عزالدين محمد ابوبكر
الحوار المتمدن-العدد: 8335 - 2025 / 5 / 7 - 22:31
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قد يبدو عنوانًا غريبًا ، لكنه عنوان متماشي مع طبيعة ، هذه الفلسفة ؛ لأن هذه الفلسفة ، هي فلسفة إنسان لا يحتويها شيء ، إلا هو نفسه (أي: الإنسان) وفلسفة الشوارع المصريّة ، هي فلسفة ذات طابع وجودي ، لا يمكن إنكاره ، لكنها ”وجوديّة“ بروح مصريّة و ليست غربيّة ، و هي كما سبق وقلت ، فلسفة غير مكتوبة أو ممنهجة ؛ لأنها حالة فكريّة تعكس التجربة الإنسانيّة ، مع أهم الأسئلة الفلسفيّة ؛ التي تتعرض لها الفلسفة الوجوديّة ، مثل : مواجهة العبث ، و الحريّة ، و المسؤوليّة الفرديّة ؛ من أجل زيادة وعي الإنسان بـ وجوده ، لكي لا يكون جاهلًا بـ قوانين الحياة ، تلك القوانين ؛ التي يتعرض لها الفرد المصري كل يوم.
مثل "الدنيا ما بتديش لحد كل حاجه" ، ذلك اعتراف هام ، من الفرد ؛ بـ أن العالم غير عادل ، لكنه مستمر وفي صيرورة دائمة ؛ و هذا الإعتراف إن دل على شيء فهو يدل ، على أن المصريون مدركون لـ "عبثيّة الحياة" ، لكنهم على عكس الأوروبيين ، ليسوا غارقين في محيط من التشاؤم والعدميّة ؛ لأنهم يستخدمون السخريّة كـ سلاح أمام العبثيّة ، لكن قد تزيد على هذه السخريّة ؛ نوع من اللامبالاة الوجوديّة الساخرة ، مثل "هي جت عليا أنا؟" ، و عندما نتفحص حياة المصري ، و نطبق عليها أفكار الفلسفة الوجوديّة ؛ سوف نجد أنه بـ قيامنا بـ هذه المقاربة ، أن الإنسان المصري مؤمن كـ أي فرد وجودي ، بـ فكرة أن "الإنسان هو من يستطيع أن يخلق معنى لحياته ، بنفسه" ؛ و بـ إيمانه بـ هذه الفكرة نجده مهتمًا ، في حياته بـ خلق فرصة له (في الوجود) ، بدلًا من انتظار فرصة عمل قد لا يكون سعيدًا بها ؛ و من ما سبق يتبين إيمانه بـ الفردانيّة ، و الاختيار الحرّ ، و الذاتيّ.
و من المعروف عن الفلسفة الوجوديّة (عند المنتمين إليها ، و المناهضين لها) ؛ أنها فلسفة ترفض الحتميّة (كـ فكرة ، و معتقد) ، لكن ما يثير الذهول حقًّا ، هو أن الفرد المصري ، هو فرد قد ورث فكرة التوفيق عن أجداده (السكندريين) ، فـ نجده أحيانًا مؤمنًا ، بـ القضاء و القدر (وقد يكون دائم الإيمان)* ، و من الأمثلة على هذا "المكتوب مكتوب" أو "المكتوب على الجبين لازم تشوفه العين" ، و أحيانًا نجده وجوديًا متمردًا ، و راديكاليّ في تفكيره ، و خير مثال على هذا (و هو مثال إيماني بعض الشيء) ، و هو "اسعى يا عبد ، و انا اسعى معاك" ؛ و يعني أن الإنسان يجب أن يكون مسؤولًا عن قراراته ، دون أن ينكر المشيئة الإلهيّة ، أي أنه مفكر توفيقي ؛ إن وجود خلافًا بين الفكر و الواقع ، يقوم بتوفيق الأفكار ، من أجل أن يكمل تعامله مع الحياة ، مع إيمانه بـ عبثيتها.
• لكن ، هل يمكن اعتبار فلسفة الشوارع المصريّة ؛ فلسفة أصيلة؟
استطيع أن أقول "نعم" ، و أنا مرتاح الضمير ؛ لأنها فلسفة نابعة من وقائع حياة الفرد المصري الوجوديّة ، و ليست مجرد استنساخ أو قص ولصق ، من الفلسفة الوجوديّة الغربيّة ، و هي فلسفة نابعة من التجربة الإنسانيّة المباشرة و اليوميّة ، و ليست تنظيرًا أكاديميًا ، و هذه ميزة وليست عيب ؛ لأن كل ما هو واقعي ؛ هو أقرب إلى الحياة من غيره ، و فلسفة الشوارع المصريّة هي فلسفة ؛ تعكس تفاعل الإنسان مع الحياة اليوميّة عبر "القدرة على النجاة ، و الفهلوة ، و السخريّة ، وسط عالم غير عادل ، أقل ما يُصف به ؛ هو أنه عالم عبثيّ.
و يمكن أن نقول بعد ما كتبناه ، و تحدثنا عنه في مقالات سابقة أن فلسفة الشوارع المصريّة ، هي وجوديّة بطريقتها الخاصة ، لكنها أقل عمقًا ، و تأملية ، و أكثر عملية من الوجوديّة الفلسفيّة ، لكن ما يميز هذه الفلسفة ، عن غيرها من الفلسفات ؛ هو أنها فلسفة نجاة ، و سخريّة من العبث ، و ليست فلسفة قلق وجودي ، مما يجعلها أكثر التصاقًا بـ الحياة اليوميّة ، و أقرب إلى التفكير الشعبيّ.
"معندناش كتب ، بس عندنا خبرات!" ، لكن أين مكان تبادل هذه الخبرات؟ ، الإجابة ببساطة ؛ هي "وسائل المواصلات العامة" ، حيث يجتمع الأفراد المصريون ، في مساحة محدودة (الميكروباص ، التوناية) ، أو مساحة أكثر فردانيّة وخصوصيّة في التوك توك ؛ و الميكروباص في مصر ليس مجرد وسيلة نقل ، بل هو "منصة متنقلة للفلسفة الشعبيّة المُعاشة" ؛ حيث يوجد أشخاص يجلسون بـ جانبك ، يمكنك أن تتحدث معهم إن كانوا غير مشغولين ، و توجد عبارات على الميكروباص من الداخل والخارج ؛ تعبر عن رؤيّة سائق الميكروباص للحياة ، أو للناس ؛ و هذه العبارات تجسد الحكمة ، و السخريّة ، و التجربة الشخصيّة ، و أحيانًا حتى التمرد الإجتماعي والسياسي ؛ في إطار جمل خبريّة صغيرة "كاملة البناء" ، تحمل في معانيها مضمونًا فلسفيًا ، و سائقو الميكروباص ينتمون إلى الطبقة الكادحة ، و هم في عملهم أكثر احتكاكًا بواقع الحياة ، و عباراتهم هي ملخصات لحياتهم أحيانًا ، و تعبير عن تجاربهم الفلسفيّة ؛ و ها هي اللحظة التي حان أن نتكلم فيها ، عن بطل الحارة المصريّة ؛ الهارب ... المتمرد ... و الخاضع للقانون بين الحين والآخر ... إنه التوك توك ، إنه ليس مجرد وسيلة تنقل بين الأزقة ؛ إنه رمز مصري ، حتى أن هناك فوانيس رمضان على شكل التوك توك ، و التوك توك كـ رمز فلسفيّ يعكس الفهلوة ، و السخريّة ، و الإبداع الفلسفيّ الشعبيّ ؛ حيث يكون سائق التوك توك "فرد" يحاول "البقاء بأي وسيلة" ، في ظل ظروف اقتصاديّة صعبة ، و قد يرمز التوك توك إلى فكرة "خلق الفرص من العدم" ، و هو صورة ساخرة-واقعيّة لنبض الشارع المصريّ ؛ حيث تكون هناك عبارات مكتوبة عليه ، ذات أبعاد متعددة ، و لها قابلية مثيرة للتأويل الفرديّ ؛ و من أبرز الأمثلة على ذلك "لو شوفتني بجري ، ابقى اجري ورايا!" أو "بكرة هنبقى حاجة ... بس مش عارفين الساعة كام؟" ، و التوك توك هو ظاهرة إجتماعية مثيرة للإهتمام ، لأنه يعكس هموم الفئة الكادحة من الشعب ، و يمثل الحلم الشعبيّ البسيط ؛ و هو وسيلة رزق ، لكنه أيضًا مساحة للحلم ، و الطموح ، وسط الواقع الصعب ، و تكون طبيعة عبارات التوك توك مميزة عن باقي المركبات ؛ حيث تكون أكثر جرأة ، و شجاعة ، و سخريّة ، و مرتجلة ، و عفواءية. (ولقد تخيلت الآن ، و تسائلت في نفسي ، ماذا لو كان سقراط سائق توك توك ... ماذا كان سيقول؟ ؛ و قلت لعله كان ليقول "إيه هو العدل ... غير إن كل واحد فينا شايف نفسه مظلوم؟" ، لكن في رأيك ماذا كان ليقول؟).
• كيف تصبح فيلسوف شارع؟
لن أكذب ، إن قلت أن هذا سؤال سهل ، إجابته صعبة ؛ لكن أن تكون فيلسوف شارع ، لا يعني أن عليك ، أن تحفظ كتب الفلسفة ، أو تقتبس من أي فيلسوف وجودي ؛ بل يعني أن عليك ، أن تفهم الواقع بذكاء ، و تحلله ببساطة ، و تتفاعل معه بـ حكمة و سخريّة ؛ و عليك أن تكون بين الناس ، مراقبًا لهم ، و متحدثّا بلغتهم ، و جاعلًا من وقائعهم و وقائعك ؛ فكرة تساعد بها نفسك من أجل إضفاء معنى لـ وجودك ، في الحياة ؛ و فيلسوف الشارع لا يُعقد الأمور ، بل يفهمها ببساطة شديدة ، لكنه لا يقع في السطحيّة ؛ لأنه عندما يرى شيئًا يحدث ، يفكر لماذا يحدث ، و كيف حدث ، و ماذا لو كان هو في هذا الموقف ، و فيلسوف الشارع لا يهتم بتسمية نفسه "فيلسوفًا" ، لأنه يرى الفلسفة كـ شيء عملي ، و لو سألته عن فلسفته في الحياة ، لرد عليك بجملة ساخرة مثل : "هو حد لاقي وقت يفكر؟" أو "سيبنا من الفلسفة ، إحنا عايزين ناكل عيش" ، في إشارة إلى أن الفلسفة شيء نخبوي ، و غير عملي ؛ و يرى فيلسوف الشارع نفسه ، كـ "ابن التجربة" ، و ليس "صاحب النظريّة" ، و هو لا يكتب كتبًا ؛ لأنه يصنع حكمته بنفسه ، و يلقي بها في الوجود ؛ مثلما هو مُلقى فيه ، و قد يرى أن (الناس في الدنيا) "الناس نوعين: واحد فاهمها ، و واحد بيدفع التمن!" ، و فلسفته قد تكون أُم الفلسفات الأخرى ، "الأكاديميّة" لكنها أُم غير معترف بها ؛ لكنها مؤثرة ، و نقديّة ، و راديكاليّة ، و براغماتيّة ، و لن تكون هذه آخر تدوينه ، عن فلسفة الشوارع المصريّة.
#عزالدين_محمد_ابوبكر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟