشعر الآن
-
عن معرض «إعادة تدوير الأشياء»
-
آباي كونانباييف.. علامة مشرقة في تاريخ كازاخستان
-
عصر الأنوار
-
تهجير العرب من فلسطين فكرة صهيونية قديمة
-
الهوية وحرّية الفكر والعمل
-
اقتصاد أوكرانيا: بين خسائر الحرب والنهب
-
الناتو وزيادة الإنفاق الدفاعي
-
فاطمة حدّاد الشامخ.. أبرز القامات التونسية في مجال الفلسفة
-
حلف الناتو.. هل يتفكك؟
-
عبدالعظيم أنيس.. المفكر والأديب
-
فهل يحق لي أن أشتكي من انعدام التحرر؟
-
العرب والدولة الحديثة والديمقراطية
-
نعوم تشومسكي
-
لماذا الأزمة البيئية كونية؟
-
حديث عن الصحافة الثقافية
-
الدكتور عادل العوا.. قامة فلسفية وفكرية
-
العرب وأسئلة الهوية
-
أمريكا: حدود الممكن إلى الانبعاث
-
أكاديمي صيني: بريكس لا ينبغي أن تكون منظمة مواجهة.. بل خيارً
...
المزيد.....
-
أول تعليق من السعودية على وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان
...
-
ماكرون يصف نشر قوات غربية كبيرة في أوكرانيا بالعديم المعنى
-
السفير الأمريكي في إسرائيل: التقارير حول اعتراف ترامب بالدول
...
-
السعودية.. -القتل تعزيرا- لمواطن ارتكب جرائم إرهابية
-
كتائب القسام تنشر رسالة جديدة لأسير إسرائيلي
-
-NBC-: ويتكوف سيقدم لبوتين قائمة مقترحات أعدتها واشنطن وكييف
...
-
مستشار خامنئي يرد على أنباء عن نية ترامب اعتماد تسمية -الخلي
...
-
بيسكوف: تصريحات القادة الأوروبيين تجاه روسيا تحمل طابعا تصاد
...
-
ماكرون يتحدث عن إمكانية تمديد الهدنة المقترحة في أوكرانيا لا
...
-
سكان كراتشي يرحّبون باتفاق وقف إطلاق النار بين الهند وباكستا
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|